تقديم

إنسانيات عدد 72-73 | 2016 | الأشخاص المسنّون بين ضفّتي المتوسّط: أيّ مصير؟| ص07-10 |النص الكامل


 

يتناول هذا العدد موضوعا قلّما تمّ التطرق إليه في البلدان المغاربية؛ ذلك أنّ نسبة الأشخاص المسنين في هذه البلدان تقلّ بكثير عنها في الغرب وحتى في بعض الدول المتطوّرة مثل اليابان.

لا يتعلق الأمر بمعرفة التغيّرات لدى الأبناء والأحفاد ولا عند زوجات الأبناء، ولكن أيضا لمعرفة التغيّرات الطارئة على الأشخاص المسنّين أنفسهم، سواءفي الجزائر أو في سياق الهجرة، ففي فرنسا يتواجد الأشخاص المسنّون في وضعية جدّ معقدة.

تنقسم هذه الفئة بين ثقافتين وبين بلدين، "رجل هنا ورجل هناك"... هذا ما يقولون في بعض الأحيان مع الكثير من المرارة. فكبار السن من ذوي الأصول المغاربية المتواجدين بفرنسا، هم في الأغلب أشخاص رحلوا في سنوات الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وقد عانوا من ظروف جدّ صعبة، فقد عاش جزء من هؤلاء الرجال جلّ حياتهم في العزوبة وقاسوا من وحشة الوِحدة في بيوت العمال المهاجرين. في حين أحضر بعضهم الآخر أسرهم وزوجاتهم خاصة، وكن في الغالب أميات عشن "الغربة" في حالة لا استقرار تام بسبب ظروف المعيشة المتناقضة بشكل كلي في فرنسا مع ظروف العيش في القرى ودواوير البلدان الأصلية التي تتميز بالروابط الاجتماعية والعاطفية القوية.

فإذا كانت بعض النساء المعزولات عن وسطهن قد تأقلمن وأعدن بناء أنفسهن، فإن بعضهن الأخريات لم يفارقهن الإحساس بالعزلة والضياع.

يدور هذا العدد من مجلة إنسانيات حول جملة من تساؤلاتٍ يطرحها الباحثون على النحو الآتي:

تساءلت بدرة معتصم–ميموني حول التغيرات والتحولات الطارئة على النظرة إلى "الحْوَانَة" وعلى طرق العيش فيها وذلك في الأسر الكبيرة. وهي تغيّرات مسّت تنظيم الأسر، طرق سكنها وتمثلاتها؛ فإذا كان الأزواج الشباب يفضّلون العيش خارج المنزل العائلي، فماذا عن الأولياء أنفسهم؟

تبين الملاحظات والحوارات مواقف وتوقعات متفاوتة، متغيرة وجنينيّة، كما يقول )ج. بياجي (بمعنى متطور، إذا ما اعتبرنا أن التصرفات، والهابيتوس (habitus) على حد تعبير بيار بورديو والمتعلقة بمبدإ التعايش المباشر أو غير المباشر، تتطور مع الزمن. كما تكشف الكاتبة عن التحولات التي ظهرت مع مرور الوقت في العائلات المفحوصة، سواء عند فئة المسنّين أو عند الأزواج الشباب.

ومما لا شك فيه، أن المحرّك الرئيسي والمباشر لهذه المسألة هي زوجات الأولاد (الكْنَايَنْ) وأمهات الأزواج، حيث أنهن في مواجهة مستمرة بعضهن مع بعض؛ إذ تحاول كل واحدة منهن استمالة الرجل نحوها، ما يجعل الأبناء والآباء يواجهون آراء زوجاتهم بنوع من المقاومة.

تتعرض تاسعديت ياسين إلى الواقع المعيش المؤلم كثيرا لبعض النساء في فرنسا وفي الجزائر، كما يبدو أن ممارسات الشباب الذين يعيشون في المهجر تشبه كثيرا تلك الممارسات الخاصة بالشباب الذين يعيشون في الجزائر، والذين يعتمدون أيضا على مداخيل آبائهم، كونهم عاطلين عن العمل.

فالشباب العاطل عن العمل -في بلاد القبائل مثلا- يعتمد في عيشه على المعاشات الخاصة بالمهاجرين المسنّين. وسواء تعلق الأمر بالجزائر أو فرنسا، تبقى المسائل المالية والمادية مسائل جدّ حاسمة. ولكن ما يتجلى أكثر للعيان هي الفوارق الموجودة بين الأجيال، والقيم التقليدية الخاصة باحترام الأشخاص الأكبر سنا التي أصبحت تتراجع، حيث أنّ المسنين هم من يدفعون الثمن.

يحمّل هؤلاء الأشخاص "فرنسا وثقافتها" المسؤولية، هذه الثقافة التي اكتسحت ممارسات و"هابتوسات" بعض المهاجرين وأفقدتهم طمأنينتهم. ومن المؤكّد أنّ ثقافة الشّارع، المدرسة ووسائل الإعلام تكون أكثر قوة من ثقافة "البيت" المذلّة، التي تكاد تكون مخزية، وممارسة أولياء حَطّت مرتبتهم إلى أدنى الدرجات.

تصف بالادين فيال الجدّات الأوائل اللّواتي خُضن تجربة الهجرة في مدينة أرياج، بعد وصولهن من الأطلس العالي المغربي، وقد اقتُلِعن من عائلاتهن وعُزلن في مساكن متواضعة مع رجال محكوم عليهم بالصمت (يجهلون اللغة، وليس لهم أي اعتبار). تقدم لنا الكاتبة في هذا المقال نساء مناضلات عرفن كيف يربطن علاقات بين أفراد مجتمعاتهن وكيف يبنين شبكة علائقية وعواطف أنقذتهن من الإنهيار.

تروي الكاتبة أنهن، بعد أن أصبحن جدّات، عرفن كيف يفرضن أنفسهن ويثبتن مكانتهن وسلطتهن في المجتمع، فالشباب والأولاد الأصغر سنا يكنّون لهن الاحترام والمشاعر الطيبة ويحترمون رأيهن، فهن نماذج لتناقل التقاليد، وأحيانا السبب في تغييرها وعدم تطبيقها بشكل أعمى.

في الاتجاه نفسه تناولت حليمة بلهندوز من خلال ورقتها الإشكالات التي تطرحها تاسعديت ياسين، حيث تتساءل، عبر مقاربة تاريخية ألسنية، عن تحوّل تمثلات شباب المهجر للشخص المسن بوصفه "شيخا"، وهو تعبير تقليدي محمّل بالتقدير والاحترام، نحو تمثّل "شيباني" للشخص "الهرم". وهو تحول ينزع عن الشخص المسنّ قوته وكفاءاته وينقله إلى وضعية ضعف وتبعية، وأكثر من ذلك، فإن هذا الأمر يكاد يجعله عاجزا، حتى لا نقول غير قادر على نقل التقاليد.

تصف الكاتبة تحول صورة الأب من الشكل التقليدي الذي يتحسن مع السنين ويصبح أكثر حكمة بوصفه "شيخًا"، نحو صورة "الشيباني" أو "الجسد العجوز"، "الصامت ومنقطع الانتماء".

أما خديجة كبداني، فهي تهتم في مقالها بنوعية العلاقات السوسيو ثقافية التي تبنى حيال الأشخاص المسنين وواقعهم المعيش في السنوات الأخيرة. فقد تبيّن للمؤلفة، بعد المقابلات التي أجرتها مع أشخاص مسنين، أن هؤلاء الأشخاص يحسون أحيانا أنهم ينظر إليهم من منظور الضعف (العجز) "مسكين" وهو ما يجعلهم يشعرون بفقدان الاحترام والتقدير الذي يستحقون، وكأن عجز الجسد يترتب عنه بالضرورة عجز الروح، بالرغم من أن المسنّ وبفضل تجربته الطويلة، يشعر بأنه يكتسب خبرة أكبر ويمكنه أن يقدم أكثر. فالعودة إلى الممارسات الدينية تحفظ له وضعه الاجتماعي، وتشغل وقته، وتمنحه الطمأنينة. بالمقابل، تشكل الاستقلالية الذاتية عاملا أساسيا في التقييم الإيجابي أو السلبي لهذه المرحلة من الحياة.

من جهته، يتطرق مصطفى ميموني إلى مسألة التقاعد التام والتقاعد المسبق لدى الأساتذة في مدينة مستغانم، فيكشف من خلال العديد من المقابلات مع المتقاعدين، عن وجود عدد من المسارات التي يمكن تصنيفها في فئتين رئيسيتين: المتقاعدون الذين حضّروا مسبقا لتقاعدهم، وآخرون "فوجئوا " بقدومه، وبالتالي فالفئتان لا تختلفان من حيث الواقع وردود الأفعال. فإذا كان بعضهم يعيش التقاعد على أنّه تحرر، فإن البعض الآخر يعيشون هذا الحدث غير المنتظر بوصفه "إهمالاً "بل "خيانة". وكل هذا يؤدي إلى إحساس بالارتياح وبالحرية أو إحساس بعدم الراحة، والمرارة والإحباط. وهكذا، فإن الفئة الثانية تجد صعوبة في التخلي عن حياتها السابقة والقيام بأنشطة مغايرة، أو إيجاد آفاق وممارسات جديدة. ولكن هذه الحالات الخاصة لا تمنع من أن الأساتذة الذين تمّت مقابلتهم تمكنوا في الإجمال من التعايش مع مرحلة التقاعد على أحسن وجه.

من جهتها، تبحث منصورية بوحالة في العلاقات بين الأجداد، الأبناء والأحفاد: عن أية مكانة وأي دور يقوم به أولئك تجاه الآخرين؟ وهي تطرح هذا التساؤل من زاويتين: "زاوية الأجداد في تواصلهم مع أولادهم وأحفادهم (سواء تواجد هؤلاء في الجزائر أو في فرنسا)، وزاوية هؤلاء الذين يعيشون في المؤسسات والذين لم تعد لهم صلة بأولادهم وأحفادهم. ويتبين من خلال المقابلات المنجزة مع الأجداد، الآباء والأحفاد أن هناك أحاسيس متضاربة بالنسبة للفئة الأولى (في صلتهم مع أسرهم).

تقوم العلاقات بين الأجداد وأولادهم عموما على الاحترام والعاطفة. غير أنّ تدخّل الأجداد في تربية الأولاد يعقّد التعايش ويجعله أقل جاذبية، كما توضحه بدرة معتصم-ميموني في دراستها حول "الحوانة".

بالمقابل ،فإن الأجداد الذين يعيشون في مؤسسات (بالرغم من قلتّها ) يظهرون مدى الإحباط والمعاناة كونهم يشعرون بالإقصاء من طرف أولادهم وأحفادهم، وإذا كان البعض يعيش في استقالة تامة، فإن البعض الآخر يعيش الغضب والرفض التام لكل شيء.

هل يمكننا الختم أمام هذا الثراء الذي يمتد في استمرارية واسعة وواضحة بشكل بيّن؟ فسواء في سياق الهجرة، أو بالأحرى "سياقات الهجرة" أو في الجزائر، يبدو أن هناك تواجد لكل أشكال الوضعيات. ما يمكن استنتاجهفي الأخير هو أن هناك من الأشخاص المسنين من هم راضون عن وضعهم، وهناك من هم غير راضين به. فالمسنون المستجوبون في أغلبهم هم "عجزة شباب"، وهم أشخاص مستقلون ذاتيا ولديهم العديد من المشاريع. فالمسارات المتعددة تجعل من كل التعميمات معقدة ولكنها تمنحنا لائحة من الوضعيات، الوقائع والأحاسيس التي تستحق بحثا معمقا عن الأشخاص الأكثر تقدما في السن.

ميموني بدرة

وتاسعديت ياسين

ترجمة: صورية مولوجي- روجي

 

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran

95 06 62 41 213+
03 07 62 41 213+
05 07 62 41 213+
11 07 62 41 213+

98 06 62 41 213+
04 07 62 41 213+

Recherche