في وداع عالم الاجتماع الكبير عبد الباقي الهرماسي عندما تستهلك الدولة المغاربية مفكريها


بقلم الأحمر مولدي: أستاذ علم االجتماع والأنثروبولوجيا في معهد الدوحة للدراسات العليا.


في 23 أكتوبر من سنة 2021 ودّع الباحثون العرب، وخصوصا المغاربيون منهم، عالم اجتماع متميز ولد -كغيره من أبناء جيله من الباحثين- في سياق الحركة الوطنية ضد الاستعمار، وغادر بلده، الذي حصل لتوه على الاستقلال مبكّرا باتجاه فرنسا ثم أمريكا، حيث صقلت معارفَه مدارسُ البلدان الاستعمارية القديمة، ليعود أخيرا إلى "دولته" مفكرا فيها متوجسا منها، قبل أن يدخل في قالبها الطابخ للوعي والهيئة والعلاقات، ويخرج منها،في النهاية، منهكا على مشارف ثورة عارمة ضد النظام الذي بنى تلك الدولة.

لم يكن عالم الاجتماع عبد الباقي الهرماسي فردا فحسب، بل كان واحدا من جيل متميز من المفكرين المغاربيين الذين أخذوا على عاتقهم الرد على السؤال الحضاري الاستنكاري الذي طرحه الاستعمار الفرنسي على شعوبهم، وما زال صداه يتردد إلى اليوم في ثنايا العلاقات بينهم وبين فرنسا: متى كنتم تشكلون أمما وشعوبا...لولا نحن؟ في السياسة كانت معارك التحرير ثم بناء دولة الاستقلال بمثابة الرد على هذا السؤال، فقد كان الانتصار وبناء هذه الدولة يعني للسياسيين أن المغاربيين لم يكونوا غبارا منثورا على الأرض ومبثوثا في الهواء، بل تاريخا وعلاقات تبادل مكثفة ومتنوعة، وبنى ثقافية، وطموحات جرى القضاء عليها بالقوة خلال القرن 19.

لكن هذا الجواب لم يكن كافيا، لأن التحرر يعني أصلا استعادة القدرة على التفكير وعلى إعادة تمثل الذات والتاريخ. وكان على الدولة المغاربية أن تجد الصلة التاريخية بينها وبين الفترة السابقة عن الاستعمار لإثبات تاريخيتها وتأكيد مشروعيتها. جمع بورقيبة في بداية ستينيات القرن الماضي أعيان ولاية الكاف -في الشمال الغربي للبلاد التونسية- وطلبتها ومعلميها وأساتذتها وخطب فيهم قائلا: إن مهمتنا هي القطع مع الحلقة الجهنمية المفرغة التي سارت فيها الدولة في البلاد المغاربية منذ قرون، ووصفها ابن خلدون بإسهاب: إنها دولة تنهض وتعمر ثم تشيخ بسرعة وينهار معها كل شيء وتبدأ دورة جديدة. مشروعنا هو القطع مع هذه الحلقة السياسية الجهنمية المفرغة وإرساء دولة لا تسقط.

ظل عبد الباقي الهرماسي غير مستسيغ للدولة التونسية المستقلة والمستبدة، قريبا من معاريضها المطالبين بالديمقراطية، متوجسا من الدولة التي لم تكن تقبل إلا بمن يوافق على ما يقوله الزعيم، ووضعت البعض من أصدقائه في السجن لمجاهرتهم بهذا الطلب. ومع ذلك، فقد جاءت أبحاث عبد الباقي الهرماسي وأبناء جيله بشأن الدولة المغاربية للإجابة على السؤال الاستعماري المطروح أعلاه.

والسياق لم يكن اجتماعيا -تاريخيا فحسب، بل كان أيضا سياقا معرفيا. ذلك أن ظهور الحركات الوطنية ثم بناء دول الاستقلال كان قد دفع بالاندييه وبارك وغيرهما، منذ خمسينيات القرن الماضي، إلى وضع المعرفة الكولونيالية موضع سؤال، ثم استمر طرح السؤال نفسه بعد ذلك في السبعينيات والثمانينيات[1]. وفي هذا السياق طرح الهرماسي وعبد الله العروي ومحمد عابد الجابري ومحمد الهادي الشريف ومحمد الميلي وآخرون كثيرون، قضايا أنطولوجية وتاريخية وسوسيو-أنثروبولوجية تخص الدولة في البلاد المغاربية. وكان إسهام الهرماسي في هذا النقاش بكتابه الشهير "الدولة والمجتمع في المغرب العربي"[2].

في هذا الكتاب طرح الهرماسي سؤال خصائص الدولة المغاربية قبل الاستعمارية، واصفا إياها بأنها حصيلة الانتقال من الدولة الخلدونية التي تحكمها العصبية، إلى الدولة الباتريمونيالية التي تحكمها سلالة، تعتمد على بيروقراطية وجيش منفصلين عن المجتمع، وهذا النموذج، بأشكاله المغاربية المختلفة، كان بعيدا عن النموذج السوسيولوجي الفيبري للدولة الحديثة القائمة على نظام بيروقراطي عقلاني. كما بيّن كيف أن تشكل الدولة الوطنية المستقلة كان سهلا نسبيا بسبب إرث الدولة المغاربية العريق.

في سياقه وتاريخه، كان هذا الكتاب إضافة مهمة للغاية في دراسة الدولة في العالم العربي، لكن غياب الجماعة العلمية المحترفة حال دون مناقشته بعمق، والبناء عليه بمستوى المقاربة نفسها، مثل التساؤل عما إذا كانت الدولة الخلدونية يمكن أن تكون دولة باتريمونيالية أيضا من نوع خاص (عراقة الدولة الحفصية، جيش المخزن المغربي المكون من العبيد وملاحظات ابن خلدون بشأن وراثة الحكم)، أو الإقرار بأن النموذج الفيبري يخلق مشاكل تصنيفية كبيرة عند نقله إلى خارج سياقه الإبستمولوجي، كما بين ذلك الباحثون لاحقا.

لكن الدولة المغاربية المستقلة التي عقد عليها الهرماسي شيئا من الأمل، سرعان ما بدأت، خاصة في الجزائر وتونس، تواجه معارضين سياسيين من نوع جديد، يختلفون عن المنتمين للتيارات الشيوعية والاشتراكية، التي كان يقودها مثقفون تأثروا بالتفكير الماركسي وبتجارب لينين وماو تسيتونغ وغيرهما، وعن التيارات القومية العروبية التي توسع تأثيرها في سياق التجربة الناصرية في مصر. كان التيار الجديد-القديم هو ما يسمى اليوم الإسلام السياسي. لم يكن هذا التيار شيوعيا أو عروبيا علمانيا، بل كان يعٌب من متخيل إسلامي أعيدت صياغته كي يتحول إلى مشروع سياسي مناهض لدولة الاستقلال المُغتربة والمغربة في تحليل أصحابه.

بعد فترة قصيرة من صعود هذا التيار عاد عبد الباقي الهرماسي (سنة 1979) إلى الجامعة التونسية، بعد تجربة بحث وتدريس ثرية في أمريكا، فكان اللقاء وجها لوجه، ومن اليوم الأول، مع الحركات الطلابية الإسلاميوية في الجامعة، ومع حملات البوليس والمحاكم ضدهم في الشارع، والكل على خلفية صراع حاد، اندلع سنة 1977-1978، مع الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي كانت تجربته النقابية في الفترة الكولونيالية موضوع العمل الأكاديمي الأول لعبد الباقي الهرماسي (1966)، تحت إشراف جاك بارك. 

لم يتأخر الهرماسي كثيرا في الاستيعاب المعرفي لقضايا السياق، وانغمس في بحث معمق حول تمثلات الإسلامويين للمجتمع التونسي والخصائص الاجتماعية لحركتهم وعلاقتهم بوصول الرئيس بن علي للسلطة في 7 نوفمبر1987، وكانت الدولة التونسية حينذاك تلاحقهم بلا هوادة رغم فترات الهدوء من حين لآخر.

ويمكن القول، إن دراسة الهرماسي التي أنجزها في أواسط الثمانينيات من القرن الماضي تحت عنوان "الإسلام الاحتجاجي في تونس"[3] تعد من بواكير التفكير السوسيولوجي في الظاهرة على المستوى العربي. لقد طرح الهرماسي منذ البداية منهجه بوضوح: يجب التوقف عن النظر إلى الإسلام كجوهر فوق تاريخي، والتمييز بين الإسلام L’Islam والالتزام الإسلامي l’Islamisme (وهذه كانت موجهة إلى بقايا المستشرقين في الداخل والخارج).

وقد سمح له هذا المدخل بمقاربة الحركة الإسلامية في تونس بأنها "تستمد منطقها وأسباب نموها من تطور المجتمع التونسي، أكثر مما تمتلكه من نقاط التقاء مع الحركات الشبيهة بها في أنحاء العالم". ومرة أخرى ظل الموضوع شبه مسكوت عنه في تونس بسبب منع الحريات الفكرية وملاحقة الإسلاميين في تسعينيات القرن الماضي في تونس والجزائر، إلى أن انفجرت الثورة في وجه الاستبداد. ومع عمق الطرح الذي قدمه الهرماسي إلا أن مسار الإسلام السياسي قد أثبت أنه، وإن كان له جذوره في التناقضات المحلية ونمط التنمية والتعليم المتبعين، إلا أنه تيار فوق وطني، ويعب من مرجعيات لا يتم إنتاجها محليا إلا بالنزر القليل. وقد اصطدم أصحابه بهذه الخاصية مع الفئات الاجتماعية المؤثرة بعد الثورة، الرافضة للنموذج المجتمعي الذي تاق الإسلاميون إلى التأسيس له، دون فهم للعصر.

لكن الهرماسي ربما لم يكن يعرف أن ذلك البحث والاهتمام بالموضوع كان هو "الفتاشة" التي سحبته بها الدولة إلى قلبها[4]. فالموضوع ثقافي-سياسي بامتياز، والدولة في رأي أصحابها يلزمها وزير ثقافة عارف بما يريده الإسلاميون وما يريده النظام السياسي المتحكم بالدولة. وبهذه الصفة قضى الهرماسي قرابة ثمان سنوات وزيرا للثقافة في الدولة التونسية.

والدولة التي نفر منها عبد الباقي الهرماسي في شبابه تطبخ أهلها، كما يقول ابن خلدون، عندما يصبحون في قلب رحاها. فمن وزير الثقافة أصبح الباحث في شأن الدولة والسلطة وزيرا لخارجية دولة مستبدة، نظامها السياسي فتاك بمعارضيه، مستحوذ على ثروات البلاد لصالحه وصالح أتباعه، منتج لسياسات القهر وفقدان الكرامة.

لكن الدولة لها مطبخها الذي يقبع في قبوها السري، والتجربة لم تستمر أكثر من سنة، ولا أحد يعرف على وجه الدقة -غير صاحبه- لماذا جرى التخلي عن الهرماسي وزيرا للخارجية بهذه السرعة. بيد أن الدولة ظلت تعتبره من مواردها البشرية الهامة، وظلت تبقيه قريبا منها لخدمتها، كما تفعل كل الدول التي تطبخ "عمالها" وتسجنهم في سجنها الذهني والمصلحي، وقد توفي دارس الدولة، غير المرتاح لنظامها بسبب تكوينه السوسيولوجي، في رحابها، مضمخا برائحتها.

كتب عبد الحميد هنية يوما بحثا بعنوان "عندما تجعل الكتابة التاريخية التونسية من نفسها سجينة للدولة"(Henia, 2002). من هذا المنظور كان عبد الباقي الهرماسي باحثا اجتماعيا من طراز رفيع، لكن تجربته في الحياة العامة، كما تجربة عبد الوهاب بوحديبة، زميله ومنافسه، وهما من ألمعي النخبة الفكرية التونسية، كانت من تدبير الشوارع الخلفية للدولة التونسية، المحترفة في صناعة المثقف العضوي.

الهوامش :

[1] Le Mal De Voir. (1974). Cahiers de Jussieu - Connaissances du Maghreb. (1985).Paris : CNRS.

[2]المجتمع والدولة في المغرب العربي.) 1987( (طبع عدة مرات). بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية.

[3] مجموعة باحثين. (1987) (طبع عدة مرات). الحركات الإسلامية المعاصرة في الوطن العربي. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ص. 249-299.

[4] يقال في تونس أن الدولة هي التي كلفت الهرماسي بالقيام بهذا البحث.

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran
+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11
+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Recherche