المظاهر الثقافية والاجتماعية لواقع "الطُُلْبَة المسافرين". دراسة أنثروبولوجية بتلمسان

إنسانيات عدد 60-61 | 2013 | المدرسة. رهانات مؤسساتية و اجتماعية | ص103-109 | النص الكامل


Redouane LAHCENE: Université de Tlemcen, 13 000, Tlemcen, Algérie.


 ارتبط التعليم القرآني بالمغرب العربي منذ الفتوحات الإسلامية إلى يومنا هذا، بالمؤسسات التعلمية العتيقة التي اسسها الفاتحين المسلمين، امثال عقبة بن نافع وحسان بن النعمان الذين قاموا بإنشاء سلسلة من الرباطات والمساجد لتعليم سكان البربر مبادئ وتعاليم الاسلام، منها رباط ماسة، سيدي شاكر، مسجد القرويين، القيروان...الخ، و التي ساهمت في تكوين الأطر المؤهلة والكفاءات العلمية التي تولت مهام التدريب والامامة والتوثيق والعدالة...الخ، أين تخرج منها العديد من العلماء والفقهاء والمفكرين والمثقفين، زد على ذلك مشاركتهم في الجهاد ضد الاستعمار والمحافظة على تعاليم الدين واللغة العربية. فقد قامت هذه المدارس التعلمية بأدوار ووظائف عدة من الأدوار التربوية – التعليمية إضافة إلى الفتوى و الدور التأطيري.

وقد دفع هذا الدولة إلى تدعيم انشاء المعاهد والجامعات وترخيص العديد من الكتاتيب والزوايا والمدارس القرآنية بأداء وظيفتها التربوية التعلمية قصد تدريب وتكوين الطلبة في المجال الديني. لهذا نجد أن "الطُلْبَة[1] المسافرين[2]" يصرّون على اتخاذ الرحلة سبيلا في طلب العلم لاكتساب الفوائد بلقاء المشايخ[3] الذين كانوا يحترمون بصورة رسمية كعلماء[4] ويُزدرون بصورة غير رسمية باعتبارهم خدم ممتهنين.

تكمن دوافع بحثنا هذا في التّعرف على الواقع المعاش "للطٌلبة المسافرين" الذين يتخذون من الرحلة وسيلة لكسب العلم ولقاء المشايخ[5]. كان سبيلنا الخوض أكثر في التّعرف على مميزاتهم الثقافية ونظامهم الاجتماعي خصوصا وأنهم يعيشون في شكل زمرة تسودها ممارسات لغوية واجتماعية خاصة، و التي كانت سببا من أسباب ولوجنا عالم الطٌلبة، خاصة تلك اللغة المشفرة التي اتخذوها سبيلا في المحافظة على هذا العالم الصغير الذي يحكمه نظام معين وتسيّره قوانين مميزة عما هي موجودة في المدارس التعليمية الرسمية .

أمّا عن اختيارنا لهذا العمل فيعود لعدة أسباب منها، السبب الذاتي الذي كان نتيجة حضورنا وبصدفة داخل هذه الزمرة حيث تعرضنا إلى موقف حرج من طرف بعض الطلبة الذين كانوا يتكلمون فيما بينهم بلغة غريبة. سرّا بينهم        و خطابا مشفّرا في حضورنا. دفعنا الفضول العلمي للبحث في سر هذه اللغة مع التركيز على الحياة الاجتماعية والثقافية لهذه الفئة. و أمّا عن السبب الموضوعي فهو عدم وجود أبحاث تهتم بهذه الفئة، و خصوصا في المدارس العتيقة وما يجري بداخلها مقابل انعدام المتخصصين في هذا المجال على المستوى الجزائري، بل و قد يتجاوز ذلك إلى المستوى المغاربي.

أولا: إشكالية الدراسة  

بناء على هذا الطرح، يبدو أنّ مجتمع "الطٌلبة المسافرين" تسوده حقا علاقات اجتماعية وثقافية تسير وفق قوانين وتنظيمات خاصة تتميز عن بقية "الزُمَر" الأخرى من حيث كونها تعتمد على العيش المختلف الذي تسوده ثقافة خاصة، وتُتداول فيه لغة لها خصوصيتها وأهميتها في حياتهم داخل تلك المدارس العتيقة وخارجها. بناء على ذلك يمكن طرح عدد من الأسئلة أهمها:

- كيف تجسد اللغة الواقع الاجتماعي والثقافي "للطٌلبة المسافرين" داخل "مجتمعهم"؟

- ما نوع العلاقات القائمة داخل "مجتمع الطٌلبة المسافرين"؟ وفيما تتمثل تنظيماتهم الداخلية ؟

انطلقنا في دراستنا من الفرضيات التالية:

  • عندما يسعى الطُلْبَة إلى السفر من أجل نهل العلم والمعرفة الدينية، إنهم يستهدفون من وراء سفرهم إبراز مكانة داخل المجتمع.
  • لغة الطُلْبَة ما هي إلاّ وسيلة لاتصال، لكنها أيضا قاعدة أساسية يقوم عليها مجتمع الطُلْبَة في حياتهم اليومية، وهي غامضة بالنسبة إلى العامة.
  • من أجل تعرُّفنا على الطقوس التدريبية التي يتعلّمها الطالب في مجتمع الطٌلبة المسافرين علينا تفكيك تلك اللغة الخاصة بمجتمعهم الذي تسوده علاقات خاصة.

ثانيا: منهج الدراسة

يندرج هذا البحث ضمن فرع من فروع الأنثروبولوجيا الدينية الخاصة بالتعليم العتيق بالمدارس القرآنية في منطقة تلمسان. وبعد الاطلاع على الأعمال والوثائق والأبحاث الخاصة بالتعليم العتيق، أجرينا دراسة استطلاعية للتحّقق من إمكانية الخوض في هذا الموضوع. كانت العيّنة إحدى المدارس القرآنية الواقعة في مدينة تلمسان والتي كانت تضم أكثر من ثلاثين طالبا مسافرا، من بين ست وثلاثين مدرسة قرآنية متواجدة على مستوى المدينة وهي موضّحة على خريطة تمّ إعدادها من طرفنا قصد تحديد مناطق تواجدها جغرافيا مع تحديد مسارات تنقل "الطلبة المسافرين".

لجأنا أيضا إلى استعمال المقابلة المباشرة مع الطٌلبة خارج المدرسة تفاديا للإحراج والكلام بكل حرية مع التركيز على تقنية الملاحظة بالمشاركة التي دامت حوالي سنتين. كان حضورنا داخل المدرسة رفقة الطٌلبة أين استطعنا اكتساب معارف مهمة حول الموضوع وخاصة تعلّمنا لغتهم التي ساعدتنا خصوصا على تشفيرها مع تحليل وفهم الواقع الاجتماعي والثقافي للطٌلبة المسافرين من خلالها، وكل هذا كان قصد التحليل ومحاولة فهم ما يدور داخل هذه المدارس. ومن أجل ذلك تم تقسيم الدراسة إلى فصلين حيث تناولنا في الفصل التمهيدي النظري الموسوم: بـ"مراكز العلم والرحلة بالمغرب" استعرضنا فيه أهم مراكز العلم التي كانت تُشدّ إليها الرحال وأهم الرحّالة بالمغرب العربي، مع إنشاء معجم مصغر حول المصطلحات الخاصة بالطٌلبة المسافرين، قصد التسهيل على القارئ فهم ما سيسفر عنه الفصل التطبيقي الذي يحتوي في طياته على مجموعة من المصطلحات والكلمات المبهمة التي لا يفهمها إلاّ من سافر طالبا للعلم في المدارس القرآنية. تمّ التطرق في الفصل الثاني الموسوم "التأصيل الأنثروبولوجي لواقع الطٌلبة المسافرين بمدينة "تلمسان" و قد شمل أربعة مباحث ميدانية تم فيها تقديم عرض شامل لواقع المدارس القرآنية الخاصة بالطٌلبة المسافرين لمدينة تلمسان، مع التطرق إلى تحديد الأصول الاجتماعية والجغرافية لهذه الفئة دعّمنا بحثنا بإحصائيات حول تطور وتوزيع الطُلْبَة على المدارس القرآنية المتواجدة بالمنطقة، مع ذكر وشرح أهم مميزات النظام التعليمي المتمثل في طريقة الالتحاق بهذه المدارس و تحديد طبيعة نظام التسيير المتمثل في نظام الرتبة أو الدور في عملية النظافة و"التصراف" أي اقتناء المؤونة مع ذكر مصادر التمويل والتموين. قمنا أيضا بالإشارة إلى أهم المراتب التي تؤسس لهذا النظام والحياة اليومية لهذه الفئة مركّزين على أهم الطقوس والممارسات الدينية والأساطير والحكايات والطرائف الخاصة بهم، كما تطرقنا إلى تحديد العلاقات القائمة بين الطٌلْبة المسافرين والشيخ و(المزاغدية)[6]، كذلك الحال علاقتهم مع بعض السلفية و كل الذين يحتكون بهم من المحيط الخارجي (خارج المدرسة). وفي الأخير تم تقديم مجموعة من دلالات الألفاظ القرآنية المستعملة في شكل كناية والقصد منها ظاهر الكلمة وليس باطنها "كما جاءت في التفاسير القرآنية"، فهم لا يتداولونها إلاّ لحاجة وهي المحافظة على كيان "مجتمعهم"، ويعتبرونها لغة سرية بحيث تشترك فيها "الجماعة" بكاملها، كونها إنتاجات رمزية تضمن التواصل المباشر بين جميع أعضائها[7].

كانت أهمّ النتائج التي توصّلت إليها المذكّرة ما يلي: على خاتمة جاءت على شكل نتائج وهي كالتالي:

  • يستلهم "الطٌلبة المسافرون" لغتهم الخاصة من تلك "الأنصاص"[8] التي يتلقونها على يد شيخهم، فهم بذلك يعتقدون بأنهم يحافظون على موروثهم الثقافي من جهة، ولكن من جهة أخرى يتجاهلون قداسة النص وما سينجر عنه جراء هذا الاستخدام، من خلال استعمالاتهم لهذا الموروث.
  • في غياب القوانين الخاصة بالمدارس القرآنية الموجهة للطٌلبة المسافرين واقتصارها على بعض التعليمات الوزارية، جعل منها عرضة للتلاشي وعدم الاستقرار لكونها لا ترقى إلى مصف المدارس الرسمية التي تحكمها قوانين خاصة بها، والتي تضمن لطلابها شهادات مستقبلية معترفا بها على المستوى العملي. فما تقوم به هذه المدارس هو منح إجازات تُعادل مستوى التعليم الأساسي في المدارس الرسمية. و في غياب قانون خاص بالمسافرة جعل المساجد عرضة إلى الفوضى في استقبال "الطُلبة" والإغلاق المفاجئ لها دون تبرير في معظم الأحيان، إضافة إلى أن استقبال الطٌلبة بدون رخصة من مديرية الشؤون الدينية والأوقاف، قد تقود في بعض الأحيان إلى المُساءَلة من طرف رجال الأمن. تبقى هذه المدارس مسيّرة وفق القانون العرفي الذي يفرضه الشيخ على "الطُلبة"، وسلطته هي القانون الوحيد الذي يُحدّد المسار العام لهذه الأخيرة.
  • تغير مسار المسافرة عند بعض الطٌلبة من حفظ القرآن إلى البحث عن المال والسياحة والعيش بدون بذل أي جهد، حيث أصبح همّ الطالب المسافر هو العيش على الترحال من مدرسة إلى أخرى، يقيم في هذه المدرسة شهرا وفي الأخرى شهرين وبذلك يكون قد مرّ على عدة مدارس، وتعرف على العديد من الطٌلبة، وجال عدة مناطق، وجمع المال من هذا وذاك، يحضر الجنائز والولائم دون تحصيله للعلم.
  • أصبحت إذا المسافرة عند بعض الطٌلبة المسافرين تعني البحث عن مأوى تحقق فيه أهداف أخرى غير تحصيل العلم أو حفظ القرآن مثل السياحة وجمع المال عن طريق قراءة القرآن في الولائم والجنائز.
  • و يبقي هذا النوع من التعليم حكرا على فئة معينة من المجتمع ألا وهي فئة الطبقة الشعبية التي تجد فيه سبيلا يضمن لأبنائها على الأقل العيش والاستمرار.

اهتمت دراستنا هذه بمحاولة فهم وشرح لغة الطُلْبَة في ضوء معيشهم اليومي، و من خلالها دراسة الممارسات والأفعال والنظم والعلاقات القائمة داخل هذا "المجتمع الصغير" المنحصر في مجال المدرسة القرآنية، معتمدين في ذلك على تلك اللغة التي كانت نواة في عملية تحليل وشرح المظاهر الثقافية والاجتماعية المؤسّسة للواقع المعاش لفئة الطُلْبَة بالمدارس القرآنية الجزائرية.

معالم بيبليوغرافية

إدريس، محمد (2007)، المقامات العوالية، تقديم: أحمد أمين دلاي، منشورات مركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية، الجزائر.

العروسي، عبد العزيز (1996)، مدرسة الأنصاص مطبعة بساطيل، الجزء الأول، طنجة، المغرب، ص. 40.

إيفون، تيران (2007)، المواجهات الثقافية في الجزائر المستعمرة، ترجمة عبد الكريم أوزغلة، دار القصبة للنشر، الجزائر.

بن مالك، رشيد (2000)، مقدمة في السيميائية السردية، دار القصبة للنشر، الجزائر.

بورديو، بيار (2007)، الرمز والسلطة، ترجمة عبدالسلام بن عبد العالي، المغرب، دار توبقال، ط. 1، ص. 50.

الناصري، أبوراس (1990)، فتح الإله، تحقيق: محمد بن عبد الكريم الجزائري، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر.

طوالبي، نور الدين (1988)، الدين والطقوس والمتغيرات، ترجمة وجيه البعيني، منشورات عويدات بيروت، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، الطبعة الأولى.

غيرتز، كيلفورد (1993)، الإسلام من وجهة نظر علم الأناسة، ترجمة أبوبكر أحمد باقادر، دار المنتخب العربي للدراسات والنشر والتوزيع لبنان، ط 1، ص. 81.

ألفرد، بل (1981)، الفرق الإسلامية بشمال إفريقيا، ترجمة عبد الرحمن يدوي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية.

Hammoudi, A. (2001), Maître et disciple, Editions Toubkal, Maroc.

Colonna, F. (1995), Les versets de l’invincibilité, presses de sciences politiques, Paris.

Berque, J. (1982), Ulémas Fondateurs insurgés du Maghreb, Paris, Editions Sindbad.

Mouliéras, A. (1895), Le Maroc inconnu, Paris, Librairie coloniale et Africaine.


الهوامش

*عباس رضوان، المظاهر الثقافية والاجتماعية لواقع "الطٌلبة المسافرين" "دراسة أنثروبولوجية "تلمسان نموذجا"، مذكرة لنيل شهادة ماجستير في الأنثروبولوجيا، بجامعة تلمسان، نوقشت سنة 2009.

 [1] ترجع أصل هذه التسمية إلي عهد الموحدين" فاسم الطُّلبة هو اسم أطلقه ابن تومرت على الدعاة حسب المراكشي يروي أن ابن تومرت قبل إعلان دولته، أرسل رجالا "الطُّلبة دعاة، ممن استصلح عقولهم "لدعوة القبائل إلى أرائه وكانوا يدعون الناس إلى بيعته ويزرعون محبته في قلوبهم بالثناء عليه ووصفه بالزهد والتحري وإظهار الكرامات. وحسب ما يروى "ابن عذاري أن الطُّلبة والفقهاء أول من خرج من أهل تلمسان يتضرع إلى عبد المؤمن بن علي كما فتحها سنة 539/1146 وهي "فئة مستحدثة أيام الموحدين ولم تكن موجودة من قبل في الدولة المرابطية"،وكلمة الطُّلبة هي اختصار لعبارة "طالب العلم" تطلق هذه اللفظة في المغرب على المعلم والمدرس والمعالج. عزّ الدين عمرو أحمد موسى(1991) ،الموحدون في المغرب الإسلامي، دار الغرب الإسلامي ،ط1،بيروت ص. 77.

[2] هم أولئك الطُلْبَة الذين يتنقلون من منطقة إلى أخرى من أجل حفظ القرآن و دراسة علوم الدين.

[3] شيخ الدين: يعني ذلك الشيخ الذي يحوز وظيفة قدسية ،هذه الوظيفة بالتحديد هي التي تجدد إنتاجه في نمط اجتماعي ريفي رعوي زراعي اجملا ريفي حتي في المدن الكبرى التي ما زالت تختزن ذاكرة بداوتها بدائيتها وفطرتها ذاكرة الماضي وتاليا هي ظاهرة اجتماعية تاريخية موجودة في تاريخ الجمهور ،خليل أحمد خليل (2005)،سوسيولوجيا الجمهور السياسي الديني في الشرق الاوسط المعاصر، دار الفارس للنشر والتوزيع الاردن الطبعة الأولى ،ص. 202.

[4]غيرتز، كيلفورد (1993)، الإسلام من وجهة نظر علم الأناسة، ترجمة أبوبكر أحمد باقادر، دار المنتخب العربي للدراسات والنشر والتوزيع لبنان، ط 1، ص.81.

[5]ابن خلدون، عبد الرحمن (1981)، المقدمة، دار العودة، بيروت، ص. 450.

[6] المزاغدي والمزاغيد والمزاغدية هو ذلك الطالب الذي يدرس في منطقته، ويخرج عن زكرة الطلبة المسافرين بحكم عدم رحلته في طلب العلم.

[7] بورديو، بيار (2007)، الرمز والسلطة، ترجمة عبدالسلام بن عبد العالي، المغرب، دار توبقال، ط. 1، ص. 50.

[8] العروسي، عبد العزيز (1996)، مدرسة الأنصاص مطبعة بساطيل، الجزء الأول، طنجة، المغرب، ص. 40.

 

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran

95 06 62 41 213+
03 07 62 41 213+
05 07 62 41 213+
11 07 62 41 213+

98 06 62 41 213+
04 07 62 41 213+

Recherche