الشباب وخطابات المرجعيات الدينية في الجزائر. نتائج دراسات ميدانية


إنسانيات عدد 95، جانفي–مارس 2022، ص.37 -76


 


جيلالي المستاري : Centre de Recherche en Anthropologie Sociale et Culturelle, 31 000, Oran, Algérie

فؤاد نوار: Centre de Recherche en Anthropologie Sociale et Culturelle, 31 000, Oran, Algérie

مصطفى مجاهدي : Centre de Recherche en Anthropologie Sociale et Culturelle, 31 000, Oran, Algérie

Format PDF


يعدّ التساؤل حول مكانة خطابات المرجعيات الدينية لدى الشباب في الجزائر عند طلب الفتوى[1] في شقّه الإجرائي مدخلا لوضع خريطة، ولو أوّليّة، لتلك المرجعيات  انطلاقا من تحليل مطلب الفتوى بمختلف أنواعها: فتاوى العبادات، فتاوى المعاملات وفتاوى العقيدة وغيرها بوصفه أحد مؤشرات التديّن (Volkhard Krech, 2014)، كما يسمح في الوقت نفسه بمساءلة منظومة الاعتراف التي تطبع المجال الديني سواء اتخذت طابعا مؤسساتيا أو تجاوزته. يتيح براديغم الاعتراف (أكسل هونيث، 2015) إمكانية تحليل مطلب الفتوى بوصفه محتوى خطابيا وجيليا، ويقرّبنا من التّجارب الاجتماعية والدينية لدى الشباب، ويسمح بمقاربة مظاهر الثقة في المفتي والتماهي معه أو إنكار الاعتراف به وازدراء فتواه. يجدر التذكير أنّ الشباب يحافظ على هامش من الحريّة والمناورة تسمح له إمّا بقبول الفتوى أو رفضها أو إعادة صياغتها، سواء كان مخيّرا في طلبها أو مجبرا ثقافيا على البحث عنها بحكم تنشئته الاجتماعية.

يكشف تحليل مطلب الفتوى عند الشباب ومظاهره الانتقائية صورا متباينة عن أشكال الاعتراف بالخطاب الديني الإسلامي، حيث يتمظهر غالبا في صور تراتبية تصنّف الأئمة والدعاة ومؤسساتهم أثناء عقد المقارنات بينهم، كما يمكّن من مناقشة الرهانات المرتبطة بموقف الشباب في الجزائر من خطابات المرجعيات الدينية الإسلامية بما في ذلك خطاب "المرجعية الدينية الوطنية"[2]. وإذا كانت غاية هذا الخطاب الرسمي هي توحيد الصفّ لمواجهة الاختلاف و"الخطاب الديني الدخيل على الأمّة"، حسب تصريحات بعض الأئمة، فإنّ المواقف منه وتمظهراتها الاجتماعية تحتكم إلى اختيارات متغيّرة ذات أبعاد مجتمعيّة، أو جماعاتية أو فردية، لا تفترض بالضرورة الثقة فيه أو الاعتراف به.

واستئنافا للمناقشات حول واقع الخطابات والممارسات الدينية في المنطقة المغاربية من خلال الدراسات والتقارير المختلفة المنجزة في السنوات العشر الأخيرة[3]، تحلّل هذه الورقة البحثية السؤالين المحوريين التاليين: ما هي مواقف الشباب من خطابات المرجعيات الدينية الإسلامية في الجزائر؟ وهل يؤطّر خطاب "المرجعية الدينية الوطنية" مطلب فتوى لدى هذه الفئة؟ ونسعى من خلالهما لفهم العلاقة بين غاية السياسات العمومية في المجال الديني والتغيّرات التي يشهدها هذا المجال من خلال مواقف الشباب[4] ومطلب الفتوى لديه. نفترض أنّه كلما تواصل المنحى البيروقراطي لتنظيم المجال الديني -دون الأخذ بالاعتبار تغيّراته البنيوية- تراجع الاعتراف الاجتماعي به وبفاعليه، سواء اتخذ ذلك طابعا جيليا (قد يمثّل الشباب مؤشرا له)، أو طابعا مؤسساتيا (بروز مؤسسات جديدة لا تحتكم إلى المرجعية البيروقراطية بالأساس)، وهو ما يفتّت هذا المجال ويفتح مسلكا لأشكال تديّن مختلفة وعلاقات بمرجعيات جديدة منافسة. نعتمد في تحليل مواقف الشباب من خطابات المرجعيات الدينية المختلفة، من خلال مدخل طلب الفتوى، ومسار التغّير الذي شهده المجال الديني في الجزائر على تراكم دراسات ميدانية كمية وكيفية أنجزت خلال ست سنوات (2013-2019) في مركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية وتتمثّل في: تحقيق ميداني كمّي[5] شمل 5077 شابا وفتاة في كل من ولاية وهران الساحلية شمالا وولاية غرداية جنوبا، دراسات ميدانية كيفية[6] أجريت مع الشباب خلال الفترة الممتدة ما بين 2013 و2015، ونتائج مشروع بحث حول "الأئمة ومسار مأسسة السلطة الدينية في الجزائر" (2016-2019)[7].

كشفت معطيات التحقيق الميداني الكمي أنّ اختيار أو لجوء الشباب لفاعلي "المرجعية الدينية الوطنية" في الجزائر عند طلب الفتوى، مقارنة بالمرجعيات الدينية الإسلامية الأخرى، لا يمثّل سوى 9.8% من شركاء البحث (أي أقل منعُشر العيّنة)، كما كشفت أنّ حوالي ثلثي العيّنة لا تثق أو لا تبالي بالمرجعيات الدينية على اختلافها (أنظر: الشكل 01 في الملحق). نعتبر أنّ مواقف الشباب المتشظّية من خطابات المرجعيات الدينية وتراجع ثقته في خطاب "المرجعية الدينية الوطنية" أثناء طلب الفتوى ليس مجرد أزمة ظرفية وإنّما هو محصّلة مسار من التحوّلات البنيوية طويلة المدى للمجال الديني في الجزائر. يمكن الوقوف على تجلّيات هذه التحوّلات في ثلاثة مستويات: مستوى الجمهور غير المتجانس، مستوى البيروقراطية الدينية، ومستوى تراجع، إن لم نقل، أفول البرنامج المؤسساتي التقليدي وفاعليه في المجال الديني.

يمثّل "جمهور" الشباب غير المتجانس وملامحه السوسيولوجية المتباينة أوّل التحدّيات الجيلية (2011Mannheim, ) التي تواجه خطابات المرجعيات الدينية، فاختياراته خاضعة لمؤشّرات مرتبطة بتغيّرات سنّه ونوعه الاجتماعي ومستواه التعليمي ووضعيته السوسيومهنية، وهذه الفئة لا تبدي في غالب الأحيان مظاهر الاهتمام بطلب الفتوى أو الثقة فيها أو الالتزام بها، ولا تحتكم حصريا إلى من يحتكر المعرفة الدينية المكتوبة والمكوّن وفق البرنامج المؤسساتي التقليدي أو البيروقراطي الحديث في المجال الديني.

ويمثّل مسار إخضاع المجال الديني للمتطلبات البيروقراطية[8] غداة الاستقلال وبداية تشكّل الدولة الوطنية ثاني التحدّيات التي تواجه خطابات المرجعيات الدينية، بما في ذلك خطاب "المرجعية الدينية الوطنية"، ودرجة الاعتراف بها من قبل الشباب، فالتغيّرات التي عرفها المجال الديني ومنظومته التكوينية ومنحاه البيروقراطي قلّصت من الاعتراف الاجتماعي بفاعليه وقوّضت الثقة في فتاويهم وحوّلت شرعية فاعلي المرجعية الدينية الوطنية من شرعية تقليدية مؤشّرها الإجازة والمشيخةوالرسالة إلى شرعية بيروقراطية مؤشّرها الشهادة والرتبة الوظيفية.

ويمثّل أفول البرنامج المؤسساتي التقليدي للمجال الديني وفاعليه وبوادر بروز برنامج مغاير (Dubet, 2002, p 52) ثالثا لتحدّيات التي تواجه خطاب "المرجعية الدينية الوطنية" وتفسّر تراجع ثقة الشباب فيه، فالتغيّرات التي عرفتها المؤسسة المسجدية وإمامها (Moussaoui, 2009) تؤكّد الانتقال من حالة تجانس المبادئ المشكّلة لمنظومة التنشئة الدينية إلى حالة اللاتجانس، ومن لحظة احتكار المعرفة الدينية المكتوبة عند الفاعلين إلى لحظة التنافس حول امتلاكها، ومن الشرعية الاجتماعية والوجاهة الدينية إلى الشرعية البيروقراطية والإدارية.

  1. 1. جمهور الشباب: المرجعيات الدينية المتشظّية أمام مطلب الفتوى

يشكّل الجمهور (محمد ناشي، 2013، ص. 19-32)، (J. P. Esquinnazi, 2003) وتعدّد مظاهره أوّل التحدّيات التي تضع خطاب "المرجعية الدينية الوطنية" في الجزائر أمام محكّ الاختيارات والتأويلات والممارسات الاجتماعية، وإذا كانت المحاولات التأصيلية لهذا الخطاب الرسمي وفق نظرة انتقائية للماضي الديني تندرج ضمن ضرورة حماية المصلحة العامة للمجتمع وما تقتضيه ضوابط السياسات العمومية المنظّمة للشأن العام، فإنّ منتوجها الديني والرمزي من فتاوى وخطب منبرية وغيرها متأثر بتعدّد استقبالات جمهور فئوي وغير متجانس. مثّل شعار "الدين كما مارسه أجدادنا" مبرّرا للتصدي لراديكالية الخطاب الديني في الجزائر خلال تسعينات القرن الماضي (محمد ابراهيم صالحي، 2014، ص. 331)، لذا يبدو خطاب "المرجعية الدينية الوطنية" في صورته البيروقراطية وكأنّه استجابة عمومية رسمية لا تزال متأثّرة بالسياق الظرفي السابق، وهو ما قد يضعه اليوم في مواجهة مع المفارقات الاجتماعية التي تمتحن قدرته على استيعاب خريطة الممارسات الدينية[9]  والخطابات الجيلية لفئة الشباب، خصوصا أثناء الظروف السياسية الاستثنائية (Cecile et Pinto, 2018, p. 11-23).

يجدر التذكير أنّ الشباب في الجزائر هو أحد مظاهر لاتجانس الجمهور  فالدراسات المنشورة في مركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية ومجلّة إنسانيات بالخصوص تؤكّد هذا المعطى السوسيو-أنثروبولوجي، وتشير إلى صعوبات فهم الهوّيات الدينية المتشكّلة (Merzouk, 2012, p. 125) في ظل الإشكالات البنيويّة التي تميّز هذه الفئة نتيجة تمدّد عمرها الاجتماعي وتأخّر تجسيد المشاريع الحياتية البديلة (بداية الحياة المهنية، الزواج، مغادرة البيت العائلي)، وصعوبة الالتحاق بحياة الراشدين (Layadi, et all., 2007, 102) واستحالة تجسيد الأحلام
(Salhi, 2012, p. 43) خصوصا عندما يتعطّل مسار الانتقال من النجاح المدرسي إلى النجاح الاجتماعي.

يسمح التحقيق الميداني حول اختيارات الشباب للحوامل الدينية والثقافية والثقة فيها أثناء ممارسة طلب الفتوى بتحديد مظاهر عدم تجانس هذا الجمهور، إذ تشير المعطيات الكمية والكيفية[10] حول اختيارات شركاء البحث لحوامل الفتوى وأسماء المفتين موضوع الثقة ومرجعياتهم المذهبية إلى ملامح خريطة اجتماعية لمواقف غير متجانسة من الفتوى من حيث الاختيارات ومن حيث الثقة، وتؤكّد هذه النتائج  محدودية البيروقراطية الدينية في التواصل مع جمهور "الشباب" وفرض تأطير مرجعيته واختياراته الدينية أثناء طلب الفتوى في ظل تعدّد خطابات المرجعيات الدينية المنافسة وتباين شرعيّتها وحواملها الثقافية المعولمة.

1.1. اختيارات غير متجانسة لحوامل البحث عن الفتوى لدى جمهور الشباب

بداية، يكشف تحليل معطيات السؤال الأوّل للدراسة الكمية تصدّر إمام المسجد المجاور في الحي أو القرية أو القصر، في حالة غرداية جنوبا، قائمة اختيارات الشباب عند طلب الفتوى بنسبة تقارب 69% من مجتمع البحث، في حين تأتي وسائل الإعلام التقليدية (الإذاعات الوطنية، التلفزة الوطنية، القنوات الفضائية الأجنبية) في المرتبة الثانية من حيث الاختيارات بنسبة تقارب 15.9%، متبوعة في المرتبة الثالثة بالحوامل الافتراضية والمنصّات الرقمية للفتوى بنسبة تقارب 10.3%. تتأثّر خريطة هذه الاختيارات بمتغيّرات السنّ والنوع الاجتماعي والمستوى الدراسي والوضعية السوسيومهنية للشباب، إذ تعلن عن تباين هذا الجمهور من حيث اختيار تلك الحوامل الثقافية والدينية للفتوى، خصوصا عند المقارنة -على الأقل- بين الفئتين العمريتين اللّتين يتراوح سنّهما ما بين "16 و24 سنة" بالنسبة للفئة الأولى و "24 و34 سنة" بالنسبة للفئة الثانية.

تبيّن المعطيات الكميّة في هذا السياق أنّه كلما ارتفع سنّ مجتمع البحث زاد اختياره لإمام المسجد المجاور من أجل طلب الفتوى وقلّت اختياراته لوسائل الإعلام التقليدية والمنصّات الافتراضية، في حين يبدو مطلب الفتوى عبر الأنترنت -على قلّة نسبته- خصوصية تميّز الشباب الذين يتراوح سنّهم ما بين 16- 24 سنة، وهذه الفئة هي الأكثر تفاعلا مع الدعاة المتواجدين في الفضاء الافتراضي والأكثر إقبالا على خطاب نظرائهم من الشباب،فالبحث عن الفتوى عند الشباب الذين تقلّ أعمارهم عن 24 سنة ممارسة جيلية خاصة في طور البروز والتشكّل تفضّل "الأجنبي" على "الوطني"، والتواصل الافتراضي على التواصل الشخصي أو الجواري (الإمام) أو المؤسّساتي (المسجد، مديرية الشؤون الدينية، وسائل الإعلام والاتصال التقليدية)، ويكشف مؤشر السنّ في الوقت نفسه أنّ اختيار وسائل الإعلام التقليدية خصوصية لدى الإناث اللواتي تجاوزت أعمارهن الثلاثين سنة، مع أسبقية معتبرة للإذاعات المحلية على حساب القنوات التلفزية الوطنية والأجنبية (أنظر: الشكل 2 في الملحق).

يشكّل النوع الاجتماعي ثاني الفروقات الموجودة بين شركاء البحث أثناء اختيار الحوامل الدينية والثقافية لطلب الفتوى رغم المركزية التي يحتلها إمام المسجد المجاور لدى الجنسين (الاختيار الأوّل)، إذ تكشف المعطيات عن  توجّه ذكوري لاختيار الإمام من أجل طلب الفتوى وتوجّه أنثوي لاختيار الإذاعة المحلية في الطلب نفسه، وعن تساوي بين الجنسين عندما يتعلّق الأمر باختيار الفضاء الافتراضي. تبلغ نسبة اختيار إمام المسجد المجاور لدى الذكور 75.29% (¾ الذكور من العيّنة) في حين تبلغ النسبة لدى الإناث 62.2% (2/3 الإناث) بفارق يناهز 13 نقطة، كمـــا تبلغ نسبة اختيار وسائل الإعلام التقليدية، خصوصا الإذاعات المحليّة، عند الإناث 21.4% وتنخفض إلى النصف لدى الذكور مسجلّة نسبة تقارب 11.6%، ويتساوى الجنسان عندما يتعلّق الأمر باختيار البحث عن الفتوى عبر الفضاء الافتراضي (10.45% لدى ذكور- 10.22% لدى إناث).

حضور إمام المسجد المجاور في تصريحات الإناث اللواتي يتراوح سنّهن ما بين 16 و24 سنة يكشف المرئية التي يتمتّع بها هذا الفاعل الديني في الفضاء العام لدى هذه الفئة رغم انحصار تواجدها في مسجد الحي نظريا (عموما: صلاة الجمعة، الأعياد، صلاة التراويح)، لكن من الصعب تصنيف التصريحات الأنثوية المتعلّقة باختيارات طلب الفتوى لدى مجتمع البحث ضمن خانتي الهيمنة الذكورية (بروديو، 2009، ص 45) أو تذكّر الثوابت المهيمنة (بورديو، 2009، ص. 87)، فهذه المعطيات تقدّم فقط ملامح لخريطة الاختيارات لدى الجنسين، في حين يمكّننا تحليل متغيّر "مضمون الفتوى وأسئلتها" من الكشف عن الفروقات الجندرية بما يسمح ببناء صورة واضحة حول أشكال الهيمنة بين الجنسين وطبيعتها في مجال الفتوى بصفة خاصة والحقل الديني بشكل عام (أنظر: الجدول 1 في الملحق).

يعكس المستوى الدراسي لشركاء البحث ملامح لاتجانس الشباب في اختيار الحوامل الثقافية والدينيةأثناء طلب الفتوى، إذ تبيّن معطيات التحقيق الميداني أنّه كلّما انخفض المستوى الدراسي لعيّنة البحث زاد اختيارها لإمام المسجد المجاور وقلّ اختيار الحامل الافتراضي للفتوى، وفي المقابل كلّما ارتفع المستوى التعليمي لعيّنة البحث تقلّصت نسبة اختيار إمام المسجد المجاور وارتفعت نسبة اختيار الحامل الافتراضي للفتوى. وفي هذا السياق تشير النتائج أنّ إمام المسجد المجاور يمثّل الخيار الأوّل لدى الشباب ذوي المستوى التعليمي الابتدائي (85%) أكثر مما يمثل اختيارا لدى الشباب ذوي المستوى التعليمي الجامعي (57%)،وتبيّن أنّ البحث عن الفتوى عبر الأنترنت يختصّ به ذوو المستويين الدراسيين الثانوي والجامعي، خصوصا لدى الفئة العمرية 16-24 سنة المتواجدة في حالة تكوين، ويقّل بشكل بيّن لدى المستويات التعليمية الدنيا. أكثر من ذلك، يمكن القول أنّ اختيارات الحوامل الثقافية والدينية من أجل طلب الفتوى محسومة لصالح الافتراضي على حساب الجواري (إمام المسجد المجاور) والمعولم على حساب المحلي و"الأجنبي" على حساب "الوطني" لدى الشباب ذوي المستوى الجامعيوالذين لا يتجاوز سنّهم الـ 24 سنة.تجدر الإشارة إلى تدنّي نسبة اعتمادالكتب الدينية مصدرا للفتوى عند الشباب -باعتبارها حاملا ثقافيا/دينيا- بغض النظر عن السنّ والمستوى الدراسي، والنوع الاجتماعي والوضعية السوسيومهنية لمجتمع البحث، بحيث تكاد تؤول نسبة ذلك إلى الصفر (اختيار الكتب في المرتبة السابعة بنسبة تقارب 0.2%). (أنظر: الجدول 2 في الملحق).

وتُظهِر الوضعيات السوسيومهنية لشركاء البحث[11] أيضا مظاهر اللاتجانس أثناء اختيار الحوامل لطلب الفتوى، إذ تبيّن المعطيات أن تواجد الشباب في وضعيات التكوين ذو الطبيعة المدرسية (ثانوي/ جامعي/ تكوين مهني) يُقلّص من نسب اختيار الإمام المجاور مقارنة بالوضعيات السوسيومهنية الأخرى ويرفع من نسب البحث في الفضاء الافتراضي، في حين تُنتج وضعيتا البطالة والشغل توجّهين مغايرين يؤكّدان مركزية الإمام المجاور ويقلّصان من اختيار الحوامل الافتراضية. تبلغ نسبة اختيار إمام المسجد المجاور لدى الشباب المتواجد في وضعية تكوينا لـ 59.7%، بينما ترتفع النسبة ذاتها لدى الشباب المتواجد في حالة شغل إلى 71.8%- خصوصا لدى المستويات التعليمية المنخفضة التي تجاوز عمرها الـــ ـ30سنة –، وترتفع النسبة إلى 81.1% عند الشباب المتواجد في حالة بطالة أو بحث عن شغل، وأمّا بالنسبة لاختيار الحامل الافتراضي فتبلغ النسبة عند الشباب في وضعية التكوين الـ 20.2% وتنخفض إلى النصف عند الشباب المتواجد في حالة شغل (9%)، وإلى الربع عند الشباب الباحث عن شغل (5.5%).

يمكن القول أنّ مظاهر لاتجانس الجمهور في علاقته بممارسة طلب الفتوى من خلال اختيار الحوامل الثقافية والدينية متعلّقة أساسا بمتغيّري المستوى الدراسي ووضعيات التكوين مقارنة بمتغيّري النوع الاجتماعي والسنّ. ويجدر التذكير أنّ علاقة الطالب الجامعي بمساجد الإقامات الجامعية تمثّل استثناء يؤثّر على ترتيب أولوية اختيار الافتراضي على الجواري عند هذه الفئة من الشباب، فقد لاحظ فريق البحث الذي اشتغل حول "التديّن والبحث عن الهويّة في الوسط الطلابي" (محمد مرزوق، 2012) أهميّة النشاط الجواري للمجموعات الدينية الإخوانية والسلفية واستراتيجياتها التنافسية في تأطير المرجعية الدينية لبعض الطلاب في الإقامات الجامعية، بداية من السيطرة التنظيمية على لجان مساجد هذه الإقامات وصولا إلى إشهار الرموز الدّالة على ملامح مرجعيات دينية منافسة لخطاب "المرجعية الدينية الوطنية" داخلها (مضامين الملصقات في مساجد الأحياء، عناوين الكتب، موضوعات الندوات والحلقات...)، كما يحيل هذا التوجّه الاستثنائي إلى ملمح مختلف للإمام الجواري يمثّله "الإمام- الطالب الجامعي".

2.1. ملامح اللامبالاة وعدم الثّقة في طلب الفتوى عند جمهور الشباب

لا تتوقف مظاهر اللاتجانس عند مستوى اختيارات الحوامل الثقافية والدينية أثناء طلب الفتوى، بل تظهر أيضا عند البحث في علاقة هذا المتغيّر بالثقة في خطابات المرجعيات الدينية من عدمها بما في ذلك خطاب "المرجعية الدينية الوطنية"، إذ تكشف نتائج الدراسة توجّهين اثنين: أولهما أنّ ما يقارب ثلثي شركاء البحث (65.5%) يتوزّعون بين اللامبالاة واللاثقة في خطابات كلّ المرجعيات الدينية، أمّا ثانيهما، والذي لا تتعدّى نسبته الثلث (%31.8)، فيحيل إلى ثقة في خطابات المرجعيات الدينية المختلفة إلاّ أنها ثقة متشظّية، ويكشف هذا المعطى محدوديّة البيروقراطية الدينية في تأطير الثقة في خطاب "المرجعية الدينية الوطنية" لدى جمهور شباب غير متجانس، خصوصا عندما تؤكّد نتائج الدراسة أنّ خيار إمام المسجد المجاور لا يعني الثقة في فتواه[12] (أنظر: الشكل 3 في الملحق).

تظهر النتائج ملامح خريطة اجتماعية غير متجانسة لثقة الشباب في خطابات المرجعيات الدينية في ولايتي وهران وغرداية[13]، مؤشّرها الأوّل هامشية مطلب الفتوى وتدنّي الثقة في المرجعيات الدينية المختلفة، ومؤشّرها الثاني ضعف الثقة في المرجعية المالكية باعتبارها أحد روافد خطاب "المرجعية الدينية الوطنية" حيث لا تتعدى الثقة فيها 1 من 10 من مجتمع البحث مقارنة بالنسب المعبّرة عن الثقة في المرجعيات المصنّفة من طرف البيروقراطية الدينية "دخيلة" (22% يثقون في الخطابات الإخوانية والسلفية)، وتعلن مؤشّرات عدم الثقة واللامبالاة (لا أدري) عن هامشية الفتوى لدى جمهور الشباب لتؤكّد مسافة فراغ وتَوَلٍّ تطبع علاقة جمهور الشباب بالمؤسسات المؤطّرة للمجال الديني، كما هو الحال في علاقته بباقي مؤسسات التنشئة الأخرى[14].

يمكن للمعطيات التي تشير إلى هامشية مطلب الفتوى لدى الشباب وإنكار الاعتراف بمرجعياته الدينية أن تثري النقاش حول بعض نتائج الدراسات السابقة[15] التي قاربت التديّن لدى الشباب من خلال دراسة طقوسية الممارسات الدينية والتمثلات الفرديّة حولها، خصوصا عندما تظهر نتائجها اغتراب الشباب اتجاه البيروقراطية الدينية وتكشف عن مؤشّرات الاستقلالية (الاختيار/الثقة/اللاثقة) لدى هذه الفئة، وقد سبق أن بيّن محمد العيادي أنّ فئة الشباب، خصوصا الأصغر سنّا، هي الفئة الأكثر انفتاحا والأقلّ أرثدوكسية في ممارساتها الدينية مقارنة مع الراشدين وكبار السنّ (M. Layadi, et All, 2007)، وهنا يمكن اعتبار المعطيات المتعلّقة بتراجع الثقة في حوامل الفتوى والتشكيك في خطابات المرجعيات الدينية المختلفة مؤشرا آخر على هذا المعطى.

تجدر الإشارة إلى أنّ توجّهات عدم الثقة في المرجعيات الدينية واللامبالاة بها المعبّرة عن هامشية مطلب الفتوى غير متجانسة اجتماعيا لدى شركاء البحث، فالنسب مرتفعة لدى الفئة العمرية التي يتراوح سنّها ما بين 16 و19 سنة مقارنة بالفئات التي تجاوزت الـ 30 سنة، كما تبيّن أنّ هامشية الفتوى ظاهرة ذكورية أكثر منها أنثوية، إذ تبلغ نسبة اللامبالاة واللاثقة 70.1% عند الذكور في حين تصل قرابة 60.6% عند الإناث. كما تمثّل البطالة الوضعيةَ السوسيومهنية التي تنتج أكبر نسب عدم الثقة (35.1%) واللامبالاة (38.6%) مقارنة بوضعيتي الشغل والتكوين.ويمثّل المستوى الدراسي أهمّ مؤشر مؤثّر في نسب اللاثقة في خطابات المرجعيات الدينية واللامبالاة بها  أثناء طلب الفتوى، فكلّما كان المستوى الدراسي لجمهور الشباب متدنيّا (المستوى الابتدائي) ارتفعت نسب اللامبالاة بخطابات المرجعيات الدينية وإبداء عدم الحاجة للجوء إليها (أنظر: الجدول 3 في الملحق).

3.1. ملامح الثّقة المتشظية في خطابات المرجعيات الدينية لدى الشباب

تبيّن نتائج الدراسة الميدانية مظهرا آخر للاتجانس جمهور الشباب مؤشّره ملامح ثقة متشظية في خطابات المرجعيات الدينية المختلفة، يحتلّ فيها خطاب "المرجعية الدينية الوطنية" موقعا ثانيا مقارنة بخطابات دينية قد يعدّها منافسة له. يحتل أئمة المرجعية الدينية الإخوانية التي يثق فيها شركاء البحث المرتبة الأولى بنسبة تقارب 11.5%، متبوعين بأئمة المرجعية السلفية بنسبة تقارب 10.5%، يليهم أئمة المرجعية المالكية في المرتبة الثالثة بنسبة تقارب 8.8% (خصوصا أئمة المساجد الجوارية والقنوات الإذاعية والتلفزية الجزائرية)، في حين لا تتجاوز نسب التصريحات المعبّرة عن الثقة في المرجعيات الإباضية والصوفية والشيعية مجتمعة الـ 1%.

تبدأ بوادر تشظّي الثقة في المرجعيات المختلفة عن المالكية في الظهور في مرحلة عمريّة مبكّرة (16- 24 سنة)، وترتفع نسبيا كلّما ارتفع المستوى التعليمي لشركاء البحث خصوصا لدى فئة الشباب الجامعي، بحيث نشهد تناميا للثقة في المرجعيات الدينية الإخوانية والسلفية لدى الجنسين على حد سواء، وفي المقابل تستقر نسب الثقة في المالكية لدى الشباب ذوي المستوى التعليمي الابتدائي والمتوسّط. وإذا كانت اللامبالاة وعدم الثقة في المرجعيات الدينية توجّه ذكوريّ أكثر منه أنثويّا، فإنّ الثقة في خطابات  المرجعيات الدينية المصنّفة "أجنبية" أنثوية التوجّه. (أنظر: الجدول 4 في الملحق).

في السياق نفسه، تمثّل وضعيات التكوين ذو الطابع المدرسي لدى الجنسين أهمّ الوضعيات السوسيو-مهنية المنتجة لتراجع الثقة في المرجعية المالكية مقارنة بوضعيتي "الشغل " و"البطالة"، إذ ترتفع الثقة في المرجعيات الدينية الإخوانية والسلفية عند انتقال شركاء البحث من التمدرس في المستوى الثانوي إلى التكوين الجامعي، بحيث تصبح الجامعة أهمّ مؤسسات التنشئة المنتجة للخطاب المنافس و"نزع الشرعية عن المذهب المالكي...إذ أنّ 91% من الطلبة الجامعيين يعتبرونه مذهبا بِدعيا بدعوى أنّه يعطي الشرعية للطقوس المصنّفة حسبهم منحرفة".(M. Merzouk, 2012, p. 124) تمثّل مرحلة التكوين الجامعي، وفق هذين المعطيين، أهمّ أماكن تشظّي الثقة في المرجعيات الدينية وتراجع الثقة في خطاب "المرجعية الدينية الوطنية" من خلال الأدوار التي تقوم بها المجموعات الدينية الإخوانية والسلفية في الجامعة عموما والإقامات الجامعية خصوصا، والجهل بهذا الواقع وبفاعليه الميدانيين وامتداداته من الواقعي إلى الافتراضي، ومن المحلّي إلى العولم يقد تُقلّص من فعّالية خطاب "المرجعية الدينية الوطنية" وفاعليه على مستوى المساجد الجوارية.

لا تشير هذه المعطيات إلى مظاهر لاتجانس جمهور الشباب أمام مطلب الفتوى فقط، بل تؤكّد وجود خريطة اجتماعية للممارسات والتمثّلات الدينية لهذه الفئة من المجتمع ومواقفها من المرجعيات الدينية السائدة في المجال الديني الجزائري اليوم، كما تؤكّد في الوقت ذاتها لتغيّرات طويلة المدى التي شهدها هذا المجال، لذا فعدم ثقة الشباب فيما هو وطني أو محلي ليس مجرّد أزمة ظرفية بل هو نتاج أفول "برنامج مؤسساتي تقليدي للمجال الديني" أهم مظاهره سيرورة بيروقراطية دينية قلصّت من منظومة الاعتراف به. 

  1. 2. حول سيرورة البيروقراطية الدينية

أصدرت وزارة الشؤون الدينية والأوقاف في نهاية التسعينات وبداية سنوات الألفين حزمة من المراسيم والقوانين التشريعية والتعليمات التنفيذية[16] استهدفت تنظيم المجال الديني في الجزائر بالتركيز على وضع ومكانة الإمام من خلال إدماجه في سلك الوظيف العمومي. ورافقت ذلك إلى يومنا هذا خطط تنفيذية[17] وتصريحات وممارسات من الوزارة تحيل إلى نزوع متواصل لتأطير الخطاب الديني ومراقبته بالتركيز على "البعد الوطني" وإدماجه باعتباره خطابا ثابتا ضمن البرامج التكوينية ومضامين الخطب المنبرية للأئمة بوصفهم "موظّفين ممثّلين للدولة" في المؤسسة المسجدية. وإذا كان الخطاب السياسي الرسمي الذي أُنتج حول المواطنة-الوطنية قد تمّ نقله في فترة السبعينات والثمانينات عبر مؤسّسات تنشئة اجتماعية مختلفة كالمؤسسة الصناعية أو المؤسسة التعليمية على سبيل المثال فقد عرفت السنوات العشرين الماضية، وبعد أزمة التسعينات، محاولة نقل هذا الخطاب عبر المؤسسة الدينية. ولم تكن تلك الأزمة إلاّ تسريعا في ترسيخ مسار إداري تمّ اعتماده غداة الاستقلال في تسيير المجال الديني، يقوم على نمط يمكن أن يطلق عليه تسمية البيروقراطية الدينية الممركزة.

ونعني بالبيروقراطية الدينية. Bourdieu, 1971, p. 3-21))، ذلك المنحى الوظيفي الذي اتخذته السلطة العمومية في تسيير المؤسسات المشرفة على الحياة الدينية وفاعليها من خلال تنظيم إداري رسمي يحدّد هرمية السلطة والشرعية والعائد المالي للفاعلين ومساراتهم المهنية. ولا يتوقّف هذا البعد التنظيمي عند المسجد وفاعليه فقط، بل يتجاوزه إلى مؤسسات تنشئة دينية تقليدية وحديثة من خلال وزارة الشؤون الدينية والأوقاف ووزارات أخرى أيضا كالتربية والتعليم العالي، سواء تعلّق الأمر بتسيير المساجد والمدارس القرآنية وبعض الزوايا أو بالإشراف على معاهد تكوين الأئمة أو المعاهد الدينية ومعاهد التعليم الأصلي في فترات سابقة، وكذا الجامعات الإسلامية وكليات العلوم الشرعية.ونستطيع أن نطلق على هذه الممارسة الرسمية أيضا بدولنة الديني أو "إدارة العبادة" ((Salhi, 2000, p. 47 ; Ben achour, 1979, p. 68.

وقد برّر هذا النزوع الإداري في تسيير المجال الديني خطاب رسمي ساد غداة الاستقلال اعتمد سردية "الخطاب السياسي الوطني" المضاد للخطاب الكولونيالي، حيث طُرحت ضرورة "تحرير" الخطاب الديني من شوائب الاستعمار، ونشر "خطاب ديني جديد وقيم دينية جديدة ومؤسسات دينية جديدة" (Luc-Willy Deheuvels, 1991)، وتتواصل هذه السردية اليوم من خلال الشعار الذي ترفعه وزارة الشؤون الدينية والأوقاف والمجلس الإسلامي الأعلى ونجده سائدا في تصريحات بعض الأئمة وهو "الدفاع عن المرجعية الدينية الوطنية" في مقابل "إسلام أجنبي" يأتي من "الخارج". ويبدو، كما سنبيّن لاحقا، أنّ تسيير المساجد ومعاهد التكوين الديني في منطقة غرداية جنوبا لا يخضع لهذا النمط باعتبار طبيعة التسيير الجماعاتي المحلي للمجال الديني، بما يجعله شكلا مختلفا عن مسار البيروقراطية الدينية.

وتضاف إلى رهانات الخطاب الرسمي أبعاد أخرى تتعلّق بفاعلي المجال الديني، فرغم وجود مذهب ديني فقهي شبه رسمي[18] واحد سائد في الجزائر اليوم هو المذهب المالكي، مع تواجد للمذهب الإباضي في منطقة غرداية، إلاّ أنّ الأئمة يشكّلون واقعا متعددّا بناء على مرجعياتهم الفكرية والسياسية وتكوينهم الديني، وحسب أدوارهم ومكانتهم داخل مساجدهم وأحيائهم ومدنهم. ولذلك تمثّلا لسلطة الدينية "الفعلية" داخل المساجد رهانا بالنسبة لعدد من الفاعلين الاجتماعيين، أهمهم السلطة الرسمية أي وزارة الشؤون الدينية من خلال فاعليها الإداريين محليا ومركزيا، إضافة إلى الحركات الدينية الإحيائية مثل الوهابية أو "السلفية العلمية"، وجماعات "التبليغ" أو الحركات والأحزاب السياسية ذات المرجعية الدينية ((Rouadjia, 1990.

1.2. "الوظفنة"[19] نموذج للبيروقراطية الدينية: من الإمام -الشيخ إلى الإمام- الموظّف

شكّل القانون الأساسي الخاص بالموظفين المنتمين لوزارة الشؤون الدينية والأوقاف الذي تضمّنه المرسوم التنفيذي الصادر في 24 ديسمبر 2008 تغييرا جليّا في الوضع الاعتباري للإمام و طبيعة المهمة التي يقوم بها، حيث تحوّلت الإمامة في المساجد إلى وظيفة تحكمها قواعد وقوانين الوظيفة العمومية على مستوى شروط الالتحاق، والمهام المنوطة بكل صنف من أصناف الأئمة وكذا الحقوق والواجبات.صحيح أنّ الإمام كان دائما "أجيرا" لكنه لم يكن من الناحية الإدارية ضمن قطاع الوظيفة العمومية إلاّ بعد صدور مرسوم 2008. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا التحوّل في مكانة الإمام داخل "مؤسسة المسجد" هو استمرار لسلسلة المراسيم التي توالت خلال عشر سنوات، كما أسلفنا الذكر، حول "تنظيم قطاع الشؤون الدينية" على مستوى بناء وتسيير المساجد والمدارس القرآنية والزوايا وأماكن العبادة للشعائر غير الإسلامية.

يحدّد المرسوم صلاحيات ومهام وأدوار مصالح ومديريات الشؤون الدينية على المستوى المركزي و المحلي وصولا إلى تحديد صلاحيات ومهام الفاعلين في مختلف مصالح الشؤون الدينية من أئمة، ومفتشين، ووكلاء أوقاف، ومرشدات دينيات، ومعلمي القرآن وقيّمي وأعوان المساجد، كما يتضمن المرسوم خطابا رسميا حول دور المؤسسة المسجدية ومهام الإمام والتركيز المسبق على حدود سلطته وخضوعها إلى تراتبية سلّمية بناء على معايير إدارية. وتماهيا مع النموذج البيروقراطي في المؤسّسات التربوية، لا يعدّ الإمام- الموظّف المسؤول الوحيد عن مضامين الخطاب الديني داخل المساجد بل هو محكوم بتراتبية داخل رتبته الإدارية وخارجها من أئمة أساتذة وأساتذة رئيسيين ومفتّشين ورؤساء مصالح محلييّن ومركزييّن.

الأئمة الموظّفون، حسب المرسوم، ليسوا في درجة واحدة من ناحية المهام والمسؤوليات بل هم أربع مراتب من الأدنى إلى الأعلى : رتبة الإمام المعلّم، والإمام المدرّس، والإمام الأستاذ والإمام الأستاذ الرئيسي. ولا يشترط في صنفي الإمام المعلم للقرآن أو الإمام المدرّس المستوى العلمي العالي بل يكفي أن يكونا من حفظة القرآن على أن يكونا من خريجي مدرسة تكوين الأئمة، في حين يشترط في صنف الإمام الأستاذ الذي يعتلي المنبر حيازة شهادة الليسانس في العلوم الإسلامية من كلية العلوم الشرعية في الجامعة مضافا إليها حفظ القرآن، ويشترط في الإمام الأستاذ الرئيسي مستوى الماستر أو الماجستير أو الدكتوراه في العلوم الإسلامية أو خبرة عشر سنوات بوصفه إماما أستاذا. وانطلاقا من هذا التصنيف لا يكلّف، إداريا، بإصدار الفتاوى إلاّ من لهم رتبة الأئمة الأساتذة أو الأئمة الأساتذة الرئيسيين.

يضع المرسوم أيضا شروطا إدارية للالتحاق بوظيفة الإمامة والتثبيت فيها والترقية في مراتبها، ويخضع الإمام الموظف لتربّص تجريبي يتابع فيه تكوينا تحضيريا أثناء الخدمة مدته سنة واحدة قبل ترسيمه في منصبه من طرف لجنة يرأسها مفتّش المقاطعة الإدارية للمسجد، وقد يُجدَّد التربص لمرة واحدة فقط إذا ما تمّ التقييم السلبي لأدائه ويمكن أن يسرّح الإمام من وظيفته دون تعويض إذا ما استمرّ ذلك التقييم، و يمكن أن يصل تقييم الإمام المتربّص إلى مستوى مضامين خطب الجمعة وطريقة إلقائها، حيث تمّت الإشارة صراحة في مهام الإمام إلى ضرورة "الحفاظ على الوحدة الدينية للجماعة وتماسكها"[20]. وقد أشار الأئمة في دراسة ميدانية سابقة بمدينة وهران (جيلالي المستاري، 2012، 155-175) أنّ المعنى الذي فهموه من هذه المادة من خلال الندوات التكوينية المختلفة هو "ضرورة الحفاظ على المرجعية الدينية الوطنية"، وقد اختلفت تأويلاتهم لمدلول هذه المرجعية: فمنهم من يتحدث عن مهمة "الدفاع عن المذهب المالكي أمام مختلف المرجعيات المذهبية القادمة من المشرق عن طريق الفضائيات"، ومنهم من تحدّث عن "إبراز القيادة الدينية لوزارة الشؤون الدينية" في مقابل هيئات وجماعات دينية أخرى تريد الاستحواذ على مركزية القرار الديني في المساجد داخل الجزائر مثل جمعية العلماء المسلمين أو الجماعات السلفية أو حركات الإسلام السياسي المختلفة.

تبدي مضامين بعض المقابلات مع الأئمة أنّ رهان مرسوم 2008 هو تقليص سلطة الإمام والتحكّم في مضامين خطابه الديني، وتحويل مركز "القرار الديني" من الإمام إلى الإدارة التي توظّفه، فمصدر السلطة الدينية انطلاقا من هذه الخطابات هو مديرية الشؤون الدينية التي تسّير "قانونيا وإداريا" المجال الديني، فهي التي تؤطّر هذا المجال على مستوى التوظيف والتكوين والتوجيه والفتوى، ناهيك عن اضطلاعها بمهمة التسيير المالي والجوانب المتعلّقة بالأوقاف.

لقد كرّست وظفنة الإمام، وما نتج عنها من تقسيم جديد للمهام داخل المسجد وتصنيفات وتراتبية سلّمية اتخذت من الإدارة التربوية الحديثة نموذجا للاقتداء، ممارسة إضافية تؤكّد التغيّر العميق الذي اعترى الوضع الاعتباري للإمام، حيث انتقلنا من "شيخ الجامع" الذي يستند إلى بُعد المشيخة والوجاهة في شكلها التقليدي إلى الإمام الموظّف بمدلوله الحديث حيث الشهادة الإدارية والدبلوم هما المحدّدان في انتقائه وترقيته في مساره المهني، وهو ما يعكس التغيّر في البرنامج المتجانس للتنشئة الدينية التقليدية القائم على المكانةالرمزية، والطاعة التقليدية، واحتكار المعرفة، والاعتماد في المعاش على الأوقاف المستقلة نسبيا عن الإدارة المحلية أو المركزية.

2.2. الدفاع عن خطاب "المرجعية الدينية الوطنية" هدف للبيروقراطية الدينية

كان الخطاب الرسمي حول "المرجعية الدينية الوطنية" مرافقا دائما لسيرورة البيروقراطية الدينية، خاصّة في لحظات الأزمات التي عرفتها علاقة الدولة بالمجتمع في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، وإن اتخذ أشكالا ومضامين مختلفة. وتصاعدت هذه السردية في التصريحات الرسمية والمحطّات الإعلامية تزامنا مع صدور المراسيم والتعليمات التنفيذية، التي أشرنا إليها سلفا، حول تنظيم قطاع الشؤون الدينية وخاصة ما تعلّق منها بشروط الوظفنة ومقرّرات وبرامج تكوين الأئمة، إضافة إلى ردود الفعل الرسمية على ممارسات بعض الأئمة اتجاه الرموز الوطنية مثل عدم الوقوف للنشيد الوطني في بعض الندوات التكوينية[21]. ويبدو أنّ رهان الخطاب الرسمي، من خلال تصريحات بعض الأئمة والمسؤولين المحلّيين والمركزيين، هو تحويل المجال الديني إلى شأن إداري وسياسي وثقافي، والعمل على الانتقال بهذا المجال ليكون عنصرا يساهم في "بناء" أو"تبرير" "الخطاب حول المشروع الوطني اليوم" و" تأمين أو حماية" هذا المشروع من "اختراقات متوقّعةللجماعة الوطنية "،مصدرها جماعات دينية أو أحزاب سياسية أو سرديات تتضمنها بعض منصّات التواصل الاجتماعي قد تكون سببا في "تهديد الوحدة الوطنية".

ونلاحظ تداول عبارة "الأمن الديني" في تصريحات بعض الأئمة، حيث يبدو أنّ الهدف في نظرهم هو "تشكيل جبهة من الأئمة يمكنها الوقوف أمام التيار الجارف للسلفيةالوهابية في المساجد ضمانا للوحدة والانسجام المجتمعي والاندماج الوطني"، والضغط على الوزارة الوصية لتجعل من "المرجعية الدينية الوطنية" المرجعية"الشرعية" الوحيدة في المجتمع، لاسيما من خلال استحداث مؤسّسة لإصدار الفتوى تكون حلاّ لما أطلقوا عليه "بفوضى الإفتاء" في المساجد والمنابر الإعلامية والوسائط الرقمية. وذكر آخرون أهمية "تشريع قانون للتوجيه الديني ينص صراحة على اعتماد المرجعية الدينية الوطنية، والمتمثلة في نظرهم في العقيدة الأشعرية والفقه المالكي وقراءة ورش، في النصوص القانونية". وجاء في تصريح أحد الأئمة: "كان المجتمع الجزائري بخير عندما لم نكن نختلف حول مرجعيتنا الدينية ولكن الأمر اختلف الآن مع الأسف وأصبح المجتمع مهدّدا في كيانه وأمنه".

ويجدر التذكير، أنّه لم ينشر نصّ قانوني يذكر هذه "المرجعية الدينية الوطنية" فضلا عن تحديدها. ونجد الخطاب نفسه عند أحد وزراء الشؤون الدينية والأوقاف الذي أكّد "بأنّه يتعيّن على الإمام أن يحافظ على المرجعية الدينية الوطنية من خلال اعتماده على النصوص والاجتهادات التي تركها لنا شيوخ الجزائر والمغرب العربي خلال القرون الماضية على غرار أبي العباس الونشريسي، وقد ساهمت هذه المرجعية في توحيد الشعب الجزائري ونبذه للفتاوى التضليلية وتجنيب البلاد الوقوع في الفتن، وأنّ المسجد بمرجعيته الدينية الوطنية كفيل بصدّ الأفكار الهدّامة والمتشدّدة التي بدأت تتوغل في المجتمع الجزائري وجاءتنا من وراء البحار"[22]. وقد اعتبر، في هذا السياق، أنّ "المرجعية الدينية الوطنية" لا تنحصر في المذهب المالكي فقط بل هي "الروح والرباط الذي تمثّله الزاوية والمدرسة القرآنية"[23].

ونشير هنا إلى أنّ الخطاب حول "المرجعية الدينية الوطنية" ليس واحدا، بل نجده غامضا ومتعدّدا، عند فاعلي المجال الديني في الجزائر سواء كانوا أئمة أو ممثّلين رسميين للوزارة أو ممثّلي الزوايا أو فاعلي الجماعات والحركات الدينية والسياسية. فقد يعني أحيانا تلك الثلاثية الممثّلة في بعض الخطابات الرسمية في الدول المغاربية، أي عقيدة الأشعري ومذهب مالك وتصوّف الجنيد السالك، وتعني في خطابات الأئمة المنتسبين لمذهب الإصلاح الديني ممثّلا في جمعية العلماء المسلمين ذلك الجمع بين الإحياء الديني والنضال الوطني[24]، كما نجد خطابا عند بعض الأئمة حول هذه المرجعية يجمع بين المالكية والإباضية، ونجد في خطابات بعض دعاة الاتجاه السلفي من يضع صلة بين السلفية الوهّابية والإصلاح الديني الذي دعا إليه مؤسس جمعية العلماء المسلمين في الثلاثينات من القرن الماضي الشيخ عبد الحميد بن باديس[25].

وفي غياب مؤسّسة رسمية للإفتاء في الجزائر، كما هو حال مؤسسة "مفتي الجمهورية" أو "هيئة كبار العلماء" في بعض الدول العربية والإسلامية، يبقى خطاب "المرجعية الدينية الوطنية" موضوعا لتعدّد التأويل ومجالا لعلاقات قوى تتجاذبها خطابات الفاعلين، يستقي كلّ منهم تأويله من مرجعيات ومدارس ومذاهب فقهية مختلفة ويستخدمها للتأثير في المجال الديني. وقد اتخذت بعض المؤسسات الرسمية مبادرات تمهّد المجال لتوحيد مرجعية الفتوى، حيث أصدر المجلس الإسلامي الأعلى، بوصفه مؤسسة استشارية رسمية، بعض الفتاوى في شكل بيانات منذ فترة التسعينات وسنوات الألفين حول موضوعات خلافية مثل زراعة الأعضاء أو مشروعية القرض البنكي أو تحريم "الحرقة" أو الهجرة غير النظامية وغيرها[26]، واتجهت وزارة الشؤون الدينية والأوقاف أيضا إلى استحداث لجنة وطنية للفتوى تمهيدا لإنشاء مؤسّسة رسمية للفتوى، حيث تداولت الصحف في السنوات العشر الماضية تصريحا ترسمية حول استحداث "مجلس وطني للفتوى" ليكون بديلا عن منصب "مفتي الجمهورية" أو "دار الإفتاء"، كما تمّ التداول حول استحداث منصب "مفتي" لكل ولاية، كمرحلة أولى، في انتظار "اعتماد هيئة وطنية رسمية للإفتاء". ولاحظنا في الفترة الأولى من جائحة كورونا حضورا مكثّفا للجنة الوطنية للفتوى التابعة لوزارة الشؤون الدينية، والتي أصدرت فتاوى في شكل بيانات متتالية كانت أهمها فتوى غلق المساجد في شهر مارس من سنة 2020.

3.2. الإباضية، مؤسّسة جماعاتية خارج البيروقراطية الدينية

عندما نتحدث عن الوضع القانوني والإداري للإمام في المساجد الإباضية بمنطقة غرداية فنحن أمام مساجد لا تخضع مباشرة لمديرية الشؤون الدينية على المستوى المحلي بل إلى هيئات عرفية تتمثل في العزّابة على مستوى القصر الإباضي ومجلس عمي سعيد بوصفها هيئة دينية عليا تمثّل حلقات العزّابة في القصور السبعة بوادي ميزاب، ولها تنسيق مع وزارة الشؤون الدينية والأوقاف من خلال مكتب ناظر الأوقاف الإباضية لدى الإدارة المركزية والمحلّية.  ويضاف إلى ذلك أنّ الإمام الإباضي "ليس إماما راتبا"[27]، بحكم أنّ هذا المذهب الفقهي لا يقرّ بـ"الإمامة المأجورة"، فمن شروط الإمام دينيا حسب هذا المذهب أن يكون له عمل آخر، وتكليفه بإمامة الناس في المسجد تطوّع وليس وظيفة. يُبرز هذا المعطى الجماعاتي المحلي شكلا مغايرا من السلطة الدينية ومسارا آخر يقابل السيرورة الإدارية المعروفة في المساجد المسمّاة "مالكية" بالمنطقة، وعند تتبّع مسارات تكوين الأئمة في المنطقة نجدها مختلفة بين المساجد المالكية والإباضية، فإذا كان الإمام في المساجد المالكية هو إمّا خريج الجامعات والكليات الإسلامية أو مدارس تكوين إطارات الشؤون الدينية، فإنّ الإمام في المساجد الإباضية غالبا ما يتخرّج من المدارس أو المعاهد الدينية "الحرّة" الإباضية التي يشرف عليها مجلس عمي سعيد ويموّلها صندوق الوقف الإباضي (Oussedik, 2007، ناصر بلحاج بن باحمد، 2018(. وإذا كان التكوين على المذهب، سواء كان مالكيا أو إباضيا، شرط لاعتلاء مرتبة خطيب الجمعة والإمامة بشكل عام، فإنّ المدارس التي يتخرّج منها أئمة المساجد الإباضية لا تعتمد "التوظيف" وشروطه الإدارية التي يعتمدها مرسوم 2008، بل يعيّن الإمام من طرف حلقة العزابة ووفق شروط مذهبية تحدّدها هذه الحلقة دون غيرها. فإضافة إلى شرط التكوين الديني على أساس المذهب الإباضي، أي أن يكون سلفا ضمن حلقة "الإروان"، تضع العزابة شروطا اجتماعية وقواعد اختبار وتجريب مرحلية في تعيين الإمام، كأن يكون المرشح للإمامة، كما جاء في تصريح أحد الأئمة، من بين البارزين في تنشيط "الحلقات اليومية ودروس الأعراس والمناسبات العامة"، إضافة إلى الاهتمام بشؤون الجماعة الإباضية والمشاركة الفعّالة في الأعمال الدعوية والخيرية. ويُختبر الإمام من خلال ممارساته وخطاباته في مدى قابليته وقدرته على "الدفاع عن المرجعية الإباضية" و"وحدة صف الجماعة المحليّة".

إنّ السلطة الدينية للإمام في المساجد الإباضية محدودة أيضا، ذلك أنّ السلطة الفعلية في تسيير الأوقاف وفي جوانب الفتوى والتوجيه والتأطير والضبط الاجتماعي في القصر تقع على عاتق حلقة العزّابة (خواجة عبد العزيز، 2017)، وما الإمام من خلال خطابه المنبري يوم الجمعة أو دروسه في أيام الأسبوع الأخرى إلاّ امتداد لها، ولا يجب أن تخرج فتاواه عما يطلق عليه "ثوابت المرجعية الإباضية". إذا كانت محدودية السلطة للأئمة المالكية في المنطقة تعود إلى ارتباطهم بالقرار الإداري وسلّميته وهيئاته الرقابية المختلفة، فإنّ السلطة والوصاية في الحالة الإباضية ذات طابع معنوي لا علاقة له بالجوانب الإدارية والمالية. تكشف مضامين مقابلة أجريت مع مسؤول إداري محلّي بالمنطقة أنّ الرهان الرئيس للبيروقراطية الدينية هو كيفية ترسيخ خطاب "المرجعية الدينية الوطنية" في واقع مذهبي متعدّد، وقد ظهر ذلك جليّا تكرار هذه العبارة في ثنايا خطابه، فرغم أنّه يمجّد الاعتراف بالتعدّد المذهبي القائم إلا أنّه عبّر عن حدّة الأزمة في تناول الهويّة الدينية محلّيا، وتحدّث عن أهمية "توحيد الخطاب الديني" في المنطقة، ومدخل ذلك، حسب وجهة نظره، ليس دينيا بل من خلال التركيز على "الخطاب الوطني" في الخطب المنبرية الإباضية، بالتنسيق مع حلقات العزّابة وناظر الأوقاف الإباضية، حتى يتماشى الخطاب الديني مع الخطاب الوطني ويتحوّل المسجد إلى "مؤسّسة اجتماعية في خدمة المجتمع تديرها الدولة". 

وأمام الاختلافات في المسارات والخطابات والممارسات، أشار شركاء البحث من الأئمة في غرداية، سواء تعلّق الأمر بأئمة المساجد الإباضية أو أئمة المساجد المالكية، إلى أن هناك محدودية جليّة لتأثيرهم وسلطتهم على الأجيال الجديدة بالخصوص، وأنّ هناك أزمة في الخطاب الديني المنبري في اللحظة الراهنة. يختلف الأئمة في تشخيصهم لطبيعة هذه الأزمة ومصادرها وأسبابها، وإن ربطها جلّهم بمشكل التواصل مع الشباب الذي يرتاد المساجد. يُرجع بعض الأئمة المالكية المسألة إلى المستوى الضعيف لتكوين الإمام الذي لا يتلاءم حاليا مع المتطلبات الجديدة الشباب، والذي أصبح أكثر تطلعا إلى مواصفات "مميزّة" للإمام من حسن الإلقاء إلى حسن القراءة وحسن المظهر ناهيك عن الكفاءة العلمية والقدوة الأخلاقية، كما يشير آخرون إلى أنّ بعض الأئمة اليوم لا يمكنهم أن يتجاوبوا مع المستجدات والتحدّيات التي تواجه الجماعة الدينية و"تهدد وحدتها ونواة اعتقادها"، تلك التحديات القادمة، في نظرهم، عبر الفضائيات ومنصّات التواصل الاجتماعي (زايد، أحمد ،2017؛ الغذامي عبد الله محمد، 2011).

وأما أئمة المساجد الإباضية بغرداية، فيرتبط تشخيصهم لهذه الأزمة بمسألتين: الأولى، مشكل العدد غير الكافي للأئمة ذوي المستوى العالي الذي يؤهّلهم لأداء دور الدعاية للمرجعية الإباضية والتحكّم الجيد في توجيه الأجيال الجديدة. ولعلّ ذلك ما دفع مجلس باعبد الرحمان الكرثي ومجلس عمي سعيد إلى استحداث نظام "دروس FM"، أي الإذاعة المحلية، التي تصل إلى بيوت القصور السبعة بولاية غرداية لتجاوز مشكل نقص عدد الخطباء المؤهّلين وتدعيم "مركزة التأطير الديني" للجماعة الإباضية. وأمّا الثانية فيرجعها الأئمة الإباضية إلى التأثير السلبي "للجماعات الدينية المنافسة" على أفكار وسلوكات وانضباط الشباب الإباضي، وقد جاء ذلك على لسان أحد الأئمة حيث أشار إلى انتشار الأفكار الدينية والمذهبية والسياسية التي تُنتج خارج الجماعة الإباضية ويعتنقها أو يتداولها بعض الشباب فتؤثّر في مستوى انضباطهم وعلاقتهم بأسرهم وعشائرهم ومرجعيتهم الجماعاتية والدينية، وجاء في حديث لإمام ثان عن التأثير السلبي لـ "جماعة التبليغ" على "وحدة الصف الإباضي" اليوم.

يمكن القول، أنّ غرداية حالة ذات دلالة خاصّة تمكّننا من فهم سيرورة البيروقراطية الدينية وحدودها في الجزائر انطلاقا من المقارنة بين نموذجين من تسيير السلطة الدينية، نموذج يقوم على "التسيير الإداري" ونموذج مختلف يقوم على "التسيير الجماعاتي".ولا يكتمل البحث في هذه المسارات المختلفة في المنطقة إن لم نُسائل، وبشكل كيفي أعمق، مواقف الأئمة الإباضية اليوم، والأجيال الجديدة منهم، على الخصوص من النموذجين السائدين في تسيير المجال الديني، خاصة إذا ما عدنا إلى متغيّر المسألة الجيلية وتأثيرها في أشكال السلط والاحتجاج عليها في المنطقة اليوم. ويُضاف إلى كل ذلك تلك العلاقة المعقّدة في بناء السلطة الدينية للإمام الإباضي بين المحلي والوطني والدولي باعتبار الصلات التي تربط الإباضية في غرداية بالمرجعيات الدينية الإباضية في دول أخرى، بما يجعل التساؤل حول "العقد الوطني" أمام معطى "جماعة" ذات "امتداد ديني دولي" تساؤلا مشروعا ومبرّرا، وهو ما يضاف إلى بعدا آخر  يضاف في تفسير علاقة الأجيال الجديدة من الشباب بخطابات المرجعيات الدينية بما في ذلك المرجعية الإباضية المحلية.

  1. 3. الفتوى وأفول البرنامج المؤسساتي التقليدي للمجال الديني

لا تعبّر الخريطة غير المتجانسة لجمهور الشباب في علاقته بالفتوى ومحدودية ثقته في خطاب "المرجعية الدينية الوطنية" مقابل تنامي نسب اللامبالاة واللاثقة أو خيارات الثقة في المرجعيات الدينية المصنّفة "أجنبية أو دخيلة"، عن أزمة ظرفية بين الجمهور والمؤسسات المشرفة على تأطير المجال الديني أو ما أطلقنا عليه البيروقراطية الدينية، بل تشير الدراسات الميدانية والنقاشات السابقة حول تطوّر الوضع الديني، خصوصا في فترة التسعينات من القرن الماضي إلى جملة التحوّلات طويلة المدى للمجال الديني في الجزائر، والتي أدّت إلى أفول البرنامج التقليدي لهذا المجال وتراجع تأثير فاعليه في ظل تشكّل برنامج مؤسّساتي مغاير متعدّد المحتوى له فاعلوه وخطاباته ويسعى إلى استقطاب جمهور له، وهذا الوضع يجعل البيروقراطية المؤطّرة لخطاب "المرجعية الدينية الوطنية" في مجال الفتوى أمام تحدي التأثير على جمهور غير متجانس في مجال ديني متغيّر ومتعدّد الفاعلين.

قد يبدو غريبا الحديث عن أفول البرنامج المؤسساتي التقليدي للمجال الديني بوصفه عاملا لفهم لا مبالاة أو تراجع ثقة الشباب في خطابات المرجعيات الدينية بما في ذلك خطاب "المرجعية الدينية الوطنية" في الوقت الذي تتزايد فيه أعداد المساجد بشكل معتبر[28]، فالمسجد يمثّل صرحا عمرانيا ضروريا في الجزائر وفي البلدان المغاربية باعتباره أحدّ معالم تعيين حدود الحي و"الحومة" أو القرية، كما يعبّر عن ذلك جاك بارك في حديثه عن صدى الآذان (Kerrou, 2005, p 107-110)، والمسجد" مطلب اجتماعي وديني لممارسة عبادة الصلاة وإشهار الإسلام" (Moussaoui A., 2009).

قد يزداد الحديث عن أفول البرنامج المؤسساتي التقليدي للمسجد غرابة خصوصا عندما نتابع تطوّر السياسات العمومية الموكلة لها تسيير المجال الديني وفاعليه في الجزائر، فالمنظومة القانونية الرسمية تؤطر "مؤسسة المسجد" و"الأوقاف" وتؤطر غالبية مستخدميه ضمن الوظيفة العمومية، وتضمن الاستفادة من منظومة الحماية الاجتماعية والحق في التقاعد للأئمة بعد نهاية المسار المهني نتيجة التواجد ضمن ظرف الشغل النمطي العمومي، وكلّ ذلك يؤكّد اهتمام السياسي الرسمي بهذه المؤسّسة خصوصا بعد التجربة الأليمة التي عرفتها الجزائر في تسعينات القرن الماضي. وقد يبدو الحديث عن "الأفــــــــــــول" غريبا أيضا في الوقت التي يشهد فيه قطاع الشؤون الدينية ميلاد نقابات مهنية (فريد مركاش، 2018) تتخذ من المطالب المهنية والاجتماعية والرمزية للأئمة والأسلاك المشتركة ومن متطلّبات المسجد أجندة لحركاتها الاحتجاجية الناشئة، يضع هذا الواقع المسجد وفاعليه في قلب المسألة الاجتماعية
(Castel, 2009, p. 39-53) ممّا يجعــــــــــل فكرة "أفول البـــرنامج المؤسساتي التقليدي" ضربا من المفارقة. قد تتدعّم فكرة غرابة الحديث عن هذا الأفول عندما نقف عند المكانة المحورية التي يتمتع بها "إمام المسجد المجاور" عند الشباب، حسب معطيات الدراسة الكمّية، فهذا الفاعل الديني يأتي على رأس قائمة من يلجأ إليهم مجتمع البحث بوصفه الاختيار الأوّل في طلب الفتوى على الرغم من قلّة ثقته فيه.

يعتبر فرنسوا دوبي البرنامج المؤسساتي ذي "الطبيعة الدينية" نمطا من التنشئة الاجتماعية، وشكلا خاصا من أشكال التأثير على الآخرين ...ضمن سيرورة اجتماعية تحوّل القيّم والمبادئ والمُثل إلى أفعال وذاتيات عن طريق عمل مهني منظم...يتجلّى وكأنّه منفصل على العالم الخارجي...مؤسّس على قيم ومبادئ دينية ولادينية لا تزال تحافظ على قداستها، وتتموضع دائما بعيدا عن بداهة التقليد والمبادئ المتحكّمة في المنفعة الاجتماعية"(Dubet, 2002, p. 21-40). 

يتحدّد البرنامج المؤسّساتي ذو البنية المستقرة والمستقلّة عن محيطها الثقافي، إجرائيا، وفق أربعة عناصر مشكّلة لأيديولوجيا منقولة ومتواترة: أوّلا، هو برنامج لتنشئة ذات طبيعة مدرسية في عملية التكوين ويعتمد على قيم ومبادئ متجانسة "خارج العالم الاجتماعي"، مقدّسة وغير قابلة للتبرير، وتضمن شرعية محتوياتها (Dubet, 2006, p. 10). ثانيا، بما أنّ هذه المبادئ غير قابلة للتبرير فإنّ عمليات التنشئة ونقل المعارف الدينية يقوم بها فاعلون وفق نزعة يعتبرون من خلالها مهامهم وأدوارهم تعبيرا عن رسالة vocation ويشعرون بأنّهم مهيّؤون مسبقا لتمريرها وتبريرها وليسوا مجرد فاعلين ذوي أداور مهنية أو وظيفية. ثالثا، هو برنامج يمنح فاعليه سلطة ومكانة اعتبارية لا تُبرَّر بدرجة ثقافتهم الدينية الخاصة أو بعائد مالي وإنّما تبرّر بمدى التماهي مع المبادئ المتجانسة المتواترة لهذا البرنامج، فاحترام الإمام مثلا ليس مرتبطا بشخصه أو كفاءته وإنمّا لكونه يمثّل مبادئ دينية مثلى متّفق عليها مسبقا. رابعا، عندما تصبح المؤسسات خاضعة لمبادئ "خارج العالم الاجتماعي" وفاعلوها لا يخضعون سوى لبرنامجها المؤسّساتي الديني، فإنّ ذلك يضمن ويؤسّس لقواعد الانضباط والطاعة والخضوع ومراقبة الذات، ذلك أنّ الفاعل ضمن هذا البرنامج يتعامل مع روّاد المسجد بوصفهم "مؤمنين" دون اعتبار لأوضاعهم الاجتماعية وملامحهم السوسيولوجية، وهذا ما يوفّر الضمانات الأخلاقية والمشروعية الاجتماعية لممارسة الأدوار الدينية. تبدو سلطة الفاعلين ضمن هذا البرنامج غير قابلة للاحتجاج أو النقاش أو النقد لأنّها مرتبطة بسلطة المؤسّسة وبرنامجها الضارب في التاريخ، كما أنّ هذا البرنامج يضمن قدرا من الاستقلالية عن العالم الاجتماعي الخارجي ولا يرتبط بمشاكل محيطه، وإذا ما وجّه نقد للأوضاع الاجتماعية فهو نقد موجّه لمجتمع العالم الخارجي وليس للمؤسّسة وبرنامجها وفاعليها.

يرتبط أفول البرنامج المؤسساتي التقليدي للمجال الديني، باعتباره مجموعة من "التحوّلات طويلة المدى وليست مجرّد أزمة" (Dubet, 2002, p. 15)، وذلك بالانتقال من حالة تجانس المبادئ المشكّلة لمنظومة التنشئة الدينية إلى حالة اللاتجانس في  تنشئة الفاعل الديني ومحتويات خطاباته، خصوصا مع تجلّي محدودية احتكار المعرفة الدينية التي تصبح مثلها مثل باقي المعارف الأخرى مرتبطة بحوامل ثقافية متنوّعة، فلم يعد الإمام المحتكرَ الوحيدَ لتلك المعرفة الدينية، وبالتالي تصبح فتاويه في سياق اللاتجانس خيارا من بين خيارات متعدّدة متاحة أمام جمهور الشباب الطالب للفتوى. يتواصل هذا الأفول من خلال هيمنة التنظيم الإداري ذي النزعة البيروقراطية الذي يحوّل شرعية الإجازة وآليات الطاعة التقليدية ضمنها، أي شرعية المشيخة ووجاهة كبار المفتين والعلماء، إلى شرعية مرتبطة "بالكفاءة المهنية" التي تمثّلها الشهادة وتسيّرها السياسة العمومية (الأجر، السكن الوظيفي، المسار المهني، الترقية، نظام العقوبات، اللجان متساوية الأعضاء، النقابة وغيرها ). ما نعنيه بالأفول هنا، هو لحظة رمزية تعبّر عن تراجع البرنامج التقليدي وفاعليه بما في ذلك خريطة الممــــارسات المحدّدة للأفعال التي ترتبط بقواعد الطاعة والالتزام والخضوع والاحترام والتقدير، وما التنظيم البيروقراطي ومظاهره المشار إليها سلفا إلاّ أثر لتلك التغيّرات التي شهدها المجال الديني في الجزائر منذ بدايات القرن العشرين، وهو ما سبقت الإشارة إليه في أعمال محمد ابراهيم صالحي (, 20001994Salhi) وفاني كــــــولــــونا (Colonna, 1995) .

وتعدّ تصريحات الشباب حول تغيّر المكانة الاعتبارية للإمام وخطاباتهم حول الإمام ذي الأجر الشهري أو صاحب الحساب البريدي الجاري أو "العالِم مول الماندة"
(محمد العيادي، 2014، ص. 184) إحدى مؤشرات أفول ذلك البرنامج المؤسّساتي التقليدي على المستوى الرمزي. يصرّح أحد الشباب وعضو جمعية دينية قائلا: "مكانة الإمام، وحرمته وفتواه، وأدواره الاجتماعية كانت أفضل سابقا مما هي عليه الآن"، كما يعقد عدد من الشباب في مقابلاتنا معهم مقارنة نوعية بين صورة مخيالية للإمام-الشيخ والإمام-المحتجّ داخل المساجد. ولا تبدو خطابات الأئمّة حاليا متجانسة وخاضعة لبرنامج مؤسساتي واحد لأنّ تكوينهم الديني غير المتجانس[29]، كما أن تطلّعات الشباب حول نوعية خطابات الأئمة وفتاواهم ومستويات قراءتهم للاجتماعي والثقافي والسياسي تجعلهم دون مستوى الانتظارات مقارنة مع الصورة المخيالية حول أدوارهم، كما يمثّل الإمام-الأجير أو الموظّف مقارنة مع الإمام- الشيخ لحظة تناقض جليّ بين برنامجين مختلفين نظرا لاختلاف آليات إضفاء الشرعية والطاعة والمراقبة والمكانة الاعتبارية.

ففي مقابلة مع أحد الأئمة المتقاعدين،الذين عرفوا مسارا طويلا من التكوين التقليدي على مستوى الزوايا والمدارس القرآنية وكذا التكوين في معاهد التعليم الأصلي ومدارس تكوين الأئمة، كما شهد التغيّرات التي مرّ بها تنظيم المجال الديني في الجزائر بعد الاستقلال، يقدّم سردية تحيل إلى لاتجانس بين برنامجين مؤسّساتيين مختلفين للمسجد وفاعليه، وأولى الملاحظات التي تستنتج سرديته هو ذلك الفارق الذي يميّز به وضعه ومكانته، حيث يقدّم نفسه باعتباره إماما ذو "نسب شريف" و"شجرة عائلية دينية معروفة في منطقة وهران" ضمن سياق تبريري يحيل إلى التميّز عن ما هو شائع من الأئمة الموظّفين حاليا في مساجد وهران، كما يشير إلى عديد الفوارق التي تطبع منظومة تنشئته الدينية ونمط الاعتراف بها، حيث يصرّح قائلا:

"الإمام ماهيش دراسة، لأنّ الدراسة القديمة تعتمد على مبادئ. تعتمد أولا على تدريس المادة كاملة، .يحفظ الطالب الأجرومية حفظا ...، ثم ينتقل من الأجرومية إلى كتاب "قطر الندى"، وبعد ذلك الألفية ،.... ثم يدرس حاشية حمدون دراسة كاملة، وبعد ذلك حاشية ابن عقيل... كنا نقراو المتون مع القرآن، ...عندما يكمل الطالب القرآن يكون حافظا لعدّة متون، متن ابن عاشر، متن الأجرومية، متن الألفية لابن مالك،... المتن هو جمع قواعد العلم".

يشير هذا التصريح لملامح تغيّر البرنامج المؤسساتي للتنشئة الدينية، ويوضّح بعض مظاهر الانتقال إلى حالة من اللاتجانس بفعل تعدّد مؤسسات التنشئة، ويظهر ذلك جليّا في تغيّر المضامين التكوينية من دراسة المتون إلى دراسة المختصرات، كما يكشف في الوقت ذاته عن اختلاف بيّن بين "الإجازة" و"الشهادة" وشرعيتهما. ولا يتوقف هذا الإمام عند هذا الحدّ بل يعيب على التكوين الحالي مظاهر ضعفه التي تتجلى في مسائل مختلفة مثل التكوين في اللّغة وأصول الفقه وفروعه وغيرها. يصرّح الإمام نفسه قائلا:

"هناك نقصان كبير في تكوين الأئمة، أولا نقصان لغوي، وهذا يؤلمني، أنا شخصيا، لا أحبّ اللحن...، اللحن عيب كبير...  باش إمام يطلع فوق منبر ويخاطب أمة، وفيها الأساتذة وفيها العلماء، ومن كل الطبقات،..، اللحن سبب للاستهانة به، وعدم السماع له...التكوين القديم يحتاج إلى صبر وطول زمان ...لكن هذه الدراسة الأكاديمية اليوم هي دراسة تحب السرعة".

وفي مقابل هذه الصورة من تغيّر البرنامج المؤسساتي التقليدي وبروز برنامج مغاير أهمّ معالمه اللاتجانس على مستوى المضامين وتنشئة الفاعلين، يبدو النموذج الإباضيى في غرداية، إلى يومنا هذا، استثناء، إذ تختلف منظومة تنشئة الأئمة عند هذه الجماعة وتختلف معها منظومة الانتقاء لتبوّء هذا الدور الديني والجماعاتي، وتستند في ذلك على تقاليد تبدو وكأنّها لا تزال خاضعة لبرنامج مؤسّساتي تقليدي، يربط بين تسيير الجماعة وتسيير شأنها الديني، وفق شرعية غير قابلة للاحتجاج وتستند إلى اتفاقيات ملزمة جماعاتيا. يكشف أحد أعضاء حلقة العزّابة[30] عن كيفية اختيار الإمام العزّاب في القصر الإباضي قائلا:

"إذا توفرت في الإنسان بعض الشروط الخاصة يسمى عند الناس بو اثناعش (أبو 12)، نسبة إلى عدد الشيوخ في حلقة العزّابة، وحتى يتم اختيار العزّاب عليه أن يمرّ بمراحل، ويوضع كما يقال عندنا في السوق حتى تعرف قيمته عند الناس، أو كما يقال بالمزابية (آت انكلي السوق)، والأمر مختلف بين اختيار الشخص العامي الذي يساعد حلقة العزابة، حيث تتم مراقبة سلوكه في السوق مرة في الأسبوع حتى تعرف أخلاقه ومعاملاته، وأما العزّاب فمراقبته تصل إلى مدّة عام كامل، بدون أن يشعر".

يبدو المسجد وفاعلوه وسياقه الاجتماعي ضمن البرنامج المؤسّساتي التقليدي أو الجماعاتي، في حالة غرداية، وكأنّه بنية مستقرة لها منطقها الداخلي في التنشئة والتعيين والمراقبة والشرعية، يوجّه خطابه "للمؤمنين" بعيدا عن الهويّات الاجتماعية التي أنتجتها الحداثة (الشاب، البطال، الإطار، العامل، التاجر، الأستاذ...)، أو ما أطلقنا عليه سلفا بالعالم الاجتماعي الخارجي، فآليات تكوين الإمام والتراتبية القيمية التي تتحكّم فيها مشيخته، وشرعية معارفه وآليات مراجعتها، كلّها محدّدة ضمن البرنامج المؤسّساتي التقليدي، بحيث لا ينتظر من الإمام أن يكون "عالما كبيرا"، بل ينتظر منه أن يتماهى مع الصورة التي يرسمها المخيال الاجتماعي عن هذه المهام، كما أنّ قيمة الإمام والمسجد محفوظة في البرنامج المؤسّساتي التقليدي وغير قابلة للتبرير ولا للاحتجاج. ويمكن لهذا البرنامج أن ينتج إماما بشخصية كاريزماتية (أحد مؤشرات ذلك: مساجد تكنّى بأسماء شيوخها فيُقال جامع الشيخ فلان)، وهذا ما يمثّل أحد أهم أشكال الاعتراف به مجتمعيا، ومثل هذه الشخصيات لا يمكن مواجهتها بالنقد العلني لأنّها ترى في المسجد مكانا "للمؤمن" و"المذنب" وليس مكانا "للبطال" و"الحرّاق" و"المقاول"...فهي تخاطب صفتهم الدينية وتنأى بنفسها عن مخاطبة وضعياتهم الاجتماعية اللامتجانسة.

تعكس الصورة التي يكوّنها الشباب عن المسجد وإمامه وفتاويه جانبا من هذه المفارقة خصوصا، عندما تكون خطاباتهم نابعة في غالب الأحيان عن مقارنة مخيالية مع الأدوار الأسطورية للإمام، مرجعهم في ذلك البرنامج المؤسساتي التقليدي. إذا كان لجوء الشباب إلى إمام المسجد المجاور ممارسة حضرية فإنّ هذا الدور الديني والاجتماعي لا يرقى في كثير من الأحيان إلى الثقة في فتاويه والاعتراف بمعارفه، إذ أنّ التشكيك في مصادر علمه ومحدوديتها مقارنة مع ما هو متــــداول في "سوق" المعرفة الدينية المفتوحة، ذات الحوامل المتعدّدة، هو شكل من أشكال العلاقة التي تحكم هذه الفئة بالمسجد وإمامه اليوم، وأمثلة ذلك عديدة: فتوى "تحريم الحرقة" المبرّرة دينيا في خطابات عدد من الأئمة والبيانات الدينية الرسمية لا تلقى الاعتراف بها لدى الفئة التي بنت مشروع حياتها على الهجرة غير النظامية، ويظهر ازدراء الشباب لمضمونها وفق متغّير التراتبية الاجتماعية للأحياء ومساجدها وأئمتها. الشيء نفسه يمكن الوقوف عليه عندما يتعلّق الأمر بفتاوى وخطب الحثّ على المشاركة في الانتخابات بوصفها واجبا دينيا ووطنيّا، فالمعطيات الميدانية تؤكّد محدودية الدور التعبوي لهذه المؤسسات الدينية في لحظة التنافس الانتخابي (أنظر: الجدول 5 في الملحق)."الإمام ليس العالِم" هو أحد التصنيفات التي يبني عليها شركاء البحث من الشباب مواقفهم من إمام المسجد المجاور ومن فتواه، فهذه الفئة لا تبالي عموما بالتصنيفات المتعلّقة بالتراتبية المهنية التي تقرّها الوظيفة العمومية، وإذا كانت الألقاب السائدة اليوم المتمثّلة في: إمام أستاذ، وإمام مدرّس، وإمام خطيب... إحدى المظاهر التي تنظّم أشكال الاعتراف البيروقراطي "بالديني"، فإنها تسهم بطريقة غير مباشرة في تقويض الاعتراف به اجتماعيا بحيث يصبح العالِم بالفتوى[31] ليس "إمام المسجد المجاور".

تبدو مظاهر عدم تماهي شركاء البحث مع الفتوى ومرجعيتها الدينية الوطنية وأئمتها، خصوصا في السياق المجتمعي وليس الجماعاتي[32]، تأكيدا لتغيّرات طويلة المدى في الثقافة الدينية في الجزائر، بحيث تمثّل المواقف المتعدّدة للشباب من الفتوى وحامليها، باعتباره جمهورا غير متجانس، محصّلة لذلك، كما تبدو في الوقت نفسه خطابات الأئمة المستجوبين حول تراجع تأثيرهم على المأمومين المترافق مع إحساسهم بتراجع مكانتهم الاجتماعية[33] (الإمام كان "بَكْرِي" أي قديما) مؤشرا آخر على هذا التغيّر وتلك الفوارق الموجودة بين الأدوار المخيالية السابقة لأئمة المساجد والتغيّرات التي عرفها المجال الديني فيما بعد.

لقد سبق أن ناقشت بعض الدراسات الأنثروبولوجية في الجزائر إشكالية التغيّر الديني وامتداداته الاجتماعية والثقافية (إنسانيات، 2000، 2006)، ويمكن أن نعتبر أعمال محمد ابراهيم صالحي وفاني كولونا نموذجين لأطروحتين متكاملتين في فهم هذا التغيّر وتفسيره. ناقش محمد إبراهيم صالحي في معرض تحليله لتغيرّات الأنماط الدينية في الجزائر العلاقات المتداخلة بين "الديني " و"السياسي"، بحيث بيّن أنّ "العنف الدموي" الذي عرفته عشرية التسعينات من القرن الماضي يتجاوز الظرفية التاريخية ويرتبط بأفول أسلوب ديني تقليدي (Salhi, 1994, p. 253-269) فقد أهليّته الاجتماعية منذ بدايات القرن العشرين حيث شهد "ميلاد علاقات متداخلة (تشكّل علاقات جديدة) بين أنواع من المصالح الدينية والتشكيلات الاجتماعية المختلفة الموجودة في طور التشكّل من جهة، وبروز ملمح إصلاحي لممارسات دينية جديدة خاصة بفئات حضرية في المدن" (Salhi, 2000, p. 46)، ويعتبر الباحث أنّ البيروقراطية الدينية بعد الاستقلال قد أسهمت بفعّالية في فرض ملامح سيطرة مؤسّساتية جديدة معتمدة على "إهانة الماضي الديني والاستعارة منه"، وهو ما أنتج أنماط دينية مختلفة يمكن أن تعبّر عن "أفول البرنامج المؤسساتي التقليدي". يقول ابراهيم صالحي:

"لقد رأينا أنّ هذه البيروقراطية الدينية (بـــعد الاستقلال) قد حرصت على فرض رواية من التاريخ الديني الجزائري، مجرّدة من عمقها التاريخي في عمليات التنشئة الاجتماعية المؤسّسية، ولا سيما تلك التي قامت بها المدرسة، والتي شكّلت معالم ومخيالا  لدى الأجيال الشابة انطلاقا من اللحظة التأسيسية للحركة الإصلاحية" (Salhi, 2000, p. 47).

وفي تحليل مختلف، تربط فاني كولونا مظاهر التغيّر الديني في الجزائر بتشكّل "المعرفة الدينية الشمولية" (Colonna, 1995, p. 23) المتوافقة مع بوادر مسار نشأة الحركة الإصلاحية (1920-1940) والظرف الكولونيالي، وترى أنّ ذلك قد أسهم في تغير أسلوب التدينّ التقليدي ووضعه خارج الخدمة، وفي تفسيرها "للكيفية التي أضاع فيها الأولياء الصالحون سلطتهم خلال قرن من الزمن (1845-1940)، وللتغيّر في طرق التفكير الديني عند الفلاحين المقيمين في جبال الأوراس (مجتمعات داخلية، عالم قروي، لا دولة)" تقول:

" يجب أن نبدأ أولا من "الطالب". تمتّع هذا الفرد المكرّس لتعلّم القرآن وحفظه بامتياز الحصول على الكلمة بين ساكنة القرية، فهو حاضر في طقوس الولادة، ووجوده ضروري أيضا لمرافقة المتوفى إلى مثواه الأخير. كان هو الحَكَم في مسائل الخلافات الزوجية والعائلية، كما لعب دورا حاسمًا في عديد الطقوس الدينية....التي كان يضفي على احتفالاتها الشرعية ويقوم بالاستلاء على المقدس...نهاية الأولياء هي أوّلا وقبل كل شيء ثورة في المعتقدات والأفكار، وهذه الثورة لا تأخذ معناها من الصراع الموجود بين الإسلام والوثنية مثلما اعتقد العديد من الكتّاب خلال الفترة الكولونيالية" (Van Staëvel, Colonna, 2014, Colonna, 1995, p. 14).

خلاصة

تواجه خطابات المرجعيات الدينية في الجزائر وخطاب "المرجعية الدينية الوطنية" بالخصوص ثلاثة تحدّيات تقوّض ثقة الفاعلين فيها والاعتراف الاجتماعي بها، ويمكن الوقوف على معالم ذلك عند تحليل علاقة الشباب بهذا مطلب الفتوى، وهذا الوضع ليس مجرّد ظاهرة ظرفية راهنة، بل هو مؤشّر يؤكّد التحوّلات طويلة المدى التي يعرفها المجال الديني سواء تعلّق الأمر بأفول البرنامج المؤسساتي التقليدي أو بسيرورة البيروقراطية التي تؤكّد حضور الإدارة الدينية وتنتج غشاوة تغيّب "الدين المألوف".

يمثّل جمهور الشباب اللامتجانس من حيث سنّه ونوعه الاجتماعي ومستواه التعليمي وعلاقته بالمعرفة الدينية ووضعياته السوسيومهنية وسياقاته المحلية تحدّيا جيليا، يقلّص الاعتراف بالطابع البيروقراطي في تسيير المجال الديني، ويعلن عن هوامش استقلالية من خلال اللامبالاة بالفتوى أو اللاثقة في مرجعياتها، وبدرجة أقل من خلال الثقة المشتّتة بين خطاب "المرجعية الدينية الوطنية" وغيره من المرجعيات السائدة اليوم. ولا تبدو مواقف هذا الجمهور حالة استثنائية تخصّ علاقة هذا الفاعل بالمجال الديني وسياساته العمومية، بل نجد الموافق ذاتها للشباب في مجالات أخرى مثل الترفيه والتربية والتكوين والشغل والنشاط الجمعوي كما بيّنت ذلك دراسات أخرى. ولذلك تحتاج السياسة العمومية في تسيير المجال الديني إلى معرفة جمهورها وممارساته اليومية وتوجّهاته الدينية واختياراته الجيلية من أجل صياغة استراتيجية تضمن قدرا من الاعتراف بها بعيدا عن التصوّرات التي ترى في مركزية القرار وبيرقراطيته الطريق الأنسب لضمان التأثير.

وتشكّل بيروقراطية المجال الديني وسيرورة ضبط فاعليه وسلطتهم ثاني التحدّيات التي تؤثّر على منظومة اعتراف الشباب بخطاب "المرجعية الدينية الوطنية"، خصوصا وأنّها مبنية على جهل مضاعف محوراه: جهل بتاريخ تغيّرات الأنماط الدينية قبل الاستقلال وبعده، وجهل آخر بفاعلي المجال الديني ومساراتهم، خاصة إذا ما تعلّق الأمر بالأئمة الموظّفين منهم. يجدر القول أنّ المعرفة بالملامح الاجتماعية والثقافية والدينية لفاعلي المجال الديني في الجزائر اليوم، خصوصا الأئمة المفتين منهم ومسيري الإدارة في صورتيها المركزية والمحليّة، عنصر هام في ممارسة الحوكمة الدينية، إذ لا يمكن تدبير مجال لانعرف فاعليه.

وتمثّل الملامح الجديدة لخطابات المرجعيات الدينية في سياق عولمة الديني تحدّيا ثالثا أمام خطاب "المرجعية الدينية الوطنية" والاعتراف به، ولعلّ أهمّ ملاحظة تحتاج إلى مزيد من البحث والتنقيب المعرفي هو ذلك النمط الجديد من الأئمة في الفضائيات ووسائط التواصل الاجتماعي، حيث انتقل صوت الإمام من محاريب المساجد إلى الشاشات والمنصات الرقمية، وبرز ملمح "الأئمة النجوم" (مولدي الأحمر، 2018. ) Moussaoui, op.cit., الذين تصنعهم مؤسّسات إعلامية وينتجون فتاوى وفق منطق السوق الدينية المحلية والعالمية. ويمكن أن يشكّل هذا الانتقال من المفتى الواقعي إلى المفتي الافتراضي مدخلا لفهم التشظّي الذي تعرفه مواقف الشباب ودرجات ثقته في خطابات المرجعيات الدينية المختلفة، بل وقد يعيد النظر في بعض الشروط التقليدية للإمام–المفتي بأن يكون معروف النسب والمسار التكويني لدى طالبي فتواه في حين ينتفي ذلك في بعض حالات أئمة المنصات الرقمية إذ قد يكون المجيب على أسئلة الجمهور مجرد "ألغوريتمات" مبرمجة سلفا.    

بيبليوغرافيا

الغذامي عبد الله محمد، (2011). الفقيه الفضائي : تحوّل الخطاب الديني من المنبر الى الشاشة. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي.

المستاري جيلالي؛ نوار فؤاد ومجاهدي مصطفى، (2014). رهانات الديني والسياسي في مدينة  غرداية. مجلّة الكوفة،(8) ، الكوفة (العراق): منشورات جامعة الكوفة.

المستاري جيلالي، (2012). الخطاب الديني ومسألة المواطنة في الجزائر اليوم: قراءة في خطب منبرية بمساجد وهران. ضمن كتاب جماعي، رمعون، حسن، (إشراف)، الجزائر اليوم: مقاربات حول ممارسة المواطنة، وهران (الجزائر): منشورات مركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية.

خواجة عبد العزيز، (2017). الضبط الاجتماعي ومعوقاته في المجتمعات التقليدية، نظام العزابة بمزاب (الجزائر) أنموذجا. نور للنشر، ألمانيا: داية للنشر، الجزائر.

زايد أحمد، (2017). صوت الإمام...الخطاب الديني من السياق إلى التلقي. ط1، القاهرة: دار العين.

عروس الزوبير، (2006). الجمعيات ذات التوجهات الإسلامية. القاهرة: منشورات مركز البحوث العربية الإفريقية.

مجاهدي مصطفي، (إشراف)، (2021). الشباب في الجزائر: الشغل والتكوين والترفيه. زهران (الجزائر): منشورات مركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية.

مركاش فريد، (2018). النقابية عند الأئمة الجزائريين وسيرورة مأسسة السلطة الدينية. مجلّة أبعاد، مختبر الأبعاد القيمية، (05)، وهران (الجزائر): منشورات جامعة وهران 2.

ناشي محمد، (2013). الفضاءات العمومية ضمن السياق المغاربي: عناصر من أجل بناء إشكالية سوسيتاريخية. ضمن رمعون حسن وهنية عبد الحميد (إشراف)، الفضاءات العامة في البلدان المغاربية، وهران (الجزائر): منشورات مركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية.

هونيث أكسل، (2015). الصراع من أجل الاعتراف. القواعد الأخلاقية للمآزم الاجتماعية. ترجمة جورج كتورة، بيروت: المكتبة الشرقية.

Bourdieu, P. (1971). Une interprétation de la théorie de la religion selon Max Weber. Archives Européennes de Sociologie, 12(1).

Colonna, F. (1995). Les versets de l’invincibilité. Permanence et changement religieux dans l’Algérie contemporaine. Paris : Presses de Sciences PO, p. 23.

Deheuvels, L.-W.) 1991). Islam et pensée contemporaine en Algérie. La revue  Al-Asala (1971-1981), Paris : Éditions du CNRS.

Dubet, F. (2002(. Le déclin de l’institution. Paris : Éd. du Seuil, coll. L’épreuve des faits.

Fregosi, F. (1979). Les rapports entre l'islam et l'État en Algérie et en Tunisie: de leur revalorisation à leur contestation en Algérie et en Tunisiep. 103-123.

Lamine, A.-S. (2018). L’islam des jeunes, un révélateur de nos impensés sur le religieux ? Archives de sciences sociales des religions, Paris : Éditions EHESS.

Merad, A. (1969). Le Réformisme musulman en Algérie de 1925 à 1940. Essai d’histoire religieuse et sociale. Paris : La Haye, Mouton et Cie.

Merzouk, M. (2012). Les nouvelles formes de religiosité juvénile : enquête en milieu étudiant. Insaniyat, (55-56, 121-131.

Moussaoui, A. (2009). La mosquée en Algérie. Figures nouvelles et pratiques reconstituées. Revue des mondes musulmans et de la Méditerranée, (125), 23–45.

Oussedik, F. (2007). Relire les itifaqate. Alger : éditions ENAG.

Rouadjia, A. (1990). Les frères et la mosquée : Enquête sur le mouvement islamiste en Algérie. Paris : Karthala.

Salhi, M. B. (2000). Éléments pour une réflexion sur les styles religieux dans l’Algérie d’aujourd’hui. Insaniyat, (11), Oran (Algérie) : Éditions CRASC.

Volkhard, K. (2014). La religiosité comme seuil. Pertinence contemporaine de la théorie de la religion de Georg Simmel. Archives de sciences sociales des religions, (167), juillet – septembre.

الملاحق

الشكل 1: المرجعيّات الدينية التي يثق فيها الشباب

 

الشكل 2: حوامل البحث عن الفتوى ومؤشّر السّن


الشكل 3: توجّهات الثقة في المرجعيات الدينية لدى جمهور الشباب

 

الجدول 1: اختيارات البحث عن الفتوى حسب النوع الاجتماعي

الجدول 2: اختيارات البحث عن الفتوى حسب المستوى الدراسي

الجدول 3: توجّهات الثقة في المرجعيات الدينية  حسب المستوى الدراسي

الجدول 4: الثقة في المرجعيات الدينية  حسب المستوى الدراسي

الجدول 5: المرجعيات الدينية والممارسات الانتخابية عند الشباب

 

الهوامش :

[1] ننطلق في مقاربة الفتوى من تحديد إجرائي مفاده أنّ : "الفتوى في شكل أسئلة هي حوار يجمع بين عامة الناس وأقلية عالمة تتحكّم في المعارف الدينية المكتوبة،... قد تأخذ صفة الاستشارة القانونية عندما يتم التساؤل عن الأحكام أو النوازل... وقد تخصّ العدول عندما يتعلق الأمر بإبرام العقود...قد تشمل الممارسات الاقتصادية ... والغاية منها البحث عن الالتزام بالحلال والابتعاد عن الحرام والاقتراب من الطاهر والابتعاد عن النجس. أنظر:

Blili, L. (1994). Le faqih entre ordre sacré et gestion du profane. Annuaire de l'Afrique du Nord, Paris : CNRS Editions.

وقد تحيل إلى معنى المحاكمة العقائدية ، أنظر: محمد العيادي، (2014). البدعة بن الاختلاف والتهمة: دراسة في نماذج من المحاكمات العقدية. ضمن، دراسات في المجتمع والتاريخ والدين، مؤسسة الملك عبد العزيز، الدار البيضاء: منشورات عكاظ، ص. 153-175.

وتعني في أدبيات علوم الشرع أنها : "بيان الحكم الشرعي في مسألة من المسائل، مؤيدا بالدليل من القرآن الكريم أو السنة النبوية أو الاجتهاد"، أنظر: عبد الصبور مرزوق، موسوعة المفاهيم إسلامية العامة، ص. 240.

[2] مثّلت "المرجعية الدينية الوطنية" أحد محاور الخطاب الرسمي لوزارة الشؤون الدينية والأوقاف في الجزائر منذ نهاية تسعينات القرن الماضي، ويعدّ استمرارا للسردية التاريخية الوطنية مضافا إليها البعد الديني في هذه الحالة.

 [3]أنظر حول الموضوع على سبيل المثال لا الحصر التقارير التالية:

السعيداني منير، (تنسيق). (2018). الحالة الدينية في تونس (2011-2015). دراسة تحليلية ميدانية، الرباط: منشورات مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.

حمادة منتصر، (تنسيق). (2018). تقرير حالة الدين والتديّن في المغرب (2015-2017)، الرباط: منشورات دار التوحيدي.

بن حفيظ عبد الوهاب (تنسيق) (2015)، تقرير الحالة الدينية وحرية الضمير في تونس 2015، تونس، منشورات منتدى العلوم الاجتماعية والتطبيقية بالشراكة مع المعهد العربي لحقوق الإنسان والمرصد الوطني للشباب.

 [4]سبق أن عالجت منشورات مركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية مفهوم الشباب أو "معنى أن يكون الفرد شابا في الجزائر"، أنظر:

فؤاد نوار (2020)، الشباب ومسألة الاعتراف في الجزائر: دراسة حالات، وهران، دفاتر مجلة، منشورات الكراسك، ص. 7- 14.

مصطفى مجاهدي (إشراف) (2021)، الشباب في الجزائر: الشغل، التكوين والترفيه، وهران، منشورات الكراسك.

Benghabrit-Remaoun, N. & Elaidi, A. (2012). Jeunes et vécu social en situation de crise : retour sur des recherches menées dans l’Algérie des années 1990. Insaniyat (55-56), 91-120.

Lakjaa, A. (2014). Les jeunes en Algérie : un désordre sociétal porteur de nouveaux liens sociaux. Spécificités, 1(6), 234-255. 

[5] أجري هذا التحقيق الكمي خلال شهر جانفي من سنة 2013 في إطار المشروع الوطني للبحث الموسوم "الشباب والاندماج السوسيو- اقتصادي: حالة وهران وغرداية 2012-2014" والذي أشرف عليه الباحث مصطفى مجاهدي بمعية فريق من باحثي مركز البحث في الانثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية CRASC وهم : جيلالي المستاري، فؤاد نوار، عبد الوهاب بلغراس وسيدي محمد محمدي. شمل التحقيق الميداني 2000 وحدة سكنية. تتوزع عينة البحث من حيث الجنس كما يلي: 52.2% من الذكور و47.8% من الإناث. تتوزع عينة البحث في وهران على البلديات التالية: بلدية وهران، سيدي شحمي، الكرمة، حاسي بونيف، وتتوزّع العينة في ولاية غرداية على البلديات التالية: بلدية غرداية، بونورة، ضاية بن ضحوة. أجاب على الأسئلة المتعلّقة بموضوع الفتوى 5049 من بين 5077 شابا وفتاة.

[6] أجريت هذه التحقيقات الميدانية الكفية في إطار مشروع بحث مؤسسي موسوم : "غرداية: رهانات الجماعاتي والمجتمعي (2010-2015)"، أشرف عليه فريق البحث المشار إليه سلفا. 

[7] مشروع بحث مؤسّسي أشرف عليه جيلالي المستاري بمعية فريق من الباحثين متكوّن من: فريد مركاش، سهيلة لغرس وفاطمة الزهراء جديد.

 [8]نستعمل البيروقراطية الدينية وفق المعنى الفيبيري والتي تفترض: تراتبية الأوضاع المهنية، التنسيق بواسطة المرافقة، ممارسة النشاطات حسب الصلاحيات التقنية والقانونية التي تضمن حدود الحقوق والواجبات. أنظر:

ريمون بودون، وفرانسوا بوريكو، (1986). المعجم النقدي لعلم الاجتماع. ترجمة سليم حداد، الجزائر: ديوان المطبوعات الجامعية، ص. 108-113.

 [9]نعني بخريطة الممارسات الدينية أو الاجتماعية عموما، مجموعة المؤشرات السوسيو ديمغرافية للمتغيّر المستقل في علاقاتها بالمتغيّر التابع والتي تسمح بتحديد الفئات وممارساتها وتمثّلاتها وخطاباتها. نستعمل هذا الاصطلاح ذو الأصل الجغرافي من أجل توضيح التباينات التي تطبع عينة البحث، ويتعلق الأمر في هذه الدراسة بالشباب  في علاقته بطلب الفتوى من مرجعيات دينية مختلفة.

[10] يفرض تأويل نتائج المعطيات الكمية التمثيلية والكيفية كثيرا من الحذر، خصوصا عندما نتعامل مع "الرأي المعبّر عنه في شكل تصريحات"، وينطبق ذلك على الدراسات السيوسولوجية التي تقارب الديني. أنظر:

Lamine, A. S. (2018). L’islam des jeunes, un révélateur de nos impensés sur le religieux ? Archives de sciences sociales des religions. Paris : Éditions EHESS.

[11] توزّعت عيّنة البحث المقدرّة بـ5077 شابا مستجوبا على الوضعيات المهنية التالية: 1432 شابا في حالة تكوين (28.5%)، 1892 في حالة شغل (37.60%)، 707 في حالة بحث عن الشغل (14.10%)، و996 شابا غير مصنّف ضمن وضعيات الشغل أو البحث عنه أو التكوين (19.80%).

[12] نسبة عدم الثقة في فتوى إمام المسجد المجاور أو اللامبالاة بها تقارب 80% من العينة التي اختارت هذا الفاعل الديني في طلب الفتوى.

[13] يظهر السياق المحلي أيضا مظاهر للتجانس لدى جمهور الشباب بين ولايتي وهران وغرادية، بحيث يتضّح أن عدم الثقة والمبالاة بالمرجعيات الدينية خصوصية شباب ولاية وهران (70.6%) مقارنة بولاية غرداية (44.4%)، في حين ترتفع نسب الثقة في المرجعيات الدينية لدى شباب غرداية (51%) مقارنة بشباب وهران (27.10%).

[14] بيّنت نتائج تحقيق ميداني أنجزه فريق البحث حول علاقة الشباب بالسياسات العمومية للرياضة والثقافة والترفيه عن هامشية "دور الشباب" و"المؤسسات الثقافية (المكتبة، السنما، المسرح ...)" في تأطير الممارسات الثقافية والرياضية للشباب في ولايتي وهران وغرداية (أنظر، مصطفي مجاهدي (إشراف) الشباب في الجزائر: الشغل والتكوين والترفيه، منشورات مركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية، 2021)، وكشفت دراسة أخرى أشرف عليها عمر دراس (بمعيّة جيلالي المستاري وفؤاد نوار ونور الدين ميهوبي) حول "الجمعيات في الجزائر" (مشروع كابدال، وزارة الداخلية/PNUD، تقرير غير منشور) أنّ نسب تواجد الشباب في الجمعيات المحلية ونسب مشاركته في العمل التطوعي تبقى قليلة جدا لا تتعدى الـ 5% من عيّنات البحث.

[15] أنظر:

مراد مولاي الحاج، (إشراف). (2004). ومصطفى راجعي ومصطفى مجاهدي ومنصر محند وعيسى دليندا، " الشباب الجزائري بين الاندماج والتهميش"، مشروع بحث في إطار البرنامج الوطني للبحث PNR، 2001-2003، (تقرير غير منشور)، أنظر تقديم المشروع في كتاب: وقائع الأيام العلمية لعرض نتائج البحث للبرنامج الوطني للبحث " السكان والمجتمع"، منشورات مركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية، والوكالة الوطنية لتنمية البحث الجامعي، 2006، ص. 31 .

تقرير "الشباب وآفاق التنمية الانسانية في واقع متغّير"، برنامج الأمم المتّحدة الانمائي، المكتب الاقليمي للدّول العربية، 2016، ص. 35.

[16] أنظر في هذا السياق المراسيم التالية: المرسوم رقم 98-381 الصادر في 01 ديسمبر 1998 حول تحديد شروط إدارة الأملاك الوقفية وتسييرها وحمايتها، المرسوم رقم 2000-200 الصادر في 26 يوليو سنة 2000 والمتضمن تحديد قواعد تنظيم مصالح الشؤون الدينية والأوقاف في الولايات وعملها، التعليمة الوزارية رقم 60 المؤرخة في 12/04/2000 التي تتضمن تنظيم عمل المسجد، القرار الوزاري المشترك رقم 60 المؤرخ في 10/04/1999 بين المديرية العامة للوظيفة العمومية، ووزارة المالية، ووزارة الشؤون الدينية والأوقاف يتضمن الخريطة المسجدية، وصولا إلى المرسوم التنفيذي رقم 08-411 المؤرخ في 24 ديسمبر 2008 والمتضمن للقانون الأساسي الخاص بالموظفين المنتمين للأسلاك الخاصة بالإدارة المكلفة بالشؤون الدينية والأوقاف.

 [17]أنظر على سبيل المثال: مخطط عمل الحكومة من أجل تنفيذ برنامج السيد رئيس الجمهورية، سبتمبر 2021، (تعزيز المرجعية الدينية الوطنية وتكريس الهوية الدينية)، ص. 22.

 [18]تصرّح الهيئات الرسمية بأنّ المذهب المالكي هو المرجعية الدينية في الجزائر، في حين لا يوجد نصّ قانوني يتحدّث عنه بوصفة مذهبا رسميا. 

 [19]نستند في هذا التوصيف على نتائج دراسة ميدانية كيفية أنجزت في إطار مشروع بحث مؤسسي موسوم "الأئمة ومسار مأسسة السلطة الدينية في الجزائر"، وشملت الدراسة: أئمة موظفين بمختلف الرتب الإدارية، وأئمة متربّصين، وأئمة نقابيين، وأئمة بمساجد غرداية إضافة إلى مرشدات دينيات.

 [20]أنظر المادة 34 من المرسوم التنفيذي رقم 08-411 المؤرخ في 24 ديسمبر 2008.

[21] أشار موقع جريدة "الشروق" إلى حادثتين منفصلتين وقعتا سنتي 2010 و2011، نتج عنهما منع اعتلاء منبر الجمعة وتوقيف تحفظي لأئمة متربّصين. أنظر موقع: /https://www.echoroukonline.comيومي 29-6- 2010 و18-11-2011.

[22] أنظر: الموقع الإخباري: https://www.djazairess.com/ يوم 20-10-2014.

[23] المصدر نفسه.

[24] سبق أن بيّنت دراسات تاريخية هذه الثنائية الدينية الوطنية التي اتسمت بها حركة الاصلاح الديني في الجزائر، حيث أشار محمد غالم على سبيل المثال، إلى خطاب السلفية الوطنية عند فاعلي جمعية العلماء المسلمين في فترة الثلاثينات من القرن الماضي. أنظر:

Ghalem, M. (2006). L’Islam algérien avant 1830 : le Malikisme. Revue Insaniyat, (31), Oran (Algérie) : Éditions CRASC.

Merad, A. (1969). Le Réformisme musulman en Algérie de 1925 à 1940. Essai d’histoire religieuse et sociale. Paris : La Haye, Mouton et Cie.

[25] في 29 أبريل سنة 2018، أصدر أحد شيوخ الاتجاه السلفي في الجزائر الشيخ محمد علي فركوس مقالة في شكل فتوى نشرها في موقعه الإلكتروني بعنوان: "تنبيه واستدراك على مقال تبيين الحقائق للسالك لِتَوقِّي طُرُق الغواية وأسبابِ المهالك" حيث أورد فقرة لمؤسس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الشيخ عبد الحميد ابن باديس في مجلّة الشهاب في عددها 98 يقول فيها أنّ "السّلفية هي المرجعية الدينية للجزائريين وهي الدعوة الأصليَّة في هذه الدِّيار"، أنظر موقع الشيخ فركوس :  https://ferkous.com/home/? q=tawjih-17

 [26]أنظر حول مضامين هذه البيانات، موقع المجلس الإسلامي الأعلى: http://hci-dz.com

[27] حول أئمة المساجد الإباضية ورهانات السلطة الدينية في منطقة غرداية أنظر: المستاري جيلالي، نوار فؤاد ومجاهدي مصطفى (2014)، "رهانات الديني والسياسي في مدينة غرداية"، مجلّة الكوفة، العدد 8، الكوفة (العراق)، منشورات جامعة الكوفة.

 [28]بلغ عدد المساجد في الجزائر بحسب "ملخص حصيلة النشاطات المنجزة بعنوان سنة 2020" (نشر في مارس 2021) الصادر عن وزارة الشؤون الدينية والأوقاف 18449 مسجدا، أنظر: www.marw.dz.

 [29]يؤطر مساجد ولاية وهران مثلا 402 إماما ذوي مؤهلات علمية متباينة، 38.06% منهم حاملون لشهادات جامعيةّ، وتكوّنوا وفق منظومات تكوينية مختلفة ويتوزّعون كما يلي:

11 إماما بشهادة دكتوراه و10 أئمة قيد مناقشة هذه الشهادة.

12 إماما بشهادة ماجستير و30 بشهادة ماستر.

80 إماما بشهادة ليسانس.

249 إماما حاملا لشهادات معاهد التكوين ومنظومات التكوين للمدارس القرآنية والزوايا.

[30] أنظر، حول تعريف حلقة العزّابة أو إِعَــزَّابَـــنْ وبقية الهيئات العرفية الجماعاتية، صالح بن عمر (2005)، العزابة ودورهم في المجتمع الإباضي بمزاب. ط1، جزآن، المطبعة العربية، منشورات جمعية غرداية.

[31] يجدر القول أنّ مطلب الفتوى لدى الفئة العمرية متعدّدة، وقد يكون الإمام ذو الخطاب الاحتجاج، سواء كان في مسجد بعيد عن الحي أو في الفضاء الافتراضي، مصدرا للثقة لديهم.

 [32]كشفت التحقيقات الميدانية لفريق البحث في مركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية -كراسك- خلال الفترة الممتدة ما بين 2009 و2014 أنّ" الجماعة الإباضية" تواجه هي الأخرى مطالب جديدة في التغيير عبّر عنها أئمتها محلّيا بظاهرة "انفلات الشباب"، وتحيل المؤشرات إلى وجود ملامح لتغيّرات ذات طبيعة جيلية تقلّص من سلطة "التقليدي والعرفي"، وهي نتيجة التفاعل في الحياة اليومية بين الجماعاتي والمجتمعي. أنظر حول هذا المعنى في الدراسات الكلاسيكية: تونيز فرديناند (2017)، الجماعة والمجتمع المدني، ترجمة: نائل الحريري، الدوحة، منشورات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

 [33]تصريح أحد الأئمة ( 56 سنة، 30 سنة أقدمية) يقول فيه: "أصبحنا اليوم ننادي بقانون لتجريم الاعتداء على الأئمة نظرا للاعتداءات التي يتلقاّها الزملاء...".

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran
+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11
+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Recherche