الحكاية الشعبية، الأبعاد والقيّم: "بقرة اليتامى" أنموذجًا


إنسانيات عدد 99، جانفي–مارس 2023، ص. 65-84


مختار حسيني: مركز البحث في العلوم الإسلامية والحضارة، 03 000، الأغواط، الجزائر


Télécharger le PDF 


يَدين التطور الحضاري البشري للأنثروبولوجيا باكتشاف عناصره التكوينية التي أسهمت في تشكيل الفكر المعاصر، وتحرير العقل، وطريقة النظر إلى الإنسان، والبحث في أصول متعلقاته وطبيعتها، فتحققت الإنجازات العلمية، وحدثت النقلات الحضارية، بعيدا عن المفهوم، والذي يعتبر الأنثروبولوجيا دراسة للشعوب البدائية.

وتعتبر الحكاية الشعبية -بوصفها أحد أهم تمظهرات الثقافة الشعبية- مادةً حية للمقاربة الأنثروبولوجية، إلا أن مادتها اللغوية طرحت أكثر من إشكال، فكانت تطبيقات المنهج البنيوي أُولى المحاولات للتعاطي مع النص التراثي في هذا المجال العلمي، لتمر بعدها الحكاية الشعبية -على غرار بقية الأشكال النصية- بكثير من التفسير والتنظير، أهم ما قدمته الأنثروبولوجيا اللغوية التي تهتم بالتأثير المتبادل بين اللّغة والوجود الإنساني والحياة الاجتماعية، والتي نعتمد مقاربتَها في حكاية شعبية جزائرية شائعة، هي "حكاية بقرة اليتامى"[1]، مركزين على الجمع بين الدراسة النظرية والإجرائية، باستخدام أدوات البحث اللغوية.

يعود الفضل في ظهور الأنثروبولوجيا اللغوية إلى أكثر من باحث، بدءًا بدو سوسير وجاكبسون ثم شتراوس وإميل دوركايم وسيغموند فرويد، فدرس ستراوس كلود ليفي الأسطورة في إطار مفاهيم بنية العقل البشري، والفصل بين العقل الواعي واللاواعي، والملكة الذهنية اللغوية المشتركة بين البشر، والكليات التي تشترك فيها لغاتهم، للكشف عن الثقافات من خلال الرموز اللغوية التي تحدد سلوك الإنسان وتطوره الثقافي والحضاري. ثم توالت الجهود التأسيسية مع ديل هايمز الذي سعى إلى دراسة اللغة في سياق المجتمع الناطق بها، وزيغمونت بومان وجون جومبيرز وغوفمان وغيرهم.

الحكاية الشعبية الجزائرية

الحكاية الشعبية فن من الفنون الأدبية النثرية القديمة، دفع لوجودها حدث تاريخي أو بطل من الأبطال، تمتزج فيها الحقيقة بالخيال، وهي شكل من الأشكال السردية البسيطة في بنائها الفني، فلا تقوم على قواعد فنية واضحة أو أسلوب معين في الحكي، بل تختلف من شخص لآخر، ومن مجتمع لآخر، وتتسم بالمباشرة والإيجاز والسطحية إذا ما قورنت بالفن القصصي الحديث، الذي "يتميز بعمق الفكرة، وتطور الأحداث بطريقة تقنية مترابطة، تتلاحق فيها الأحداث، ويتعقد فيها الصراع" (بن الشيخ، 1990، ص. 107).

إن الحكاية الشعبية سجل لثقافة المجتمع ولأنماط التفكير "والعادات والتقاليد والمعتقدات والمفاهيم، وما يحبونه الناس وما يكرهون وما يتمنون" (سعد الدين كاظم، 1979، ص. 20) وهي أداة معرفية حمّلها الإنسان القديم فكرَه وعبر من خلالها عن وعيه بنفسه ومجتمعه والحياة من حوله، فهي "حكي مادته الشعب بكل أبعاده النفسية والاجتماعية والثقافية والدينية" (بعلوشة، إبراهيم، 1983، ص. 20)، مصدرها المخيال الشعبي، ومحضن نموها التداولُ الأفقي بين الأفراد والجماعات، والانتقال الرأسي عبر الأجيال، حيث يضاف إليها ويحذف منها، وتشذب وتهذب وتُضمَّن.

والحكاية الشعبية الجزائرية أحد الأشكال القصصية التراثية، وهي مجهولة المؤلف، ترتبط غالبا بحادثة أو تاريخ أو أسطورة، وتشكل جنسا من أجناس التعبير الأدبي الشعبي غير الرسمي الذي يحمل ثقافة الشعب ويعبر عن طبيعة الإنسان الجزائري ووجوده وتميزه، وقد احتلت مكانة متميزة تمنح للجزائر الحق "بأن تفخر بامتلاكها ضمن تراثها الثقافي ثراءً نادرًا يستحق أن يكون في طليعة الأدب الشفهي في العالم بأسره" (Lacoste-Dujardin, 2003, p. 17) وتعد الحكاية الشعبية الجزائرية مصدرا رئيسا للأدب الرسمي في الجزائر، يستمد منه العلماء مادة بحوثهم، ويستثمرها القصاصون في الأدب، من خلال "الزج بالحيوانات والنباتات في عالم الحياة اليومية للإنسان" (بورايو، 1998، ص. 20) ومنحها أدوارا بشرية "تشاكل صفاتها في العمل أو في الكلام أو في الموقف" (وهبة والمهندس، 1984، ص. 153) إثراءً للخيال، وزيادة في التشويق، وتعبيرا عن الرؤى.

والأنثروبولوجيا اللغوية بوصفها فرعا من فروع الأنثروبولوجيا، تعنى بدراسة تأثير الممارسة اللغوية في حياة الإنسان والمجتمع، وتنظر إلى اللغة نظرة دينامية تدفع إلى "معاينة اللغة من خلال عدسة الشؤون الأنثروبولوجية" (دورانتي ألسندرو، 2013، ص. 24)، فتدرس المجتمعات وتفهم طبائعها وأفكارها ومعتقداتها عبر دراسة أنماطها الكلامية.

وللدراسة اللغوية الأنثروبولوجية ثلاثة نماذج هي: اللسانيات الأنثروبولوجية التي تهتم بتوثيق اللغات المهددة بالانقراض ووصف قواعدها، والأنثروبولوجيا اللغوية التي تسعى إلى دراسة اللغة في سياق المجتمع الناطق بها في إطار الفعل الكلامي، والمنهج الذي يدرس المسائل الأنثروبولوجية من خلال استخدام المناهج اللغوية، بدلا من التركيز على استكشاف اللغة، إلا أن الأنثروبولوجيا اللغوية الحديثة فضلت الاهتمام بجميع تلك النماذج الدراسية، باعتبارها علما يستهدف "دراسة اللغة كثروة ثقافية والكلام كممارسة ثقافية في سياق الأنثروبولوجيا" (دورانتي ألسندرو ، 2013، ص. 21)

ومن منطلق الاستفادة من مقاربة شتراوس للأسطورة، يمكننا القول بداية إننا نتعامل مع حكاية شعبية، لكنها تتقاطع مع الأسطورة من جهة ما نرومه من استثمار للمفاهيم بعيدا عن الإسقاط والقولبة، وذلك بالنظر للسياق المعرفي لهذه الحكاية عندنا، فهي أسطورة خارج المحددات الغربية للمصطلح وخصوصية المنظومة الفكرية التأسيسية، وأن "أصل الحكايات في الأساطير" (سعد الدين كاظم، 1979، ص. 21) التي تحولت مع مرور الزمن وبفعل اختلاط الثقافات إلى مجال السرد، فصار ذلك "تاريخا يحكى، وأصبحت الآلهة وأنصاف الآلهة أبطالا للحكاية الشعبية" (سعد الدين كاظم، 1979، ص. 26)، كما يغيب في كليهما المؤلف، لأنهما نتاج خيال جمعي، ويحمل كلاهما قيم الجماعة وتصوراتها وثقافتها، و"لا يمنع هذا الطابع الجمعي أن يقوم الأفراد بإعادة صياغة الحكايات الأسطورية وفق صنعة أدبية تتماشى وروح عصرهم” (السواح، الأسطورة والمعنى: دراسات في الميثولوجيا والديانات المشرقية، 1997، ص. 58) كما تحفل حكاية "بقرة اليتامى" برموز الأسطورة، كالانبعاث والمخلوقات الخارقة.

من منطلق أن الثقافة هي مجموعة "أنساق رمزية تتصدرها اللغة" (كلود ليفي ستراوس، مداريات حزينة، 2003، ص. 56) وأن "بقرة اليتامى" حكاية شعبية تتقاطع في المفهوم الأسطوري والحكائي المتداخل مع الأسطورة، فإننا نرى أن لغتها تعبر عن بعض أوجه الحقيقة الاجتماعية الجزائرية، المتحررة من إكراهات المحددات الشخصية والزمانية والمكانية، فهي حكاية بلا زمن (Timeless)، إنها في وجود الأم في حياة الطفل (كَانُوا عايْشينْ فلْهْنا)، وزمن فقدانها (مُرضُت امْمَيمتْهُم لحْنينَه وْمَاتتْ)، زمن يغيب فيه الحب وتحل الكراهية (وْملِّي زادِتْلْها عَيشَه وَلَّاتْ تَكْرَهُم وتْجَوّعهُم، وْدارتْهُم لْبنتْها خَدَّامينْ)، زمن يستغرق كل حكاية وأسطورة، تتجسد فيه الأخلاق والرحمة وقساوة القلوب، والثواب والعقاب السماويان (طارْ عقلْها وهبْلَتْ ... وربِّي نابْ علْيْتامَى).

إنها حكاية من المرويات الشفوية التي ترفض الثبات، ويظل نصها متحركا " في سيرورة مستمرة ولانهائية لا تستقر على حال، ولا سبيل إلى ضبطه إلا بتحويله إلى نص مكتوب" (جويلي محمد، 2002، ص. 64) رغم أنه فعل لا يخلو من مخاطرة، إذ يرى بعض الدارسين أن "هذا الاعتداء الذي يمارس على الشفوي بتحويله إلى مكتوب، هو أشبه ما يكون بالاعتداء الذي يمكن أن يمارس ضد عصفور طليق يقبض عليه، ليوضع في قفص" (جويلي محمد، 2002، ص. 64)، إلا أن الحكاية الشعبية وإن اختلفت في بنيتها اللغوية المنطوقة من شخص إلى شخص ومن مكان إلى مكان، فإنها تبقى محتفظة بطابعها الجمعي؛ لأن جوهرها -مثل الأسطورة- غير كامن في أسلوبها أو موسيقاها أو في بنيتها، ولكن في القصة التي تحكيها" (كلود ليفي ستراوس، الأسطورة والمعنى، 1986، ص. 6).

الأبعاد والقيم

تمثل الحكاية الشعبية الضمير الجمعي للمجتمع، وقيمه الأخلاقية والدينية والإنسانية، والعادات والتقاليد، إضافة إلى خليط من الرواسب التراثية التي دخلت في تكوين المجتمع وشكلت بنيته عبر الزمن. وأهم تلك الأبعاد:

الأبعاد الاجتماعية والثقافية

تحيلنا دراسة لغة حكاية "بقرة اليتامى" إلى كثير من القيم القارة في المجتمع الجزائري، التي شكلت كيانه وحققت وجوده، ذلك أن اللغوي الأنثروبولوجي لا يدرس اللغات في ذاتها فحسب، وإنما "في علاقتها بالبيئة الاجتماعية والثقافية التي تحتضنها". (الجوهري محمد، 1980، ص. 19) ومن القيم المتجذرة في المجتمع الجزائري -من خلال لغة الحكاية- العلاقات الأسرية، مثل علاقة الأم بأبنائها، واستمرارها إلى ما بعد الموت، وما يتخللها من رحمة وتضحية، فنجد الأم تنسى نفسها، وتتغافل عن الموت الذي يطرق بابها، وتفكر في مصير صغارها من بعدها، فتأخذ على الزوج العهود لتؤَمِّن لأولادها السلام (وَصّاتُو ما يزَّوَّجش، ولْبقْره ما يْبيعْهاش)، وهو بعد إنساني، نابع من الفطرة الإنسانية، له بعدٌ يشترك فيه البشر مع سائر الأحياء، كما نجد عاطفة الأخوة بين الشقيقين. وقدرة تأثير الأم في الأبناء، وأن الأم تنقل أخلاقها لابنتها، وحتى الأب تبقى علاقة أُبوته غير مقدوح فيها، رغم ما يتحمله من مسؤولية في تعاسة الولدين (في لَوَّلْ قالّْها: بَقْرةْ لِيتامَى ما تتْباعشْ)، وهو ما يعكس القيمة المحفوظة للوالدين في المجتمع الجزائري، والاحترام الذي يولَيان به وإن كانا مخطئين (واحدْ النّْهارْ جا بُوها للمملكه ... حَنّتْ عْلِيهْ وبْكاتْ، وبَعْثتْلُو خُبْزَه مْعَمّْرَا بدْراهمْ الذّْهَبْ)، ولم تُسوِّل لها نفسها أن تمعن في العِتاب، مثلما هي عليه علاقة الأبناء بالآباء في مجتمعات أخرى.

قيمة أخرى تفيدها لغة الحكاية هي دور الرجل في حماية أسرته، وأنه من يذبُّ عنها الظلم ويسترد حقوقها، وأن الزوجة تبقى ضعيفة من دونه، وهو ما يستفاد من انزواء الفتاة إلى ركن زوجها، واعتبارها إياه السند في الحياة. وتَظهر تلك القيمة أيضا فيما فعله السلطان انتقاما لزوجته وسعيا في خلاصها (السلطان راحْ لْحكيم الزمان يْدلّْ عْلِيهْ الرَّايْ ... وْدَارْ كيما قالُو)، وبالمقابل ما سبَّبَه عجز الوالد من معاناة لولديه دفعتهما إلى الفرار (وهْنا ما بْقا لِّيتامى غَيْر لْهَرْبه).

ومن تلك العلاقات التي ترسخت في المخيال الشعبي الجزائري علاقة زوجة الأب بابنة زوجها، القائمة على التنافر والتباغض، إلا أن أساس هذه الصورة ليس الطعن في المرأة وإظهارها في مظهر الشيطان أو أنها مصدر للخطيئة والشر مثلما هو في ثقافات بعض الشعوب، ودليل ذلك أن لغة الحكاية أفادت كثيرا من المعاني الجليلة في المرأة، كالطيبة والجمال والتسامح، (وْذِيكْ لْـمَيْتُومه يَاكْ حْنِينه وْمنْوِيَّه، صَدّْقتْها وعَنْقتْها وبْكاتْ)، وهي الملاذ الذي تمتد آثاره إلى ما بعد الموت في أم اليتيمين (بصَّحْ أمّْهُمْ نَطْقتْلْهُم منْ قْبرَهْا وقالْتلْهُم ادْفْنُو ضْرَع لْبَقرَه عَنْدي، وبْقاتْ تْرَضَّعْهُم بْقُدْرة السَّميع العليم)، كما أظهرت بالمقابل الرجلَ في مظهر الضعف والعجز عن أداء دوره في حماية أبنائه (واحدْ دارْ رُوحُو طْبيبْ، وقالْ لرّاجلْها دْواها فلْكَبْدَه تَاعْ بقْرةْ لِيتامى، وْذَبْحو البَقْره وبْكاتْ عْيُون لِيتامى)، في الوقت الذي قامت فيه المرأة بواجبها وهي في قبرها، وأدت فيه الأخت دور الأم في رعاية أخيها رغم صغر سنها.

يتبين لنا مما سبق أن صورة المرأة في الوجدان الشعبي الجزائري هي انعكاس لما ترسخ من قدرة المرأة على صناعة السعادة أو التعاسة، تقويه الحكمة الشعبية: "الخير امْرا، والشر امْرا"، وهو ما رسمته لغة الحكاية حينما أظهرت المرأة في مظهر القوة والقدرة على التغيير، مثلما فعلت الفتاة حين قررت الرحيل، وحين استطاعت حماية نفسها حتى من جنود السلطان، وربما كان التأكيد على ارتباط الشر بزوجة الأب في الوجدان الشعبي الجزائري أمرا مقصودا باعتبار جنس الراوي، ذلك أن مثل هذه الحكايات غالبا ما تتصل في الثقافة الشعبية الجزائرية بذلك المشهد الذي يلتف فيه الأحفاد حول جدتهم (المرأة)، حيث يكون للنساء في رواياتهن أهداف أخرى "فيحاولن تيسير عملية فهم القواعد التي تحكم الحياة الاجتماعية لمستمعاتهن وتسهيل حفظها" (Mehadji, 2010) من خلال ما يقدمنه من نماذج حكائية، ويرسمنه من مشاهد لغوية بكثير من التشويق، مستصحبات طبيعتهن النسوية الرافضة للزوجة الثانية، وربما اتخذن الإساءة للأولاد حجة للرفض، وإن لم تكن صريحة، فهي قيم غير مباشرة من جهة لغة الحكاية، ومعلوم أن "ظهور الثقافة قد ارتبط بظهور الرموز أو العلامات التي تكون نظام اللغة" (كريم زكي حسام الدين، 2001، ص. 46) ليختلف أحيانا المعنى الصريح للرموز والتراكيب عما قصده المتكلم، ما يدفع المتلقي إلى التأويل، مستعينا في ذلك بالسياق، "بما فيه العرف اللغوي والاجتماعي".(أوستين جون، 1991، ص. 31)

ليس مستغربا أن يندرج في هذا النوع من التحليل بعدٌ آخر يتعلق بالجانب النفسي الجمعي، يقول كلود ليفي ستراوس: "إن تحليل الأساطير يكشف عن العلاقات الأساسية بين أبنيتها، بالكيفية التي ينبثق بها الفكر اللا واعي في الوعي، خلال عملية التحليل النفسي، ولذلك يغدو الكشف عن هذه الأبنية نوعا من أنواع التحليل النفسي الثقافي" (شتراوس، الأسطورة والمعنى، 1986، ص. 9) الذي يقضي بأن الأساطير أشكال لأصل واحد هو العقل، "رغم الاختلافات العرقية والثقافية التي ينتمي إليها هذا العقل" (كلود ليفي ستراوس، الأنثروبولوجيا البنيوية، 1977، ص. 76) ، ذلك أن غاية الأسطورة وظيفية، تختلف التعبيرات عنها وجوهرها واحد هو المشاكل الاجتماعية والأزمات الإنسانية، وهو ما يدفعنا إلى معاملة الحكاية الشعبية معاملة الأسطورة من هذه الزاوية البحثية، إذ تتفقان في وحدة الوظيفة الثقافية، ووحدة العقل البشري المنشئ لهما. وأن أوجه الاختلاف بينهما لا تقف عائقا معرفيا في هذا النوع من التصور، ومن هنا تكون حكايتنا تنوعا لأصل واحد هو العقل الإنساني في استحسانه للخير واستهجانه للشر وحبّه للعدل.

الأبعاد البيئية

إن الحكاية الشعبية عالم مفعم بالحياة، زاخر بالعجائب، تتحرك فوق مساحته الشخوص والأبطال، "طلبا للمغامرة أو بحثا عن الأدوات السحرية، عالم يبث الإحساس في الحيوان والنبات والجماد" (العنتيل، 1999، ص. 2) وقد أسهم ملفوظ حكاية "بقرة اليتامى" في التأسيس للمشهد البيئي الجزائري من خلال سينوغرافيا[2]الحكي، مسجلا حضورا متميزا لبعض الحيوانات، مبرزا قيمتها في حياة الجزائري، مثل البقرة التي كانت فاعلا رئيسا في الحكاية وعنوانا لها، أظهرها في صورة مانح الحياة، ومحور العيش في البادية، ومبعث للتحمل والتجمل، أما فقدها فمُؤذن بحلول الفقر وانقضاء مهلة الصبر، وهو ما حدث لليتيمين، فقد تحملا بوجودها الكراهية والأذى، وفقدا بفقدها الأمل في ظل البقاء فعزما على الرحيل (البَقْره هي اللِّي معَيّْشتْهُم، ما بْقَى لِّيتامى غير الهربه).

ومن الحيوانات المذكورة في الحكاية الغزال الذي تحول إليه الأخ (وْكِي شْرَبْ منْها الطّفُلْ وَلىَّ غْزال)، ولهذا الحيوان مكانة خاصة في وجدان البدوي، فهو رمز للرشاقة والجمال، ومصدر للرزق في لحمه ودمه، ومتعة في صيده، وهو شعار الحرية والشرود والمنعة، اتخذته بعض الدول في شعاراتها، والنساء في صناعاتها، فنجده في الأنسجة والأفرشة والألبسة وغيرها على المستوى الشعبي، وفي العملة النقدية على المستوى الرسمي.

ومن الحيوانات المذكورة الأفعى، التي ترتبط في الوجدان الشعبي الجزائري من خلال الحكاية بالموت والهلاك، وأنه لا مفر من الاستسلام لإملاءاتها (قالُّو اذْبَحْ ذْبيحَه للَّفْعَى اللِّي فلْبِير تَرجَعْلك مَرْتَك، ودارْ كِيما قالُّو)، ولا شك أن عناصر الحكاية إنما تُمتح من بيئة المجتمع، وهي هنا البادية الجزائرية على اختلاف جهة وجودها، يعزز قيمتها البيئية ذكر عناصر الطبيعة كالغابة وبرك الماء وشجر الصفصاف، التي طالما كانت العناصرَ المكونة للريف الجزائري.

الأبعاد الدينية

إن الدارس للحكاية الشعبية الجزائرية يلحظ أثر الإسلام فيها بوضوح، دون أن يعني ذلك خلوها من ترسبات أخرى، كالأسطورة وبقايا المعتقدات، سواء ما كان قبل الإسلام وعاش في الوجدان الثقافي الشعبي أو من ديانات أخرى بفعل التعايش والاحتكاك بين الشعوب، من خلال الهجرة والاحتلال والمصاهرة المؤدية إلى اختلاط الثقافات وتفاعلها. الحكاية إنتاج جمالي ووظيفي، ومن ثم فإنها تتضمن عددا من العناصر ذات الخصائص العالمية، التي تنتمي إلى التراث المشترك بين البشر، لكنها أيضا تحمل -فيما بعد الرموز الإثنوغرافية الأولية- علامة المجموعة الاجتماعية حيث تمارس وظيفتها (Lacoste-Dujardin, Camille. 2003, p. 45).

يقودنا ملفوظ الحكاية إلى كثير من القيم الدينية، منها تعظيم حق الوالدين والإحسان إليهما مهما كان تقصيرهما، فالفتاة حين رأت أباها سارعت إلى إكرامه (حَنّتْ عْلِيهْ وبْكاتْ، وبَعْثتْلُو خُبْزَه مْعَمّْرَا بدْراهمْ الذّْهَبْ)، وتناست عجزه عن حمايتها وذبحه للبقرة، وتذكرت فقط أنه والدها، وأنه أهل للتكريم، وهي قيمة دينية، للإسلام أثر كبير في ترسيخها في المجتمع الجزائري، يعزّ وجودها في مجتمعات أخرى، قال تعالى: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾[الإسراء: 23]

قيمة دينية أخرى تتعلق بقوامة الرجل في المجتمع الجزائري، وبواجباته الدينية في حماية زوجته وإشعارها بالأمان، وأنه ملاذها الذي تأوي إليه كلما حزَبتها الخطوب. قال ﷺ: "خيرُكم خيرُكم لأَهلِه وأنا خيرُكُم لأَهلي، ما أكرمَ النِّساءَ إلَّا كريمٌ ولا أهانَهُنَّ إلا لئيمٌ" (السيوطي، 2003، ص. 96) وهو ما تشخصه مضامين هذه الحكاية في علاقة السلطان بالفتاة (غاضْتُو وحَبّْها وازَّوجها، ووْعَدها بْلامان والضّْمان، وجابْ عْقاقير من عَند حكيم الزمان رَجعتْلْها خُوها كِيما كان).

أما البقرة فقد سميت بها أطول سورة في القرآن، وكانت فيها رمزا للإحياء، قال تعالى: ﴿فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَاۚ كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾[البقرة: 73] وأما الأفعى فهي من منطلق المكون الديني للمجتمع الجزائري من الفواسق، ومصدرا للأذى، أرعبت موسى عليه السلام، وبثت الخوف في قلوب السحرة، قال تعالى: ﴿فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ﴾[طه: 20]

جسدت الحكاية كما أشرنا الصراع بين الحق والباطل، والإيمان بأن الحق مآله إلى الانتصار، وأن الباطل مصيره إلى الاندحار (وَيْحَكْ يا لِّي تْدِير الشَرّ)، وأن الفرج مع الصبر.

ومن المضامين الدينية التربوية التي أفادتها لغة الحكاية أثر التربية في الأولاد، فالأم تغرس صلاحها أو فسادها في نفوس أبنائها، مثلما جسدته الفتاة وأمها الراحلة (امَّيْمتْهُم لحْنينَه / لْـمَيْتُومه يَاكْ حْنِينه وْمنْوِيَّه)، وزوجة الأب وابنتها عيشة (مَرتُو واعْرا وشَرّانيه / قالت عيشة لخّْتها أَرواحي تشُوفي، وخَدعتْها ودمْرتْها فلْبيِر)، وزوجة الأب وابنتها عيشة، وفي ذلك قيمة دينية في اختيار الزوجة الصالحة، وأن على الرجل أن يتذكر مسؤوليته التربوية قبل الإقدام على الزواج، قال ﷺ:"انظر في أي نصاب تضع ولدك فإن العرق دسَّاس" (ابن الأعرابي، 1997، ص. 501)

ومن تلك القيم أيضا قيمة الموت والحياة، وتفسيرهما الديني في التراث الشعبي الجزائري، فالحكاية الشعبية ما هي إلا "بقايا معتقدات الشعوب" (ديرلاين فردرش فون، 1973، ص. 24) وأهم مصدر لمعتقدات الشعب الجزائري هو القرآن الكريم، الذي رسخ حقيقة البعث وعلاقة الدنيا بالآخرة، وحقيقة النشور، وقد عبرت الحكاية عن الانبعاث في مرافقة أم اليتيمين لولديها وتوجيههما (نَطْقتْلهُم من قْبرها وقالتلْهُم ادفْنو ضْرَع لْبقْره عَندي)، وأيضا بسعي السلطان لاستعادة زوجته الهالكة، وما يهمنا هنا ليس صحة المعتقد من خطئه، ولكن وجوده من عدمه.

ارتبط الانبعاث بالدين وكان الماء والأرض رمزين له في الديانات والأساطير، حيث ساد التصور بأن الكون كان ماء بلا سطح ولا قرار، وأن "السماء والأرض ولدتا في أعماقه المظلمة، ومن لقـاحهما ولـد الهـواء الـذي تمـدَّد فباعــد بــين أبويــه فظهــرت معــالم الكــون" (السواح، لغز عشتار، 2002، ص. 158) وفي الإسلام تعتبر الأرض مصدر الانبعاث، قال تعالى: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ﴾[طه: 127] ويعد الماء رمزا للإحياء، قال تعالى: ﴿حَتَّىٰ إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ۚ كَذَٰلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾[الأعراف: 147]

جاء في الحكاية أن حكيم الزمان نصح السلطان: (أَذْبَحْ ذْبيحَه للَّفْعَى) إرضاء لها، واتقاء لشرها، لتحقق له أمنيته في استعادة زوجته، وهي قيمة متصلة بما حفر في الوجدان الشعبي من الاعتقاد في حدوث الخوارق، والتسليم بوجود أصحابها، ووجوب استرضائهم بتقديم القرابين، ومن إيمان بالوسطاء أصحاب الحكمة والبرهان الذين ينصحون المرضى وأصحاب الحاجات بذبح بعض الحيوانات ذات مواصفات خاصة عند الأضرحة أو في البيوت للجان والأرواح، إسترضاء لهم وطلبا لمددهم وعونهم، ولذلك حدد حكيم الزمان -الذي يرمز لهؤلاء الوسطاء- مواصفات للبقرة التي يجب ذبحها" (تْكُون بقْرَه ثْنِيَّه، ما هِي زامُوش ما هي عَربيّه)، وهو ما يحيلنا أيضا إلى الأساطير وما ورد فيها من صفات القرابين، فلا تكون الفتاة المهداة إلى الإله إلا شابة جميلة بكرا، مثلما كان عند المصريين القدماء مع إله النيل "حابي"، وقد رُوي أن أهل مصر قالوا لعمرو بن العاص: "أيّها الأمير إنّ لنيلنا هذا سُنّة لا يجري إلا بها، فقال لهم: وما ذاك؟ قالوا: إنه إذا كان لثنتى عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر، عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها فأرضينا أبويها وجعلنا عليها من الحليّ والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها فى هذا النيل" (ابن عبد الحكم، 1995، ص. 176)

القيم التداولية

تعتمد الحكاية الشعبية أساسا "على الرواية الشفاهية، باللغة أو اللهجة التي يتكلمها معظم الشعب، والموجهة إلى جميع أفراد المجتمع، للتعبير عن أحلامهم وآلامهم وأهدافهم في الحياة" (تيجاني، د.ت، ص. 15) والتي يمكن النظر إليها من وجهة نظر الأنثروبولوجيا اللغوية على أنها أفعال كلامية، وأن الأفعال المتضمنة فيها بقواها الإنجازية ومحتوياتها القضوية "وحدات تحليل للدراسة الأنثروبولوجية لاستعمال اللغة" (دورانتي ألسندرو، 2013، ص. 353) ليصبح للغة الحكاية من هذه الوجهة جانبان دلاليان، أحدهما متأتٍّ من العلاقات بين الوحدات اللغوية، وعلاقة ذلك بالسياق الاستعمالي لتلك الملفوظات، والآخر متحصلٌ ذاتيا من خلال الحمولة الثقافية لبعض العبارات، ويصير تحليل الخطاب حينها منصبّا على "دراسة أنماط مختلفة من الظواهر التلفظية: على وجه الخصوص ما يحتويه النص من مؤشرات لغوية تعيِّن الذوات والأشياء" (شارودو باتريك ومنغينو دومنيك، 2008،
ص. .223-224 والتي تم التفريق فيها بين مستويين: مستوى جزئي تتبدى فيه الظواهر الجزئية في التلفظ، كالإشاريات والموجهات وإعادة الصياغة، والظواهر التي تسمح بتقابل التموقعات المختلفة، ومستوى كلي يتعلق بالظواهر الكلية التي تؤطر الخطاب (Maingueneau & Charaudeau, 2002, p. 230-231) كالمقام وجنس الخطاب.

الإشاريات الشخصية

هي إشاريات تحمل بمعزل عن السياق مدلولا ثابتا، مثل ضمير (أنا) الذي يدل على من يتكلم فقط، أما مع سياق حكاية "بقرة اليتامى" فيدل على الذات المتكلمة التي تتعلق به وليس بكل متكلم، وهذه الإشاريات تحتاج مراجع (référents) لتشير إلى مقام التلفظ، و "كل اسم استعمل ليحيل إلى فكرة ثابتة و"موضوعية" بمقدوره أن يبقى وهميا أو أن يفعَّل مع موضوع مفرد "(Maingueneau, Dominique & Charaudeau, Patrick 2002, p. 251) وهو ما لا نجده في ملفوظات هذه الحكاية، فلا اسم مكان يمكننا اعتباره علامة لغوية ذات مرجع ثابت لا يتغير بتغير مقام التلفظ، ونقصد بالثبات هنا ثباته في ذاته، وليس فيما يرمز إليه، وحتى الضمائر هنا مراجعها داخلية، هي: الأم، الأب، اليتيمان، زوجة الأب، البقرة... وليست مراجع خارجية من شأنها تثبيت الملفوظ، وهو ما يدعم رأينا في التداخل بين الأسطورة والحكاية محل الدراسة الذي أشرنا إليه سابقا.

كما يلاحظ على مراجع هذه الإشاريات أنها تتغير حسب السياق اللغوي، فيتحدد الضمير من ربطه بعائده، وهو ما يدفعنا إلى "اعتباره استبداليا أو بدلا Endophore" (منغينو دومنيك، 2005، ص. 83) أما ضمائر الغائب الطاغية على الحكاية فليست من الإشاريات -حسب إيميل بنفنست (Émile Benveniste)- بل ضمائر تمثل (اللاّ شخص) لإحالتها إلى عناصر خارج عملية التلفظ، وتبقى مقتصرة في الحكاية على وظيفتها الإحالية، ولا تسجل الربط بين الملفوظ ومقام التلفظ، وهو ما يحيلنا إلى ما أشرنا إليه سابقا من تصور لهذه الحكاية بأنها نتاج خيال جمعي مستقل عن الذات والمكان ومحددات المقام.

الإشاريات الزمانية

تتمثل الإشاريات الزمانية في حكاية "بقرة اليتامى" في ظروف الزمان (لْيُومْ تْبيعها، غُدْوا رسْلتْ راجلْها، يامْسْ، من بَعد عام...)  وفي الإشاريات الزمانية النحوية: مثل "أحرف المضارعة، وعلامات الأمر، وعلامات الماضي (تاء المتكلم، واو الجماعة...) وأزمنة الأفعال (الماضي، المضارع، الأمر) (Maingueneau, Les termes clés de l'analyse du discours, 1996, p. 34) في مثل: (قُلتْ لَك، نُهرْبو، حاوْلُوها...)، وهي هنا إشاريات زمانية ذاتية، غير موضوعية، لا تحيلنا إلى تاريخ معين أو زمن بعينه، وإنما تشير إلى زمن مطلق، غير محدد أو إلى الزمن البعيد الذي نجده في الأسطورة، وهي بذلك "تصف نمطا بلا زمن، يفسر الحاضر والماضي والمستقبل" (كلود ليفي ستراوس، الأسطورة والمعنى، 1986، ص. 6).

الإشاريات المكانية

نجد الإشاريات المكانية في خطاب حكاية "بقرة اليتامى" بدورها ذاتية، منها: (هْنا ندفْنُو الضّْرَع، رانِي نْشُوف في قلْتَه تاعْ مَا لْهِيهْ...)، وبعضها مضافة إلى وحدات مثل: (طَلْعتْ فوق سَجْرَه تاع صفصاف، تحْت السّْجَر، وْرَا لْقلْتَه...)، أو "مضافا إليها اسم إشارة" (Maingueneau, Analyser les textes de communication, 2002, p. 88-89) مثل: (هَاذْ لبْلادْ، ذاك الجّْبَل...) مع الغياب التام للإشاريات الموضوعية ما يعني عدم القدرة على تحديد عناصر المقام كما أسلفنا.

الأفعال الكلامية

إن دور اللغة الأساسي ليس نسخ العمليات الفكرية، بل هو "دور عملي في تصرفات الإنسان" (دورانتي ألسندرو، 2013، ص. 356-357) لذلك تؤكد الأنثروبولوجيا على استخدام اللغة الأصلية "في جمع البيانات ومحاورة الناس الذين تستقى منهم المادة المدروسة" (دورانتي ألسندرو، 2013، ص. 15) باعتبار أن اللغة "ترتبط ارتباطا وثيقا بالثقافة، وهي العامل الأساسي الذي تقوم عليه العلاقات داخل المجتمع" (لوشن نور الهدى، 2001، ص. 162) وهو ما يتقاطع مع نظرية أفعال الكلام التي تعتبر اللغة أفعالا في سياقات تفاعلية، وهو ما يجعلنا نتعامل مع ملفوظات حكاية "بقرة اليتامى" على أنها استعمال للغة لأجل تشكيل الواقع الشعبي الذي نعمل على تصوره.

يغلب على الأفعال الكلامية الجزئية في الحكاية ما سماه سيرل، جون، (Searle, John) "التقريريات"[3] والتي تعتبر الأصل في النصوص السردية، ومن أمثلتها في الحكاية: (مُرضتْ امَّيْمتْهُم، الرّاجل ما طوَّلشْ وازّوج، غاضْتُو وحَبّْها ازَّوَّجها...)، وقوة هذه الأفعال هي الإثبات والتقرير، أما محتوياتها القضوية فمتنوعة بحسب ما عبرت عنه، فالمحتوى القضوي في الفعل الإنجازي الأول هو وفاة الزوجة، وفي الثاني أن للعائلة جارة، وهكذا. و"الغرض المتضمن في القول لهذه المجموعة الكلامية هو التقرير" (Searle, John. 1982, p. 52) الذي لا يسعى فيه الراوي -ومِن ورائه المجتمع- إلى إثبات صحة وجود هذه الأشياء والأحوال في الكون، بقدر ما يسعى إلى إثبات القيم المتضمنة في الحكاية.

ونجد من أمثلة الأمريّات في الحكاية قول أم الولدين لزوجها: (أوْعَدْني ما تتزوجش) بقوته الإنجازية المتمثلة في الطلب، ومحتواه القضوي الذي هو عدم الزواج، و(قُلتْ لَك اليُوم تْبيعْها)، ومثله: طلب السلطان المساعدة من حكيم الزمان (عاونِّي)... والملاحظ أن غرضها جميعا هو دفع المخاطَب للقيام بفعل ما، إلا أنها عُرضت بدرجات متفاوتة، ففيها الالتماس والأمر والاقتراح... ومن الأقسام الإنجازية الحاضرة في الحكاية أيضا الوعديّات، مثل قول الزوج: (نَوْعدَك)، وقول السلطان للفتاة: (نسعْدَك ونحْميك ونْرجَّعلك خُوك...) وهي أفعال إنجازية تختلف محتوياتها القضوية، وتتفق في القوة الإنجازية التي هي الوعد.

كما تحضر في ملفوظ الحكاية التعبريات بغرضها الإنجازي الذي هو التّعبير عن الشعور والحالة النفسية إزاء الوضع، مثل قول عيشة: (اسْمْحيلي راني نادْمه)، وهو فعل إنجازي، قوته الإنجازية الاعتذار ومحتواه القضوي الندم. ومنه أيضا ردّ الفتاة: (مرحْبا بخْتي). وهو فعل إنجازي، قوته الإنجازية الترحيب، ومحتواه القضوي العفو والرضا. ومن التصريحيات قول الفتاة للسلطان: (رْضَيْت بِيك زوج). وهو فعل إنجازي يحقق وقوع عقد الزواج بمجرّد التلفظ به، قوته الإنجازية إيقاع العقد، ومحتواه القضوي الزواج.

وما يجب التنويه به أنّ هذه الأفعال الكلامية الجزئية تتفاعل فيما بينها لتكون وحدة خطابية ذات مواصفات خاصة، ولا يمكن أبدا لخطاب الحكاية أن يُختزل فقط في "تسلسل جمل أو الأقوال التي تركبه" (موشلر جاك. وروبول آن، 2003، ص. 207) وأنّ تناوُلنا لهذه الأفعال الكلامية هو أيضا بالنظر لتعلقها باستعمال اللغة وعمل الإنسان وفكره، ومعلوم أن الأنثروبولوجيا اللغوية تولي أهمية للكلمات التي تستعمل في وضع ما، و"تعطي وجهة نظر معينة، وطريقة خاصة في التفكير بالعالم، وبطبيعة وجود الإنسان" (دورانتي ألسندرو، 2013، ص. 26) كما يبرز لنا هذا العمل اختلاف الملفوظات بحسب الاستعمال، ما يعني أنها اختلافات ذات قيمة اجتماعية.

أما من جهة الفعل الكلامي الكلي لهذه الحكاية فهو متحقق من وحدة الخطاب، فهو ليس "تتابعا بسيطا لأفعال تلفظية ذات قوى إنجازية معينة، لكنه بناء هرمي من الأفعال المترابطة" (Adam, Jean Michel. 1999, p. 125) تجعل من هذه الحكاية فعلا تلفظيا جمعيا، المتلفظ به هو الراوي الشعبي لسان حال المجتمع الجزائري، والمتلفظ له هو الإنسان الجزائري وكل متلق افتراضي، والملفوظ هو حكاية شعبية عنوانها "بقرة اليتامى" تنتمي إلى نمط الخطاب الحكائي، وإلى جنس خطابي هو الأدب الشعبي.

حكاية "بقرة اليتامى" في كليتها فعل كلامي كلي (Macro acte de langage) غير مباشر من الأمريّات، توجه به الراوي الشعبي المطلق إلى المتلقي الافتراضي الكوني، قوته الإنجازية النصح والإرشاد، وأما محتواه القضوي فمتعلّق بالمعنى والصّيغة والسّياق معا (الصرَّاف، 2010، ص. 267-268) وهو هنا النصح والإرشاد للمتلقي ليعتبر بما سمع، فيكون من المحسنين، ويمقت الظلم والظالمين، باعتبار أن الأنثروبولوجيا اللغوية من وظائفها أنها "تهدف إلى فهم معنى الرسائل اللغوية ودراستها ضمن السياقات التي تم فيها إنتاجها وتأويلها" (Duranti, Alessandro. 2009, p. 31).

وفي إطار استعمال اللغة يمكننا كذلك أن نضيف هنا تلك الوحدات المتمفصلة داخل المدونة، المستفادة من الخطاب الحكائي الشفوي، والتي يمكننا اعتبارها "تقطيعات للاسترسال داخل الملفوظ" (Adam, La linguistique textuelle, Introduction à l’analyse textuelle des discours, 2008, p. 52) والتي ينتقل عبرها الراوي بالمستمع تدريجيا من محطة لأخرى، وكأنه بناء توجيهي مقصود، تتخلله تقنيات أخرى كثيرة، مثل البعد العجائبي، والتشويق السردي، والبنية الإيقاعية، كالنبر والتنغيم والصمت والاسترسال، لخلق فعل حكائي شبه لغوي (Paralinguistique) ناقل للمكون التراثي الشعبي، الذي يحمل عبر الزمن ترسبات فكرية وحضارية للجزائري وللإنسان ككل، باعتبار فعل المثاقفة الذي تتفاعل في إطاره موروثات البشر، وهو ما يفسر وجود شبيهات لهذه الحكاية في مجتمعات أخرى، رغم تباين اللغات والأديان والعادات والتقاليد.

خاتمـة

جاءت مقاربتنا لحكاية "بقرة اليتامى" وفق الآليات التحليلية التي وفرتها الأنثروبولوجيا اللغوية، فكانت في سيرورتها منهجية عملية إجرائية لا مجرَّد معرفة نظرية منقولة عن مصادرها الغربية، تتجه من المبنى اللغوي إلى الأثر والقيمة الاجتماعية والثقافية والدينية والبيئية في مستويين اثنين، مستوى كلِّي عرضنا فيه الظواهر الكلِّية التي تؤطر مدونة الدراسة، كسياق حكاية "بقرة اليتامى"، وفعلها الكلامي الكلي، وما يفيده ملفوظ الحكاية من أبعاد وقيم ثاوية تسهم في عملية الفهم والتحليل. ومستوى جزئي، تتجلى فيه الظواهر الجزئية في ملفوظ الحكاية فيما يسمى "السينوغرافيا"، عبر دراسة العناصر الإشارية الشخصية والزمانية والمكانية، وأفعال الكلام الجزئية، ومحتوياتها القضوية وقواها الإنجازيَّة.

ترسو هذه الدراسة على جملة من النتائج، نلخصها فيما يلي:

- أن الحكاية الشعبية الجزائرية تطورت فيها المعتقدات إلى متن حكائي تلاقحت فيه الثقافات، فكانت سجلا للأحداث والأشخاص والعادات والمعتقدات، وأداة معرفية ضمّنها المجتمعُ فكرَه وقيمَه، وعبر من خلالها عن وعيه بنفسه وبالعالم من حوله.

- أن حكاية "بقرة اليتامى" تتضمن أفعالا كلامية تجسد الاستعمال الشعبي للغة، وتعكس القوى الإنجازية المتعلقة بالقيم والأبعاد الثقافية والاجتماعية والدينية المترسخة في الوجدان الشعبي الجزائري، وأنها في خلاصتها فعل كلامي كليّ، المتلفظ به هو المجتمع الجزائري، والمتلفظ له هو أفراد هذا المجتمع وكلُّ متلقٍ افتراضي، وأنها من جهة نمط الخطاب وجنسه حكاية شعبية ناقلة للمكون التراثي للشعب الجزائري، متميزة بخصائصها الذاتية التي تحمل طابع الشخصية الجزائرية بقيمها المتعددة.

- أن في "بقرة اليتامى" نمطَ التفكير السائد في المجتمع الجزائري، والقيمَ المرغوبة فيه، مثل: تقديس عاطفة الأمومة والأخوة، والرحمة، وحب الناس، وفعل الخير، والنفور من الشر والظلم والكراهية، وتعظيم حق الوالدين والإحسان إليهما وإن أخطآ، واعتبار المرأة صانعا للسعادة أو الشقاء، وأن الحب والحماية من مقومات الرجولة والقِوامة، وأن للتربية أثرًا في صلاح الأولاد أو فسادهم، وأن الصراع بين الخير والشر أبدي، وأن عواقب الظلم وخيمة، وأن بعد العسر يسرا، إضافة إلى تمجيد الصبر وتعظيم شأن الحق والعقل، والتفريق بين الحكمة والخداع، وربط الحكمة بالعلم، وإعلاء مقام العلماء والحكماء، واعتبارهم قوام السياسة وحسن التدبير، وأن المشورة سبيل للصواب والرشاد، وهو ما يجعل من حكاية "بقرة اليتامى" حكمة في ذاتها.

- في حكاية "بقرة اليتامى" إحالة إلى كثير من المعتقدات والعادات والتقاليد المترسخة في الوجدان الشعبي الجزائري، منها: الإيمان بالخوارق وبعالم الأرواح والانبعاث بعد الموت، وعادة تقديم القرابين لقضاء الحاجات، وما يشترط فيها من مواصفات الجمال والكمال، وبعض هذه المعتقدات يقع فيه الاتفاق مع بقية الشعوب.

إن الأجهزة المفاهيمية للأنثروبولوجيا اللغوية وآلياتها الإجرائية تجعلها تبدو معرفيةً إنسانية، غير مختصة بلغة من اللغات، ولا ثقافة من الثقافات، إلا أنَّ الأجرأة تتجه بالباحث إلى التموقع والخصوصية الثقافية، وهو ما يدفعنا إلى اقتراح التفكير في إمكانية وجود تصورات ثقافية شاملة، تتجاوز الترتيبات الإجرائية العامة إلى ما هو كوني ثقافي، يَدرسُ الاختلافات الثقافية ولا يلغيها. أو ما يمكن تسميته بالأنثروبولوجيا اللغوية العامة المقارنة، التي يمكنها أن تحقق الخصوصية في إطار النظرة الكلية.

بيبليوغرافيا

أبو سعيد بن الأعرابي، أحمد بن محمد بن زياد بن بشر بن درهم البصري الصوفي،  .(1997)  معجم بن الأعرابي، ط1.، المجلد2 ، الرياض، السعودية: دار ابن الجوزي.

أوستين جون،  .(1991)نظرية أفعال الكلام العامة .تر: قنيني عبد القادر (المغرب: مطابع إفريقيا الشرق).

بورايو عبد الحميد، .(1998) البطل الملحمي والبطل الضحية في الأدب الشفوي الجزائري، دراسة حول خطاب المرويات الشفوية، الأداء الشكل الدلالة .الجزائر: ديوان المطبوعات الجامعية.

تيجاني ثريا، .(1998) دراسة اجتماعية لغوية للقصة الشعبية في منطقة وادي سوف. الجزائر: دار هومة.

الجوهري محمد،  .(1980)الأنثروبولوجيا أسس نظرية وتطبيقات عملية. ط. 1، القاهرة: مؤسسة سجل العرب.

جويلي محمد،  .(2002)أنثروبولوجية الحكاية -دراسة أنثروبولوجية في حكايات شعبية تونسية. تونس: مطبعة تونس قرطاج.

ابن عبد الحكم عبد الرحمن،  .(1995)فتوح مصر والمغرب. القاهرة، مصر: مكتبة الثقافة الدينية.

دورانتي ألسندرو .(2013) .الأنثروبولوجيا الألسنية. ط.1، تر: درويش فرانك، بيروت، لبنان: المنظمة العربية للترجمة.

ديرلاين فردرش فون، .(1973). الحكاية الخرافية: نشأتها، مناهج دراستها، فنيتها. ط 1. تر: إبراهيم نبيلة، بيروت، لبنان: دار القلم.

سعد الدين كاظم،  .(1979). الحكاية الشعبية العراقية دراسات ونصوص. العراق: دار الرشيد للنشر.

السواح فراس،  .(1997). الأسطورة والمعنى: دراسات في الميثولوجيا والديانات المشرقية. ط.1، دمشق، سوريا: دار علاء الدين.

السواح فراس، .(2002). لغز عشتار. ط.8، دمشق، سوريا: دار علاء الدين.

السيوطي جلال الدين، .(2003). الفتح الكبير في ضم الزيادة إلى الجامع الصغير. ط.1، المجلد 2. بيروت، لبنان: دار الفكر

شارودو باتريك، ومنغينو دومنيك .(2008). معجم تحليل الخطاب. ط. 1، تر: المهيري عبد القادر وحمادي صمود، تونس: دار سيناترا، المركز الوطني للتّرجمة.

ليفي ستراوس كلود، .(1986). الأسطورة والمعنى. ط. 1تر: شاكر عبد الحميد، بغداد، العراق.

ليفي ستراوس كلود،  .(1977). الأنثروبولوجيا البنيوية.( دت) تر: صالح مصطفى، دمشق، سوريا: وزارة الثقافة والارشاد القومي.

ليفي ستراوس كلود، .(2003). مداريات حزينة. ط.1، تر: صبح محمد، دمشق: دار كنعان للدراسات والنشر.

بن الشيخ تلي،(1990). منطلقات التفكير في الأدب الشعبي الجزائري. الجزائر: المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية.

الصرَّاف علي محمود حجي، (2010) . البراجماتيَّة الأفعال الإنجازيَّة، في العربيَّة المعاصرة، دراسة دلاليَّة ومعجم سياقي. ط. 1، القاهرة، مصر: مكتبة الآداب.

العنتيل فوزي،.(1999).  عالم الحكايات الشعبية. القاهرة: مكتبة الدراسات الشعبية.

كريم زكي حسام الدين،(2001). اللغة والثقافة العربية، دراسة النثر ولغوية الألفاظ وعلاقات القرابة في الثقافة العربية. ط. 2، القاهرة: دار غريب للطباعة والنشر.

لوشن نور الهدى،  .(2001). مباحث في علم اللغة ومناهج البحث اللغوي. القاهرة: المكتبة الجامعية.

منغينو دومنيك، (2005). المصطلحات المفاتيح لتحليل الخطاب. تر: يحياتن محمد، الجزائر: منشورات الاختلاف.

موشلر جاك وروبول آن، (2003). لتداولية اليوم، علم جديد في التواصل. ط. 1، تر: دغفوس سيف الدّين، والشيباني محمّد، بيروت، لبنان: دار الطليعة للطباعة والنشر.

وهبة مجدي، والمهندس كامل، (1984). معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب. ط.2، بيروت: كتبة لبنان.

Adam, J. (1999). La linguistique textuelle, des genres de discours aux textes. France, Paris : Nathan.

Adam, J. (2008). La linguistique textuelle, Introduction à l’analyse textuelle des discours. (éd. 2). France: Armand Colin.

Duranti, A. (2009). Linguistic anthropology a reader. India: Wiley-Blackwell publishing.

Lacoste-Dujardin, C. (2003). Le conte kabyle, étude ethnologique. Paris: La Découverte.

Maingueneau, D. (1996). Les termes clés de l'analyse du discours. Paris: éd du Seuil.

Maingueneau, D. (2002). Analyser les textes de communication. (éd. 2). Paris: Nathan.

Maingueneau, D. (2003). Linguistique pour le texte littéraire. (éd. 4). France, Paris : Nathan.

Maingueneau, D., & Charaudeau, P. (2002). Dictionnaire d’analyse du discours. (éd. 1). France, Paris : éd du Seuil.

Sarfati, G. (2002). Précis de pragmatique. Paris : Nathan VUEF.

Searle, J. (1982). Sens et expression, Études de théorie des actes du langage. (P. Joëlle, Trad.) Paris: Minuit.

Mehadji, R. (2010). Le conte populaire dans ses pratiques en Algérie. http://journals.openedition.org/anneemaghreb/151

الهوامش : 

[1]ملخص حكاية بقرة اليتامى: يحكى أن بنتا وأخاها توفيت أمهُما، فتزوج أبوهما جارتهم التي كانت تجوّعهما وتسيء لهما، فكانا يلجآن لبقرة والدتهما يرضعانها، وتحايلت زوجة الأب حتى ذبحت البقرة، فدفن الولدان الضرع في قبر والدتهما فبقي يمدهما بالحليب، ولما اكتشفت المرأة الأمر أحرقت القبر، فعزما على الرحيل. وفي الطريق شرب الأخ من بركة ماء فتحول إلى غزال، وفزعت الأخت إلى شجرة صفصاف، وسمع السلطان خبرها فأحضرها بحيلة من "الستُّوت" وأحبها وتزوجها. وعلمت المرأة بالخبر فأرسلت ابنتها متحايلة على أختها حتى رمتها في بئر، فانتقم السلطان من البنت واستعاد زوجته بفضل حكيم الزمان.

[2] تعود أصول السينوغرافيا إلى الاصطلاحات المسرحية، على غرار "الإخراج" و"المشهد"، وتدل في تحليل الخطاب "على المشهد المؤسس من لدن الخطاب، أي تلك الطريقة التي يعتمدها مشهد التلفظ لعرض محتوياته" (منغينو، دومنيك، 2005، ص. 104) ويفصح النص من خلالها عن نفسه، وفيها يضفي التلفظ الشرعية على مقام التلفظ، وهي ليست مجرد إطار أو ديكور يضاف إلى الملفوظ بل عبرها يتم التلفظ (Maingueneau, Linguistique pour le texte littéraire, 2003, p. 12)

[3] صنّف سيرل جون الأفعال الكلاميَّة المتعلّقة بالفعل المـُتضمّن في القول إلى خمسة أقسام هي: التّقريريات (Les assertifs)، الأمريّات (Les directifs)، الوعديّات (Les promissifs)، التعبيرات (Les expressifs)، والتصريحيات (Les déclaratifs) التحقق من الترجمة. وأما التّقريريات فالغرض منها التّقرير، أي أن يلتزم المتكلّم بوجود حالة الأشياء في الكون وبصدق محتوى الجُملة (Sarfati, 2002, p. 36).

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran

95 06 62 41 213+
03 07 62 41 213+
05 07 62 41 213+
11 07 62 41 213+

98 06 62 41 213+
04 07 62 41 213+

Recherche