من أرشيف الإدارة الاستعمارية في الجزائر : الوثائق الفرنسية و الهجرة إلى الديار الإسلامية


إنسانيات عدد 12 | 2000 | إشكالية التراث ؟ | ص27-38 | النص الكامل


Colonial archives and emigration movements to words the countries of Islam

Abstract: Emigration movements which Algeria experienced during the colonial period had gained the attention of colonial authorities. High civil servants wrote circumstancial reports to try to analyse the factors pushing Algerians to emigrate towards countries of Islam (Hijra), research was carried out led by official commissions. To this research were added studies carried out by specialists, press articles…
From this example, we suggest a reflection on the relation ship between historical sources and historical truth in this article.
“No history without documents” positivist historians declare. A Laroui goes even further when he affirms “when the nature of documents change, it’s the entire conception of the event which changes”. A historian must ask himself about the nature of his sources, he must clarify the conditions of their production, the reasons which resulted in their elaboration. He  must put in evidence, not only their value, but also their limits.
While revisiting the colonial archives; we tried to answer those questions. Finally, we tackled the question of their use, notably, by the French historians of Algeria, without falling into a useless controversy. We consider that these historians with their intellectual and conceptual means at their disposal, contributed to the historical knowledge of Algeria. They wrote a history marked by the political climate of their epoch, by their social origins, and the surrounding political milieu. Despite Sud deforming,, reducing and oversights, this history is of use.


Mohamed GHALEM  : Historien, Université d'Oran, , 31 000, Oran, Algérie
Centre de Recherche en Anthropologie Sociale et Culturelle, 31 000, Oran, Algérie


تقول القاعدة التاريخية الكلاسيكية "لا تاريخ دون وثائق"[1] و يذهب المؤرخ المغربي : عبد الله العروي أبعد من ذلك حين يؤكد "يتغير نوع الوثيقة – أي الرمز الشاهد – فيتغير مفهوم الحدث و بالتالي يتغيّر النقد و التأليف، أي تتغير ذهنية المؤرخ" [2].

عموما، كل خطاب تاريخي تتحكم فيه جملة من العوامل هي المصادر أولا، ثم الاختيارات المنهجية الصريحة أو الضمنية فالتصورات حول الإنسان و المجتمع، بين هذه العوامل علاقة عضوية واضحة.

إن ما يميز الأسطوغرافيا الاستعمارية التي عالجت تاريخ الجزائر المعاصر (1830 – 1954) هو ارتباطها بأرشيف الإدارة الاستعمارية، ارتباطا يجعلها تعيد إنتاج تحاليلها المختلفة وخلاصاتها العامة، هذه النتيجة نلمسها بوضوح عند قراءة الوثائق التي تتناول هجرة الجزائريين إلى الديار الإسلامية خلال الفترة 1898 – 1912. تشتمل هذه الوثائق على مجموعة هامة من التقارير و التحقيقات التي وضعها موظفون – على مختلف المستويات – وآستخدمها المؤرخون الفرنسيون بكيفيات قررت مضمون أبحاثهم ووجهت نتائجهم.

لا شك أن التأليف التاريخي الاستعماري مليء بالأحكام المسبقة السلبية المبنية على مفاهيم لا ترتبط، ارتباطا عضويا، بالوقائع التاريخية الجزائرية، حقيقة دامغة لكن لا ينبغي أن نعتبرها حكما مطلقا نركن دائما إليه في المساجلات الفكرية مع المؤرخين الاستعماريين، مثل هذا الموقف المتخلف أخطر على مستقبل التاريخ و الفكر التاريخي في بلادنا.

لا يجوز أن نستقر في موقع السجال العقيم، ننقد التاريخ الاستعماري و أحكامه، نلغيه بسبب نقائصه و نغفل ذكر رصيده المعرفي و المنهجي. ننسى أن المؤرخين الاستعماريين قد كتبوا تاريخ الجزائر بوسائل فكرية وأدوات منهجية ارتبطت بوضعية العلوم الإنسانية و التاريخ في عصرهم. إنهم – مثل المؤرخين في العالم – قد تأثروا بأصولهم الاجتماعية وبالبيئة السياسية المحيطة و بالمناخ الفكري الثقافي السائد.

ندعو إلى تجديد كتابة التاريخ و تخليصه من المسحة الاستعمارية، غير أن هذه الدعوة لا تتحقق إلا بالتنقيب عن مصادر بديلة – غير المصادر الفرنسية- و بإعادة تحليل الوقائع التاريخية اعتمادا على المناهج العلمية الحديثة.

1. الوثائق الفرنسية الخاصة بالهجرة إلى الديار الإسلامية.

شغلت حركات الهجرة إلى الديار الإسلامية، التي شهدتها الجزائر خلال الفترة 1890 – 1911 شـغل الإدارة الاستعمارية. و يعود ذلك إلى اعتبارات ترتبط بما أسمته هذه الإدارة "أمن المستعمرة", لقد خشيت السلطات الفرنسية أن تكون هجرة الجزائريين سببا في انتشار الاضطرابات الثورية. "بمجرد أن تتجه الأنظار إلى الهجرة، تفقد الإدارة ثقة الأهالي وتنتشر موجات القلق،… و قد يتحول هذا القلق في بعض المقاطعات إلى حركات ثورية لا تحمد عقباها…"[3].

لذا كانت الإدارة الاستعمارية تهب، كلما ظهر خطر الهجرة، إلى اتخاذ الإجراءات الإدارية و العسكرية لتوقيفها. و تتمثل هذه الإجراءات في عدم تسليم جوازات السفر و مراقبة الحدود و تجنيد الفرق العسكرية لمتابعة من يغادرون البلاد سرا.

إلى جانب هذا العامل، كانت الدوائر الحكومية في الجزائر و فرنسا، تخشى على سمعتها لأن حركات الهجرة إلى البلاد الإسلامية كانت تترك انطباعا سيئا على الرأي العام في فرنسا و العالم الإسلامي. فهي توحي بأن "أهالي المستعمرة يئنون تحت نير الظلم و الاستعباد " و بالـتالي "يجب العمل على إيقافها " و إلا "تحول المهاجرون الجزائريون – عند وصولهم – إلى دعاة معادين لفرنسا وأعداء ناقمين عليها"[4].

ولم تنظر الإدارة – وحدها – بعين القلق إلى حركات الهجرة إلى الديار الإسلامية. فالمعمرون – أو أوساط واسعة منهم، - كانوا يعلنون عن غضبهم كلما انتشرت الهجرة في مدينة أو مقاطعة ما. و لنا أمثلة واضحة عن هذا الموقف، في الصحف التي كانت تصدر في المستعمرة و في المجالس المختلفة التي كان المعمرون يشرفون عليها.

و ترتبط أسباب غضب المعمرين، عموما، بمصالحهم الاقتصادية، إذْ كانت حركات الهجرة، تسبب لهم نقصا خطيرا في اليد العاملة الضرورية لتسيير مزارعهم و مؤسساتهم الاقتصادية الأخرى.

هذه العوامل كلها، هي التي دفعت السلطات الفرنسية إلى الاهتمام بظاهرة الهجرة. فخصصتها بمجموعة من التقارير و الدراسات يعتبرها المؤرخون الفرنسيون مصدرا تاريخيا رئيسيا. واعتمد جل هؤلاء المؤرخين عليها في بناء تحاليلهم لحركة الهجرة إلى الديار الإسلامية.

نريد في هذه المقالة أن نركز اهتمامنا على مجموعة من التقارير التي وضعتها الإدارة الاستعمارية لدراسة ثلاث هجرات هي هجرة سكان "الشلف" سنتي 1898 و 1899 و هجرة سكان "بوعريرج" سنتي 1909 و 1910 ثم هجرة "تلمسان" في أواخر سنة 1911. و توجد هذه الوثائق – حاليا – بمركز "أرشيف ما وراء البحر " بمدينة أكس الفرنسية، في علب تحمل الأرقام التالية : (3H 63 و 9H 61 و 9 H03 و 9 H 04 و 9 H 05 و 9 H 106).

لاشك أن هذه التقارير تحتوي على معلومات هامة لا يمكن أن يستغني عنها الباحث، لأن أصحابها كتبوها من مواقع رسمية وانتقلوا إلى المناطق التي وقعت بها الهجرة و عاينوا أوضاع سكانها… إلا أن النتائج التي توصلوا إليها كانت في الواقع، غير سليمة.

وقد قسمنا هذه التقارير، من حيث نتائجها إلى قسمين :

أولا : التقارير التي تعتمد التفسير الاستعماري التقليدي

ثانيا : التقارير التي تعتمد التفسير الاستعماري الجديد.

2. التقارير التي تعتمد التفسير الاستعماري التقليدي :

لأصحاب هذا التقارير قاسم مشترك، فانهم يرجعون الهجرة إلى الديار الإسلامية، إلى عوامل و أسباب لا ترتبط بواقع النظام الاستعماري كما أنهم ينفون مسؤولية الإدارة الاستعمارية – وهم أطراف فيها – في وقوع حركات الهجرة. و تنقسم هذه التقارير بدورها إلى ثلاثة أصناف :

أولا. التقارير التي تعزو الهجرة إلى " الدعاية العثمانية" :

نجد هذه الأطروحة في عدد من التقارير و الدراسات أهمها التقرير الذي كتبه مدير مصلحه "شؤون الأهالي" (LUCIANI) عقب الهجرة التي عمت الجالية الجزائرية في تونس ثم انتـشرت إلى مقاطعتي "المدية و الشلف"* سنتي 1898 –1899. يعتبر السيد "لوسياني" ما أسماه بـ "الدعاية العثمانية" تارة و "التحريض الأجنبي" تارة أخرى، السبب الرئيسي في هجرة الجزائريين إلى بلاد الشام، إذ يقول: "هدفت هذه الدعاية العثمانية إلى إثارة الشعور الديني لدى مسلمي المستعمرات و خاصة المستعمرات الفرنسية"[5] و في نظره، فعلت هذه الدعاية فعلها لأنها انتقلت عبر قنوات مختلفة هي :

* الصحف التي تصدر في الأقاليم العثمانية مثل "المعلومات" (الإستانة) و"ثمرة الفنون" (بيروت) و "الإسلام " (الإسكندرية) و يؤكد أن هذه الصحف كانت تصل إلى الجزائر بسهولة إذ أنه "حصل على عدد كبير منها دون صعوبة تذكر" [6].

وعلى حد زعمه، دعت هذه الصحف مسلمي الجزائر و المستعمرات الأخرى إلى مغادرة أوطـانهم و التوجه إلى الأقاليم العثمانية في الشرق الأدنى بهدف الاستقرار فيها.كما أنها نشـرت "رسائل بعض المغاربة المقيمين بالشام يناشدون فيها إخوانهم في الجزائر إلى الهجرة قصد التخلص من الحكم الأروبي المسيحي و الإقامة في ظل الحكم العثماني الإسلامي".

* و إلى جانب الصحف انتشرت الدعاية العثمانية على يد تجار و جواسيس كانوا يعملون لصالح الدولة العثمانية. و عند إقامتهم بالجزائر، تحدث هؤلاء التجار و الجواسيس كثيرا عن "الحـفاوة و المساعدات المختلفة التي كان يتلقاها المهاجرون من قبل المصالح الإدارية العثمانية: أراضي، مساكن و أموال". [7]

وفي الأخير، يخلص مدير "الشؤون الأهلية" إلى النتيجة التي توقعها منذ البداية و هي "أن الـدعاية العثمانية وحدها – تكفي لتفسير حركات الهجرة التي تشهدها الجزائر من حين لآخر. "فلا يجوز، في اعتقاده، أن نبحث عن أسباب أخرى ولا يعقل أن نحمّل الإدارة الاستعمارية مسؤولية وقوعها."

في الواقع، يضخم السيد "لوسياني" دور الدعاية العثمانية. فالمؤرخ الموضوعي، يعلم أن العوامل الخارجية – مهما كانت أهميتها – لا تؤثر إلا إذا استندت على العوامل الداخلية التي تشكل الأرضية الفعالة في حركة الأحداث التاريخية.

إنه يرتكب خطأ كبيرا حين يفصل بين عامل "الدعاية" و الواقع الاستعماري الذي يشكل مصدر غضب الجزائريين عامة و المهاجرين على الخصوص. أضف إلى ذلك، أن التجار و الجواسيس الذين شغلوا عقل السيد لوسياني، لم تعثر الإدارة على أحد منهم.

لا يعني قولنا هذا، أننا ننفي وجود شعور قوي يدفع الجزائريين خلال هذه الفترة، إلى التـطلع إلى الدولة العثمانية. وقد يعود هذا الشعور على حد تعبير "لوسياني" إلى العامل الديني "الذي يجمع بين المسلمين في المشرق و المغرب، غير أننا لا نشاطره الرأي حين "يعتبر الشعور الإسلامي مجرد عامل نفسي لا يحتوي على أبعاد سياسية واضحة" [8].

وفي الحقيقة، اتجه الرأي العام الجزائري خلال الفترة 1880 – 1918 نحو الدولة العثمانية لاعتبارات سياسية بالدرجة الأولى هي :

* كانت الدولة العثمانية الدولة "الإسلامية" الوحيدة التي وقفت في وجه الدول الأوروبية و تصدت لنواياها الاستعمارية وإن كانت على حالة خطيرة من الضعف.

* كان النظام العثماني، باعتباره نظاما "إسلاميا" مستقلا، يرمز في الحقيقة إلى النقيض للنظام الرأسمالي الاستعماري الذي كان يخضع له الجزائريون. و هذا الواقع، نستشفه من دراسة الأدب الشعبي (الشعر الملحون) الذي ازدهر خلال هذه الفترة. فكان الشعراء يكتبون القصائد للتغني بأمجاد السلطان العثماني. و لمقاومة ظاهرة اليأس التي عمت قطاعا كبيرا من الرأي العام الجزائري بسبب فشل المقومات الشعبية المسلحة، أنتج الشعر الملحون صورة "خلافة عثمانية جبارة" تعد العدّة لتحرير المستعمرات.

ثانيا. التقارير التي تعزو الهجرة إلى أسباب عرقية :

في 28 أكتوبر 1911، كتب "السيد صاباتيي" (SABATIER): العضو في المجلس العام لعمالة وهران، تقريرا عن هجرة تلمسان * أخلص فيه إلى أن غالبية العائلات التي هاجرت، كانت تنتمي إلى "الطائفة الكرغلية". فيقول : " تمكنت مصالح البلدية من وضع قائمة بأسماء المهاجرين. إن ما يلفت الانتباه في هذه القائمة هي أنها تتكون من 508 اسم من أصل تركي"[9].

و في اعتقاده، أن السبب الذي دفع الأقلية الكرغلية إلى الهجرة، هو اعتزازها بأصلها التركي و مكانتها الاجتماعية الخاصة. فهي تعيش في أحياء خاصة بها، لا تريد الاختلاط بـ "الحضر" الذين ينتمون إلى الأصل العربي أو الأصل البربري. إنها تتفاخر بتقاليدها التركية و عاداتها التي تميزها عن باقي سكان المدينة.

و يخلص السيد "صاباتيي" إلى النتيجة التالية : "ان الكراغلة يعتبرون تركيا وطنهم الحقيقي… أما الجزائر فهي – في نظرهم – أرض هجرة لا غير" [10] و يتابع قائلا :"تقيم العائلات الكرغلية في تلمسان علاقات مستمرة مع الوطن الأم. فهي تتابع عن كثب أحداث تركيا السياسية و الاجتماعية و تتأثر لها. فحين قامت الحرب بين الباب العالي و اليونان، اهتزت قلوب الكراغلة و قوى اعتزازهم و زاد اهتمامهم[11] لا ينكر السيد "صاباتي" أن الهجرة قد مست الفئات الأخرى التي تسكن المدينة أو ضواحيها، لكنه يؤكد أن "الهجرة كانت في الحقيقة هجرة الكراغلة بالدرجة الأولى" أما انتشارها إلى بقية السكان فيعود –أساسا- إلى قرار الحكومة الفرنسية الخاص بتطبيق قانون الخدمة العسكرية الإجبارية على الشبان الجزائريين.

و في نفس السياق، نشير إلى أن اللجنة التي عينتها الولاية العامة للتحقيق في أسباب هجرة سنة 1911، تعتبر هي كذلك، قرار التجنيد "الإجياري سببا رئيسيا للهجرة، فهي تنفي وجود علاقة سببية بين النظام الإستعماري و الهجرة. "لا يمكن أن يكون قانون الأهالي و قانون الغابات و المنافسة التجارية و الصناعية و حالة الفقر و تصرفات الموظفين أسبابا لحركة الهجرة"[12].

من السهل على الباحث أن يفكك مواطن الضعف و التشويه التي يتضمنها التحليل العرقي، أو حسبنا أن نشير، بإيجاز، إلى أهمها :

* لم يتجه مهاجرو سنة 1911 إلى تركيا بالذات، لكنهم اتجهوا إلى بلاد الشام باعتبارها إقليما عثمانيا لا تركيا، و في دمشق، استقر المهاجرون في "حارة المغاربة" إلى جانب من سبقهم من المهاجرين الجزائريين الآخرين.

* عرفت مدينة تلمسان هجرات سابقة (سنة 1891، سنة 1901 و سنة 1904) مست هي كذلك العائلات الكرغلية. و اختار المهاجرون خلال هذه الفترة، المغرب الأقصى و مصر و ليبيا باعتبارها أقاليم إسلامية مستقلة، للاستقرار فيها.

* لا يستند السيد "صاباتي" إلى أدلة تاريخية قاطعة تثبت أن الكراغلة كانوا يعتبرون أنفسهم أتراكا، لا جزائريين.

ثالثا. الهجرة : ثورة الماضي على الحاضر :

يحتوي التقرير الذي تقدم به "و.مارسيه" (W.MARCAIS) المدير السابق لمدرسة تلمسان العربية-الفرنسية، إلى لجنة التحقيق، على أطروحة تهدف إلى "توضيح الأبعاد الرئيسية للهجرة".

يرى "مارسي" في تقريره أن الهجرة : "حركة تميّز المجتمعات الحضرية التقليدية" فالمهاجرون، في نظره هم "من أشد الناس تمسكا بالماضي و أكثرهم محافظة على تقاليد الحياة التي تعود إلى القرن الخامس عشر : عصر ازدهار المدنية التلمسانية"[13].

إن التغني بالسلف و الحنين إلى الماضي "خلق في نفوس سكان المدينة و مسلمي شمال إفريقيا عامة روحا تتميز بالعداء الشديد للتقدم و التجديد" و يتابع قوله "إن الهجرة إلى الديار الإسلامية هي في الحقيقة سعي يائس وراء الماضي" بل ردة على الحاضر و المستقبل.

و يعزو السيد "مارسي" هذه النزعة الماضوية" إلى "العقلية الإسلامية" و التي تعتبر كل جديد بدعة ضالة غريبة في جسم المجتمع الإسلامي الفاضل، و يأتي عامل التعصب الديني في المرتبة الثانية إذ من أصل 637 مهاجر، كان 526 منهم ينتمون إلى الطريقة الدرقاوية التي تشرف عليها عائلة الشيخ ابن يلس [14] ما من شك، أن هذا التقرير يحتوي على معلومات قيمة لا يجوز اغفالها، لكن نتائجه في مجملها خاطئة.

يعتبر "مارسيه" الهجرة ثورة الماضي، الذي ترمز له الحضارة العربية الإسلامية، على الحاضر الذي يرمز له النظام الإستعماري في الجزائر. و أبعد من ذلك، فإن "مارسيه" يعتقد أن الهجرة إلى الديار الإسلامية هي في الواقع ردة يائسة ضد زحف التقدم و الحضارة الغربية.

و في الواقع، لا يمكن أن نساند "التفسير الماضوي" لان صاحبه أغفل إدراج حقائق هامة كانت تميز المجتمع الجزائري خلال الفترة 1900-1918 و قد أشار إليها شهود عيان و مؤرخون.

لقد كان المجتمع الجزائري –في المدن خاصة- يشهد ابتداء من مطلع القرن العشرين تحولا هاما يدل دلالة قاطعة على أن سكان المدن، لم يكونوا ينفرون من التقدم و التجديد، بل من الواقع الاستعمارى المرير. ففي هذا الصدد، كتب المثقف الجزائري "ابن علي فخار" الذي عاصر الأحداث، مقالا سنة 1908 يصف فيه هذا التحول قائلا : "منذ عشرين سنة خلت، و الـوسط الجزائري بمدينة تلمسان يتأثر بحياة العصر. فهو ينتقل تدريجيا من النمط الاجتماعي التقلـيدي إلى نمط حياة معاصرة.." [15] و ترسم صحيفة "الحق الوهراني" التي كانت تصدر سنتي 1911-1912 صورة تختلف عن الصورة التي جاء بها "مارسي" في تقريره إذ تقول : "يعتبر المثقف التلمساني نموذجا حيا لحركة النهضة التي يشهدها الوسط الجزائري في المستعمرة. و إذا كان الشباب يضطر إلى الهجرة و مغادرة الوطن، فذلك بفعل القوانين الاستعمارية الجائرة" [16].

لا يتسع المجال لذكر شهادات أخرى، بل نكتفي بالإشارة إلى رأي المؤرخ "آجرون" تضم مدينة تلمسان عددا هاما من الشباب المتطور يقرأون و يكتبون بلغتنا الفرنسية و منهم من يحمل شهادات عليا" [17].

و أخيرا، إذا كان المهاجرون يتوجهون نحو بلاد الشام، فلم يكن ذلك، بدافع الهروب من التقدم و الحضارة لأن المدن السورية كانت خلال هذه الفترة، تشهد نهضة ثقافية و اقتصادية ترمز إلى الدعوة إلى التمدن و الأخذ بأسباب التطور و الإصلاح.

3. التقارير التي تعتمد التفسير الاستعماري الحديث

تعزو هذه الوثائق الهجرة إلى عامل الفقر الذي كانت تعانيه الجماهير الجزائرية في المدنو الأرياف. و قد تبنى غالبية المؤرخين الفرنسيين المعاصرين هذا التفسير، فكانت مؤلفاتهم نقدا عنيفا لأعمال الإدارة الفرنسية في الجزائر.

و حمل هؤلاء على الإدارة الاستعمارية لأنها كانت – في نظرهم – ترفض العمل على تخفيف وطأة الفقر و إزالة أسباب الحرمان الاقتصادي في المستعمرة. فلو انتهجت هذه الإدارة سيـاسة إصلاح اقتصادي لما ظهر الغضب في أوساط " الأهالي" لأن هؤلاء لا يقاومون الوجود الفرنسي بل تصرفات الموظفين و كبار المعمرين الذين يستغلونهم توجد بوادر هذه "الأطروحة الاقتصادوية" في التقرير الذي كتبه الأمين العام للولاية العامة. "فارنيي (Varnier) سنة 1910، على أثر هجرة سكان مقاطعة "بوعريرج" بناحية سطيف. يقول "فارنيي" : "إن هجرة الأهالي تعود، جملة و تفصيلا ، إلى الأزمة الاقتصادية التي شهدتها مقاطعة سطيف" [18] ثم يذكر عواملها.

- اجتياح الجراد الذي أتلف المحصول الزراعي خلال الفترة 1908-1910

- الضرائب الثقيلة التي كان يدفعها السكان للإدارة.

- تنازل الفلاحين عن أملاكهم، و ماشيتهم لصالح المعمرين و بعض التجار الجشعين

- إلى جانب هذه العوامل، يعتبر "فارنيي" قانون التجنيد الإجباري بمثابة "قطرة الماء التي أطفحت الإناء" فساد القرى جو من اليأس دفع سكانها إلى مغادرة أراضيهم و الهجرة إلى الشام.

- في دراسته لحركات الهجرة، يعتمد الأستاذ "آجرون" على نفس التحليل مستندا في ذلك، على الشهادات التي وردت في بعض الوثائق مثل تقرير "فارنيي" و تقرير "باربودات" و في بعض المقالات التي صدرت عن الصحف مثل "لاديباس دي كنستنتين" و "ايكو دوران" و غيرهما.

لا يستطيع الباحث أن ينفي، في تحليله للمقاومة المناهضة للاستعمار، أثر العوامل الاقتصادية، لكن، لا يجوز له أن يوقف هذا التحليل عليها لأن دعاة "التفسير الاقتصادوي" يهدفون من وراء ذلك، إلى إنكار الطابع الوطني لهذه المقاومة.

فالأسباب الاقتصادية هي، في الواقع، جزء من كل و الكل هو الوجود الفرنسي باعتباره وجودا استعماريا ينفي للشعب الجزائري حقه في تأسيس دولته الوطنية. إن هذه الفكرة هي التي كانت أساس "التفسير الاقتصادوي" " لا توجد هناك، ثوابت تاريخية تدفع الأهالي إلى تـأسيس دولة وطنية… أبدا، لم تكن الجزائر أرضا تكونت فيها شخصية وطنية و لغة مشتركة و ثقافة جماعية… فقد كانت دائما بلدا معرضا للغزو و الفتوحات، يخضع لمختلف التيارات الفكرية و الحضارية… فهي – حتما – أرض مهيأة لأن تكون ملكا لفرنسا" [19].

في الختام، نريد الوصول إلى النتائج التالية :

أولا :

إن عددا من الباحثين الفرنسيين الذين درسوا حركات الهجرة إلى الديار الإسلامية قد بنوا تحاليلهم المختلفة على أساس النتائج التي وردت في وثائق الإدارة الاستعمارية.

فالباحث ج ج"راجي" يبني تفسيره للهجرة على "العامل النفسي". و قد تأثر في كتابه "المسـلمون الجزائريون في فرنسا و البلاد الإسلامية" [20] بالوثائق الإدارية التي تعزو الهجرة إلى "الدعاية العثمانية".

أما الباحث ب "باردين" فإنه أرجع سبب الهجرة إلى العامل العرقي. و هو يستشهد في كتابه " الجزائريون و التونسيون في الإمبراطورية العثمانية" [21] بفقرات مطولة من تقرير "صاباتي".

و يعزو المؤرخ "آجرون" الهجرة إلى الفقر إذ يستشهد بالوثائق الإدارية التي تتضمن هذا التفسير كتقرير "فارنيي".

ثانيا :

نكتفي بذكر هذه الأسماء، لأن القائمة قد تطول، غير أنه لا يجوز أن نعتبر كل المؤرخين الفرنسيين ينتمون إلى المدرسة الاستعمارية بوجهيها القديم و الحديث. بل فيهم من يبحث في تاريخ بلدنا بروح موضوعية و مناهج علمية (رونيه قاليسو، ج.ب. فاتين، أ.نوشي و غيرهم…)

أشير، على الخصوص، إلى الأستاذ "ج. مينيه" الذي كتب أطروحة هامة عنوانها "الجزائر في الربع الأول من القرن العشرين" [22] انتقد فيها نتائج المدرسة الاستعمارية الحديثة.

ثالثا :

لا يتم تجديد الدراسات التاريخية في بلادنا إلا إذا اعتمدنا على مصادر محلية غير المصادر الفرنسية. و بشأن الهجرة إلى الديار الإسلامية، يجب أن تتجه أنظارنا إلى أرشيف الإدارة العثمانية و القضاء الشرعي في الشام و أرشيف مصر الخاص بالمهاجرين المغاربة. كما يجب أن نجمع شهادات العائلات الجزائرية التي هاجرت ثم عادت إلى أرض الوطن قبل أو بعد الاستقلال.

يساعدنا هذا الصنف من الوثائق على دراسة الهجرة دراسة علمية قائمة على إشكالية وطنية بعيدة عن الإشكالية الاستعمارية التي تميّز قسما من المدرسة التاريخية الفرنسية.

المصادر و المراجع  Archives

Aix En Provence: archives d’outre-mer

9h60: Recensements des indigènes (textes - circulaires: 1901 – 1909)

9h61: Etudes sur le recrutement des indigènes: 1907 – 1911.

9h63: Recrutement des indigènes: 1911 – 1912.

9h98: Emigration des tribus et des familles: 1864 – 1874.

9h99: Emigration en Tunisie: 1899 – 1900.

9h103: Emigration en Proche-Orient : 1882 – 1897.

9h104: Rapport Varnier : 1900 - 1910.

9h105: Emigration en Syrie : 1911 – 1918.

9h106: Emigration en Syrie : 1910.

Archives de la wilaya d’Oran

- Conseil Général d’Oran: 1911: Rapport Sabatier

- Presse: Echo d’Oran – El Hack-Oranais -

Gouvernement général d’Algérie

- Exode de Tlemcen: rapport de la commission Barbedette – Alger, 1914.

Ouvrages

C.A. AGERON.- Les algériens musulmans et la France T1 et T2.- PUF, 1968.

B. BARDIN.- Algériens et Tunisiens dans l’empire ottoman: 1848 – 1914.- Paris, 1979.

J. MELIA.- La France et l’Algérie.- Paris, 1919.

G. MEYNIER.- L’Algérie relevée. Thèse d’état.- Nice 1979.

J.J. RAGER.- Les musulmans algériens en France et dans les pays islamiques.- Paris, 1950.

J.C VATIN.- L’Algérie politique: histoire et société.- Paris 197.4

Revues

B. FEKAR .- La société musulmane de Tlemcen: Revue du Monde musulman.- Paris 1908.

H. MARCHAND .- L’exode des musulmans algériens. Questions diplomatiques et coloniales.- Paris, 1912.

س. ابن شنب.- الخدمة العسكرية الاجبارية و الرفض الأخير.- الجزائر، مجلة الثقافة، 1971.

ع. العروي.- مجمل تاريخ المغرب.- بيروت، 1994.

 .- مفهوم التاريخ.- بيروت، 1992.


الهوامش

[1]- لا تاريخ دون وثائق "قاعدة المدرسة المنهجية الألمانية رددها المؤرخان الفرنسيان "لانقلوا" و"سينبوس" في كتابهما" مدخل إلى العلوم التاريخية" باريس 1898 (بالفرنسية)، إن هذه القاعدة المنهجية صحيحة لكن لا يجوز أن نحصر" الوثيقة التاريخية" في المصادر الرسمية على نحو ما يتصوره المؤرخون الوضعانـيون. إن مفهوم "الوثيقة " في علم التاريخ أشمل من ذلك إذ يؤكد مؤسس مدرسة "الحوليات": لوسيان فيبر "لاشك أن التاريخ يكتب إعتمادا على الوثائق المكتوبة إن وجدت، لكن يمكن بل يجب أن يكتب على ما يستطيع الباحث بمهارته وحذقه، أن يستنبطه من أي مصدر : من المفردات و الرموز، من المناظر الطبيعية و من تركيب الأجر، من أشكال المزارع و من الأعشاب الطفيلية، من خسوفات القمر و من مقارن الثيران، من فحوص العالم الجيولوجي للاحجار و من تحـليلات الكيميائي للسيوف الحديدية "(نقلا عن : ع، العروى : مفهوم التاريخ ص 428) تستغل هذه المقولة لغرضين : أولا لتفنيد نظرية أنصار التاريخ التقليدي الذين يقرون باستمرار أن لا تاريخ دون وثائق مكتوبة" و ثانيا للدفاع عن "التناهج" : أي التعاون العضوي بين التخصصات المختلفة.

[2]- العروى، عبد الله.- مفهوم التاريخ. – ج 1.- ص.8.

[3]- أكس : أرشيف ما وراء البحر : علبة 9 H 98 : تقرير رقم 705

[4]- أكس ك علبة 9H 98 ك تقرير رقم 38

* هجرة واسعة مست في البداية الجالية الجزائرية المقيمة بتونس عند نهاية سنة 1898، استقر هؤلاء الجزائريون (عددهم 800 مهاجر) على أراضي منحتها الحكومة العثمانية لهم على إثر المساعي التي قامت بها أسرة الأمير عبد القادر و المكتب العربي للهجرة. انتشر خبر هذه الهجرة إلى مقاطعة الأصنام إذ قدم 436 جزائر ى طلبا للـهجرة إلى مصالح العمالة، و في عمالة وهران، تقدمت اسر جزائرية (منها ستون من دائرة معسكر) بـنفس الطلب إلى مصالح العمالة، و تمكنت أسر جزائرية أخرى – لا نعرف عددها – من دائرة المدية من مغادرة المستعمرة خفية و توجهت إلى بلاد الشام.

[5]- أكس – علبة 9 h 99 – تقرير "لوسياني"

[6]- أكس – علبة 9 h 99 - - تقرير "لوسياني".

[7]- أكس : علبة 9 h 99 : تقرير لوسياني.

[8]- أكس : علبة 9h 99 : تقرير لوسياني

* بدأت هجرة تلمسان في جوان 1911 و كان المهاجرون يغادرون البلاد سرا، وفي شهر أكتوبر، بلغت حركة الهجرة ذروتها إذ عمت سكان المدينة و المقاطعة، تراوح عدد المهاجرين بين 3000 نسمة حسب جريدة  La dépêche algérienne و 1800 نسمة حسب جريدة "الحق الوهراني" و 1200 نسمة حسب جريدة ECHO d'Oran .

[9]- أرشيف ولاية وهران : المجلس العام للعمالة : جلسات سنة 1911. تقرير السيد كاميه صاباتيي

[10]- أرشيف ولاية وهران : المجلس العام للعمالة : جلسات سنة 1911. تقرير السيد كاميه صاباتيي

[11]- أرشيف ولاية وهران : المجلس العام للعمالة : جلسات سنة 1911. تقرير السيد كاميه صاباتيي

[12]- الولاية العامة للجزائر : هجرة تلمسان-الجزائر: 1914- ص 30 (بالفرنسية)

[13]- أكس : أرشيف ما وراء البحر : علبة 9h105 : تقرير : مارسكيه

[14]- تقرير مارسي

[15]- مجلة العالم الاسلامي.- عدد 6، سنة 108 (بالفرنسية).

[16]- جريدة الحق الوهراني.- عدد 2 (أرشيف ولاية وهران)

[17]- ش. أ. آجرون.- المسلمون الجزائريون و فرنسا.- ج.2 .- ص.1086 (بالفرنسية)

[18]- أكس: أرشيف ما وراء البحر.- علبة 9H104 تقرير فارنيي.

شملت هذه الهجرة فلاحي بلدية عين تاغروت بدائرة سطيف عام 1910. لقد هاجر 576 فلاحا تضرر من الجفاف و الجراد الذي أصاب محصولهم الزراعي خلال موسمي 1909 و 1910. فاضطر الفلاحون الفقراء إلى بيع ماشيهم و التنازل عن أراضيهم لصالح المعمرين و بعض الأثرياء الجزائريين. إلى جانب الفواجع الطبيعية، عانى هؤلاء الفلاحون من الجباية الثقيلة و استاءوا من قرار الخدمة العسكرية الإجبارية… فتواجهوا –سرا- إلى الشام عن طريق الحدود التونسية الجزائرية.

[19]- ميليا، ج..- الجزائر و فرنسا (بالفرنسية).- باريس، 1918.- ص.46.

[20]- راجي، ج.ج..- المسلمون الجزائريون في فرنسا و البلاد الإسلامية (بالفرنسية).- باريس، 1950.

[21]- باردين، ب..- الجزائريون و التونسيون في الإمبراطورية العثمانية 1848 – 1914 (بالفرنسية).- باريس، 1979.

[22]- مينيه، ج..- الجزائر في الربع الأول من القرن العشرين.- أطروحة دكتوراه الدولة.- نيس، 1979.

 

 

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran

95 06 62 41 213+
03 07 62 41 213+
05 07 62 41 213+
11 07 62 41 213+

98 06 62 41 213+
04 07 62 41 213+

Recherche