نضال المرأة المنجمية من خلال أحداث الحوض المنجمي (بقفصة) تونس (جانفي 2008)


إنسانيات عدد 74| 2016| المرأة في البلدان العربية: التغيّرات الاجتماعية والسياسية| ص.29-46|النص الكامل


Women minors and their activism in mining basins (January 2008)

Social and political changes were factors in women’s liberation from the private sphere, enabling themto deal with with men’s pressures. The components of Tunisian society experienced a conflict with the "State apparatus" in managing the development process, which is a “State privilege” and by means of which different components of society are marginalized. The fact caused protest of political currents during which women formed the backbone calling on protesters to claim their rights, especially in the mining region of southern Tunisia.

The present article examines the roles of women in protests against "State apparatus". What claims and issues were subject of their action? What forms of activism were being adopted? Are there any forms of activism specific to women? To what extent did women's activism and commitment to public causes contribute to their liberation? What hindrances and challenges did women face in engaging in public debate and political affairs?

Keywords: Women minors - protest movements - Gafsa events - social recognition - Tunisia.


Houda LARBI, Université de Sfax, Faculté des lettres et des sciences humaines, Département de sociologie, 3000, Sfax, Tunis.


مقدمة

أسهمت المرأة التونسيّة في دفعها لمسار التحرّر فترة الاستعمار وما بعده من خلال تحرّكها ضمن أطر عديدة مثل الجمعيات والأحزاب واتحادات الشغل والنقابات وضمن مواقع نضالية متعدّدة، فتراكم نضالاتها وخروجها من إطار الأسرة إلى الإطار العام المتمثل في المجتمع أكسبها عدّة أدوار ضمن سياقات تاريخية متتالية.

مثّلت التحوّلات الاجتماعية والسياسية التي عاشتها تونس بعد الاستقلال عاملا لخروج المرأة من المجال الخاص تحدّيا للضغوطات المسلطة عليها لتحتل جزءا من المجال العام، فكان انخراطها ضرورة للدفاع عن القضايا العامة. لقد كان للمرأة أدوار خصوصيّة في نضالها، فمنذ سنة 2008، شهدت مكونات المجتمع التونسي نزاعا وصراعا مع "أجهزة الدولةّ" موضوعها تمحور حول إدارة العملية التنموية التي احتكرتها الدولة وتمّ خلالها إقصاء باقي الأطراف الاجتماعية، وهذا الوضع ولّد حركات اجتماعية كانت المرأة فيها العمود الفقري الذي يدفع المحتجين إلى المطالبة بحقوقهم، فقد كانت موجودة بشكل جلي في حركة المطالب تنادي بالتوزيع العادل للثروة الوطنية والاعتراف بالفئات المهمّشة التي لفضها النسق السياسي في عدة جهات من البلاد التونسية.

يقترح المقال العودة إلى تحليل الأدوار التي قامت بها المرأة خلال أحداث الحوض المنجمي بقفصة (تونس) بحثا عن فهم إسهامها في احتجاجات الحوض المنجمي ضد "أجهزة الدولة" والتعرّف على مطالبها ورهانات ذلك، دون التغاضي عن تحديد الأشكال النضالية التي اعتمدتها، كما نسعى أيضا إلى فهم درجات التزامها بالقضايا العامة، وصولا إلى مناقشة المشاكل التي اعترضت مسارها الاحتجاجي.

الحركات الاجتماعية : مقاربة سوسيولوجية

يعتبر التنظير السوسيولوجي لمسألة الحركات الاجتماعية أداة تحليلية لمتغيّرات الواقع الاجتماعي نظرا لتواجدها في ملتقى ثلاثة مواضيع ذات طبيعة متداخلة: فهي مؤشر إلى أشكال المشاركة السياسية، وتمثل مرجعا يعرّفنا بالإشكاليات العامة للاحتجاجات وبدوافعه، كما تمثل مجالا لتتبع أشكال التعبير عن الهويات الجماعية. 

يمكن للحركة الاجتماعية أن تكون أهمّ أداة لفهم الصراعات والرهانات داخل النسق المجتمعي والتي قد يتجلى مضمونها المعرفي كمحصلة تاريخية تفرز فِعلاً منظَّما للإنسان الثائِر. يتساءل Ted Gurr[1] في هذا السياق قائلا: "لماذا يثور الإنسان؟"، ويقترح لذلك إجابة يربطها بالخيبات والصدمات التاريخية والحرمان الذي يعيشه الأفراد من قبل الأجهزة المسيطرة عليه، وعادة ما يكون "الجوع مولدا لعاطفة الأخوة والتضامن بين الجياع فيدفعهم إلى تنظيم صفوفهم بعضهم حول البعض قصد التغلب على عدوهم المشترك"[2].

علينا القول أنّ أحد أهم ميزات الحركة الاجتماعية هو تواجد شعور عام بالضيم، قوامه الإدراك المشترك للديمقراطية في وضعية سياسية بعينها"[3]، فتفاقم درجات العنف الجماعي الموجهة إليه وإلى القوى المجتمعية وتحطم الانتظارات الاجتماعية وحرمان عدّة فئات من التمتّع بمنافعها وخيراتها وهو ما يضطرها إلى الانتقال بالضرورة إلى مرحلة العبور والاجتياز الجماعي نحو فترة تاريخية جديدة يكون مفتاحها حركات اجتماعية تنتجها إدراكات جماعيّة حول مقتضيات الواقع الاجتماعي، يحركها منطق اقتصادي أو سياسي أو رمزي أو ثقافي. فحسب المنطق التوراني[4]، تعرّف الحركات الاجتماعية على أنّها نتاج التداخل الاجتماعي بين الطبقات الوسطى، المقصين والجماعات الرافضة لتوجهات النسق القائم. فهي لحظة "ذاكرة جماعية تجمع بين الماضي والحاضر"[5]لتنتج مستقبلا كما يتصوّره الفاعلون الاجتماعيون، "لأنّ معناه ليس في الحاضر فحسب بل كذلك في المستقبل، وإذا حدث عكس ذلك أصبحت مجرد احتجاج هامشي غير متأصل في العملية التاريخية"[6]، كما يمكن اعتبارها محصلة التجارب السياسية أو ما يسمى "بالمتنازع عليه"، وهي في الوقت نفسه "متّصلة ومتطوّرة تاريخيا بناء على تفاعلات وممارسات سياسية احتواها الشارع لتكون شكلا سياسيّا وعنصرا لتاريخ بعيد المدى"[7]، وهذا الأمر يستلزم "حدا أدني من الموارد الثقافية والسياسيّة والدرجات العلميّة لقيادة الحركة"[8].

وكما يبين ذلك ألان توران، فإن الحركة الاجتماعية تحيط بها ظروف معينة تساعدها على البروز، وترتكز في حراكها على" صراع حقيقي حول جملة من القيم والموارد المتواجدة في المجتمع"[9]، "منها توزيع الثروة والهيمنة الاقتصادية والرقابة والتحكّم والإدارة والسلطة السياسيّة"[10]، تكون وسائلها وآليات تضامن ضمنها إمّا هادئة (كالإضراب، العريضة، المقاطعة، الضغط بوسائل الإعلام، الضغط من خلال تكتلات أو لوبيات) أو عنيفة (كالحرب الباردة، الإرهاب، وحرب العصابات أو حرب الغّوار)"[11]، فالحركة هي فاعل وهوية وفاعل مضاد.

أما تيليCharles Tilly[12]فيرى أنّها ترتكز على ثلاثة عناصر: مجموعة المطالبين الناذرين أنفسهم للمطالبة، المستهدف الذي توجه إليه المطالب، وجمهور من نوع آخر يمثل القاعدة الشعبية، الحلفاء. ووجود الحركة يتأسس نتيجة تفاعل هذه العناصر. وتتطوّر فترة وجود الحملات التي تتطلّب عموما "مجهودا عاما مستداما ومنظما يملي مطالب جماعية على سلطات مستهدفة"[13]، فتتجلى بذلك الحركة الاجتماعية "كراية لعلم اجتماع الفعل "[14].

أحداث الحوض المنجمي سنة 2008 بوصفها حركة احتجاج رافضة للخيارات التنموية للدولة

انطلقت أحداث الحوض المنجمي بقفصة سنة 2008 "على خلفية إعلان نتائج مناظرة شركة فسفاط قفصة لانتداب أعوان وموظفين وكوادر يوم 4 جانفي 2008"[15]. اندلعت بداية في مدينة الرديف، ثم مسّت جل معتمديات قفصة (أم العرائس، المتلوي، المضيلة...) احتجاجا على جملة من التجاوزات" الحادثة في المناظرة الخارجية لشركة فسفاط شككت في شفافية عمليات الانتداب تجاوزات حصرت العشرين بالمائة من الانتدابات المخصّصة للحالات الاجتماعية لفائدة أبناء النقابيين، فتجاوزت حصة الفرد فيهم، باعتباره عضوا نقابيا، الخمسة أشخاص، في حين لم تراع خصوصيّة المعتمديّة التي تفتقر إلى موارد أخرى للشغل باستثناء شركة فسفاط قفصة"[16]

اعتبر السكان أنّ نتائج المناظرة كانت عرضة للتلاعب ولم تكن نزيهة بفعل المحسوبيّة والفساد، كما اعتبروا أيضا أنّ من وقع عليهم الاختيار هم من أتباع "الأطراف المتنفذة بالجهة". امتدت هذه الاحتجاجات "ستة أشهر، وقد قامت السلطة بقمعها مستعملة قوات الأمن والجيش"[17]، "فتحوّلت الاحتجاجات إلى حركة عامة بأغلب الحوض المنجمي"[18]، وقد مثّل ذلك رد فعل عنيف عن حالة التهميش والإقصاء التي تعيشها الجهة، فالنشاط المنجمي لم يعد يفي بحاجة الفئات المجتمعية في تلك الجهة.

عرفت هذه الاحتجاجات تضافر جهود عدة فاعلين سياسيين ونقابيين نذكر منها ممثلي النقابات الأساسية للاتحاد العام التونسي للشغل UGTT، واتحاد العاطلين عن العمل UDC أو ما عُرف باتحاد أصحاب الشهادات المعطّلين عن العمل، والذي يضمّ تنسيقيات ولاية قفصة المتكونة من جموع المعطّلين عن العمل، كما شمل هذا الاحتجاج الفاعلين المحليين من جلّ الفئات الاجتماعية المنخرطة في الحركة الاحتجاجيّة من نساء ورجال وشيوخ وتلاميذ وأطفال وعائلات النقابيين، كما عرفت أيضا ميلاد اللجنة الوطنية لمساندة سكان الحوض المنجمي والمتكونة من مناضلين ومعارضين من مختلف البلاد التونسية، كان المتحدث باسمها هو المسؤول عن الرابطة التونسية لحقوق الإنسان في القيروان والتي كانت تصدر البيانات وتنظّم الاجتماعات في تونس، ويشارك المناضلون في مواكب المظاهرات في مدينة الرديف من غير أن تمنعهم الشرطة. شاركت أيضا الجالية التونسية بالخارج، أصيلي ولاية قفصة من مدينة نانت في هذا الحراك المدني.

إضافة إلى ذلك، كان الفاعل الإعلامي حاضرا خصوصا قناة الحوار التونسي، فقد قام الفاهم بوكدوس بتغطية الأحداث في 2008 ليتمّ تتبّعه أمنيا وملاحقته مع بعض الصحفيين الآخرين. كما نشّطت عدة مدونات مهمة في هذا المجال منها مدونة نواة، مدونة من أجل قفصة، ومدونة فاطمة أرابيكا. ومن بين المدونين الذين قاموا بمجهودات لفضح التعتيم حول ما حصل بجهة قفصة نذكر: لينا بن مهني التي شاركت بجدية في فعاليات "سيب صالح" و"نهار على عمار"، فعاليات نظمها العديد من المدونين التونسيين، ونشطت أيضا فاطمة الرياحي صاحبة مدونة أرابيكا ومدونة من أجل قفصة التي تمّ حجبها أكثر من سبع مرات والتي أنشأتها لنقل أحداث الحوض المنجمي في سنة 2008.

لعبت المرأة المنجمية[19] أدوارا خصوصية خلال هذا الحراك، فدافعت بامتياز عن القضايا العامة حول التنمية العادلة والتوزيع العادل للثروة الوطنية والاعتراف بالعاطلين عن العمل في المدن المنجمية: الرديف وأم العرايس والمضيلة والمتلوي من ولاية قفصة، كما دافعت أيضا عن مسألة الاعتراف بالمهمشين في مدن الدواميس بغية أشراكهم بصفة جدية في المسار التنموي الذي احتكرته الدولة التونسية والذي اعتبره فعلا ومجالا خاص بها دون الأطراف الاجتماعية الأخرى.

نتائج البحث

لإبراز دور المرأة بوصفها فاعلا اجتماعيا في الحركات الاجتماعية اعتمدنا على تحليل المعطيات التي تمّ جمعها من ميدان البحث عن طريق المقابلة شبه الموجهة بصفتها الأداة التي ارتكزنا عليها لتجميع المعطيات الميدانية. ارتكز البحث على العينة غير الاحتمالية تكوّنت من ثمانية أفراد تختلف نشاطاتهم وأعمارهم وهم: ليلى، نقابية وزوجة أحد النقابيين المسجونين وأم لسجينين في الحوض المنجمي، وياسمين، أم لمعتقلين اثنين في الحوض المنجمي وربة بيت، بشير، نقابي وسجين في الحوض المنجمي، هارون، طالب معتقل في الحوض المنجمي، بلقاسم عاطل عن العمل ناشط سياسي في السريّة وممثل لمنظمة أصحاب الشهادات المعطّلين عن العمل، سمر، ناشطة في المدونات حول الحوض المنجمي ومنسّقة للتحرّكات في الحوض، منى، بنت الحوض المنجمي وتعيش في مدينة نانت Nantes الفرنسية ومحرّرة على الصحف الالكترونية حول قضايا الحوض المنجمي، فيصل معدّل الاجتماعات العامة في مدينة نانت الفرنسية حول ما يجري في الحوض المنجمي، زكية، أستاذة تعليم ثانوي وعضو الجمعية التونسية لمقاومة التعذيب.

المرأة بوصفها فاعلا استراتيجيا في الحركة الاجتماعية

برزت المرأة في الحوض المنجمي كفاعل اجتماعي له أدوار عديدة في الدفاع عن القضايا العامة التي تخص الجهة، فلم تعرف جهة قفصة والحوض المنجمي بالخصوص مشاركة نسائية في الحركة الاجتماعية لها مطالبها ورهاناتها مثلما عرفتها في أحداث جانفي 2008 والتي كانت من بين مطالبها الاعتراف بسكان الحوض المنجمي وتشريكهم في العملية التنموية والتوزيع العادل للثروة الوطنية. فخلال الفترة الممتدة ما بين شهري جانفي وجوان 2008، ساهمت النساء بكثافة من خلال الانخراط في النضال حول القضايا العامة التي تدافع عنها المدن المنجمية بعد استبطانها لمضامين اجتماعية مورست عليهن عند دعمهن لنضالات الأزواج والأبناء داخل مدن الحوض المنجمي، والذين تراوحت الأحكام الصادرة ضدهم "ما بين 10 سنوات وشهر واحد نافذة إلى سنتي سجن"[20]. لقد سعت المرأة جاهدة لانتزاع الاعتراف بسكان الحوض المنجمي من منظومة سياسية بنيت على معاني احتقار وازدراء الذات الإنسانية، وهذا المطلب دفعهنّ للدخول في صراع مع أجهزة "السلط المحلية والمركزية" حول قيمة العدالة الاجتماعية ومصادر الثروة والمكانات والأدوار داخل النسق الاجتماعي، فالصراع حول الموارد كان ولا يزال رهان التنمية العادلة، وهي مسألة غير مفصولة عندهن عن الاعتبارات السياسية التي اشتكت منها الجهة.

مثّل تغيير المنطق المعمول به من استراتيجيات الفعل الرافض لديهن حجر الزاوية لهذه الحركة الاجتماعية الاحتجاجية التي برزت فيها النساء بوصفهن فاعلا حيويّا واستراتيجيّا خلال هذا الحراك الاجتماعي، فقد لعبت المرأة المنجمية عدة أدوار حسب إمكانياتها العلمية والمعرفية وخبراتها النقابية والسياسية وحسب فضاءات التحرّك الخاصة والعامة، داخل الحركة الاحتجاجية وخارجها، فبرزت بذلك في أدوار معلنة وأخرى خفية، وتجلّت فيها بصور متعدّدة ترجمت رمزيتها في منطقة منجمية لها خصوصيتها ورؤيتها المحافظة للمرأة. ولم تكتف النساء المنجميات في الدفاع عن القضايا العامة بالحوض بل دافعت عن هذه القضايا حتى خارج هذا المجال الحيوي في مجتمع الهجرة بفرنسا[21] نظرا للكثافة السكانية لأبناء الرديف في مدينة نانت الفرنسية.

لقد تمّ تقسيم العمل النضالي من خلال تنظيم الأدوار والمهمّات حسب الجنس في مدن الحوض المنجمي وحتى في مجتمع الهجرة في مدينة نانت الفرنسية Nantes التي تحوي أكبر عدد من المواطنين التونسيين ذوي الأصول المنجمية خاصة منهم أبناء مدينة الرديف. ارتكز التقسيم على الدائرة العامة والدائرة الخاصة، فكان النشاط النضالي في الدائرة العامة معلنا وفي الدائرة الخاصة خفيا وبناء على ذلك قسمنا طبيعة الفعل النضالي المرتبط بهذه الأحداث إلى فعل نضالي مركزي وفعل نضالي ثانوي مهما كانت أهميته وكثافته أو تأثيراته في الرأي العام الوطني أو الدولي.

ارتكز تنظيم الأدوار لدى الناشطين في الحركة على الدائرة العامة والدائرة الخاصة. فمثلا، عند القيام بإعداد منشورات أو بيانات لتوزيعها للرأي العام فرنسا تقوم النساء من اللواتي يُتقن اللغة الفرنسية بعملية التحرير والنشر في الصحف المحلية، في حين تقوم مجموعة أخرى من الرجال بتوزيع المنشورات في الأماكن العامة وفي الأسواق الكبرى، كما تنظّم التجمّعات العامة من خلال ذلك لاستقطاب أكثر ما يمكن من داعمي الاحتجاجات من المجتمع المدني الفرنسي. تشكّل هذا التقسيم وفق الشكل التقليدي لتوزيع الأدوار ضمن الفضاء الخاص والعام، فكانت المرأة المنجمية تتحرك من خلال الفضاءات الخاصة، في حين كان الرجل بحكم خبرته بالحياة اليومية له القدرة على التحرّك في الساحات العامة دون خوف وهو ما لا يتوفّر في أغلب النساء المنجميّات اللّواتي يقبعن في البيوت .

تكّفلت المرأة بتزويد الرجال بمعلومات خاصة عن مشاهير المجتمع المدني وبقوائم الأرقام والعناوين الإلكترونية حول المنظمات التعاونية والنقابية لتمكنها من وسائل الاتصال الحديثة، أمّا الرجال فقد أنيطت بهم مهمة الاحتكاك مع أقطاب المجتمع المدني الفرنسي للضغط على النظام التونسي باسم الحريّات العامة.

يقتضي وجود تنظيم في الأدوار الخضوع لتراتبيات هذا التنظيم، فتقسيم الأدوار كان يتمّ حسب أهميته، فمثلا يسند إلى الوافدين الجدد من الحوض المنجمي الذين هربوا من القمع في تونس مهمة التكفل بالقيام بإعداد عنوان إلكتروني خاص بالمحتجين وكذا تكوين شبكة علائقية ثانوية في مجتمع الهجرة تجنبا لإلحاق الضرر بالمتساكنين من قبل النظام التونسي، فيقومون بإعداد موقع إلكتروني جماعي خاص بالمحتجين، له اسم مستخدم وكلمة سرّ يعرفها كل الأعضاء الناشطين، لكن اثنين منهم فقط من يستخدمونه بانتظام بسبب عدم معرفة المواطنين في مجتمع الهجرة بقياديي الحركة. غذى ذلك الجانب الاتصالي الشهادات التي تجمع مستخدمي هذا العنوان مع شباب الحوض المنجمي، فقد جمعهم التحرّك الميداني وجذوة النضال، واستطاع هؤلاء الشباب استقطاب أكثر من 100 شخص من المجتمع المدني الفرنسي خلال أول تجمّع للتعريف بقضية التوزيع غير العادل للثروة في الحوض المنجمي.

المرأة المنجمية: نضال في الخفاء

كانت المرأة برغم أهميّة ومحوريّة دورها النضالي تبقى دائما ضمن الحلقات الخاصة للنشاط النضالي برغم قدرتها على تنظيم تجمعات ومسيرات نسائية كبرى كما حدث في 10 ماي 2009 من أجل المطالبة بالإفراج على المعتقلين من أزواج وأبناء. مثل هذه النضالات، بادرت بها فئة متمرّسة بالعمل النقابي والسياسي من نساء الحوض، فئة ورثت تقاليد نقابية وسياسية من الأزواج والأخوة ضمن أطر ومؤسسات التعليم والصحة أو الخلايا النقابية أو الأحزاب المحظورة التي تنشط في السريّة في تلك الفترة من تاريخ تونس. ورُغم الالتزام الكبير الذي قامت به للدفاع عن القضايا العامة والتي لم تكن فيها مسائل تحرّرها من الهيمنة الذكورية مطروحة، فإنّ واقعهن لم ينف التزامهن ببعدين أساسيين في حياتهنّ وهما: الزواج والأمومة. وفي هذا الإطار، أدت المرأة هذه الأدوار، فقامت بزيارة الأزواج المعتقلين، ونقلت المعلومات الثمينة إلى باقي المناضلين التونسيين عن ظروف الاعتقال التي يمرّ بها الأزواج، وهذه الشهادات كان يتلقفها المناضلون لينقلوها بالكتابة والفوتوغرافيا والفيديو لتستخدم في إعلام الرأي العام بشأن ملف تأرجح بين العاطفة والسياسة.

وخلال هذا الحراك، برز فيلم هواة على موقع باسم ليلى خلد التونسية زوجة النقابي السجين البشير العبيدي، تمّ تصويره سرا في الرديف سنة 2009 وتمّ تداوله على نطاق واسع في أنحاء نانت وقد كان عنوانه "الرديف: النضال من أجل الكرامة". عرض هذا الفيلم أدوار عدد من زوجات المسجونين في النضال من أجل الإفراج على المعتقلين ومقاومة القمع والحفاظ على التماسك والتضامن القوي بين سكان الحوض المنجمي وعائلاتهم. سعى هذا الفيلم أيضا إلى التعريف بدور المتحدثّة باسم أزواجهن وأبنائهن المعتقلين.

غيّبت النساء في مجتمع الهجرة بسبب الأدوار الثانوية التي أنيطت بهنّ، مثل تدبير ميزانية التحرّكات أو دعم الإنتاج المكتوب أو إعداد الأطعمة والمشروبات للاجتماعات العامة خصوصا عندما تمّ تنظيم "تضامن حول مائدة الكسكسي" في 2009، وهو تجمع كانت غايته عرض ومناقشة الوضع السياسي التونسي لقد كانت النساء دائما عنصر الخفاء في العمل النضالي، وتحركن دائما في الفضاءات غير الرسمية، في حين افتك الرجال الفضاءات الرسمية للقيام بالتحدّث إلى الجموع المتضامنة مع سكان الحوض المنجمي يقول أحدهم: "كانوا يريدون إسكاتنا، يريدون تخويفنا كي لا نتجرأ على الاجتماع مثلما نفعل الليلة، لكن الإجابة هي لا ثم لا، سوف نواصل من أجل الرديف لأن الرديف هي أمنا، وأمنا جريحة وتطلب النجدة من أبنائها ونحن نجيب"[22].

أشكال نضاليّة متعدّدة للمرأة المنجميّة

ساهمت المرأة خلال مسارها النضالي في جهة قفصة من موقعها في الفضاء الخاص أو العام، في البيت أو خارج البيت، في دفع مسار الحركة الاجتماعية بتموقعها في عدة مجالات نضالية، فبرزت كقيادية رافضة لكل أشكال الاحتقار والازدراء، وكنقابية في الاتحادات المحلية للشغل في مدن دواميس المناجم، وأيضا كناشطة في اتحاد أصحاب الشهادات المعطّلين عن العمل وضمن اللجنة الوطنية لمساندة سكان الحوض المنجمي، وكناشطة في اتحادات الطلبة وكمنخرطة في الأحزاب الداعمة للتحرّكات الاحتجاجية وفي المجتمع المدني من خلال جمعيات الهجرة ومنظمة العفو الدولية والجمعية التونسية لمقاومة التعذيب.

برزت هذه الأدوار من خلال الشعارات التي رفعتها بالتوافق مع مكونات الحركة الاجتماعية الاحتجاجيّة بالحوض المنجمي في الدفاع عن الحقّ في الشغل وفي نصيب الجهة من انتداب أبناء الحوض. من بين الشعارات المرفوعة في تلك الفترة والذي يعبّر عن هذه الأدوار نذكر: "يا سمسارة هزوا أيديكم عالشغالة، التشغيل التشغيل لابن العامل والفقير، إرادتنا حرة حرة والمسيرة مستمرة، شغل حرية كرامة وطنية".

كما قامت المرأة بوصفها إعلامية بتغطية ما يحصل على الواقع الميداني مع كتابة ذلك على المدَونات الإلكترونية، وأدى هذا إلى ظهور عدّة مدونات منها "مدونة نواة"، "مدونة من أجل قفصة"، و"مدونة فاطمة أرابيكا"، ومن بين المدونات اللواتي قمن بمجهودات لفضح التعتيم حول ما حصل بجهة قفصة نذكر لينا بن مهني التي شاركت بجدية في فعاليات "سيب صالح" و"نهار على عمار"، أيضا فاطمة الرياحي صاحبة "مدونة أرابيكا" و" مدونة من أجل قفصة"  والتي تمّ حجبهما أكثر من سبع مرات. لم تكتف المرأة في تونس بهذه الأدوار بل ساندت الرجل بوصفه مكونا للحركة ودافعت عن مسار الاحتجاج من أجل أزواجهن وأبنائهن من خلال تبنّيها للوسائل النضالية، فكانت رمزا بصمودها وتنّوع أشكال نضالها وجرأتها وطرافة فعلها الاجتماعي لتحقيق ذاتها وذوات المجموعة لانتزاع الاعتراف وإعادة توزيع الثروة ولتحقيق العدالة الاجتماعية المنشودة.

لقد شحنت المرأة المنجمية معنويات المجموعة بقوة من خلال الإصرار على تكريس جملة من الأشكال النضالية التي مارستها، منها إضراب عن الطعام في مدينة الرديف يوم 27 فيفري 2008 الذي شنّه مواطنو الرديف وشاركت فيه نساؤهم وعائلاتهم داخل مقر جامعة التجمع الدستوري الديمقراطي، إضافة إلى ذلك شاركت المرأة بإمضاء عريضة سحب الثقة من الهياكل النقابية المتورّطة في الفساد بالمناجم في قفصة وفي الرديف، كما دخلت النقابية زكية الضيفاوي السجن لنضالها ودعمها لنضالات المرأة في الحوض المنجمي بصفة عامة ولنضالات المرأة بأم العرايس بصفة خاصة.

تنوّعت الأشكال النضالية للمرأة المنجمية، فكانت موجودة في اعتصام الخيم ووصلت إلى حد نصب المشانق أمام خيمهن خاصة في مدينتي الرديف وأم العرائس مهددين بالانتحار في صورة طي خيامهم يوم 15 فيفري 2008، كما شاركت المرأة يوم 03 مارس 2008 في اعتصام الرديف لدعوة المركزية النقابية لتحمّل مهماتها التاريخية في دعم الحركة ورفع التجميد عن النقابيين عدنان الحاجي وعمارة العباسي، قياديي الحركة الاحتجاجية، وفتح ملف تحقيق مالي للأموال الممنوحة للاتحاد. واستمرت هذه الظاهرة إلي يوم 31 مارس 2008 وكان فيها أكثر من 70 معطّلا وأرملة ممن اعتصموا وطردوا النقابيين الانتهازيين.

استمرت نضالات المرأة من أجل الاعتراف بالجهة وتحقيق الحد الأدنى لمتطلبات العيش ودعم حركة الاحتجاج بالصمود مع قيادي الحركة، فكانت مناسبة اعتقال القيادي عدنان الحاجي دافعا لاعتصام زوجته ومساندتها لنضالات رجال الجهة يوم 07 أفريل 2008 مع عدد من النساء أمام مقر الاتحاد بمدينة الرديف: "لقد جاءني خبر اعتقال الابن والزوج كالصاعقة لأنني أدرك ماذا سيحصل لهم من تعذيب"[23].

لم تتحمل المرأة في الحوض المنجمي هذه المعاناة فقط بل عانت أكثر من العنف اللفظي والمادي الذي مارسته "أجهزة الدولة"، "بانتهاك حرمات بيوتهن والتنصت عليهن في بيوتهن خاصة أيام اعتقال الأزواج والأبناء أو أيام استنجادهم بجبال الدواميس خلال عملية الكر والفر مع قوات البوليس التونسي، فكانوا يأتون في أعقاب الليل بكثرة "كخنافس القرط" لمحاصرة البيوت والأزقة، دخلوا المنازل وكسروا كل شيء لاستفزازنا، واجهناهم رغم الضرب والكلام البذيء المسلط علينا، في تلك اللحظات كنّا نشعر بنيران وبراكين في داخلنا لعجزنا أن نردّ السيئة بمثلها ولغياب الأولاد والأزواج عن البيوت. كانت فعلا أيام مريرة"[24]. كما صرحت مستجوبة أخرى: "تعرضت للسجن خلال هذه الأحداث عقابا لي على تشهيري برئيس فرقة الإرشاد بقفصة واتهامه بالتحرش الجنسي والتهديد بالاغتصاب، وصرحتُ بذلك في جلسة انعقدت يوم 1 أوت 2008  وحكم عليا فيها بـ 8 أشهر سجن".

وتعتبر شهادة زكية المناضلة التي سجنت في أحداث الحوض المنجمي مؤشرا على نضال المرأة الفعاّل مساندة لمسار الحركة لتحقق مطالبها في التنمية والتشغيل، ودافعا نضاليا رغم العنف الرمزي والجسدي الذي تعرضت له. تصرح المستجوبة حول ذلك قائلة: " جئت يوم 27 جويلية 2008 لإنجاز عمل صحفي، لاحظت تجمعا سلميا أمام المعتمدية وسمعت شعارات تنادي بإطلاق سراح مساجين الحركة الاحتجاجية واصطحبت السيدة جمعة الجلابي زوجة النقابي عدنان الحاجي إلى منزل والديها وبعد فترة قصيرة اقتحم حوالي 6 أعوان أمن المنزل واقتادوني إلى مركز الحرس حيث أمطروني بوابل من الكلام النابي ودون أي استجواب أو استنطاق، كان كل الأعوان يأخذون نصيبهم في شتمي وسبي، وبعدها أخذوني إلى منطقة الشرطة بقفصة أين بادرني رئيس فرقة الإرشاد بالضرب والتعنيف وطيلة 48 ساعة التي قضيتها في الإيقاف كان يسمعني باستمرار أقسى عبارات التخويف والإذلال والتهديد بالاغتصاب... وقد أمضيت على محضر مفبرك تحت التهديد بالاعتداء الجنسي".

اكتساح المرأة للفضاء العام

لقد خرجت المرأة المنجمية إثر هذه الأحداث والضغوطات التي عاشتها تجوب شوارع الحوض المنجمي رافعة شعارات من قبيل : "التشغيل التشغيل لا وعود لا تضليل، يا نظام يا جبان شعب الرديف لا يُهان، يا حشاد شوف شوف الخيانة بالمكشوف، السجين أولا الحوار ثانيا، أموال الشعب في القصور أبناء الشعب في الخيام"[25].فعملية النضال التعبوي التي قامت بها النساء خلال الحركة الاجتماعية الاحتجاجية جعلتها تتجاوز الذهنية الذكورية في الحوض بحيث نفت الفروقات زمن المواجهة، فكل من موقعه وحسب قدراته، فاخترقت النساء الحُجُب والحدود على الرغم من ثانوية دورها إلا أنّه كان مهما لدفع الحراك الاجتماعي الذي كانت تعيشه المدن المنجمية، نضال صنعته المرأة العاملة والموظفة وربة البيت والزوجة والأخت والأم جنبا إلى جنب مع الرجل وندا إلى ند بجانبه.

لقد قالت أم الشهيد هشام علايمي: "ولدي الذي قتله المعتمد والحرس الذين قالوا سيب الضوء على الكلاب خليها تموت، استشهد لأنّه ذهب في المسار الصحيح، أراد من السلطة أن تعترف به ولا تقصيه هو وأمثاله من شباب الرديف، أراد أن يأخذ حقّه من ثروة الجهة من تعب أجداده في الدواميس". لم تنجح اعتداءات الأمن في إخماد الحركة الاحتجاجية وجرّ النساء للانسحاب منها، بل كان دافعا لمشاركتهن بقوه في عدة أشكال نضالية أخرى، منها المسيرات وقد تكاثف وجودهن في المجال العام للحوض المنجمي بعد 30 و31 ماي 2008 إثر اعتداء رائد على زوجة أحد المضربين في مدينة المتلوي الذي انتهى بالقبض على أربعة أشخاص ومواجهات دامية مع قوات الأمن، وكان أبرز حضور لهن يوم 27 جويلية 2008 خلال قيامهن بمسيرة نسائية كبيرة في مدينة الرديف شاركت فيها بين 400 و500 مواطنة تعبيرا عن رفضهن للممارسات الوحشية التي عانين منها هنّ وأبناءهن وأزواجهن.

كانت المرأة رائدة في عملية التعبئة ودفع الشباب للدفاع عن قضية مدن المناجم والالتزام بها وبمطالبها، كما حشدت بجدية وحدة صفوف الشباب من خلال الأمثال الشعبية والأغاني النضالية والكلمات المشفرة التي تستحضر التاريخ النضالي لأبناء الجبل وأسطورة الانتفاضة ضد السلطة المركزية من خلال حكايات المقاوم الوطني لتعيد للمجموعة المحتجّة الفرصة التاريخية لتشكيل تداخل الهويات الفردية والجماعية التي تستبطن في كل امرأة صورة الأم الرمز التي تروي حكايات الجدّ المقاوم. وهذا الفعل الجريء حاول أن يستحضر المخيلة السياسية التاريخية لشحذ همم الشباب والأطفال والأزواج، فهو يعبر عن وعي سياسي اعتبر من مقومات الفعل المحتجة مظهرا وتطورا، عبر قواميس لغوية طريفة متماهية مع المرحلة ومساعدة لعملية التنظيم ومحركة لثقافة محلية. فتم ترويج كلمة" الحلبة "وهي بقول مفرزة لروائح كريهة تعبر عن الوافدين الجدد من البوليس كما راجت كلمة "البراد" أو "البقراج" للتعبير عن الواشي.

ساهمت المرأة أيضا من خلال الرسائل القصيرة أو الحشود الذكية التي تتضمن لغة عكسية للاطمئنان على مواقع الأبناء والأزواج، وهي لغة مشفّرة مرمّزة تستعصي على أي فرد خارج الحركة أن يفهمها. ومثلت سجلا متفقا عليه لتسهيل تدفّق المحرضين ضد أجهزة الدولة، ولتسهيل المهمات التنظيمية عبر الهواتف النّقالة، كما اتسمت المرأة الرمز بطرافة فعلها حينما أرادت أن توقع بقوات الأمن لحماية الشباب الفار من قبضتهم، فقدمت لهم شاي فيه "حب ملوك" وهي بذرة تصيبهم بالإسهال لتعطل حصارهم المكثف على المدينة وعلى مناضليها.

ولم تكتف بتلك المهمات فقط بل كانت حاضرة في صورة المرأة –العرس بإضفائها لأجواء احتفالية وزغاريد. وجسدت في حضورها العرس بالأهازيج والغناء ورفع الشعارات حينما تمّ إطلاق سراح قيادي الحركة وهو دور خصوصي ترى فيه المرأة نفسها أنها منبع الحياة، منبع الفرح والحزن، نبض الداموس وأنين الشغالين، فتبرز التعبيرات الأنثوية برغم طمسها وبرغم تراتبية فعلها النضالي الذي لم ينتزع مواقع قيادية في اتخاذ القرار أو التفاوض مع أجهزة الدولة لتعيد إنتاج اللحظة رغم امتزاج الزغاريد بالدموع في جنائز أبناء الجهة. فحضورها رفع لمعنويات الشباب ودفعهم للمضي قدما في سبيل انتزاع الاعتراف من السلطة وفي المحاكمات غير العادلة التي عوقب فيها نشطاء الحركة أمام المحكمة الابتدائية بقفصة منعت النساء من الدخول، لكن لم تمنعهن المعاناة في الاستمرار في نضالهن والدفاع عن مشروعية أهدافهن والدفاع عن قيادي الحركة الاجتماعية ونشطائها، مردّدات بين الفينة والأخرى شعار يشحذ همم مناضلي الحركة: "نعم سنموت ولكننا سنقتلع القمع من أرضنا".

مشاركة النساء المنجميات في الصفوف الأمامية أثناء المعارك الاحتجاجية كانت وجهين لعملة واحدة: وجها بارزا لشجاعتهن النضالية، ووجها آخر بارزا أيضا لاستفزازهن واستهدافهن المباشر من خلال تدخل الشرطة بوصفه جهازا سلطويا للدولة. قد يكون هذا عائدا إلى مرجعية المرأة "الهمامية"[26] بوصفها علامة هوية مثيرة للفزع، لأنّها تعتمد على مرجعية العصيان وعلى طاقة تعبوية داخل الحوض المنجمي وخارجه، مرجعية تعتبرها نساء الحوض مصدر اعتزاز وقوة شرعية، وتعبئة لدفع الصراع، وهو ما دفع السلطات في إدارتها لمطالب التنمية متراوحة ما بين القمع والتفاوض مع بعض المجموعات المعبأة، خاصة منهم أزواج وأمهات المعتقلين في هذه الحركة الاحتجاجية، تتخلل ذلك وعود بالتنمية والإفراج عن الأبناء والأزواج المعتقلين، لإضعاف الاحتجاجات ولتهدئة السخط والغضب النسوي.

سعت أجهزة الدولة المتسلطة على تفتيت المجموعات المعبأة من النساء جزئيا. ولكن رغم ذلك بقيت المرأة في حالة تفاوض مستمر من خلال ولوجها في مجموعات الضغط من النقابات، واتحادات المعطلين عن العمل أو من خلال الأحزاب المحظورة آنذاك والتي تنشط في السريّة، أو من خلال خلايا المجتمع المدني رغم القمع الذي مورس على مواقع التعبئة من ساحات واتحادات محلية للشغل، وخاصة بعد الأحكام القاسية التي وصلت حدّ السجن لعشر سنوات  لمناضلي الحركة الاحتجاجية وللقياديين النقابيين. نجحت النساء، برغم الأدوار الثانوية التي قامت بها، في خلق حلقات تضامن بين المحتجين، واندرج خطابها في مسار محلي معقد، حيث تمّ إحياء المخيلات القديمة حول التمرّد والنضال ضد القمع، استقت المشاهد في خطاباتها من إعادة بناء هويّة جماعية صقلتها الروايات المحلية، مع اللجوء أحيانا إلى "كليشيهات" التاريخ الاستعماري. هذا الوصف هو ما سيبلور هويّة جماعيّة جرى التأكيد عليها من خلال تسجيلات الفيديو وتقنيات التواصل الجديدة التي قامت بها النساء الطالبات وزوجة الإعلامي الفاهم بوكدوس عفاف بالناصر، وصاحبات الشهادات المعطلات عن العمل.

الخاتمة

تعتبر الدراسات المنجزة عن النساء وبأقلام نسائية علامة وعي بالذات، وبمحيطها، وبالعلاقة بينهما. وهذا المسار يعبر عن تحوّلات اجتماعية كبيرة عاشها المجتمع التونسي وساهمت في ظهور ذات فردية وجماعية أنثوية من خلال خروجها إلى عالم المعرفة والنضال والنشاط الاجتماعي، ومن ثمة التفاعل الإيجابي مع قيم العدالة والمساواة والتطوّر والتغير الاجتماعي والتاريخي. لقد شاركت النساء في الحركة الاجتماعية بكثافة وبطرق نضالية جريئة، حيث ساهمت في المسيرات والاعتصامات وحضرت بأعداد كبيرة في التظاهرات التي أقيمت بالاتحاد المحلّي للشغل بالرّديف، وخلقت الحدث عبر فرض خيمة الأرامل بأم العرائس لتشغيل أبناء حوادث الشغل بشركة فسفاط قفصة، وعبر كسر الحصار المضروب على المدينة، كما حصل مع نساء الرّديف في 7 أفريل 2008 اللواتي اعتصمن أمام مقرّ الاتحاد، تلته مسيرة نسائية جوبهت بالقمع.

لقد كان دور النساء في الحوض المنجمي مرشّحا للتعاظم في ظلّ هذه الأوضاع على الرغم من ارتكاز جزء منه على نصرة الأزواج والأبناء والإخوة الموقوفين والملاحقين بما يتطلّبه ذلك من تحرّكات سواء أمام المحاكم أو السجون أو مقرّات الدولة أو في الساحات العامّة. تحمّلت النخب النسويّة الديمقراطية بشكل خاص والحركة الديمقراطية في بلادنا بشكل عام مسؤولية هامّة في هذا الإطار ليس ارتباطا بأجندتها الاجتماعية فحسب، بل لما يمثـّله هذا الحضور النسائي من تجاوز للذهنية السّائدة، المحافظة والعشائرية والأبوية، ومن تطلـّع للتحرّر والانعتاق والمساواة على أنقاض الدونية والتمييز.

إنّ الفعل الاجتماعي يمثل ناقلا لكل القيم الحداثية والتنويرية والتثويرية، ولا يكتمل مغزاه ما لم يرتبط بقوى واعية تنزل معه إلى ساحاته العامّة والفعلية وتتعاطى مع مشاكله ومصاعبه وتلتحم به في شتـّى أوجهه، وتحتضن قواه النسويّة الفاعلة والطلائعية والميدانية من أجل صهرها في النضال العام بغية التحرّر الوطني والديمقراطي والانعتاق الاجتماعي.

ببليوغرافيا

المراجع باللغة العربية

بودون، ريمون وبوريكو، فرانسوا (1986)، المعجم النقدي لعلم الاجتماع، الجزائر، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع.

تشارلز، تيلي (2005)، الحركات الاجتماعية (1768-2000)، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة.

الزعفوري، عمر (2009)، "الحركات الاجتماعية الحضرية في المجتمعات التابعة"، عالم الفكر، عدد 1، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.

الشارني، عبد الوهاب (1987)،من اجل مقاربة سوسيولوجية لأحداث جانفي 1984 وتحديد موقع الفئات الهامشية منها، شهادة الكفاءة في البحث، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس.

صغير، عميرة علية (2014)، المحاكمات السياسية في تونس 1956-2011 الجزء الأول، تونس، منشورات المعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر.

العربي، هدى (2013)، الحركات الاجتماعية والتنمية المحلية في تونس ما بين 2008 و2011 أحداث الحوض المنجمي 2008 وأحداث بن قردان 2010 وأحداث سيدي بوزيد 2010 مثالا، مذكرة بحث الماجستير، المعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس.

المرزوقي، الهام (2010)، الحركة النسائية في تونس في القرن العشرين، تونس، المركز الوطني للترجمة.

المراجع باللغة الفرنسية

Achin, C et Bereni, L. (2013), Dictionnaire genre et science politique, Paris, Presses de sciences po.

Allal, A. (2012), « Trajectoires révolutionnaires en Tunisie processus de radicalisations politiques 2007-2010 », in revue française de science politique, N°5-6, Paris, Presses de science Po.

Brechon, P. (2000), Les grands courants de la sociologie, Grenoble, presses universitaires Grenoble.

Buscatto, M. (2014), Sociologie du genre, Paris, Armand Colin.

Crozier, M. (1994), L’analyse stratégique, Paris, Seuil.

Erving,G. (1979), Études sur la condition sociale des malades mentaux et autres reclus, Paris, Les éditions du Seuil.

Gurr, T. (2016), Why men Rebel, London, Routledge. 

Lewise, C. (1956), The functions of social conflict, New York, The free press.

Neveu, E. (1996), Sociologie des mouvements sociaux, Paris, La Découverte.

Pierre, C. et Michel, V. (2003), « Quelles sociologie des mouvements sociaux ? », in Pierre, S. (dir.), Les mobilisations collectives une controverse sociologique, Paris, Presses universitaires en France, Collection actuel Marx confrontation.

Robert, C. (1998), Individu et société, Paris- Montréal, Gaétan Morin éditeur.

Starck, P. (2005), « Un nouveau mouvement social ? », in Vie sociale et traitements, n° 85, France, Édition ERES. Bas du formulaire.

Taechouna, M. (1982), Les marginaux dans les récits picaresques arabes et espagnols, Tunis, Publications de l’université du Tunis.

Touraine, A. (1978), La voix et le regard, Paris, Seuil.

Touraine, A. (2006), Le monde des femmes, Paris, Édition fayard.

Touraine, A. (2006), « Mouvements sociaux », in Savidan, P. (dir.), Le dictionnaire des sciences humaines, Paris, PUF.


الهوامش

 

[1] Gurr, T. (2016), why men Rebel, London, Routledge.

[2] Taechouna, M. (1982), Les marginaux dans les récits picaresques arabes et espagnols, Tunis, Publications de l’université du Tunis, p. 85.

 [3]تشارلز، تيلي (2005)، الحركات الاجتماعية (1768-2000)، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، ص. 33.

[4] بالرجوع إلى ألان توران :

Touraine, A. (2006), le monde des femmes, Paris, Edition fayard.

[5] Tilly, Ibid., p. 37.

 [6]الشارني، عبد الوهاب (1987)،  من أجل مقاربة سوسيولوجية لأحداث جانفي 1984 وتحديد موقع الفئات الهامشية منها، شهادة الكفاءة في البحث، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس، ص .46.

 [7]تشارلز، تيلي، مرجع سابق، ص.44 -45 .

[8] Starck, P. (2005), « Un nouveau mouvement social ? », in Vie sociale et traitements, n° 85, France, éd. ERES, p. 86.

[9] Ibid., p. 392.

[10] Touraine, A. (2006), « Mouvements sociaux », in Savidan, P. (dir.), Le dictionnaire des sciences humaines, Paris, PUF, p. 799.

[11] Robert, C. (1998), Individu et société, Paris-Montréal, Gaétan Morin éd. p. 385.

[12] Charles Tilly né en 1929, mort le 29 avril 2008 est un sociologue américain dont les travaux portent avant tout sur les relations entre la politique, l'économie et la société. Il est notamment à l'origine du concept de « répertoire d'action collective », qui montre que les mouvements sociaux ont recours à des actions prédéfinies, institutionnalisées  et « routinisées » pour se faire entendre.

[13] تشارلز، تيلي، مرجع سابق، ص .37.

[14] Touraine, A. (1978), La voix et le regard, Paris, Seuil, p. 46.

 [15]عمروسية، عمار (2008)،"انتفاضة الحوض المنجمي محاولة تقويمية" في البديل الشيوعي عدد 18 ماي 2008، ص. 1 (عمار عمروسية مناضل سياسي من قفصة وقيادي في حزب العمال).

 [16] وجد عن بيان إلى الرأي العام النقابي والديمقراطي لمجموعة من المضربين عن الطعام في معتمدية الرديف بتاريخ 05-01-2008.

 [17] البديل بتاريخ 2 فيفري 2009 ،تقرير في قضية قيادات الحوض المنجمي، ص. 1.

 [18] صوت الشعب، جويلية 2009، ص. 12.

[19] تطلق تسمية المرأة المنجمية لكل امرأة تولد أو تعيش في الحوض المنجمي للبلاد التونسية والتي يكون مدخول عائلاتها الأساسي من المناجم أو من شركة فسفاط قفصة ريفية كانت أو حضرية.

[20] صغير، عميرة علية (2014)، المحاكمات السياسية في تونس 1956-2011 الجزء الأول، تونس، منشورات المعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر، ص. 335-336.

[21] إن الحديث حول مجتمع الهجرة يكتسب أهمية كبيرة في هذه المسألة نظرا للدور النوعي الذي قامت به المرأة هناك بالتعريف بهذا الحراك الاجتماعي الذي جعل المجتمع المدني الفرنسي يضغط على بعض الأحزاب الفرنسية التي كان لها دور مهم يتمثل في الضغط على النظام السياسي في تونس لوقف عملية حصار المدن المنجمي وإيقاف المحاكمات السياسية التي حصلت في تلك الفترة بدعوى الاعتداء على النظام وكوسيلة ردعية لعدم المطالبة بقسط الجهة في التنمية والتشغيل ومن خلال الضغط الذي قامت به مكونات مجتمع الهجرة في مدينة نانت الفرنسية، حل وفد سياسي فرنسي بتونس في زيارة إلى منطقة الحوض المنجمي بولاية قفصة وذلك على خلفية الاحتجاجات التي عرفتها تلك المناطق وكان الوفد مكوناً من 18 شخصية سياسية ونقابية تنتمي غالبيتها إلى أحزاب يسارية فرنسية بعناصر من المجتمع المدني ونقابيين ضغطت على السلطات التونسية لوقف المعالجة الأمنية للحراك الاجتماعي الذي حدث في تلك الفترة من تاريخ تونس الراهن، ولمزيد التفحص في هذه المسألة يمكن العودة للمرجع التالي: صغير، عميرة علية،(2014)، المحاكمات السياسية في تونس 1956- 2011 الجزء الأول، تونس، منشورات المعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر، ص .320.

[22] ف. م أحد المبحوثين معد للاجتماعات في مجتمع الهجرة بمدينة نانت الفرنسية حول مجريات ما يحدث في الحوض المنجمي.

[23] شهادة لليلى خالد زوجة النقابي بشير العبيدي وأم الابن مظفر العبيدي اللذان تم اعتقالهم وسجنهم خلال أحداث الحوض المنجمي بالرديف.

[24] شهادة زكية الضيفاوي.

[25] كل هذه الشعارات ترددت أثناء الحراك الاحتجاجي الذي حدث في 2008 كتعبيرات خلال أشكال نضالية عديدة منها المسيرات والاعتصامات والاضرابات وتبنتها المرأة كفاعل اجتماعي ضمن هذه الحركة الاجتماعية.

[26] نسبة إلى قبائل "الهمامة" أحد أكبر قبائل تونس في الوقت الحالي. تترامي منازل هذه القبيلة على الغالبية العظمى من مجالات ولاية سيدي بوزيد في الوسط التونسي 350 كم جنوب العاصمة تونس وولاية قفصة وصولا إلى نواحي وادي سوف على التراب الجزائري أقصى الجنوب الشرقي من الجزائر. تنحدر قبيلة الهمامة من قبائل بني سليم الوافدة على تونس من الجزيرة العربية في أواسط القرن الثاني عشر ميلادي كما ورد ذلك عن ابن خلدون.

 

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran
+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11
+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Recherche