ديناميات السوق والتجديد الحضري في وهران. "المدينة الجديدة" و"شوبو" حيّان للتجارة العابرة للحدود

إنسانيات عدد 72-73 | 2016 | الأشخاص المسنّون بين ضفّتي المتوسّط: أيّ مصير؟| ص45-68|النص الكامل


Aines BOUDINAR : Université des Sciences et de la Technologie Mohamed-Boudiaf, Département d'architecture, 31 000, Oran, Algérie.

Said BELGUIDOUM : Université Aix Marseille, CNRS, IEP, IREMAM, 13 094, Aix-en-Provence, France. Centre de Recherche en Anthropologie Sociale et Culturelle, 31 000, Oran, Algérie.


 

مقدمة

لقد أدى ظهور التجارة العابرة للوطن بشكل واسع-بعد ظهور التجارة العابرة للحدود و"تجارة الحقيبة" في سنوات الثمانينات والتسعينات- إلى إعادة رسم خريطة المدن الجزائرية، وأسهم في التفتح الحضري الذي ارتبط لغاية الوقت الراهن بالاستراتيجيات السكنّية والسياسات العمومية الحضرية التي تتمحور حول إنتاج السكنّات2.

وإذا كان هذا النمط من التجارة قد امتد للوهلة الأولى ليشمل الضواحي الحضرية، فإنه ومنذ عشرية من الزمن أصبح يحتل مكانة هامّة في المدن من خلال تملّكه لأحياء استعمارية قديمة ولأنسجة مجاورة لمراكز المدن. هذا التوجه والذي كان ملموسا في مدن مثل مدينة سطيف2 أو قسنطينة، يشهد عليه التحوّل الذي عرفه الحي السكني لسيدي مبروك [3]وهو ما يظهر أيضا بقوة في مدينة وهران.

تعيش وهران -ثاني مدينة جزائرية من حيث نسبة السكان- على وقع هذه الديناميات، حيث عرف وسط المدينة - وبسرعة- انتعاشا لهذه التجارة، ثم أحياء أخرى من بعده .

فالمدينة الجديدة و"شوبو" والعقيد لطفي وكاسطور، هي من الأحياء المجاورة لوسط المدينة والتي أصبحت، منذ بداية الألفية الثانية فضاءات رمزية للتجارة العابرة للوطن. وعليه فإن التقسيم المختلف للساحات التجارية في المدينة أدى إلى زعزعة التنظيمات الهرمية المتواجدة سلفا، وقد حلّ محل التمركز المفرط للأنشطة التجارية في وسط المدينة توزيعا جديدا تتأكد من خلاله أقاليم حضرية جديدة.

يهتم هذا المقال[4] بمحاولة فهم كيفية ظهور هذا النوع من التجارة في الحييّن الإثنين، أولهما مجاور لوسط المدينة ويتوفر سلفا على تقاليد قديمة في التجارة، وثانيهما يقع في الأحياء القديمة والخفيّة للمدينة، حيث لا تتوفر طبيعته السكنية على أية محفزات لهذا التخصص، فكلا الحيين الحضريين يتبوأ مكانة مختلفة بموروثه العمراني الذي يعرف تغيرات عميقة. ومن خلال مساءلة السيرورات التي سمحت بظهور هاته الساحات التجارية، فإننا نركز على الأهمية التي اكتساها المقاولون التجار بوصفهم فاعلين في المدينة تتحكم ديناميتهم في التخطيط الحضري.

وهران، حاضرة جهوية في عزِّ التحوّل

تتألق مدينة وهران في الغرب الجزائري وتفرض وجودها بوصفها حاضرة جهوية بفضل العديد من الوظائف الخدماتية، الإدارية، والاقتصادية التي تتركز بها. فمنذ 2008 -وبعد ضمِّها لأربعة بلديات: (وهران، السانيا، سيدي الشحمي وبئر الجير)- أصبحت وهران الكبرى منطقة سكنية مليونية ما فتئ نموها الديمغرافي يتزايد أكثر فأكثر، وهو ما تشهد عليه نسبة الزيادة السكانية التي بلغت 47% بين 1987 و2008.

وقد تجسد هذا النمو الحضري الهام من خلال امتداد المدينة إلى السواحل الشرقية متبنية في ذلك سيرورة تم انتهاجها منذ سنوات التسعينات[5]، وسواء تعلق الأمر بمناطق النشاطات أو بالمناطق السكنية - الفردية منها أو الجماعية- فكلها تطورت بسرعة مذهلة مؤدية بذلك إلى التغيير العميق في الواجهة الحضرية.

ويعدّ كل من حي قمبيطا وحي العقيد لطفي أمثلة حيّة عن الديناميات والتوجّهات الحضرية للمدينة: مركز للأعمال، فنادق دولية، أبراج متعالية، إعادة تهيئة لشارع واجهة البحر، إنجاز شارع ميلينيوم، وبناء مركز اتفاقيات دولي، تمّ تدشينه على قدم وساق لاحتضان قمة الدول المصدرة للغاز في 2010.

صاحبت عملية إعادة تنظيم المدينة إعادة توزيع السكنات والسكان في بنية حضرية تعد في عزّ التحول.

وهكذا فإن بلدية وهران التي تضم نسيجا عمرانيا يعود إلى الفترة الاستعمارية وامتداداته إلى غاية سنوات التسعينيات فقدت منذ 1998 ما يقارب 100.000 ساكنا، أي ما يعادل 13% من سكانها، وذلك لفائدة المناطق السكنية المجاورة الناشئة حديثا والتي تضاعف عدد سكانها ست مرات مقارنة بالسانيا، وإحدى عشرة مرة بالنسبة لسيدي شحمي. كما استحوذت بلدية بئر الجير التي أنشأت سنة 2000 على جزء من التوسعات الجانبية لوهران، واستقبلت جزءا هاما من برامج السكنات في سنوات الألفية الثالثة.

جدول 1: تطور نسبة السكان من 1987 إلى 2008

المصدر: 1987 الإحصاء العام للسكان والسكن، 1987/1998، 2008، الديوان الوطني للإحصائيات

تعد هذه المدينة الساحلية التي تعتبر مركزا اقتصاديا جهويا هاما - والتي تتجاوز جاذبيته حدودها الإدارية- سوقا هامّة للاستهلاك تولدّت عن دينامية تجارية كبيرة؛ فكلّ حي له سوقه وشوارعه التجارية، حيث تحتل المحلات التجارية تقريبا مجمل الطوابق الأرضية للبنايات، والمحلات التي تعرض موادَّ مصنعة جاهزة للاستهلاك المعتاد (ملابس وأنسجة البيوت، أثاث للمنازل، هواتف نقالة وأجهزة إلكترو منزلية...) تغذي التجارة العابرة للحدود، والتي هي حاضرة ومتواجدة بقوة.

التوزيع الفضائي للساحات التجارية بالمدينة

كان وسط المدينة إلى غاية سنوات الثمانينات يضم معظم تجارة الملابس والأثاث المنزلي (الأجهزة الإلكترو منزلية، والتأثيث المنزلي) وكان شارعا العربي بن مهيدي (شارع أرزيو سابقا) وشارع محمد خميستي (ألزاس لوران سابقا) هما الشارعان الرئيسيان اللّذان تتوزع على طولهما المحلات والمتاجر.

مع نهاية سنوات الثمانينات، مهدّ ظهور التجارة العابرة للحدود لظهور الأماكن التجارية، فالمدينة الجديدة التي كان يتردّد عليها الناس بسبب سوقها المخصصة للخضر والفواكه، والتي كان يحيط بها العديد من التجار المتنقلين شاغلين بذلك أرصفة شارعها الرئيسي المتمثل في شارع التين[6]، تحولت سريعا إلى الساحة الرمزية لهذا النوع الجديد من التجارة، حيث فتحت محلات لبيع الملابس وسوق دائمة على طول شوارع الحي، ولأنه معروف بنشاطاته الحرفية[7] وتقليده التجاري وموقعه الاستراتيجي في المدينة (حيث أن المدينة الجديدة مع توسع المدينة أصبحت حياً شبه مركزي)، فإن حي المدينة الجديدة فرض نفسه في سنوات التسعينات بوصفه أحد أهم الأماكن الرئيسة لإعادة تسويق المنتوجات المستوردة[8] وتدريجيا بدأ يظهر توزيع جديد للأنشطة التجارية، فمع الاحتفاظ بجزء من وظائفه التجارية فقد وسط المدينة الجديدة بعضا من جاذبيته، وبعد التحول الذي عرفته المدينة الجديدة جاء دور شارع "شوبو" الواقع جنوب المدينة ليستحوذ عليه الفاعلون في مجال التجارة العابرة للحدود. وهكذا عرفت جهات أخرى كالعقيد لطفي فتح "مراكز تجارية" على طول شوارعها الرئيسية، وكذلك تلك التي يعبرها الترامواي. هذا في حين تخصصت أحياء أخرى في المدينة (مثل سان أونتوان والدرب) في تخزين السلع، البيع بالجملة وشبه الجملة.

معظم السلع المعروضة للبيع مصدرها التجارة العابرة للوطن، ويتم نقلها عبر مختلف شبكات تجار الجملة الذين يتعامل معهم تجار المدينة، ومن بين هؤلاء التجار أولئك الذين ينتمون إلى شبكة "العلمّة" و"عين فكرون"، والتي تؤكد التحقيقات التي قمنا بها دورهم البالغ الأهمية. كما أن هناك شبكات فرعية أخرى مرتبطة بالتجارة العابرة للحدود سواء مع المغرب أو تلك العابرة للمتوسطي مع إسبانيا وفرنسا -والتي كانت نشطة بشكل كبير في سنوات التسعينات- وساهمت أيضا في انتعاش هذه التجارة خاصة فيما يتعلق بمنتوجات معينة: (القفطان المغربي والملابس ذات العلامات المشهورة)، وبعض السلع، مثل الأحذية التي تعتبر في متناول الزبون، والتي يتم تصنيعها مباشرة بوهران، في مختلف ورشات "حي البدر" (Cité Petit)، و"حي سي صالح"[9](Les planteurs) .

بالمقابل - وفي مدينة تعرف دينامية جدّ قوية للقطاع الخاص، كما يقطن 3150 مستوردا في الولاية[10]، الشيء الذي يجعل منها ثاني مدينة على هذا الصعيد بعد مدينة الجزائر- فإن التمويل بِالمواد الاستهلاكية المتداولة والتجهيزات المنزلية المصغرة تقوم بتأمينه شبكات الشرق الجزائري، ففي السلم الهرمي للساحات التجارية الوطنية تعدّ وهران -بعكس العلّمة، وهي الساحة التي تُنَظِم هذه التجارة العابرة للحدود - نقطة وصول وآخر محطة لوصول السلع الصينية في التجارة العابرة للحدود، والتي يتحكم فيها المستوردون من الشرق بشكل كبير[11].

فقد استثمر المستوردون النشطون في وهران في مجالات أخرى، بما في ذلك: التجهيزات الصناعية، مواد البناء، المواد شبه الصيدلانية، المواد الفلاحية والغذائية، والسيارات النفعية والسياحية.

حيَّانْ وشكلان من التجارة العابرة للحدود

بالرغم من كونهما فضاءين لإعادة التوزيع والممارسات التجارية الكثيفة، يختلف هذان الحيّان أحدهما عن الآخر من عدة نواح: طبيعة وحجم السلع التي تسوّق، المحلات التجارية، وخاصة نوعية الزبائن التي يستقطبها كل منهما. ففي البداية تظهر الاختلافات البارزة على مستوى تصميم هذه الأماكن، مبرزة بذلك نوعا من التوزيع المجالي للتجارة العابرة للحدود: ساحات تجارية خاصة من أجل زبائن معينين.

مركزية المدينة الجديدة و تخفّي "شُوبُو"

يُعَدُ الحي الذي يحيط بالمركز -وهو الذي تشكله المدينة الجديدة وهضبة سان ميشال (Saint Michel)- أهم قطب للتشغيل في المدينة: 29500 منصب عمل، أي ما يعادل 15% من مجموع المناصب المتواجدة في المجمّع الوهراني، متقدمة بذلك وسط المدينة والميناء اللذين يضمان 28300 منصب شغل[12]، فوظيفتها الاقتصادية هامة جدا ودورها التجاري قديم. وبفضل تعدد وسائل النقل الحضري وشبه الحضري -كون العديد من خطوط الحافلات تلتقي عند هذا الحي، وكذلك وجود الترامواي منذ ماي 2013 يسهل الوصول إلى هذا الحي؛ على عكس "شوبو" الحي السكني الذي يقع في الضواحي القديمة، وامتداد المدينة نحو الجنوب سمح بضمّ هذا الحي السكني القديم في نسيجها الحضري دون أن ينزع ذلك عنه طابعه السكني، عدا بعض المخازن التي تربط بينه وبين المدينة، كما  تمرّ به خمسة خطوط للحافلات ويعبره أحدها.

جوّان حضريان مختلفان

تتميز المدينة الجديدة بأجواء شعبيّة لحي تجاري دائم الصخب، فنسيجها العمراني كثيف ومكتظ، نظام شوارعها وأزقتها ومتاجرها الصغيرة، وواجهات العرض المختلفة، سلعها المتعدّدة المعروضة في المحلات، وكذلك على أرصفتها من طرف بائعين متجولين، كل هذه الميزات تعطيها صبغة المدينة لكنها في الواقع ليست كذلك.

"تتميز (المدينة الجديدة) بصفات خاصة مرتبطة بشكل البنيان وطبيعة النشاطات المتعددة والمنسجمة مع بيئة تُذكرنا -دون أن تكون كذلك- ببيئة الأسواق والبزارات. فهي أبعد من أن تكون مدينة بالمعنى المتداول للمصطلح"[13].

للمدينة الجديدة تقليد عريق مرتبط بقطبيتها التجارية التي تدين بها لسوقها المغطى (marché couvert)، وهو من أهم الأسواق في المدينة، وكذلك شوارعها المتمثلة في شارع الصائغين، صانعي الجلود، النحاسين، الحرفيّين، بائعي الفواكه والخضر وبائعي مختلف السلع[14].

إنها تمثل التقليد الشعبي الوهراني وتظل في الذاكرة الجماعية الفضاء الذي يتم فيه اللقاء، والذي يتوافد عليه الزائرون من خارج المدينة، كما تشهد على ذلك العديد من الفنادق والحمامات، محلاّت الأكل الخفيف، المقاهي بكل أنواعها، والمتاجر المختلفة التي تتوفر عليها[15].

هذا في حين أن "شوبو" هو حي مختلف تماما. فبغض النظر عن الأيام التي تسبق الأعياد وأيام نهاية الأسبوع والتي يكثر فيها التسوق، فإن "شوبو" يعدّ شارعا هادئا، بمواصفات جدّ حضارية، بعيدا عن المحاور الكبرى لحركة السيّر. فمن خلال فتح محلات "بشوبو" يستفيد التجار من القيمة المضافة لإطار حضري موجود سلفا و المتمثل في شارع طويل ،تحّفه الأشجار مع ساحات صغيرة على أطرافه، وفيلات فاخرة تنم جماليتها عن انتماء اجتماعي مميز، خلال أيام الأسبوع يمكن رؤية زبائن شباب يستهويهم التجول والتوقف عند واجهات المحلات الكبيرة التي تفوق مساحاتها مساحة محلات المدينة الجديدة، أو الاستمتاع بالمثلجات والحلويات في المحلات المخصّصة لهذا الغرض، وأيضا تناول الغذاء في محلات عصرية للأكل الخفيف. هكذا هو هذا الحي الذي تترامى الأشجار على حوافه بواجهاته الجذابة والمنتظمة، بعيدا عن صخب وضجيج المدينة مع أنه يقع في المدينة، "فشوبو" يخترع ويعرض شكلاً جديدا للأناقة الوهرانية.

تاريخان حضريان

يُشكل كل من حي المدينة الجديدة وحي "شوبو" حيّين مختلفين في النشأة، فالأول يقع في وسط المدينة الجديدة التي رسمت حدودها سنة 1845، وتأكدت خاصيتها الشعبية مع الزمن، أما الحي الثاني فيتواجد في الشوارع التي تطورت ابتداء من سنة 1900 ببعد سكني يشكل منذ البداية علامتها الحضرية.

من القرية "الأنديجينية" إلى الحي- السوق

عرف تاريخ المدينة الجديدة تدخل السلطات العمومية من خلال عدة محاولات لتأطير هذه المنطقة الحضرية وتنظيمها والتي عرفت ثلاثة تحولات كبرى[16].

ففي العام 1845 تم إنشاء قرية الأهالي "على أراضي الدومين الواقعة خارج الأسوار"[17]، من أجل تثبيت السكان الذين كانوا يعيشون تحت الخيم أو الأكواخ عند أبواب المدينة، وبعد نعته بـ "القرية الزنجية"[18] أخذ تسمية المدينة الجديدة، التي كانت تُستخدم في أواخر القرن التاسع عشر للتعبير عن جملة التوسعات العمرانية الواقعة خارج المدينة (extra muros) والتي كانت تنتمي إليها القرية الأهالي[19].

أعطت مجموعة من مخططات التهيئة العمرانية التي أنجزت بين 1867 و1937 للحي فيزيونوميته الحالية، مع إعادة تنظيمه حسب منطق الرّصف والتعامد. فقد دفع التوافد المنتظم للسكان بالسلطات العمومية إلى محاولة تسوية وضعية الترصيفات، "حيث كانت نسبة البنايات الجديدة ترتفع باستمرار، بالرغم من كونها هشّة"[20] بين 1930 و1937".

وهناك فجوة عريضة جديدة من عشرين مترا بين ساحة لاموريسيار (Lamorcière) وشارع إيينا[21] تسمح بتهوية النسيج العمراني تعرف بساحة الطحطاحة، والتي تشكل اليوم مركز الحي[22]. وبالرغم من أن "أوكارا كثيرة تحول دون الاستجابة لمتطلبات الحركة والنظافة الحديثة"[23] فقد فرضت هذه الساحة وجودها لفترة طويلة. بالمقابل عرف الحي في منتصف القرن العشرين تحوله الثاني انطلاقا من سنة 1900، فالبنايات التي تم تشييدها بمواد ركيكة تركت مكانها لبنايات صغيرة من طابقين[24]، وتزايد عدد السكان بشكل منتظم لينتقل من 7008 سُكَّانٍ في 1881 إلى 12255 سنة 1936، مع العلم أن نصف عدد هؤلاء السكان ولد خارج وهران[25].

ومع كونها مدينة داخل مدينة[26] بشكل خاص، استمرت المدينة الجديدة في استقبال وافدين جدد دون الانقطاع عن أداء دورها كسوق تجمع مختلف الحرفيين الصغار. في سنة 1930 تم إنشاء السوق المغطاة: "تحولت القرية الزنجية إلى مركز لتموين الجهة الجنوبية والجنوبية الشرقية"[27] وفي سنوات 1950 تم بناء عمارات للسكنات الجماعية على حوافها[28]، غير أن الحي عاش فترة من الجمود وتعرّض بنيانه إلى تدهور واضح[29].

مع سنوات 2000 رافق تغيّر الوظائف التجارية للحي تجديد للبنيان بوتيرة تزايدت بسرعة كبيرة.

"شوبو"، من تجمعات سكنية إلى نهج تجاري

في إطار برنامج ترقية سكنية يقوم على تعمير الضواحي وفقا لنموذج "الأحياء الحدائق"، كان الحي يتشكل في بداية سنوات 1920 من قطع تبلغ مساحتها بين 300 و400 م2، بنيت عليها فيلات صغيرة من طابق أو طابقين إضافيين، إضافة إلى حديقة مخصصّة لاستقبال السكان الأوربيين[30] مع الاستقلال تغيّر سكان الحي ولكنه احتفظ بوضعه: حي هادئ في المدينة، بطريقه التجاري ومحلاته المجاورة، وهكذا بقي حي "شوبو" حتى بداية سنوات 2000 بعيدا عن التحولات العمرانية.

جمهور مختلف

اختلاف مستوى الساحتين التجاريتين والأجواء التي تنبعث عنها، والمنتجات التي تعرضها، وكذلك نوعية المحلات التجارية، تعطي كل منهما وضعية خاصة وهذا ما تترجمه نوعية الزبائن الذين يترددون عليهما وأوقات الزحام التي تميزها. فانطلاقا من الخامسة مساء، تخلو المدينة الجديدة من زائريها وتغلق محلّاتها في الوقت الذي تبدأ الحركية في "شوبو".

فالمدينة الجديدة هي سوق كبيرة مفتوحة للجميع تعرض العديد من المنتجات التي تتنوع بين الملابس القديمة أو المستعملة إلى الملابس شبه الفاخرة مرورا بالمواد ذات الاستخدام المنزلي. بالمقابل فإن "شوبو" يعرف ترددا أقل وجمهورا أكثر انتقاء، فزبائنه هم من الشباب وخاصة من الميسورين، حيث يتم الإقبال عليه بحثا عن الهدوء، والبضائعة ذات الجودة العالية، غير أنها باهظة الثمن.

هذه المعاينة الميدانية لزبائن مختلفين تؤكده مجموعة من التحقيقات التي قام بها س. م طراش بخصوص أماكن تسوق السكان الذين يقطنون المناطق المجاورة[31] وبمقارنة الممارسات الشرائية لسكان "نجمة" (حي شعبي) وسكان المنطقة السكنية الحضرية الجديدة (ZHUN) لإيسطو[32] (حي تقطنه طبقات متوسطة)، يتضح أن 91% من المستجوبين من نجمة يقومون بشراء ملابسهم من المدينة الجديدة مقابل 44% فقط بالنسبة لسكان منطقة إيسطو الذين يفضلون محلات وسط المدينة 53% وكذلك "شوبو" بـ%1,5 ، في حين أنه في 2008، الفترة التي أنجزت فيها التحقيقات، لم يكن هذا الحي مجهزا بالمراكز التجارية، فهيمنة المدينة الجديدة مؤكدة بالنسبة للسلع المنزلية، أيضا %76 من المستجوبين يقتنون منها السلع المنزلية و%87,5  يقومون فيها بشراء المواد المستعملة، بالمقابل فإن "شوبو" حي متخصص في الملابس والتأثيث المنزلي، ومند فترة قصيرة في الأثاث. صحيح أن جمهوره ليس غفيرا، ولكن المشتريات تكلف أكثر. تخصصه في فساتين الأفراح والقفطان المغربي هو مثال على ذلك، وهو الأمر الذي يشرح من جهة أخرى الإبقاء إلى غاية اليوم على هذا الشكل من التجارة العابرة للحدود التي تسمح بوصول أقل الكميات من السلع الأكثر غلاء.

المدينة الجديدة: حي – سوق

على المستوى المجالي تشكل المدينة الجديدة مضلعا تحده طرق مواصلات كبرى. ولأنها ذات تخطيط متعامد نتيجة لمختلف المخططات العمرانية الممتدة من الفترة الاستعمارية، فإنها مبنية انطلاقا من محاور رئيسية كبرى ومنها ساحة الطحطاحة وشارع التين.

فساحة الطحطاحة التي أعيدت تهيئتها في شكل مستوٍ هي ساحة عريضة وواسعة من أربعين مترا وبطول مئتين وثمانين مترا، وهي في الوقت ذاته مكان للعبور، للقاء وللفراق. إنها تميز انقطاعا بين الجزء الشرقي للحي المتخصص في الملابس الذكورية والرياضية والأثاث والأجهزة الإلكترو منزلية، والجزء الغربي الأكثر أهمية و الذي يجمع محلات تتردد عليها زبونات كثيرات وتتنوع سلعها بين الألبسة النسائية وألبسة الأطفال بكل الأعمار مرورا بسلع منزلية، من الأكثر بساطة إلى الأكثر رقيا. تجتاز الحي تسع طرق متقاطعة من جهات مختلفة،  ثلاث طرق متوازية في الجزء الغربي، من بينها طريق التين الذي لديه تخطيط نوعا ما قطري، واثنتان في الجزء الشرقي تحدان مجموعة من العمارات التي تعبرها طرق صغيرة أو شُعب تكون في بعض الأحيان مسدودة. ما عدا الجزء الشمالي الغربي للحي حيث بنيّت عمارة لامورسي من سبعة طوابق ينفلت من تنظيم التجمعات التي تكاد تكون منتظمة، ممتدا على أكثر من عشرين هكتارا وسبعة كيلومترات من الطرق الداخلية، ينبعث هذا الحي التجاري في حلّة جديدة تتهمش فيه الوظيفة السكنية أكثر فأكثر، عدا بعض النشاطات مثل صياغة الذهب و سوق الفواكه والخضر هي الباقية.

إجمالا، فإن ما يقارب أربعة عشر كيلومترا من الواجهات الداخلية والخارجية هي واجهات تقريبا كلها مشغولة بالمحلات، بعض الفنادق والمقاهي و المطاعم. أكثر من 2500 محل تجاري في بعض الأحيان لا يتربع إلا على خمسة أمتار من الواجهات، تتعاقب وتعرض تخصصات مختلفة: ملابس وأحذية للرجال، محلات للتجهيزات الرياضية، ملابس نسائية أو ملابس للأطفال، تأثيث منزلي، محلات للمجوهرات...إلخ. بالإضافة إلى هذه المحلات توجد أيضا متاجر للسوق المغطى والعديد من البائعين العارضين الذين يشغلون طريق التين والطرق المتفرعة عنه.

تحوُّل الحي إلى ساحة للتجارة العابرة للحدود تحولٌ تترجمه التغييرات المسجلة في المناظر الحضرية، فتقريبا كل البنايات تعرضت إلى تهيئة واجهاتها الأمامية، وتقريبا كل واجهة من اثنتين خضعت إلى إعادة بناء، ترميم أو تجديد. فقد تغير مظهر المقاهي الموجودة على طول الشوارع العريضة أو على ساحة الطحطاحة، حيث تتأكد الوظيفة الفندقية أكثر فأكثر، فالفنادق الصغيرة و التي هي في المتناول تم استبدالها بهياكل أكثر عصرية وأكثر اتساعا.

تعددية المراكز التجارية والمخازن جدّ مذهلة، ففي 2009 أحصينا خمسة مراكز تجارية، أما خلال أبحاثنا[33] الأخيرة، فقد أحصينا 17 فندقا جديدا أو مجددا، 33 مركزًا تجارياً، و31 محلا ومركزا تجاريا صغيرا، أي 81 بناية تجارية من نوع جديد[34] إضافة إلى 7 مراكز تجارية و5 محلات ومراكز صغيرة في قيد البناء.

خريطة 1 : المدينة الجديدة: توزيع المحلات التجارية بالمدينة الجديدة

 

 

الجدول 2: توزيع التجهيزات التجارية على المقاطعات بالمدينة الجديدة

المصدر: تحقيقات المؤلِفين ،أكتوبر 2013

أدت مشاكل القطع الأرضية الضيقة، والمقايضات والتقسيمات بين الورثة التي كانت كثيرة، إلى تبني استراتيجيات تفضل بناء محلات صغيرة الحجم، مراكز تجارية ومتاجر أقل حجما من تلك المتواجدة في "شوبو"، ذلك أن سعر العقار والسكن عرف ارتفاعا مذهلا أدى إلى مقايضات جدّ مكلفة، من خلال إعادة شراء قطع أرضية مقسمة تسمح ببناء محلات أكثر اتساعا. تمكن بعض المستثمرين الكبار من إعادة شراء العديد من القطع الأرضية و بناء مراكز تجارية كبيرة (حيث يوجد منها ثلاثة كبرى). معظم المراكز تشغل قطعا أرضية من 250 إلى 300م2 ويتم بناؤها في ثلاثة طوابق. تعرض هذه المراكز بين 500 و1000م2 مساحة للبيع وتأوي ما يقارب عشرين محلا، أكبرها يتربع على مساحة تقدر بـ 1500م2.

"شوبو"، هدوء حي سكني

على طرفي الشارع الواسع وعلى طول كيلومتر يقطع هذا الحي السكني  ساحات صغيرة مُشجّرة تميّز مداخل ما أصبح يُعرف بـ "المول التجاري الجديد" للمدينة، فالطابع المعماري الأصلي يبقى قويا وبالرغم من تعدّد بنايات المحلات التجارية، فإن الفيلاّت القديمة التي تحوّلت طوابقها الأرضية إلى محلات، تُذكّر بالمكانة الاجتماعية لهذا الحي الفاخر.

أغلبية الفيلاّت التي تملك حديقة شُيّدت حديثا، وهي بصمة للتيار المعماري المرتبط بالنصف الثاني من القرن العشرين: واجهات بسيطة ومزيّنة بشبابيك حديدية وبديكور زهري مزخرف بأزهار وبأشكال هندسية، وفتحات زجاجية كبيرة تطل على الطريق أو شرفات طويلة تمتد على طول الواجهات وأسطح بالقرميد.

بروز شارع تجاري

عرف الشارع تحولا سريعا، ففي منتصف سنوات التسعينات ظهرت بعض محلات الملابس التي تعرض سلعا مصدرها التجارة العابرة للحدود و"تجارة الحقائب"، وبعد أن حظيت باستحسان بعض الزبائن الميسورين الذين وجدوا سلعا أكثر جودة من تلك التي تباع في المدينة الجديدة، وكذلك علامات لملابس أوربية وفساتين مغربية، حصلت "شوبو" سريعا على سمعتها التجارية. وهكذا استفاد مقاولون آخرون من هذه الدينامية، واستقروا بالحي في بداية سنوات الألفية، فكانت هناك عشرات من المحلات التي شغلت الواجهات الأمامية لهذه الفيلات وانطلقت هكذا سيرورة التغيير. هذه السمعة التي بدأت تعرف النور، أدرّت ربحًا على بعض المستثمرين الذين فتحوا محلات كثيرة. ففي 2005 فُتِح أول مركز تجاري يضمّ قرابة ثلاثين محلا متوزعا على ثلاثة طوابق. وقد كان لهذه الظاهرة تبعاتها، حيث أنه وخلال بضع سنوات فقط، شغل الشارع ما يقارب 200 محلاً تجاريا، من بينها 140 محلا صغيرا للملابس والسلع المنزلية، 11 متجرا و5 محلات تجارية. لم يبق سوى بعض العشرات من منازل الشارع بقيت دون محلات تجارية.

قلما تمّ تعديل المساحة الأرضية الأصلية "لشوبو"، والبنايات الموجودة بهذا الحي هي أكبر حجما من تلك المتواجدة بالمدينة الجديدة. فهي عموما ذات مساحة تبلغ 300م2، وبواجهة على الطريق يبلغ طولها 15م، وكونها سهلة التعديل يمكن لهذه البنايات أن تحتضن العديد من المحلات الصغيرة، محل واحد كبير أو بفضل الإعلاء أو الجمع بين قطعتين أرضيتين يمكنها أن تسع مركزًا تجاريًا.

خريطة 2: "شوبو": توزيع المحلات التجارية "بشوبو"

محلات صغيرة ومراكز تجارية

تم الانتهاء مؤخرا من بناء ثلاثة مراكز تجارية نشطة ومركزين آخرين، وهي على وشك أن تُفتح، فالمراكز التجارية "لشوبو" تتميز بمساحاتها الكبيرة وكذلك المحلات المتواجدة بها والموزعة في الغالب على طابقين أو ثلاثة هي أيضا جدُّ واسعة، ديكورها وتجهيزاتها جدُّ منظمة ومنمقة، تنبعث منها موسيقى وعطور زكية، فالزبائن يحبذون الهدوء ويأخذون كل وقتهم لتجريب الملابس التي يرغبون في شرائها، أو – ببساطة - الاستمتاع بالنظر إلى الأثاث المعروض المستورد من تركيا أو الصين.

فهيمنة السلع المتمثلة في بالألبسة والأكسيسوارات وصناعة الجلود والأثاث والتأثيث المنزلي (%70 من المحلات)، تعطي الشارع صبغة خاصة تجعل منه وجهة للنساء تحديدا، فما يقارب%60  من التجارة موجهة إلى الجمهور النسوي (ألبسة نسائية وملابس الأطفال، ملابس جلدية، أحذية، مواد تجميل، أفرشة منزلية، أثاث، ديكور منزلي)، كما تتواجد فيه المحلات التي تبيع الملابس النسوية التقليدية للحفلات بشكل كبير (%11,9).

الجدول 3 "شوبو": توزيع المحلات حسب نوع التجارة
(تحقيق ماي
2013)

الجدول 4: إحصاء عن التجارة الرائجة في "شوبو"

المصدر: تحقيق المؤلفين، مارس 2013.

 

الجدول 5: توزيع محلات السلع النسائية أو التي تتردد عليها النساء

ومع التخصص في أنواع معينة من السلع، فإن تجار "شوبو" استهدفوا نوعًا معينًا من الزبائن الذين ينتمون إلى الطبقات المتوسطة والمترفة.

تجديد حضري من القاعدة : عندما تتغلب التجارة على الوظيفة السكنية

أدى غزو تجارة السلع العابرة للحدود لهذين الحيّين في بضع سنوات فقط إلى خلق سيرورة للتعديل في عمق تراثهما المعماري، وإلى زعزعة وظيفتهما السكنية.

فبعد التجنيد القوي الذي جاء بعد سنوات 1960، والمرتبط برحيل سكانها الأوربيين، عاشت "شوبو" فترة طويلة من الاستقرار السكني، فانتشار النشاطات التجارية على طول الشارع الرئيسي، ولكن أيضا على طول الشوارع المتعامدة معها، يترجمه تقلص معتبر لعدد السكان، إذ فقد الحي 2403 ساكنين بين 1998 و2008، ليتحول عدد سكانه من 20781 إلى 18378، أي انخفاض نسبته%11,5 [35]. زاد هذا الانخفاض السكني حدّة في السنوات الأخيرة مع التقدم الرهيب الذي عرفته سيرورة بناء المحلات التجارية.

أما هذه التوجهات فهي أكثر حدّة في المدينة الجديدة، فالساكنة التي كان يبلغ عددها 12255 سنة 1936 و8402 سنة 1998، تقلصت إلى 5274 سنة 2008، وما بين 1998 و2008 بلغ معدل انخفاضها%37,2 [36]، فأجزاء الحي التي تعرف نشاطا تجاريا مكثفا مثل شارع التين تم إخلاؤها تماما من سكانها، وزادت وتيرة هذه الحركة خلال السنوات الأربع الأخيرة في الشوارع الأخرى.

معظم الساكنة يتموقع في بنايات الشارع الرئيسي الذي يحيط بالحي وخاصة في أحياء دار الحياة ولامورسيار اللذين يجمعان بينهما 431 شقة، أي %61,7 من حديقة المدينة الجديدة المأهولة[37].

فالتحولات التي انجرّت عن الدينامية التجارية كانت سريعة، وزادت من حدّة ظاهرة لا تمركز السكنات التي وجدت منذ الاستقلال.

إعادة ترميم سريعة

مع تحوّل الوظائف تحوّلت أيضا الصورة العمرانية، وإذا كانت سيرورة إعادة الترميم محتشمة إلى غاية نهاية التسعينيات، فإنها زادت أكثر فأكثر من خلال إعلاء البنايات، وتغيير الواجهات أو تهديم العمارات القديمة وبناء محلات تجارية. لقد انتشرت ظاهرة التهديم وبناء المحلات التجارية مع بداية سنوات 2000، مُعلنة بذلك عن انطلاق الجيل الثالث من تحولات المدينة الجديدة، وزادت سرعة هذه الظاهرة سنوات ما بعد 2010 مع تعدد الفنادق، المراكز التجارية والمحلات، وذلك باستخدام أدوات بناء وديكور أكثر تطورا. ففكرة الحي السكني هي فكرة مرفوضة تماما في "شوبو": البنايات التجارية ذات الواجهات الكثيرة تحل محل العمارات السكنية التي تم بناؤها في الفترة الاستعمارية، ومن خلال الاستحواذ على هذه الأحياء، فإن التجار يقومون بتعديلها حسب أهوائهم.

سياسات عمرانية مهمّشة

يحدد المخطط التوجيهي للهندسة المعمارية والمعمار لوهران الكبرى الذي تم تبنيه سنة 1997، التوجهات الكبرى للتدخل في آفاق 2015، وذلك فيما يخص التهيئة العمرانية[38]. هذا المخطط يعتبر هذين الحيّين بوصفهما من المناطق ذات الأولوية للتدخل، ذلك أن البنايات المتواجدة بهما والتي تعود إلى الفترة الاستعمارية هي في حالة جدّ مزرية. نظرا لوجود شبكة طرقات في حالة جيدة (وهو أمر يصحّ على المحاور الكبرى وبشكل أقل على الطرقات الداخلية للمدينة الجديدة)، ومع وجود تجهيزات مُهمَلة أو في حالة خراب (مخازن و ثكنات مهجورة) فقد اكتفى المخطط ببعض التوصيات المتعلقة بنقل هذه المعدات، "إعادة البناء العمراني للمحاور الكبرى" وتوسيع شارع الاستقلال وتحسين الفضاءات العمومية الموجودة سلفا. أما فيما تبقى فهو يترك الحرية للمبادرات الفردية، محدِّدا فقط معاملات شغل الأراضي المرخص به.

والمخطط التوجيهي للهندسة العمرانية والعمران يسمح عمليا بمضاعفة استخدام وفي العموم تحترم البنايات الحديثة توجيهات المخطط ، خاصة في ما يتعلق بالحجم (طابق أرضي +2 وطابق أرضي +3). فقط بعض البنايات، الفنادق والمراكز التجارية الكبرى تتجاوز بشكل كبير هذه المعاملات.

تخص تدخلات السلطات العمومية بشكل أساسي المدينة الجديدة. إنها تتمثل في تهيئة الفضاءات العمومية، إعادة ترميم الطرقات، بناء مرائب والقضاء على السكنات الهشة. غير أن الأشغال الجارية بها والنتائج المتحصل عليها تبقى متناقضة، فتهيئة ساحة الطحطاحة، التي أعيد ترميمها انطلاقا من 2004، هي دون أدنى شك، العملية الأكثر نجاحا. فخصوصيتها المنفتحة وتجهيزاتها الخفيفة ومعالجة أرضيتها، مَنَحتْها صفات حضرية لا يمكن إنكار جودتها، وهي تضع في المقدمة دورَها المركزي للحي.

بالمقابل، فإن بناء مرآب من سبعة طوابق، والذي تقرر بعد الحريق الذي شبّ في الطاحونة القديمة، داخل نسيج المدينة الجديدة، في جهة تعرف كثافة سكانية جدّ كبيرة، هو من بين تضاربات البرمجة الحضرية. إذ يصعب الوصول إلى هذا المرآب الذي هو في طور الإنهاء اليوم، ومن ثمة تصبح عملية توسيع شبكة الطرقات المؤدية إليه ضرورية لجعله عمليا، حتى وإن كان ذلك سيتمخض بالضرورة عن تهديم جزء من البنايات ومن بينها بنايات حديثة.

كان هدف أصحاب القرار من وراء بناء هذا المرآب بالقرب من وسط المدينة وبالقرب من موقف الترامواي، تخفيض الضغط على وسط المدينة من خلال التخفيف من حدّة حركة سير السيارات. فعلى مستوى المدينة يُعدُّ هذا المشروع جدّ عقلانيٍّ، ولكنه على المستوى المحلي يتجاهل واقع الحي. بإنشاء هذه البناية تجد السلطات العمومية نفسها مضطرة إلى إيجاد حلّ وسط مع مالكي العمارات المجاورة. فهل سيتمخض بناء هذا المرآب عن عملية إعادة تجديد حضرية في هذه الجهة من المدينة الجديدة مع التسبب في هدم بعض المنازل؟ بالرغم من أن بناءه سيقوي، دون أدنى شك، من جاذبية حي يعجّ بالنقل العمومي.

خاتمة

سوق عمرانية في عزّ الانبعاث: دينامية تجارية وريع حضري[39]

يرتبط أحد أهم أسباب إنشاء ساحات تجارية على الضواحي بمسألة الريع العقاري الحضري. فغلاء العقار والمعمار اضطر التجّار إلى الاستقرار في الأقاليم الحضرية الجديدة، حيث ثمن القطعة الأرضية أقل ارتفاعا. فدينامية هذه الساحات والأرباح التي تدرّها رفعت هذا الحاجز: حيث يتم تعويض تكلفة الكراء أو الشراء بسرعة عن طريق مداخيل وأرباح هامة، كما أن المقاولين التجار لا يترددون في الاستثمار في الأنسجة الموجودة، مؤدين بذلك إلى ارتفاع في أسعار العقار وكراء العقارات[40]. في الكثير من الأحيان عندما تُعرض بنايات للبيع فإن ما يتم شراءه هو المساحة الأرضية و ليس البناية، ذلك أن إعادة التجديد المباشر هي الهدف الحقيقي المُتوخّى من وراء هذه الصفقة. بالإضافة إلى ذلك يستفيد من هذه الدينامية أيضا المُلاّك الذين يحققون ريوعًا عقارية معتبرة ويرفضون إيجارا مرتفعا أو أثمانًا هامة للبيع. حيث يتم تأجير المحلات الصغيرة الموجودة على مستوى المحلات التجارية حسب الموقع بين 2.2000 دج إلى 40.000 دج في الشهر (أي بين 250.000 و500.000 دج في السنة) من أجل عقود إيجار تمتد من سنة إلى ثلاث سنوات[41].

كما أن المستثمرين الذين تستميلهم هذه الساحات التجارية والتي أصبحت ذات أسهم، هم أكثر فأكثر من المستثمرين الذين يعيدون شراء قطعة أرض أو قطعتين متجاورتين من الأراضي ويقومون بهدم المنازل ويقيمون مكانها محلات تجارية. إن التهاب الأسعار والقيمة الإضافية التي تتمخض عن هذه الاستراتيجيات تضعف من مقاومة الكثير من الملاك تجاه هذه الظاهرة. ففي "شوبو" بدأت الطرقات المتقاطعة مع الشارع الرئيسي تعيش على وقع عملية الهدم وإعادة البناء.

أما في المدينة الجديدة، فقد سهّل تواجد نفايات الحديقة من هذه الحركة. فمن 2008 إلى 2012 أخلت السلطات العمومية تسع بنايات بسبب غياب الشروط الصحية فيها، وتِسْعُ بنايات أخرى تمّ إعلانها بوصفها "خراب مع إعلان قرار الإزالة" بين 2010 و2013. وإذا تم تسليم جرد رخص البناء، مديرية التعمير والبناء، وهران[42] أربعة وأربعين رخصة بناء (بما في ذلك للهدم)، فإن هذه المعطيات لا تعبر إلا عن جزء صغير من التغييرات، ومعظم الترميمات (تهيئة وإعلاء) تتم دون الحصول على الرخص. أما في مجال امتصاص السكنات الهشة فتتحرك السلطات العمومية بشكل جدّ محتشم، مفضّلة ترك المبادرة في البداية للمالكين لترافق فيما بعد السيرورة من خلال عمليات دعم تتمثل في إعادة ترميم الطرقات والشبكات المختلفة .

تشارك الساحات التجارية التي أُنْشِئت والتي هي في تحوّل - سواء في المدينة الجديدة أو في "شوبو"- بشكل أكيد في طرق العيش الجديد للمدينة، من خلال خلق أجواء حضرية جديدة. إنها تعكس أيضا الدور الكبير الذي يلعبه المقاولون التجّار في إعادة تصميم الصورة الحضرية.

ترجمة صورية مولوجي-روجي

 

 

Bibliographie

Bekkouche A. (2005), « Un quartier nommé ville nouvelle. Du village nègre colonial à la Médina J’dida», Annales de la recherche urbaine, vol. 98 ; En ligne :  http://www.annalesdelarechercheurbaine.fr/un-quartier-nomme-ville-nouvelle-du-village-negre-a466.html [consulté le 03/06/2015].

Belguidoum S. (1987), « Retournement des modèles urbains et architecturaux à Sétif », in Haumont N., Marie A. sous la dir. de Stratégies urbaines dans les pays en voie de développement, Paris, L’Harmattan.

Belguidoum, S. (2012), « Villes et dynamiques urbaines en Algérie », Réflexions et perspectives, revue scientifique et académique de l’Université d’Alger 2, juin.

Belguidoum, S., Pliez, O. (2012), « Construire une route de la soie entre l’Algérie et la Chine », Diasporas, Histoire et Sociétés, N° 20 (« Routes », sous la dir. de P. Cabanel) ; En ligne : https://halshs.archives-ouvertes.fr/halshs-00815638 [consulté le 04/06/2015].

Guerroudj, T. (2004), « Les enjeux de l’organisation de l’agglomération oranaise », Insaniyat, N°23-24, (« Oran : une ville d’Algérie »).

Kerdoud, N. (2012), Nouvelles centralités périphériques commerciales et recompositions territoriales : l’exemple de villes de l’Est algérien, Thèse de doctorat en géographie, sous la dir. de R. Hérin, Univ. De Caen.

Lespès, R. (2003), Études de géographie et d’histoire urbaines [1938], Oran, Bel Horizon.

Metaïr, K. sous la dir. de (2004), Oran. La mémoire, Oran/Paris, Bel Horizon/Paris-Méditerranée.

ONS (1988), Armature urbaine 1987, coll. « Statistiques » N° 4, Alger.

ONS (1999), Recensement général de la population et de l’habitat 1998, Armature urbaine, coll. « Statistiques », N° 97, Alger.

ONS (2009), Résultats du Recensement général de la population et de l’habitat 2008, coll. « Statistiques », N° 142, Série S : « Statistiques sociales », Alger.

Safar Zitoun, M. (1997), Stratégies patrimoniales et urbanisation. Alger 1962-1992, Paris, L’Harmattan, coll. « Villes et entreprises ».

Semmoud, B. (1975), Médina J’dida, Étude cartographique et géographique d’un quartier d’Oran. Les rapports avec l’agglomération et la région oranaise, Thèse de doctorat de 3e cycle en géographie, sous la dir. de F. Joly, Univ. Paris-VII.

Semmoud, B. (1995), « Croissance urbaine, mobilité et changement social dans l’agglomération oranaise (Algérie) », Cahiers du GREMAMO, N° 12.

Semmoud, N. (2003), « Les mutations de la morphologie socio-spatiale algéroise », Annales de Géographie, vol. 112, N° 633.

Trache, S.-M. (2010), Mobilités résidentielles et périurbanisation dans l’agglomération oranaise, Thèse de doctorat d’État en géographie, sous la dir. de A. Bendjelid, Univ. d’Oran-Es Sénia ; En ligne : http://catalogue.msh.univ tours.fr/opac_css/index.php?lvl=notice_display&id=23523.


 

الهوامش

 [1]تم نشرهذا المقال باللّغة الفرنسية في كراسات معهد البحوث والدراسات حول العالم العربي والإسلامي:

Boudinar, A., Belguidoum, S. (2015), « Dynamique marchande et renouveau urbain à Oran. Médina J’dida et Choupot, deux quartiers du commerce transnational », Les Cahiers d'EMAM, 26 | 2015 : Made in China. Commerce transnational et espaces urbains autour de la Méditerranée.

2 صمود، (2003)، صفر زيتون، (1997)، بلقيدوم، (2012).

 2تبين التحقيقات الميدانية التي نقوم بها حاليا حول مدينة سطيف أن أحياء مثل طنجة  (Tandja) وبومرشي (Beau-Marché) تعيش على وقع التحولات التجارية (بحث جاري في إطار البرنامج الوطني للبحث سكان ومجتمع، الجزائر).

[3] Kerdoud, N. (2012), Nouvelles centralités périphériques commerciales  et recompositions territoriales : l’exemple de villes de l’Est algérien, Thèse de doctorat en géographie, sous la dir. de R. Hérin, Univ. De Caen, p. 390.

[4] يرتكز هذا المقال على مجموعة من التحقيقات التي قام بها المؤلفان انطلاقا من 2010 وكشوف تنجز بانتظام من فيفيري إلى جوان 2013 في أحياء المدينة الجديدة و"شوبو".

[5] Semmoud B. (1995), « Croissance urbaine, mobilité et changement social dans l’agglomération oranaise (Algérie) », Cahiers du GREMAMO, N° 12.

Guerroudj T. (2004), « Les enjeux de l’organisation de l’agglomération oranaise », Insaniyat, N° 23-24, (« Oran : une ville d’Algérie »), p. 45-61.

[6] شارع التين، الذي تم تسميته رسميا شارع مزوار، يلقب من طرف مستخدميه بـ "طريق المرشي" (طريق السوق) أو طريق الجامع (طريق المسجد).

[7] بالأخص الأواني النحاسية، المجوهرات والخياطة.

[8] Bekkouche, A. (2005), « Un quartier nommé ville nouvelle. Du village nègre colonial à la Médina J’dida », Annales de la recherche urbaine, vol. 98, p. 115-121. En ligne : http://www.annalesdelarechercheurbaine.fr/un-quartier-nomme-ville-nouvelle-du-village-negre a466.html [consulté le 03/06/2015].

Metaïr, K. sous la dir. de (2004), Oran. La mémoire, Oran/Paris, Bel Horizon/Paris-Méditerannée, p.192

[9] حي سيتي بوتي (Cité Petit) المدعو حاليا بحي البدر، موضوع تحقيق ميداني خاص والذي نتساءل من خلاله حول مصادر تمويل الساحات التجارية الوهرانية. وقد أحصينا به ما يقارب 450 ورشة تشغل مرائب البيوت الفردية، موظفة ما يقارب 4000 عاملا، ما يجعل من هذا الحي السكني الكولونيالي القديم ساحة صناعية حقيقية للأحذية تمول أكثر من السوق الوهرانية.

[10] المركز الوطني للسجلات التجارية:

http://www.cnrc.org.dz/fr/stats/statistiques_2012/index.html [consulté le [23/01/2014 الولاية هي مقاطعة إدارية، تعادل الجهة (région).

[11] Belguidoum S., Pliez O. (2012), « Construire une route de la soie entre l’Algérie et la Chine », Diasporas, Histoire et Sociétés, no 20 (« Routes », sous la dir. de P. Cabanel),
p. 115-130. En ligne : https://halshs.archives-ouvertes.fr/halshs-00815638 [consulté le 04/06/2015].

[12] Trache, S.-M. (2010), Mobilités résidentielles et périurbanisation dans l’agglomération oranaise, Thèse de doctorat d’État en géographie, sous la dir. de A. Bendjelid, Univ. d’Oran-Es Sénia, 369 p. En ligne : http://catalogue.msh.univ tours.fr/opac_css/index.php?lvl=notice_display&id=23523.

[13] Bekkouche, A. (2005), op.cit.

[14] Metaïr K. (dir.), (2004), op.cit.

[15] Ibid.

[16] Bekkouche, A. (2005), op.cit., Semmoud, B. (1975), Médina J’dida, Étude cartographique et géographique d’un quartier d’Oran. Les rapports avec l’agglomération et la région oranaise, Thèse de doctorat de 3e cycle en géographie, sous la dir. de F. Joly, Univ. Paris-VII, p. 169

[17] Lespès, R. (2003), Études de géographie et d’histoire urbaines [1938], Oran, Bel Horizon., p. 115.

[18] تسمية شائعة في نهاية القرن العشرين لهذا النوع من التجمعات المتواجدة على أبواب المدن الكولونيالية.

[19] المرجع نفسه، ص. 197.  

[20] المرجع نفسه، ص. 197.

[21] المرجع نفسه، ص. 236، يتعلق الأمر بالسوق الحالي المغطى لاموريسيار (Lamoricière) وشارع إينا (Iena).

[22] سميت ساحة طحطاحة رسميا بساحة الاستقلال.

[23] المرجع نفسه، ص. 243.

[24] بكوش، (2005).

[25] ليسباس، (1938)، ص.116 .

[26] تحدث ديبريس سنة 1872 عن ساكنة من العرب، الزنوج، اليهود والأوروبيين الذين يشتغلون بصناعة المشروبات (ديبريس، سفر إلى وهران، ذكره ليسبس، 1938، ص 175).

[27] المرجع نفسه، ص. 289.   

[28] يتعلق الأمر بدار الحياة، حي من 389 مسكن، متواجد جنوب حي لاموريسيار وعماراته تتكون من 42 مسكن مبنية داخل النسيج.

[29] بكوش، (2005)، طراش، (2010).

[30] كانت الساكنة تتكون من 3820 نسمة سنة 1936 منهم فقط 78 مسلما (نفسه، 1938،
 ص. 113).

[31] طراش، 2010، ص. 302.  

[32] نعني بـ عبارة ZHUN، منطقة سكنية حضرية جديدة تأخذ شكل مساكن اجتماعية جماعية على شكل مجمعات سكنية.

[33] تحقيق ثم إجراءه خلال شهر ماي 2013.

[34] لقد وقع خيارنا على تيبولوجيا تصنف المحلات التجارية حسب حجمها وتهيئة فضاءاتها.

[35] طراش، (2010)، ص. 221.   

[36] طراش، (2010) ،ص. 221.

[37] سنة 2008 ،تم إحصاء 699 مسكن مقابل 1520 سنة 1998 (طراش، (2010)، ص. 224).

[38] هذه الوثيقة المعنونة "تقرير التوجيه والتنظيم تم المصادقة عليها في 8 جانفي 1997. إنها تمثل نتائج المرحلة الثالثة والأخيرة من المخطط التوجيهي للهندسة المعمارية والمعمار لتجمع وهران المتكون من بلديات وهران، السانيا، بئر الجير وسيدي الشحمي.

[39] السياسات الحضرية التي تم تبنيها منذ خمسون سنة (مخازن عقارية بلدية، تجميد الصفقات العقارية بين 1974 و1990) سمحت بجعل السوق العقارية سوقا حيادية. تمخضت اليوم عن صفقات كثيرة واضعة مسألة الريع العقاري في قلب الاشكالية العمرانية.

[40] الإعلانات الصغيرة التي تنشر في الصحافة المحلية تترجم حركية ونشاط هذا السوق، على سبيل المثال، إعلانين نشرا في شهر ماي 2013 في صحيفة يومية وهران: الأول بالنسبة لتأجير محل من 10م2 بمواجهة على ساحة الطحطاحة (مدينة الجديدة) مقابل 22.000 دج شهريا (220 يورو)، الثاني من أجل بيع فيلاّ قريبة من شارع "شوبو" بقيمة 30 مليون دينار جزائري.

[41] بالقيمة الرسمية، 100دج يعادل 1 أورو، ولكن في السوق الموازية، الأكثر شيوعاً يبدل
بـ0,66  أورو.

[42] جرد رخص البناء، مديرية التعمير والبناء، وهران.

 

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran

95 06 62 41 213+
03 07 62 41 213+
05 07 62 41 213+
11 07 62 41 213+

98 06 62 41 213+
04 07 62 41 213+

Recherche