Sélectionnez votre langue

Cahiers Insaniyat

 إن حقل الأنثروبولوجية الاجتماعية والثقافية ومناهج دراستها من بين الحقول المعرفية التي أصبحت تلقى عناية خاصة من طرف دوائر البحث الأكاديمي في مختلف البلدان ولدى المنظمات الدولية المعنية بالثقافة والبحث،نظرا للإدراك المتزايد لأهميتها في معرفة الشعوب لذواتها ولبعضها،في إطار العلاقات بين ثقافات الشعوب البشرية المختلفة التي تطمح في بداية الألفية الجديدة إلى التحاور والتعايش في كنف تواصل إنساني يستبعد الهيمنة وفرض الرؤى المركزية الموروثة عن عهد الاستعمار والتبعية، وكذلك بغرض توجيه تغييرات وتطورات حياة الجماعات البشرية بالاعتماد على حريتها الثقافية التاريخية واستنادا إلى وعي الأجيال الجديدة بخصوصيتها وهويتها الثقافية.

ويأتي إصدار "دفاتر إنسانيات" في سياق يعرف تطورا منهجيا متسارعا في مجال البحوث الإنسانية والأنثروبوجية التي أصبحت تمثل ملمحا عالميا يتزايد الاهتمام به من طرف الأوساط العلمية المختلفة، كما أنه أصبح يشكل قطبا يجتذب إليه مختلف المقاربات في العلوم الاجتماعية والإنسانية، ويسمح بتحليل النصوص ومختلف الظواهر الثقافية بمراعاة زوايا النظر المتعددة الاختصاص،مما يمكن من رؤية شاملة.

إن الباعث الحقيقي على إصدار "دفاتر إنسانيات" هو البحث عن إقامة جسر متين من الحوار العلمي والفكري بين الباحثين في الوطن العربي،بالإضافة إلى إفاء الحركة الثقافية بالجزائر حقها في الانتشار، خاصة وأن إخواننا بالمشرق العربي كثيرا ما يشكون من غياب هذا التواصل بين المغرب والمشرق العربيين.

ينبثق هذا المولود الجديد من رحم ممارسة علمية ظلت لسنوات تكابد من أجل التأسيس لتقاليد صلبة ومنتظمة في النشر والبحث، وبإصدار العدد الأول من "دفاتر إنسانيات" يحقق مركز البحث في الأنثروبولوجية الاجتماعية والثقافية مشروعا ظل رهن التفكير لمدة طويلة،ويحقق هدفا أساسيا من أهداف مجلة إنسانيات، رغم حداثة سنها،فهي لم تتجاوز بعد عامها السادس (1997-2003)، لكنها على حداثة عمرها الزمني استطاعت بفضل القائمين عليها أن تخطو خطوات هامة من خلال نشر العديد من الدراسات والبحوث التي استرعت اهتمام القراء والنقاد المتخصصين على المستوى الوطني والدولي. وقد كان هذا المشروع ممكن الإنجاز قبل هذا الأوان ؛ لكن الأمل في نضج الفكرة والعمل على توفير الشروط التي تضمن تحقيق الحد الأدنى للنوعية والدوام من جهة، والاستجابة لأفق انتظار القارئ في الوطن العربي من جهة أخرى، هما العاملان اللذان حالا دون تحقيق هذه الرغبة من قبل. ولئن تأخر صدور هذا النوع من التأليف للأسباب المذكورة ولغيرها،  فقد حان الأوان لإنجاز هذه المحاولة، وستعقبها محاولات أخرى.

لقد تزامن ميلاد "دفاتر إنسانية" مع تجسيد استراتيجية مجلة "إنسانيات" الرامية إلى توسيع مقروئيتها في اتجاه الوطن العربي أملا في ترقية البحث العلمي وتشجيع الاحتكاك بين الباحثين العرب في مجال الأنثروبولوجية والعلوم الاجتماعية والآداب.

يقدم العدد الأول من "دفاتر إنسانيات" إلى القارئ العربي مستخلصات بحثية منتقاة من ثلاثة أعداد (العدد الثامن، العاشر والحادي عشر) من مجلة إنسانيات سبق نشرها في الفترة ما بين سنة 1999 و 2000 وهي فترة شهدت أحداثا كثيرة وتحولات عميقة في الجزائر.

وتأتي أهمية النصوص المختارة كونها تتناول قضايا في غاية من الأهمية على المستوى الفكري وحرية التعبير، وعمق الطرح والمساءلة، وهي أبعاد أساسية تركز عليها مجلة إنسانيات في نشر موادها.

وانطلاقا من هذا الموقع لا يمكن النظر إلى المواد المختارة باعتبارها بناء فكريا أو إسقاطا نظريا مفصولا عن واقع الجزائر،وما جري فيها من أحداث سياسية واجتماعية وثقافية، بل هي نصوص أقرب إلى الممارسة والمعيش التاريخي المتأصل في "مجتمعنا بتراثه وبؤسه، بنجاحاته ومآسيه،بانتماءاته وتمزقاته، بجاذبيته وتنافره، بقطيعاته واستمراريته."

تتوزع مادة العدد الأول عبر محاور ثلاثة : العنف، مساهمات في النقاش-الحركات الاجتماعية،الحركات الجمعوية-المقدس والسياسي، وهي مادة تعكس آراء متباينة بالنظر إلى تعدد المناهج والتوجهات الفكرية ومعالجة المسلمات التي تنطلق منها،بالإضافة إلى كيفية التعامل مع المعطيات العلمية والمرجعيات التاريخية والجغرافية والدينية واللغوية. فهو عدد يشتمل على دراسات تتبنى في مجملها مادة متداخلة الثقافات، قابلة لعمليات التهجين الخطابي لمختلف الحقول المعرفية المتقاطعة، خاصة عندما يتعلق الأمر بخطاب المقدس والسياسي، العنف والحركات الجمعوية.

وعلى الرغم من أن كل محور صدر أصلا عن مسعى مرتبط بحقل بحث معين،تسهل مقابلة ومقارنة الموضوعات المقترحة فيه،ويتيسّر من خلالها النظر إلى المضمون تارة في شموليته وتطوره، وتارة أخرى في تراكيبه وديناميته الجدلية الفاعلة، فإنه لا يمكن اختزال أبحاث هذا العدد في ظل سياق مغلق.

وقد حرصنا أن يكون مستوى التداخل بين المحاور الثلاثة أكثر انفتاحا،ذلك أن الصلة البارزة/الخفية التي تخترق أبحاث هذا العدد يجمع بينها السياق التاريخي، الإقليمي، السياسي والإيديولوجي، فهي حصيلة فكرية تؤسس لخطاب يرمي إلى وضع مورفولوجية ثقافية، مستلهمة من الترسبات التاريخية والدينية والفكرية العميقة. لذلك تتجلى النصوص المختارة في شكل نسيج من القضايا المتشابكة، وهي في عمومها تحيل على تراثنا الثقافي والتاريخي الذي طبعته آثار الشعوب التي تداولت على احتلال أراضيه وسواحله لفترات طويلة، بالإضافة إلى التحولات العميقة التي عرفها المجتمع الجزائري المعاصر على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي وحتى العمراني.

إن إنجازا مثل هذا خليق بالمباركة والدعم من طرف الباحثين الجامعيين ومن طرف الهيئات المعنية، لكي يتم ضمان استمراره وتطوره. إنه لبنة تضاف لأساس صرح البحث العلمي في الجزائر.

 

Associations for Womens' rights.

Created soon after the events of Octobre 1988, women' association for their rights, constituted the most visible and most active fringe of social movement at that period. The importance gainded by the women's movement indicates a relatively new phenomenon so much for content level (references and revindications) as for (initiatives and actions). The years 1989 and 1990 were marked by rich and diverse intense women's activity. Broad debates on the questions of women's rights and family statute, until then timidly approached, took up public space. with terrorism, the movement found itself in front of the anti-terrorist, anti-integrist struggle, and in solidarity with terrorist victim's families. From 1995 on, a recentering was carried out, in view of building a women’s movement for women, in the frame work of a women's problematic. Today it is impossible to circumvent this movement.


 تميز تطور الجمعيات في الجزائر غداة حوادث أكتوبر 1988 خاصة بخلق مجموعات نسوية للنضال من أجل حقوقهن. كان لهذه المجموعات طابع حضري لأنها كانت موجودة في المدن الكبرى (الجزائر، و هران، قسنطينة، عنابة، تيزيوزو،…) إن عظمة هذه الحركة و الرؤية السديدة التي كانت تتميز بها تدل على أنها ظاهرة جديدة نسبيا، من حيث المضمون (المراجع و الطلبات) أو من حيث الشكل (نوع التدخلات). و يكمن التجديد كذلك في أن هذه المجموعات كانت مستقلة في مستوى تركيبها و مبادراتها. كل هذه المجموعات انتظمت على شكل جمعوي حسب قانون 1987. كل هذه الجمعيات كانت تهدف إلى تحسين القانون الشخصي للمرأة الجزائرية عن طريق تدخلات سياسية، و كانت تعتقد أن قانون الأسرة تمييزي و مناقض للدستور، حتى و لو أنها تختلف حول الاقتراحات. في ذلك الوقت ظهر موقفان يبدوان أنهما متناقضان : الإلغاء و المراجعة.

تميزت سنة 1989 بمبادرات نسوية كثيفة، غنية و متعددة. في هذه المرحلة ظهرت الحركة النسوية على أنها الحركة الاجتماعية الأكثر قوة و الأكثر وحدة في تنوعها و تستطيع أن تكون قوة مضادة.

 بعد ذلك، و مع الوضعية الجديدة التي عرفتها البلاد و المتمثلة في الإرهاب، أصبحت هذه الحركة في مقدمة النضال ضد الإرهاب و ضد الأصولية، و مساندة لعائلات ضحايا الإرهاب. هذه الميزة تخص الجمعيات التي بقيت في الميدان، لأن الأخريات أوقفن عملهن و هذا على غرار الحركة الجمعوية في مجملها. و بالعكس، تميزت هذه المرحلة، في الأول بالعنف ضد النساء الذي توسع فيما بعد إلى كل المجتمع، بخلق جمعيات جديدة تحت نوعين مختلفين في الجزائر العاصمة، تلك التي مثل الأولى، أرادت أن تتدخل في "الميدان الحساس سياسيا"، و الثانية التي "تبحث أن تدمج المرأة في الحياة الاجتماعية و الاقتصادية بصورة أفضل. ظهر وعي كبير بالخطر الأصولي في وسط الحركة النسوية في معظمها. و يجب الإشارة إلى أنه منذ البداية وضعت الحركة النسوية قضية المرأة في إطار أوسع و هو ضرورة دمقراطة النظام السياسي الجزائري كمطلب للدولة. بعض الجمعيات و هن الأغلبية، وضعت نضالهن من أجل مواطنة النساء كذلك، و أكثر فأكثر في موقف معارض للأصولية الدينية و التي تعتقد أنها "العدو الرئيسي" لحقوق النساء. البعض الآخر و هو أقل عدد يرفض أن يربط نضاله بأي علاقة للأصولية الدينية كانت، و يرغب أن لا يدلي برأيه.

منذ 1995، نشأت في بعض المدن (الجزائر، وهران، بجاية، تيبازة،…) جمعيات نسوية أخرى تتدخل في نفس الوقت في الميادين الحساسة سياسيا و في الميادين الأقل حساسية. قضايا هوية الحركة النسوية من أجل حقوقهن، و إعادة تركيز النشاط، بدأت تطرح على مستوى بعض الجمعيات.

كذلك قضية العلاقة بين نضال من أجل حقوق النساء في الجزائر و النضال ضد الأصولية الدينية وضعت للنقاش خاصة بعد الندوة العالمية الرابعة حول النساء (المنعقدة في بيكين في سبتمبر 1995). مسألة القانون الشخصي للمرأة الذي جمد بعض الوقت أعيد للنقاش.

في هذا الوقت المطالبة بمواطنة كاملة و تامة، إلغاء قانون الأسرة و استبداله بقوانين مدنية متساوية حققت الإجماع في وسط الحركة.

ميدانيا وجدت منهجيتان متكاملتان. من جهة مبادرة لإرسال عارضة تتضمن 22 تعديلا أخذت من طرف أربعة عشر جمعية، و كانت فرصة لبعث النقاش حول هذه المسألة. و من جهة أخرى، تكونت مقاربة جديدة تقول أنه حتى ولو أبقت على موقف نظري و مبدئي حول إلغاء القانون، ينبغي إيجاد حل ملموس لهذا المأزق باقتراح إمكانية للنساء أن تختار النظام القانوني الذي يساعدها يتطلب هذا وجود معاهدات متعددة. 

استطاعت هذه الحركة من خلال مختلف المبادرات التي أخذتها أن ترفع من الوعي و الذهنيات حول التمييز الذي كانت النساء ضحاياه كل يوم، كذلك لكسر كل الطابوهات حول عدد من المسائل.

و من جهة أخرى حصلت الحركة على مكانة في المجتمع و في الحركة النسوية العالمية. و لهذا يجب الإشارة إلى أن هذه الحركة لم تخلق من عدم و إنما هي نتيجة مبادرات مشتركة للنساء في الجزائر منذ الاستقلال و خاصة في السبعينات ثم في الثمانينات، و التي كانت تعتبر إمتدادا لنضالات النساء أثناء حرب التحرير الوطنية. تحققت هذه الإمتدادات في الاستمرارية و لكن كذلك في القطيعة بفضل الدروس و التجارب الماضية.

بعد عشر سنوات من الوجود و التجارب الجمعوية، الحركة النسوية من أجل حقوقهن هي في طور البناء "لحركة  متعددة من النساء و إلى النساء" في إطار "إشكالية نسوية". تريد أن تكون قوة اقتراحات. أصبحت الحركة، اليوم، حقيقة لا تستطيع تفاديها. أشكال جديدة للتنظيم و العمل عرفت الوجود. فكرة العمل عن طريق مشروع أصبحت حقيقة عند عدد كبير من الجمعيات. المسائل المتعلقة بالدور الذي يجب أن تلعبه في المجتمع و اتجاه النساء، و العمل على الذهنيات… مازال متواصلا و موضحا شيئا فشيئا. مشكل البديل يطرح و يتكلف به عن طريق تكوين الشابات. ظهر وعي جديد عند المناضلات لحقوق النساء. لقد أخذن الدروس و التجربة المرة من أسلافهن اللواتي شاركن في حرب التحرير الوطنية، و خيبة آمالهن غداة الاستقلال، فإنهن تردن أن تجعلن حركتهن تتفادى نفس التجربة. و لهذا فإنهن قررن وضع طلباتهن في المساواة و المواطنة في قلب كفاحهن و محاولة البحث عن تحالفات في المجتمع، في المنظمات الاجتماعية و السياسية و في السلطة، و جر قوى ديمقراطية أخرى نحو مواقفهن. و من هنا فإنهن حققن علاقة جديدة للسياسي و الأحزاب السياسية. فأصبحن الآن واعيات بأن مسألة القانون الشخصي للمرأة هي مسألة حساسة، لأنها في قلب الأزمة السياسية الحالية في الجزائر، و إنهن يردن أن تزن بكل قواها كي لا يكون حل أو مساومة مع الإسلاميين على حساب النساء، و كذلك لأن هذه المسألة تتأسس عليها العلاقة الاجتماعية داخل الأسرة، و صراعات المصالح التي تحدث داخلها بين النساء و الرجال. بدون أن نكون واهمين على أن المطالبة بالمساواة تبقى في وقتنا الراهن تلك التي تدافع عنها أقلية نسوية راديكالية. هذه الحركة مجبرة على الدفاع عن حقها في الوجود، و أن يكون لها مشروع حيوي للدفاع عنه في إطار مجتمع ديمقراطي، عادل و متعدد.

هذه الحركة التي تتبنى النسوية، و التي حققت مكانة في الحركة العالمية لحقوق النساء، ألا تنجح إذا أدخلت في نضالها الأخذ بعين الاعتبار المشاكل المطروحة في الفضاء الخاص و العائلي ؟ بالفعل نلاحظ أنه لا المجال العائلي و لا المسائل الجنسية قد تم التطرق إليها ضمن مطالب الحركة النسوية.

نقله إلى العربية : قادة قدور بن عباد

ملخصات

أحمد بن نعوم

الوظيفة النبوية و الوظيفة السياسية.

كل نشأة فصل و الأساطير الأولى في المجتمعات الانسانية كلها تقوم بتصوير الميلاد المشترك. و انحلال الخراب و الغموض. في النصوص المؤسسة للاشكالية الدينية الثلاثة، الحنفية و السفر الجديد و القرآن، و في كتب الأخبار التاريخية، فإن السلطة السياسية، لا تتوقع ميلادها، بالطبع، إلا بالانفصال عن الوظيفة النبوية. إن اشكالية نشأة السياسي في الاسلام مازالت تشكل سببا يؤدي إلى المآسي و الحروب الأهلية، بسبب اللبس بين الشرعية التي مصدرها المقدس و الشرعية الانسانية الخالصة التي مصدرها الانتخابات أو الانقلابات السياسية.

إن لهذا العمل، إذن، يتعلق بتبيان الكيفية التي بها تفصل النصوص الأساسية في الاسلام بين الوظيفة النبوية و الوظيفة السياسية.

 

سليم س. خزندار

هل توجد تيولوجية إسلامية ؟

إن مقاربتنا للفقه الإسلامي هي مسجلة و بحزم ضمن حقل المساءلة التأويلية، مما يوحي لنا بأن الفهم هو إلحاق بالكلية، التي تدرس كظاهرة. هناك شيء يعطي، و يتجلى، و يظهر للعيان. و فهم هذه الديناميكية، يعني الانطلاق من ظاهرة الفهم بذاتها، و التي تفتح لنا الطريق نحو ما يتجاوزها، و بالتالي يلحقها بأنظمة للدلالات اخرى، أو بواقع غير ظاهري، أي متعلق بماهية الكائن.

إن جوهر الظاهرة هو الظهور، هو التجلي، فالظهور يعني الدخول في فضاء العرض، و أخذ  المكان ضمن المرئي، وسط الأشياء، في الوسيط حيث يمكن للقاء أن يتم. لكن المجيء هو التطور انطلاقا من أصل، و تسميه الفلسفة المدرسية بالمبدأ. و المبدأ هو الذي يتحكم في مجرى السيرورة التي تؤدي إلى حد التجلي الكامل. و فهم الظاهرة، يعني سلك طريق الظـاهرة في الاتجاه العكسي، و صعود السيرورة من مجيئها في التجلي، ثم ربط هذا الحيز بمبدئه. و ضمن هذا المنظور يمكن لمختلف كيفيات فعل الفهم ان تتصل : علم، معلومات و معرفة. إن الصعود عن طريق التحويل الداخلي نحو المبدأ، يؤدي إلى تكوين جينيالوجيا.

إننا نطرح فكرة، وجود طريق للإيمان و الذي يبين عن تكثيفاته الكائنة عبر الأزمنة. إنها توافق حالات، في أشكال تلقي التفكير، الكتابة من أجل التواصل، و المواجهة مع تعيين الطقوس، و إقامة العلاقة مع تجارب أخرى، مقدسة كانت أو مدنسة للفعل الديني.

إن التوجه الشيعي للإسلام، هو الذي استرعى انتباهنا في هذه الدراسة، لأنه منذ أعمال السهروردي قد أسس هذا العمل للنسيج الجينيالوجي، و قبل أن تتشكل ذلك، النسيج، في مصطلحات تأويلية بشكل حازم.

 

محمد براهيم صالحي

عناصر للتفكير حول الأساليب الدينية بالجزائر اليوم.

على الـرغم من وجود مجموعة كبيرة من الكتابات حول الأسلوب الديني الجديد (الإسلام السياسي)، و بخاصة خلال العشر السنوات الأخيرة، يبدو لنا، و من وجهة نظر سـوسيولوجية و أنتروبولوجية، أننا لم نتقدم بعد في المعرفة حول هذه الظاهرة الدينية الجـديدة. هذا بالإضافة إلى أن إنبثاقه - على ما يبدو- هو نتيجة عمل طويل في صنع المقولات الدينية الجديدة. و تتأسس هذه الأخيرة، على محو المقولات التي يتضمنها النموذج الديني التقليدي، الذي أصبح "خارج القانون" من  طرف فعل الإصلاح الديني في سنوات 1930 / 40 و من طرف التسيير البروقراطي للحقل الديني في ذات الوقت. هذا لا يعني أننا لا نستثني الانزلاقات التي تحدت من نموذج ديني إلى آخر.

و ما أهمل في هذه الكتابات التي تدرس الوضعية الدينية الحالية - على ما يبدو لنا - هو فعلا تلك السيرورة الطويلة في صنع هذا الأسلوب الديني الجديد و في ذات الوقت تلك النزعة التي تركز على إعادة التأسيس للعلاقة السياسية انطلاقا من مكان ديني، دون تحليل الأسلوب في حد ذاته.

بالإضافة إلى أن هذه المقاربات تتجاهل الوقائع الدينية التجريبية التي ما تزال موظفة، لصالح المظاهر البارزة لهذا الأسلوب الديني الجديد. و انطلاقا من هذه المعاينة، نقترح العودة إلى منهجيـة و التي من المفروض، في الوقت الحالي، أنها توجه اهتمامها الكبير لتراكم المعطيات الميدانية انطلاقا من فضاءات محلية. و هذا في نظرنا، يمثل الزاوية التي يمكن للباحث أن يتحكم فيها أكثر و كذلك يتوصل إلى نتائج مثمرة. إن المثال المعروض في الجزء الثاني من المقال كفيل بالبرهنة على ذلك.

 

محمد نور الدين محي الدين

أفكار مصطفى كمال آتاترك السياسية و الحركة الإصلاحية في الجزائر قبل و بعد الحرب العالمية الثانية.

يبدو أن كل شيء يفرق عبد الحميد ابن باديس رئيس الحركة الإصلاحية في الجزائر عن مصطفى كمال آتاترك مؤسس الدولة التركية الحديثة بحيث يعتمد الأول في عمله على تجديد الفكر الديني بينما ينطلق الثاني من إبعاد الفكر الديني لتجديد الفكر السياسي في بلد تسكنه أغلبية مسلمة.

غير انه عند مقارنة الأفكار التي عبر عنها كل واحد منهما يفاجئنا التقارب النسبي في وجهات النظر بالنسبة لبعض الأمور و لو كان من المؤكد أن هناك حدودا لم يتجاوزها الاصلاحيون رغم مساندتهم لعمل الزعيم التركي و هذا عكس ما اتخذه علماء الأزهر في مصر أو علماء المغرب في مدينة فاس من موقف مضاد له إلا أن هذا لا يعني أن الإصلاحيين الجزائريين قد تبنوا سياسته بلا تبصر.

و انـطلاقا مـن الأفـكار التي تـم التعبير عنها حول موضوعي الخلافة و اللائكية التي هزت شيئا ما العالم الإسلامي أثناء العقود الأولى من القرن العشرين سنحاول فهم مناهج التفكير الخاصة لكل واحد من هذين الرجلين في مجال تصوراتهما السياسة و الدينية و في نفس الوقت سنحاول فهم التفاعل بين المجال الديني و المجال السياسي كمواجهة للوطنية إبان الوجود الاستعماري لنخلص إلى الجوانب التي يقترب فيها ابن باديس من آتاترك و الأخرى التي يختلفان بشأنها.

 

عبد الرزاق دوراري

مسألة اللائكية في الإسلام عند محمد عابد الجابري.

إن مفردة "لائكية" و هي من مواصفات الحداثة في العالم الغربي مفردة لعينة في العالم العربي    و الإسلامي. بل الغريب أنها تـٌفهم كمرادفة لمفردة "إلحاد". يخصص لها محمد عابد الجابري الفيلسوف المغربي مقالا كاملا و يريد ربما لسبب تكتيكي أن يتفادى هذه المفردة المشحونة فيقترح استبدالها بمفردة "ديمقراطية" و "عقلانية". و لكي يبين ان هذه المفردة غير "مطابقة" للعالم العربي و الإسلامي و تثير فيه إشكاليات مزيفة، يغوص الجابري في عمق التاريخ الإسلامي بحثا عمّا من شأنه أن يضفي على رؤاه مصادفة ما. بدءا بتاريخ المرحلة الاستهلاكية و ما آل إليه خصام سقيفة بني ساعدة السياسي و كيفية حله و هو خصام دار حول خلافة الرسول ؛ ثم كيفيات انتقال  الحكم و الخلافة في مرحلة الخلفاء الراشدين و هي متعددة، و ينتهي عند معاوية و كيفية تنصله صراحة عن الدولة التيوقراطية.

إن تعدد كيفيات الإستخلاف على سدة الحكم في التاريخ الإسلامي و العربي يؤكد عدم وجود نص صريح قرآن أو سنة يحدد شكل الدولة في الإسلام. زيادة على ذلك فإن الدولة التيوقراطية تربطها وشائج قوية بسوسيولوجية السياسية لا يمكن استعادتها اليوم. و لئن كان الجابري صادقا فيما قال بعدم وجود كنيسة في الإسلام لنفصلها عن الدولة إلا أن الفتوى و هي قرار تصدره سلطة دينية يفترض تطبيقها من قبل كل مسلم مهما كان موطنه. و التـجارب الحديثة ا لعهد تؤكد ذلك، فالسلطة العليا في نظر الدين ليست الدولة أو القانون الوضعي بل تتمثل في المعيار التيوقراطي كما يتصوره رجال الفتاوى. في الواقع يجب حقا طرح مسألة استقلال السياسة في العالم الإسلامي و العربي عن طريق حصر المجال الديني في دائرة الشؤون الشخصية و لا ينبغي أن ننسي بأن الرقابة الذاتية أنجع من الرقابة المؤسسة.

 

رشيد بليل

زناتة قورارة، أولياءهم و الأهاليل.

باعتمادنا على العديد من الحكايات التي تدور حول العلاقات بين الأولياء المحليين و ممارسة الأهاليل، نحاول من خلال هذا المقال مقاربة جانب مجهول من دراسة الولاية : أي العلاقة بين المتدينين و هذا الجانب أو ذلك من الثقافة المحلية التي تتعارض مع العقيدة الإسلامية و السلوكات التي يدعو لها هذا الدين.

تسمح هذه المقاربة بمعالجة الطرح التقليدي للعلاقات المختلفة بين الولاية و السلطة انطلاقا من زاوية أخرى، أي من العلاقة اليومية بين الأولياء و أفراد الجماعات التي يقيمون بينها، و بطبيعة الحال، فإن هذه الحكايات لا تخبرنا بصفة موضوعية عن هذه العلاقات، و إنه لمن الخطأ اعتـبارها حوليات، و مع ذلك لابد من الاعتراف و بوضوح أن الواقع هو الذي غذى المخيال الذي أنتجها.

و لا تشد هذه الحكايات، انتباهنا إلا من حيث أنها تضع في مركز العلاقة الإشكالية بين أولياء الجماعات الهامشية و البعيدة عن السلطات المركزية.

ففي هذه الوضعية الفريدة من نوعها (و التي تميز العديد من الجماعات التي تعيش على هامش مراكز السلطة)، فإن الأولياء يلعبون دور نشر داخل الجماعة التي يقيمون بينها، للمعيار الذي يدعـون إليه، و لكن هذا القرب يجعلهم من ناحية أخرى يتقبلون بعض الجوانب من الممارسات المحلية.

إذا هناك مواجهة بين النموذجين و تأويل هذه الحكايات يوحي بفكرة أنه على الرغم من التسليم بالمعيار الذي يحمله الأولياء، فإن الجماعات المحلية تحاول أن تجد بكل الأشكال التفاوضية مكانة لممارساتها الثقافية المتوارثة.

إن هذه العملية تصل إلى مبتغاها بسبب أن هذه الممارسات تستمر حتى و لو أن مكانتها أقل من المعيار الإسلامي.

ملخصات

كلودين شوليه

عنف على حدى.

يشتمل الاستعمال الدارج لمصطلح " العنف" على ظواهر متباينة و لا يساعد على إدراك الشروط التاريخية التي أفضت إلى بروزها.

مؤخرا، اقترحت العلوم الاجتماعية تعريفات و تحاليل تساهم  في التمييز بين أنماط العنف و تطبيقها على الحالة الجزائرية. هكذا، يمكن أن نستشف عنفا "اجتماعيا يشكك في القيم المعيارية  و في مؤسسات التنشئة و عنفا "سياسيا" متضمنا في الصراعات من أجل السلطة  و عنفا "مطلقا" يرمز إلى تجرد  أناس من إنسانيتهم. تبدو أنماط "العنف" متزامنة و أحيانا مقنعة.

 

نور الدين سعدي

العنف و حرب القانون في الجزائر.

ظاهريا يبدو النزاع الجزائري و كأنه حرب داخلية بين الأصوليين الإسلاميـين و سلطة الدولة التي يتحكم فيها الجيش لكنه لا يرتكز، خلافا للحروب الأهلية التي شهدتها نهاية القرن العشرين، على تناظر خصوم يقابل بين شرائح اجتماعية و اثنية و دينية أو سياسية. يمكن قراءة العنف الجاري بالجزائر و كأنه "باثولوجيا القانون".

مثل هذه القراءة تحيل على مفهوم "حرب القانون" الذي استعمل خلال العصور الوسطى المسيحية في ظل صراع تاريخي طويل حول مرجعية القانون الذي قدسته الكنيسة و مرجعية القانون المدني الذي كرسته الرومنة و رفعت شعاره الدولة الحديثة في طور التكوين.

إننا في قلب المسألة التي تطرحها الحداثة على كل مجتمع سياسي، وتتمحور حول "من هو موضوع القانون : المؤمن و / أو المواطن ؟".

 

حسن رمعون

مسألة التاريخ في الحوار الجاري حول العنف بالجزائر.

غالبا ما تفسّر حالة العنف السياسي القائم في الجزائر بالرجوع إلى ماضي هذا البلد و خصوصياته التاريخية.

يمكن إرجاع كل تطور اجتماعي بطريقة أو بأخرى إلى التاريخ، إلا أننا لا نعطى المعرفة حقها إذا حصرنا تفسير العنف "في ماض طبعه العنف" أو بطريقة أكثر تصنعا، في عنف بنيوي تنير ملامحه المقاربات التي تستند إلى النظرية القسموية.

مع ذلك، كل المجتمعات مرّت عبر علاقات قسموية و شهدت عنفا في إطار نظم قسموية أو غيرها (بما في ذلك أوربا مع الحروب التي جرت خلال القرن العشرين). مهما كان تأثير الماضي، يجب تفسير الأزمة الجزائرية، أولا، بالأسباب الراهنة كما أن الرؤية إلى الماضي تحيل - بذاتها- إلى رهانات الحاضر. منذ عهد بعيد، استغلت القوى اجتماعية و المؤسسات، الذاكرة و التاريخ عن طريق الانتقاء و التوظيف، بهدف تبرير مواقفها إلى درجة العمل على نشر ثقافة تمجد العنف.

 

فاطمة الزهراء قراجة و نادية قورصو بيوض

العنف، المعالجات الممكنة.

في هذه الدراسة، نقترح مناقشة تجربة أولى قام بها علماء نفسانيون تكفلوا بعلاج مجموعة بشرية كانت ضحية تقتيل جماعي في ظرف اتسم بالعنف المنظم. تشكل ممارسة العلاج النفساني الاجتماعي فرصة لاعادة استفسار التخصصات المهنية عبر مرجعياتها المختلفة : خاصة الأدوات النظرية و الجهاز التقني و العيادي المستعمل في العلاج. عندئذ، عرضنا وصفا عاما لتأطير عملي يحاول تمفصلا مكيفا نوعا ما- مع وضعيات حقيقية و يعمل على تطوير العلاقة بين الفرد و الجماعة و بالتالي يعيد تشكيل فضاء علاجي جديد. استجبنا في ذلك لمبدأ الواقع الذي يتم بناؤه في العلاقات المتبادلة الدائمة مع فاعلي المأساة.

 

محمد بن صالح

العنف و المجتمع : وزن الوسائل السمعية – البصرية.

يقتضى التساؤل حول الآثار السلبية و الإيجابية للصور و الأصوات التي تبثها كل يوم شاشاتنا الكبرى و الصغرى، دراسة العنف المجتمعي و تداعياته وسط الشباب. في الواقع، يشكل العنف ظاهرة مجتمعية قبل أن يكون خطرا إعلاميا.

إلا أن وسائل الإعلام تعمل دوما على تبسيط أحداث العنف مستغلة في ذلك حضورها المستمر و طريقتها في "تزويق" الواقع. أحيانا يفضي عملها إلى تحييد القيم التي تنشرها المدرسة و العائلة. كل ذلك يثير تساؤلات عديدة.

تواجه الجزائر و هي بلد من العالم الثالث، هذه المشكلة الخطيرة. لقد أحدثت التلفزة تأثيرا على الضمائر لأنـها أستعملت طبلا رنانا للمآسي التي كانت تشهدها الجزائر يوميا و مارست "جماليات الرعب". مهما تعددت الانتقادات، فإن الدراسات التي تم إنجازها إلى يومنا هذا، لا تفضي إلى نتائج نهائية حول التأثيرات المضرة للأصوات و الصور. مازلنا، في الجزائر، لم نتجاوز الآراء المسبقة و الأفكار الجاهزة و الفرضيات. عدا دراسات بعض الباحثين المنعزلين، لا توجد فرقة علمية كما لا يوجد حقل بحث خاص بدراسة الاتصال الإعلامي.

 

بلقاسم مباركي

عزوز بقاق : الغضب الهوياتي لدى ابن مهاجر (بار).

حين نقرر مغادرة مجالنا لننتقل إلى مجال آخر يكون استقبالنا فيه أمر عسيرا، نفقد معالم هويتنا بطريقة عنيفة في هذه الحالة نمارس العنف ضد أسلافنا و ثقافتنا و لغتنا و ذاتنا. إن هذا العنف الذي استحال إلى فن أدبي، ميّز أدبيات أبناء المهاجرين: هؤلاء الأخوة الذين استقروا على هامش الثقافات الشرقية و الغربية : لقد اخترنا كتابات أحدهم : عزوز بقاق، لنلاحظ كيف يعيش هو هذا التمزق و ما يقترحه لتجاوزه.

 

نادية أوهيبي غاسول

عنف النص و عدوان الكتابة في " طوبوغرافيا مثالية من أجل عدوان مميز" للكاتب رشيد بوجدرة.

ما فتئ العنف، آفة العصور الحديثة كان أم راسبا من رواسب الماضي، يحتل واجهة الأحداث الاجتماعية و يكتسي أوجها متباينة بتباين أداة التعبير التي تفصح عنه أو تجسده على أرض الواقع. فالأدب عامة و الرواية بشكل خاص أولت عناية بالغة للعنف في ظل سياق تاريخي تميز برهانات حادة.

في الرواية، يتجاوز العنف الكلامي إطاره الطبيعي ليتحول إلى عنف خطي و مرئي إن نموذج العنف كما تصوره الرواية لا يمكن اعتماده في إدراك حقيقة العنف و تداعياته، إذ أنها (الرواية) تجعل من النص الأدبي ملتقى صور متزاحمة، و ذريعة لهيجان لغوي يتحدى كل تنميط لينتشر على محور عمودي يجعل من المترادفات ممارسة تراكمية مشحونة بالإفراط و الغُلو، يتحول النص  إلى نسق يحمل الشخص على مواجهة رسائل خطية و رسومية و صوتية لا يدركها و يحمل القارئ المعتدى عليه، على تقبل نص مكرر، منغمس في البؤس، متدني يساهم بذلك في جنون النص و غموض الفضاءات و عرس الكلام.

كلمات في تشاجر لقول نص عراكي، ذلك هو مضمون "طبوغرافيا مثالية من أجل عدوان مميز "للكاتب رشيد بوجدرة".

 

فريد بن رمضان

من أنت ؟ لقبت ! عن تفكيك النسب العائلي في الحالة المدنية بالجزائر: أو عناصر التعتيم الدلالي لأسماء العلم.

في هذه المقالة، نريد الإشارة إلى أن الحالة المدنية في الجزائر ( لا توجد، بعد، حالة مدنية جزائرية) لا تحقق استمرارية التواصل الهوياتي رغم وجود نظام ألقاب عائلية يعود إلى آلاف السنين. في الواقع، تعكس  الحالة المدنية في الجزائر وضعا ذهنيا يرمز إلى تغييب النسب العائلي منذ أن فرضت الإدارة الاستعمارية الفرنسية و جيشها نموذجي إعادة تأسيس الشخصية   الجزائرية : قرار مجلس الشيوخ لسنة 1863 و قانون الحالة المدنية لسنة 1882. تاريخيا، كيف تم بناء نظام الألقاب العائلية في الجزائر ؟ ماهي الاستراتيجيات الفاعلة التي قررت في الماضي التماثلات المرتبطة بهذا النظام ؟ ماهو وضعها الراهن؟

لم يحدث في تاريخ الاستعمار و علاقاته بالمسألة اللغوية، أن وقعت عملية تفكيك للهوية كما وقعت في الحالة المدنية بالجزائر. و قد أثرت هذه العملية سلبا على مستوى الوعي الدلالي و التشكيلي معا.

 

ملخصات

صادق بن قادة

الجمعية العلمية، جمعية الجغرافيا و الآثار لوهران : نموذج من الجمعيات العلمية بين الماضي و الحاضر.

تعد جمعية الجغرافية و الآثار لوهران التي أنشئت السنة 1878، من أقدم الجمعيات العلمية التي ظهرت خلال الفترة الاستعمارية في الجزائر. و الجدير بالذكر، أنها الآن الجمعية العلمية الوحيدة التي بقيت على قيد الوجود منذ تلك الفترة. بيد أن مثيلاتها بالجزائر و قسنطينة قد توقفت عن نشاطها عشية الاستقلال، سنة 1962. و ما يمكن الإشارة إليه، أن "الاستثناء" الوهراني يتميز  بالمبادرة التي أخذتها النخبة المحلية، غداة الاستقلال السنة 1966، بإسترجاعها لهذا المعلم العلمي و إدماجه في النسيج الجمعوي الجديد و كذا إعطائه المكانة العلمية التي تليق به.

بشير سنوسي

أن تكون شريكا في جمعية في وهران.

يريد هذا النص إرسال بضعـة أطروحات قوية حول خصائص ظاهرة حديثـة، و هذا من خلال إحدى تجارب حياة جمعوية، و على وجه الخصوص في حماية المحيط.

يبدو أن الالتباس ناجم عن الظروف التاريخية لتحرير السلوكات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية، تحرير يبدو مفروضا على النظام السائد، على غرار ما وقع، في الفترة نفسها، في مناطق أخرى من العالم.

وجدت السلطة نفسها مرغمة على التحالف، بعدما فقدت، نهائيا، وسائل القسر. هكذا، تشكلت شبكات من التحالفات عن طريق العلاوات و امتيازات أخرى.

من الناحية الأخرى، فإن الجمعيات تنشد كسب بعض المكافآت من هذه التحالفات، لِـيُسهم كل هذا – و لو أنه لا يجوز تعميمه على كل الجمعيات – في تشويه تعريف الحركة الجمعوية في الجزائر.

 

 


Sacredness and zionist violence in Arab-Israeli conflict novels.

This study tries to show the problematic question of sacredness and zionist violence through reading distinctive features in narrative discourse in novels about the Arab – Israeli conflict the following points are the subject of analysis.

Concept definition : Sacredness and violence

The part of the article is devoted to analysing problematic questions: relating sacredness at the same time emphasising, highlighting the relative concepts of sacred sources and violence in relation with the Arab – Israeli conflict.

It has been confirmed that zionist violence is backed up by several sources, while sacredness has only one source, which is the relationship, so much as dogma and spiritual practice.

Elements of sacredness in the Arab – Israeli conflict novel :

The action is centered, on the sacred element in so much as imaginary topic in romantic discourse, which reveals itself through several texts, and which confirms the hypothesis: The relation ship sacredness / zionist violence.

Sacred dimension and zionist violence in the Arab – Israeli conflict novel :

In the concern to preserve a systematic approach, the article has focused its analysis on changes, and evolution of the concepts, sacredness and violence, by considering sacredness as a support to justify zionist violence throughout the Arab – Israeli conflict novel.


1. حول المفهوم النظري لمصطلحيْ المقدس والعنف:

يحصر التصور الماركسي المقدس والأنظمة الدينية عامة في العجز الإنساني عن مواجهة الكوارث الطبيعية،مجابهة فعلية،وكذا العجز عن تفسير الظواهر الفلكية تفسيرا موضوعيا،قبل أن تنضاف إلى ذلك الظواهر الاجتماعية.[1] غير أن البحث عن مفهوم المقدس والعنف من خـلال الحفريات الثقافية، و استنطاق بعض أشكال الممارسة الطقوسية التي تعبر عنها الأساطير و الأشعار الملحمية والنصوص الدينية،أظهر اهتماما بأصول المقدس وعلاقته بالعنف أكثر من اهتمامه بماهيتهما، و يبدو أن الدراسات العلمية حول مفهوم "المقدس" لم تتفق فيما وصلت إليه من نتائج سواء أتعلق الأمر بالمفهوم أم بالأصول،ولعل أحسن ما نحيل عليه في هذا الصدد هو الموسوعة العالمية Encyclopédia Universalis, (1998).[2]

و يعزو الدارس "ر. جيرار" أصول نشأة فكرة المقدس إلى العنف، باعتباره نسق المقدس و نـظامه، إذ يقول :"يجب أن نضع المحاكاة والعنف في أصل كل شيء لنفهم الموانع و المحرمات في مجملها"[3] وعلى الرغم مما تحمله هذه الرؤية لمفهوم المقدس و العنف من اضطراب و تناقض، إلا أنها تستبعد على الأقل المقاربة الفرودية القائمة على الدافع الجنسي، و الاعتقاد الشائع أن عقدة   أو ديب أصل المقدس والمبدأ الخفي لطقوسه القربانية.[4]

و يستبعد الباحث "التجاني القرماطي" صحة هذه المقولة،في بحثه الموسوم:"المقدس و العنف" متسائلا كيف يمكن "أن يكون العنف أصلا للمقدس،ومن أهداف المقدس في مظهريه : الـعقائدي والطقوسي الحد من احتدام العنف وتفشيه في المجتمعات الإنسانية؟"[5] كـما يأخذ مفهوم المقدس لدى "روجي كايو" بعدا روحيا،إذ يبدو المقدس مقولة حساسة، ينبني عليها السلوك الديني، و تهبه طابعه المميّز، و تفرض على المؤمنين احتراما، يقي اعتقاده كل روح نقدية، فيُعرض عن الخوض فيه، ويضعه خارج العقل،وما بعده.[6]

وتأسيسا على ما قدمنا ينتهي بنا البحث إلى كشف تلازم المفهومين،بحيث يأخذ هذا التلازم مرجعيته من المقولة المسيحية: "كل شيء في البدء كان دينيا"[7] إلا أن هذه المقولة ما كانت لتلغي ما تضمنته فلسفة الإغريق حول المسألة نفسها ،حيث كان فلاسفة اليونان يعتقدون أن البدايـة كانـت في الحرب،وهذا أستاذهم هيروقليطس يقول : "من الحرب تولد كل شيء"[8] و هو ما يدعم فرضيتنا في هذه المقاربة، والمتعلقة بتعالق المقدس والعنف في رواية الصراع العربي الإسرائيلي، حيث تبدو العلاقة من خلال حضور الصورة الروائية و فرضها لمواجهة متكررة في أكثر من نص روائي، تعكس نزوعا نفسيا داخليا يتعلق بالجانب الصراعي/ الحربي، الذي يعتبر التسامح استراتيجية لمواجهته.

و مثل هذه المقاربة تقتضي منا أن نتجاوز أحادية الدلالة التي ارتبطت بالمقدس و بالعنف، للبحث عن التجليات المختلفة التي صاحبت ميكانيزمات هذا الثنائي، بحيث لا يخضع مفهوم "المقدس" من وجهة نظر أنثروبولوجية لتراتبية بين الأسطورة وما يسمى بالديانات البدائية و الديانات الراقية.[9] فالمقدس بالنسبة للمجموعة هو مؤسسة تنظيمية، أما بالنظر إلى الفرد فهو "تجربة وجدانية، تحيل إلى نوعية العلاقة التي نقيمها مع شيء ما، أكثر ممّا تحيل إلى الشيء ذاته."[10]

ومما سبق نستخلص أن المقدس على مستوى التجربة اليومية للإنسان هو تلك الطاقات الوجدانية، الخطرة، وغير القابلة للفهم والتجزئة.أما العنف،فهو سلوك إيذائي،قد يكون باديا    أو متخفيا، ماديا أو معنويا، وفي كل هذه الحالات هو إنكار للآخر من مجال الحياة، و من مجال الفعل ومن مجال القول.[11]

و يعزي الدكتور خليل أحمد خليل حالات العنف إلى أنها " تُبنى على موروث ذهني جاهز، و قوالب مصممة عن الآخرين: الوثن الذهني بكل آلياته و مفاعلات ارتباطه، يحل أو يقترن بالوثن المادي، فيوضع الآخر في القالب المجهز على منوال قاطع الطرق."[12]

و تمثل النصوص التوراتية، و الوثائق اليهودية، و مجمل نتاج الفكر الديني اليهودي في مراحل مختلفة من التاريخ نموذجا صنوا للوثن الذهني الذي أشار إليه خليل أحمد خليل، بحيث لم يـكف كهنة اليهود عن تغذية تلك الأساطير القبلية المؤسسة للسياسة الصهيونية باستمرار، إلى أن أصبحت اليهودية بالنسبة إلى المتدينين من اليهود ذات مضمون عنصري مقدس.

و لقد أفادت الدراسات الصهيونية المعاصرة من هذا الإطار المرجعي المتعدد المشارب، حـيث وظفته في دعم ادعاءاتها بديمومة التاريخ اليهودي، و تبرير ما تطلق عليه بالحق التاريخي، وتحولت صيغة الوعد الإلهي إلى برنامج سياسي ملزم، أفرز خطابا عنيفا حولته الإيديولوجية الصهيونية إلى هدف مقدس، و تجسد هذا العنف في انتزاع أهل الأرض الأصليين، و اجتثاث انتمائهم بالحرب و القتل و الطرد و التشريد.

إن العلاقة بين المقدس والعنف الصهيوني في ضوء الصراع العربي الإسرائيلي تكشف عن أن المقدس، لا يمكن اختزاله في الدلالة المتداولة، فكأننا بالمقدس في الصراع العربي الصهيوني يحاصرنا، و يسكننا في حلنا وترحالنا.

2. عنصر القداسة في رواية الصراع العربي الإسرائيلي:

إن رصد ثنائية المقدس و العنف الصهيوني في النص الروائي تدخل ضمن المقاربات المعقدة التي تستدعي من الناحية الأيديولوجية و المنهجية حضور عدد من تقنيات التحليل، و التي قد تبدو متضاربة أحيانا.

و إذا كانت مساءلة المقدس تكتنفها معضلات منهجية التحليل المتضاربة، و التي اعتادت تثمين خياراتها و تبريرها بدعوى الاعتبارات العلمية لتمرير منطوقها الأيديولوجي، فإن مساءلة المقدس و العنف الصهيوني تطرح أكثر من إشكالية، إن على المستوى الأيديولوجي الـذي يحمل مخزون الصراع العربي- اليهودي منذ عهود قديمة جدا، أو على المستوى المنهجي، في ظل المقاربات العلمية المختلفة التي اعتادت تهميش المقاربة النقدية الأدبية باعتبارها رهـينة النص الأدبي، لا تبرحه، و لا تتعداه إلى ما يكتنفه من ملابسات قد يكون لها عظيم الأثر في تأويل و قراءة النص الأدبي.

إن المقدس مثله مثل العنف يتموقع في مواضع مختلفة من آنيتنا الفردية و الجماعية، و النص الروائي كإنتاج تخييلي يمثل مخزونا هاما لصور الصراع التي تتجلى من خلالها ثقافة الذات الفردية والجماعية، للأنا و الآخر عبر سلسلة من المجابهات بحثا عن تملك الأرض و التاريخ، و قد أفصح النص الروائي عن أن كل شيء في الصراع العربي الإسرائيلي قابل لأن يكون مقدسا، على حد تعبير "مرسيا إلياد "، في كتابه "المقدس و الدنيوي" و هو بصدد الحديث عن البنية الأسطورية للحركات السياسية المعاصرة،وللحياة العصرية برمتها."فالزمان والمكان والكائنات الحية و الجماد والكلمات جميعها أشياء مهيأة للانخراط ضمن فضاء المقدس."[13]

إن استحضار المقدس في النص الروائي، باعتباره أحد أركان قوة الأنا في مواجهة الآخر/ اليهودي، لا يأخذ مرجعيته من القيم التقليدية، أي المجموعة المشتركة التي تكوّن الدين و الطقوس التقليدية،كما يذهب إلى ذلك بعض الدارسين[14]، بل يضاف إليها متمم سحري/ أسطوري، تكون وظيفته غالبا تطهيرية. ولا نعتقد أن إطار صورة المقدس في النص الروائي العربي تستوفي مواصفاتها الكبرى في غياب محور رئيس آخر، ممثلا في العنف الذي يلازم المقدس في النص الروائي الذي له صلة بموضوع الصراع العربي الصهيوني.فالقداسة لا تكتمل إلا من خلال صورة الشخصية الروائية،مبنية على جمع لما لا ينجمع ضده، دون أن يفجر جوهره ووحدته، حيث يتعالق المقدس بالعنف لتقديم صورة خيالية، وتتحول البطولة التي لا تكاد ترادف ضمنا القوة البدنية و الحنكة، فهي لا تستوجب شرطـها الجوهري بحكم مواصفات العناصر الفاعلة،وهو التناقض المبدع المصاحب للنص الروائي،نجدها هنا يفصح عن جدلية الصراع التي نقرأها من خلال ملامح القداسة الماثلة في الثقافة العربية،على هيئة بطولة نمطية، ذات مرجعية قيمية، تلغي من اعتبارها وجود الآخر.

على هذه الصورة ووفق هذه الرؤية، يتجلى بعد استثمار المقدس و العنف في النص الروائي، بمختلف أشكاله، وبصورة أساسية،كعامل اجتماعي في مقاومة اليهود، رمز الكفرو الفجور و العنف.

تلك كانت إشارة إلى تعالق النص الروائي بالمقدس،توجب علينا التركيز عليها، إلا أن الملاحظة العامة المستخلصة من هذه القراءة التي لم تشمل إلا مدونة قليلة النصوص[15]- لاعتبارات منهجية- توحي بأن النص الروائي يسعى دوما إلى أن تكون الرؤية جزئية للمقدس، مما يجعل المواقف الدرامية للصراع تنحو نحو التعتيم، و تخفي الأسباب التي تشكل نزوع الإنسان العربي نحو المقدس في الصراع مع الآخر/ اليهودي.

إن استحضار المقدس في النص الروائي، باعتباره أحد أركان قوة الأنا في مواجهة الآخر/ اليهودي، لا يأخذ مرجعيته من القيم العامة المشتركة التي تشكل الدين و الطقوس التقليدية، بل يضاف إليها متمم سحري/ أسطوري

تكون وظيفته تطهيرية مما يعانيه العربي في صراعه مع الآخر،سعيا وراء تعويض ما فقده من آمال، و طموح.

و قد شكل المقدس ملجأ الذات العربية التي ظلت بعد هزيمة جوان 1967 تبحث عن أفضل صورة لها،فلم تجد ذلك إلا في مخزونها التراثي والأسطوري الذي اختلط فيه التأريخي بالمقدس، و ارتبطت البطولة في رواية الصراع العربي الصهيوني منبتا و تصورا بالخوارق و الأسطورة، بحيث لم تتواجد منفصلة و لا معزولة عن الإطار العقائدي للدين الإسلامي، و هو إطار لا ينضب لما ينضح به من رموز للأبطال و الأولياء و الصالحين، و القديسين و القديسات.

و تأسيسا على ما قدمنا نتصور أن الموروث الثقافي بما يحمله من قداسة في منظور الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة،أسهم كعنصر راَفْدٍ رئيسي في تشكيل أرضية النص الروائي، و لتحقيق ذلك سعينا في هذه المقاربة إلى الكشف عن هذا التوظيف.

3. البعد القدسي والعنف الصهيوني في رواية الصراع العربي الإسرائيلي:

كان من أبرز الأسباب التي جعلتني أركز على "المقدس" كعنصر موضوعاتي بارز في بناء رواية الصراع العربي الصهيوني، الخلفيات التاريخية و الثقافية التي ليس هذا البحث مجالها، و التي تضمنت كيف استقبل العرب هجمة الصهيونية على فلسطين، وما ترتب عليها من حروب، بوعي كامل الخرافية.وكان من أبرز علامات الخرافية الطريقة التي فهمت بها الصهيونية نفسها،حيث ظلت مشروعا خرافيا، يواجهه المثقف العربي، و سلطة الحكم في الوطن العربي، بخليط من المكابرة، و الإصرار، و ظل اليهود مجرد "جبناء، سفلة، حقراء، و صيارفة وضعفاء."[16] وتحول العجز عن تفسير الهزائم إلى مأزق يعيشه العرب أفرادا و جماعات،[17] و لما كان للأسطورة والمقدس منطق خاص،هو منطق الخيال الجامح، الذي يستوعب مختلف أشكال الصراع الإنساني، و يدرك رمزيا حقائق الحياة، كان اللجوء إلى توظيفهما هروبا من وضع تاريخي متأزم، إلى عالم خيالي، وفرته بعض النصوص الأدبية من رواية، و شعر، و مسرح، حيث برزت في هـذا العالم التخييلي خرافة "التفوق" على الآخـر/ الصهيوني، وعمت الرغبة في الاحتجاب عن العالم المعاصر الذي نجحت إسرائيل في أن تنتمي إليه، وكما يقول حازم صـياغ : "فاستيلاء الصراع العربي- الإسرائيلي على عقولنا حطم البنية الذهنية العربية."[18] و أمـام تحطم البنية الذهنية، على هذا النحو، لم يعد مهما الهزائم العسكرية أمام إسرائيل" فحـتى لو تحقق لنا، بفعل مصادفة عابرة،  أو سهو تاريخي ما، أن نحرز انتصارا.. بدونا عاجزين عن استثماره."[19]

لقد ولدت هذه الحاجة إلى طرد الهزيمة و أسبابها حاجة أبعد منها، فقد بات العربي يتمنى طـرد "العالم" الذي هو مسرح هزائمه، و انتصار الصهيوني، وكان البديل الضامن لتحقيق هذه "الرغبوية" الأسطورة و المقدس، حيث عبرت كثير من النصوص الروائية العربية عن انتصار اليهود الذي حولته الرواية عبر الخيال الجامح إلى انتصار للعرب.[20]

و من هذا القبيل أسطورة اختراق "الموساد" المخابرات السرية الإسرائيلية، في رواية : كنت جاسوسا في إسرائيل. رأفت الهجان، لصالح مرسي.[21] حيث أثبت شاب مصري قدرته في صنع المعجزات، و هي صورة من التحدي الذي يحلم به العربي في مواجهة الآخر / الإسرائيلي،فرأفت الهجان ليس أقل شأنا و دهاء من الإسرائيلي، و الألماني، وغيرهما.و قد تميزت قصة هذا العميل "الجاسوس" بامتزاجها بالعناصر التراجيدية التي تذكرنا بعوالم الأسطورة، خاصة بعد تلك الإضافات الفنية التي وظفها صالح مرسي، و التي أراد لها أن تمتزج بالواقع امتزاجا كيماويا، قصد الإيهام بواقعية الأحداث، وهو الهدف الذي يسعى إلى تحقيقه كل أديب روائي. وقد ساعد الجنس الأدبي الذي اختاره الروائي إطارا فنيا لعمله، و هو : رواية التجسس، على إضفاء الجو الأسطوري، لأن طبيعة هذا الجنس الأدبي تتطلب أن يكون البطل شخصية تؤتي المعجزات، وهو ما تحقق فعلا في الرواية.

كما تبدو بنية "المقدس" في رواية الصراع العربي الصهيوني متجلية في تحقيق "مفهوم الخلاص"، و هو الدور الذي يسند إلى الرجل الصالح، و الذات المضطلعة بهذه الوظيفة تـكتسي الطابع القدسي، و ليست رحلة (الشيخ مرجان) في رواية: "أسطورة ليلة الميلاد" قبـل الوصول إلى بيت المقدس عبر غزة، إلاّ صورة من رحلة البطل في الأساطير و الحكايات الخرافية، للوصول إلى تحقيق "موضوع القيمة" المتمثل عادة في حيازة التفاحة الذهبية، أو الأميرة المقدسة، أو نبع الخلود.[22] يبحث البطل- في القصص الشعبي، و الشخصية في رواية الصراع..- في رحلته عن فكرة الوصول إلى عالم سحري، عالم الخلود، حيث يكون الطريق إلى هذا العالم محفوفا بالمخاطر، ذلك أن الموت يقف عائقا في طريق الوصول إلى الغاية" موضوع القيمة"، و لكن الموت في النص الروائي لا يعني الفناء، أو الانقطاع عن عالم الأحياء، فالشيخ مرجان يمنح كرامته إلى أهل القرية بعد وفاته.

و ما يلاحظ مما تقدم ذكره، أن النص الروائي لا يكتفي بعرض "الحادث الأسطوري"، بل يقدم كيفية الانفعال به، و التعامل معه، و يتجلى ذلك في الصورة التي تقدمها لنا رواية: "أسطـورة الميلاد" عن "المنقذ/ المخلص"، من خلال هذا المقطع السردي، "اختلفت الآراء حول هـوية الشيخ مرجان، فمن رأى أنه شيخ صالح مات مقتولا على يد الكفار، و من قائل أنـه شـاب مـغربي جاء ساعيا ليقدس الحج، و لم يمكنه المرض من أداء ما أراد.. فمات و دفنه بعـض الخيرين، و من قائل أنه حجازي طيب أتى بقافلة متاجرا و أراد الله أن تكون هذه البقعة نهاية مطافه، فدفنه رفاقه، ورحلوا."(الرواية:ص.22)

و ينسب الشيخ مرجان –في النص الروائي- إلى الأقطار العربية كلها: مصر، العراق، الحجاز، المغرب العربي، و مهما كانت الآراء قد اختلفت حول هوية الشيخ، و موطنه؛ فإن هناك إجماعا على أنه مسلم عربي، و أنه ولي من أولياء الله الصالحين، و أنه ما وجد بغزة إلاّ ليكون بشير بركة، و خير، وعلامة على رضى الله عن أهل الحارة أجمعين. (الرواية :ص.23) و من ثمّ تفانت الحارة "في إشعال السراج كل ليلة، لينير له المقام،كما توارثت العائلات.. عادة ملء إبريق فخار من الماء الطاهر ليتوضأ به، و يصلي..كل مساء." (ص.23)

كما يربط النص الروائي بين صورة المقدس الممثلة في شخصية "الشيخ مرجان" و شهادة  الفدائييْن : رمزية و أبو اليزيد،"وقف الهوس لحظة أمام قبر الشيخ مرجان.. تلفت في كل اتجاه، ثم أمـسك بشاهد القبر، وهمس: جاءك أحباب يا شيخ مرجان، سأضع على قبرهما سراجا مثل سراجك.. سيزورهم الناس، فالفرح، فالكثرة بركة" (ص.75)

إن هذا المشهد على الرغم من دلالته على الممارسة الفردية، يمثل استغراق الذات الفلسطينية في "بحر الثورة"، بشكل يقترب من العشق و الصوفية. أما البعد الأسطوري للحـدث، فقد كان ما أكده "الهوس"، أنه شاهده بنفسه من تحرك شاهد قبر رمزية و أبو اليزيد بـين يـديْه: رأى كيف ترجل أربعة يهود بسلاحهم العسكري، وجذبوا بعنف جسديْن لرجل و امرأة، ما زالت بهما نبضات حياة.. أطلقوا عليهما الرصاص للتأكد من موتهما، و استشعر حينها أن هناك أشياء غير طبيعية تتكشف.. فقد اهتزت الأرض، وارتعش شاهد القبر حيث ووريت الجثتان، "نظر إلى المقبرة الفارغة في غبش الضحى،كل شيء ساكن" إلا الشاهد الذي يهتز، فصاح: "تحركت القبور.. تحركت القبور."(ص.71) فهب الناس من رقـادهم، و ما من أحد في غزة إلا وقد "أصابته شظية صرخة الهوس المجنونة، وتحركت الألسن فولدت أسطورة."(ص.71)

مارس هذا البعد الأسطوري مدّا جماهيريا لدى السكان، و ذعرا حقيقيا لدى صفوف العدو،"وقد نجح الكاتب في استعمال الأسطورة الشعبية وتحريكها بمهارة لأداء دور هام في أحـداث القصة"[23]، حيث تصور الرواية لحظة من لحظات تصعيد المقاومة، بفضل مد جماهيري ذي طابع أسطوري من خلال تكثيف الضوء على اقتران حدث فدائي بامتداد الأسطورة القائلة بتحرك قبور الشهداء في مدينة غزة، وقد "استعمل الكاتب الإمكانات الكامنة في الأسطورة، و خاصة تلك المتعلقة بالوجدان الجماهيري، لتصوير أصالة الثورة في نفوس عانت الكثير من حياة اللجوء و التشرد، و أحرقها الشوق لوطن طال غيابها عنه"[24].

و نظرا للفعل السحري الذي يؤديه توظيف المقدس في مجتمع القرية المغلق، حاول الحاكم العسكري للقطاع أن يحد من هذا الفعل، فصاح في رجاله : "طوقوا الإشاعة بأي ثمن، فالأسطورة أشرس من السلاح."(ص.76) فلقد اعتمد بناء الرواية بشكل أساسي إلى جانب مقومات الشخصيات،على ذلك الخيط الأسطوري- القدسي، شبه الخفي الذي يربط كافة الأحداث و المواقف التي تنسب إلى الشخصيات، بموضوع "سراج الشيخ مرجان"، عبر شخصية "الهوس" الذي ظنه السكان مجنونا، فإذا هو شخصية صالحة، و يحيط بهـذا الموضوع أجواء مشبعة بالأسطورة و العجائبية،عكست معتقدات القرية،وممارستها للطقوس الدينية.[25]

و تنبع المعتقدات -غالبا- من الدين الإسلامي، ومسلماته العقائدية.. و يأتي في مقدمة هذه المعتقدات الاعتقاد في الولاية، فالأولياء رجال مقربون إلى الله،لهم إمكانيات الاتصال به أكـثر من غيرهم، و لهم مقدرة عجيبة على الأفعال الخارقة والمعجزات،وتظل لهم المقدرة نفسها بعد وفاتهم، و يظل الضريح رمزا لهذه القدرة على الفعل.[26] غير أن اتجاه روايات الصراع العربي الصهيوني بعد السبعينيات طرأ عليه تغيير جذري، مسّ على الخصوص بناء مضـامينه الفكرية و الإيديولوجية، فلم يعد الخلاص مرتبطا بالبعد الروحي/ الأسطوري، بل أصبح المد الثوري هو السبيل القويم لحسم الصراع العربي الصهيوني. إلاّ أن بعض روايات الصراع فضلت المزاوجة بين البعد الروحي و البعد الثوري، لتحقيق الخلاص/ التحرر. و أحـسن نموذج في المدونة يمثل هذا الاتجاه، رواية" سلام على الغائبين" لأديب نحوي، حيث تسند وظائف خلاص الأمة إلى الفدائي، البديل الموضوعي في الصراع العربي الصهيوني للرجل الصالح ذي الكرمات الروحية. و يرتبط بالفدائي الذي ينهي رحلته بالشهادة، شأن البطل المخلص/ المنقذ، مفهوم القدسية" الشهادة في سبيل تحرير الوطن"، حيث تمثل هذه "الشهادة"، مدخلا إلى تغيير الوضع الأنطولوجي للعالم. فالمجتمع الخالي من الاستعمار هو نسخة أخرى من أسطورة العصر الذهبي، و الصراع بين المعمِّر و المستعمَر هو صورة للصراع بين الخير و الشر، و الذي يمكن مقارنته بالصراع بين الإنسان و الشيطان، المسيح و الدجال، المسلم و اليهودي.

هكذا يصبح الصراع العربي الصهيوني،وخاصة في صيغته "التخييلية" في العالم الروائي، وكذا الصيغة الشعبية الدوغمائية المبسطة،بمثابة أسطورة تاريخية،ذات نفحة تنبئية، يؤيدها تاريخ الأمة العربية الإسلامية المليء بأحداث الصراع بين اليهود والعرب، مما يجعلها خلفية مغرية، و مفسرا سحريا لكل الأحداث التي تدخل ضمن إطار الصراع العربي الصهيوني. يرتبط بذلك إضفاء صبغة شيطانية على اليهودي/ الصهيوني، وصبغة مثالية على العربي/ المسلم، و إقامة تصور ثنائي "مانوي"[27] في العالم الروائي، حيث تحل الصهيونية محل القدر، و يصبح استعمار الـقدس (فلسطين)، هو الخطيئة الأولى، و يتحول الجندي الإسرائيلي إلى رمز لقوى الشر، بينما يكتسي الفدائي العربي صبغة الملاك "المخلص/المنقذ" والمحرر، وتأخذ الثورة سمة البعث و النشور، و يأخذ "القدس المحرر" صورة الفردوس المفقود.

و ما نستخلصه بوجه عام من توظيف عنصر "المقدس" في نصوص المدونة، هو أن الأديب يـتوخى من خلال تلك الممارسة الفنية تصوير عالم خيالي جديد، يزدري العالم الواقعي المعيش    و يحطمه، و قد يكون وراء ذلك محاولة إظهار التحدي الروحي الذي يفخر العرب بامتلاكه، دون الشعوب و الأمم الأخرى، ضد التطور المادي و الصناعي و التكنولوجي الذي يتصف به الآخر/ الإسرائيلي، و الذي بفضله حقق انتصاراته المتلاحقة على الأنا / العربي.

 

الهوامش

[1] - الجوة، محمد ؛ بن جماعة، محمود وآخرون.- الإنسان و المقدس.- تونس، دار محمد علي الحامي، 1994.- ص.72.

2- Encyclopédia Universalis.- Tome: 20, 1998.- p. 646.

3- GIRARD, R..- Des choses cachées depuis la fondation du monde.- Paris, Grasset, 1978.- p.22.

[4]- الإنسان والمقدس.- مرجع سابق.- ص.72.

[5]- القرماطي، التجاني.- المقدس والعنف، في: الإنسان والمقدس.- مرجع سابق.- ص.73.

5- Caillois, Roger.- L’Homme et le sacré.- Paris, Gallimard, Collection Idées.- p. 18.

[7]- المقدس والعنف.- مرجع سابق.-ص.71.

[8]- المرجع السابق.-ص.71.

[9]- القماطي، التيجاني.- المقدس والعنف.- مرجع سابق.- ص.70.

[10]- المرجع السابق.- ص.ص. 70-71.

[11]- المرجع السابق.-ص..71

[12]- أحمد خليل، خليل.- مجلة الفكر العربي المعاصر.- عدد مزدوج:27/28، 1983.- ص.19.

[13]- إلياد، مرسيا.- المقدس والدنيوي.- دمشق، ترجمة: نهاد خياطة، 1987.- ص.ص.190-191.

[14]- Otto, Rudolf.- Le sacré, L’élément non rationnel dans l’idée du divin et sa relation avec le rationnel. Traduit de l’allemand par André Jundt.- Paris, Editions Payot, 1995.- p.p.166-209.

[15]- شملت هذه المدونة الروايات الآتية:

- أسطورة ليلة الميلاد لتوفيق المبيض.- القاهرة، دار الثقافة الجديدة، 1977.

- كنت جاسوسا في إسرائيل-رأفت الهجان-، صالح مرسي.- القاهرة، أبوللو للنشر والتوزيع، 1990.

[16]- صياغة، حازم.- البعد الذهني للصراع العربي الإسرائيلي.- الكويت، مجلة العربي، العدد : 443، 1995.- ص.25.

[17]- المرجع السابق.- ص.25.

[18]- المرجع السابق.- ص.25.

[19]- المرجع السابق.- ص.25.

[20]- راجع تحليل عنصر "الأرض" في أطروحة الدولة حول رواية الصراع العربي الصهيوني المقدمة من قبل الباحث ،حيث بيّنا كيف أن أغلب روايات المدونة،كانت تنتهي بتحويل الهزيمة إلى انتصار، ومثال ذلك ما لاحظناه في نص:"أسطورة ليلة الميلاد"،ونص:""سلام الغائبين".

[21]- مرسي، صالح.-كنت جاسوسا في إسرائيل. رأفت الهجان.- القاهرة، أبوللو للنشر والتوزيع، 1988.

[22]- إبراهيم، نبيلة.- الإنسان و الزمن في التراث الشعبي.- مجلة الأقلام، مرجع سابق.- ص.ص.2-4.

[23]- أبو مطر، أحمد.- الرواية في الأدب الفلسطيني.- ص.ص.146-147.

[24]- القلماوي، سهير مقدمة.-أسطورة ليلة الميلاد.- ص.4.

[25]- الرواية في الأدب الفلسطيني.- ص.145.

[26]- بورايو، عبد الحميد.- القصص الشعبي في منطقة بسكرة."دراسة ميدانية".- ص.22.

[27]- المانوية "Manichéisme"، و هو مذهب ماتييس الفارسي الذي يعتمد على ثنائية الصراع بين شيئين متضادين كالخير والشر.


Political aspects of female regrouping in “Koubbas” of saints in the El Abiadh Sidi Cheïkh region.

The author has studied the relation between sacredness and profanity, based on an anthropological and political approach, through women’s practices in saintly marabout rites, which represent values and norms of this society (El Abiadh Sidi Chikh), during a period of Algerian political crisis - after multi-partyism - from 1993 to 1995.

Among the rites studied accent has been put on women’s regrouping in the sacred marabout space (the Koubbas of Sidi Cheïkh and his sons). The study tries to show how women transformed those places into a profane or political space during this period by relating rites to :

  • - Speeches denouncing saintly rites of a national level.
  • - Female association gatherings at a national level.
  • - Structure and organisation of this regrouping lastly, we can say that this rite represents at the same time, a model of indirect political participation and an association of active women who had a specificity linked to the structure of this sacred society in which women represent its cultural capital and its identity.

 مقدمة :

وضحت الدراسات المتعلقة بمشاركة المرأة في الحياة السياسية، تطورها من المجال المنزلي إلى المجال السياسي ثم الرجوع مرة أخرى إلى المجال الأول الخاص بها مثل ما جاء في الدراسات الجزائرية  الفرانكـفـونية : ف.ز. ساي،H. Vande vela س. خوجة.

فهذه الدراسات تدل على أننا مازلنا نعيش في أسطورة " الدولة و المواطنة "، خاصة و أن ضعف مشاركة النساء في الحياة السياسية ظاهرة عالمية تعبر عن السيطرة الذكورية [1]P. Bourdieu لإحتكار الرجل المجال السياسي و غياب المرأة عن مراكز القرار لذلك اعتمدنا لعدم التطرق إلى المعادلة الكلاسيكية المهمة في جميع البحوث رجل / امرأة، مجال سياسي عام / مجال خاص غير سياسي حتى لا نسقط في إعادة إنتاج النتائج.

عند دخولنا الأولي للميدان لدراسة واقع النساء في المجال العام في هذه المنطقة، اصطدمنا بظاهرة ممارسة النساء للطقوس الخاصة بالأولياء، ظاهرة أصلية و متجذرة في هذا المجتمع لكنها كانـت تمارس بغزارة مما جعلنا نتساءل عن هذا الرجوع القوي لممارسات المؤسسات التقليدية المقدسة في فترة بدأت الحركة الجمعوية  النسائية بالظهور و بداية تكوين مؤسسات جديدة لجزائر "التعددية".

فقمنا بتوضيح العلاقة الآنية للنساء بالسياسة و ربطها بغزارة ممارسة الطقوس  في السنوات الأخيرة 1993 - 1995 في مجتمع يتميز بالدنيوي و المقدس. بالاعتماد على التيار الأنثروبولوجي السياسي التكبري الذي رفض اقتصار السياسة على مجتمعات الدولة و يعمم الوجود السياسي في كل الأشكال الاجتماعية : الرمزية، الشخصية، الطقسية...

فكل ثقافة تحمل بداخلها نموذجا لتفسير نظم الحياة الاجتماعية فهي الإطار الواسع الذي يتشكل من : المعتقدات، القيم و الطقوس هذه الأخيرة التي تعد عنصرا هاما في تفسير مجتمعاتنا.

و الظاهرة التي نبهتنا لدراسة هذا الموضوع من خلال العمل الميداني الذي قمنا به في هذا الملجأ المحلي هي كثرة زيارة النساء "للصلاح" بتجمع هائل اتسمت به فترة معينة مناسبة 1993 - 1995 تسمى هذه الظاهرة " بالحضرة " عند سكان المنطقة حيث قمنا بتسجيل البعض منها في فترة  تزامنت مع الأزمة السياسية التي هزّت البلاد بعد إلغاء الانتخابات التشريعية الأولى (1991)، خلال بداية مرحلة "التعددية" الجديدة و ما نجم عنها من نتائج.

و كان عدد التجمعات التي قمنا بملاحظتها و دراستها 58 تجمعا عند كل قبب الأولياء الموجودة في المنطقة و على رأسها :

- أ - قبة الولي سيدي الشيخ :

باعتباره الجد المؤسس للمنطقة و عشائرها زيارة النساء له من كل الأنساب مستمرة و بدون انقطاع يومي الاثنين و الجمعة شكل اعتيادي و تعتبر الحضرة التي تقام عند قبة سيدي الشيخ تجمعا عموميا تشارك فيه النساء و الرجال خلال المناسبات الكبرى : الدينية و الوطنية.

- ب - قبة عبد القادر الجيلالي :

تجتمع النساء من كل العشائر عند مقام الولي الذي يبعد عن البلدة بعدة كيلومترات في الخلاء حيث تقطع النساء هذه المسافة مشيا على الأقدام بدون تعب و تصارع كل الظروف للوصول إلى هذا المكان المقدس.

- ج - عند بعض قبب أبناء سيدي الشيخ :

1 - سيدي محمد عبد الله

2 - سيدي الحاج بن الشيخ ( الابن الأكبر).

تجتمع عندهما النساء المنتميات نسبا إليهما مع نساء العشائر التي تسكن بقرب من مقامهما.

كـثرة هذه التجمعات تفسرها كذلك الفعاليات السوسيولوجية كونها المناسبة الوحيدة التي تلتقي فيها كل النساء باعتباره مجال مقدس الذي لم تقص منه المرأة لحد الآن و الممارسة فيه نشيطة.

- علاقة تجمع النساء عند الأولياء بالخطاب اللاغي لطقوس الأولياء:

بعد دخول الجزائر عهد " التعددية الحزبية " و ظهور عدة اتجاهات لبرالية، إسلامية، اشتراكية، وطنية...، دخلت الجزائر في مأزق سياسي خاصة بعد تصاعد " العنف " إثر إلغاء الانتخابات التشريعية التعددية الأولى، دل على أزمة قيم و معايير المجتمع لظهور عدة خطابات متضاربة تريد إعادة بناء أو خلق قيم جديدة على حساب ثقافة اخرى متجذرة في هذا المجتمع، في ظل هذه الأحداث بدأت ظاهرة تجمع النساء عند الأولياء في هذه المنطقة منذ التحضيرات للانتخابات التشريعية الأولى، كانت البداية هدفها حمائي و معارض للحفاظ على طقوس المجتمع و على ثقافته التقليدية التي توارثتها النساء عبر أجيال، و مازالت تحافظ عليها و بشدّة خاصة مع ظهور خطاب لاغي لها كانت تمثله التيارات الإسلامية الرافضة لإسلام الأولياء و الطقوس الخاصة بهؤلاء خطاب ظل بعيدا عن هذه المنطقة منذ المرحلة الباديسية " جمعية العلماء المسلمين " التي مازال جيلها ينقم منها في المجتمع المدروس إلى أن جاءت مرحلة " التعددية " بخطاب متشدد عليها.

في دراسة مريم بوزيد حول المقامات لاحظت بعد ظهور هذه الخطابات إنعدمت ممارسة الناس لطقوس الأولياء في المناطق المجاورة للعاصمة، عكس ما لاحظناه في المجتمع المحلي حيث مع هذه المرحلة أخذت النساء على عاتقهن مهمة المحافظة على هذه الطقوس و الشعائر التي تـحاول بعض الخطابات القضاء عليها أين كثرت زيارة النساء للأولياء بصفة مستمرة و منتظمة لم يكن لها مثيل سابقا كرد فعل لهذا الخطاب المهدّد لمعتقداتهن و كدفاع عن ثقافتهن، دليل على  أن المرأة تبقى المعنية الأولى لحماية العادات و التقاليد من خلالها " تدرك مقدار التحدي و الصمود في مجال البقاء للأقوى انطلاقا من مركزية الرجل و مركزية الخطاب تحاول إلغاء أصوات في الفضاء الحر و ممارسات نبذها الكثير و اعتبرها نسوية[2].

- تجمع النساء عند الأولياء و علاقته بالتجمعات النسائية الرسمية:

في المرحلة التي كانت تقوم نساء المنطقة بتجمعات على مستوى القباب، قمنا بتتبع وسائل الإعلام خاصة منها المكتوبة فلاحظنا أن حضرة تجمع النساء لازمت فترة التجمعات الوطنية التي تـعددت مـنـذ سـنة 1989 خاصـة مـع فـترة عـدم "الاستقرار الأمني" التي ميزتها تجمعات كانت تترأسها النساء قبل الرجال في كامل القطر الجزائري حيث اهتمت الصحافة المكتوبة بهذا الحدث النسوي مع سنة 1989 - 1990، منها صحيفة المجاهد[3] اليومية الناطقة بالفرنسية قبل ظهور الصحف المستقلة كانت مضامين التجمعات النسائية حسب الصحيفة حول:

- الحق في تكوين جمعيات نسائية، التعاون الجمعوي المغاربي النسائي و مناقشة قانون الأسرة ...

- صحيفة الوطن[4] مناسبة 1991 - 1994 : اهتمت بالتجمعات و المسيرات حول غـياب المرأة عن المجال السياسي، تعديل قانون الأسرة، النشاط التجمعي على المستوى الوطني للتنديد "بالعنف" حيث كثرة المسيرات التي ترأستها النساء في هذا المجال.

إذن التجمعات النسائية نشطت مع مرحلة "التعددية" السياسية، و ما نتج عنها من نتائج على كامل الأصعدة فكانت تمثل نوعا من المشاركة النسائية مع الأحداث السياسية و بداية لحركة جمعوية نسائية، فهل حضرة تجمع النساء هي نشاط جمعوي سياسي ؟

البنية التنظيمية لتجمع النساء عند الأولياء :

سميناها بحضرة تجمع النساء هو تجمع هائل للنساء عند أحد قبب الأولياء بصفة مستمرة  و منتظمة (خلال مرحلة الدراسة) نموذجها المؤسساتي كمايلي :

- المشاركات : تتمثل في الزائرات اللواتي يحضرن حسب قرب الحي السكني من القبة، و بالتالي حسب العشيرة، فكلما كان الحي السكني قريبا منها  كلما كانت نسبة مشاركة نسائه أكبر و العكس صحيح. عدى المشاركة عند قبة الجد المؤسس (س / ش) فهي متساوية نوعا ما بتجمع كل نساء العشائر.

- عملية الاتصال : هي جماعية، بمشاركة جميع النساء،بداية مع بوابة الولي التي تقوم بنشر الخبر على النساء القريبات منها، ثم على باقي المجموعات النسائية .

- عملية  التنظيم :  هي كذلك جماعية، يكون دور البوابة بإعلان عن "نوبة" الزيارة، بـفتح القبة و استقبال المشاركات من كل الأنساب، و عند الحضرة ينتظمن في مجموعة واحدة كبيرة من طرف القوالات (المغنيات) و النساء المسنات، و يكونن كتلة واحدة متحدة كأنهن يؤدين مهمة رسمية لواجب رسمي و مقدس.

- مكان او مقر حضرة تجمع النساء : قبة أحد الأولياء هو المقر الذي تلتقي و تجتمع فيه النساء خلال هذه العشيرة، فيعتبر هذا المكان المقدس المقر الرسمي لتتجمع حوله النساء إلى مـجال عام تناقش فيه كل القضايا منها السياسية، و هو الـمكان الوحيد الذي لا يحتوي على أية قيود، تمارس فيه النساء نشاطهن بحرية تامة.

و بفعل هذه الممارسات النسائية المنتظمة أصبح هذا المكان مجالا عاما رسميا، تنظم فيه التجمعات الرسمية (كالحملات الانتخابية...) للسلطات المحلية و لبعض الأحزاب، فخلال الحملة الانتخابية*للرئاسيات الماضية (نوفمبر 1995)، أقام الحزب الحر حملة عند قبة الجد المؤسس سيد الشيخ الذي يتربع في وسط المدينة على فرعيه، مرفوقة بالأغـاني التقليدية للأولياء (الديوانة) فـكانت حضرة أكثر من حملة انتخابية، التي نجحت في تجميع كل المجموعة السكانية: رجال، نساء، أطفال، و استطاعت أن تمرر رسالتها الانتخابية بهذه الإستراتيجية "التقليدية"، كانت لها عملية تأثير على المجتمع العشائري المبني على المقدس. فالولي و بعد ما كان مجرد مجال مقدس حوّل إلى مجال يجمع بين المقدس و الدنيوي (Profane) حيث أصبح مقرا لكل التجمعات النسائية أو العمومية. 

موضوع تجمع النساء عند الأولياء هي الأحداث السياسية التي كانت تعيشها البلاد و انعكاساتها التي أصابت كل شرائح المجتمع، فرجعت النساء و المقدمات بإصرار خلال هذه المرحلة إلى نشاطهن الذي توقف الرجال عن القيام به.

نستنتج مما سبق أن ظاهرة تجمع النساء عند الأولياء لها دلالاتها، مكانتها و طابعها السياسي الخاص بها، تحدده ظروف زمنية، ثقافية و سياسية، وليست مجرد طقس نسوي يعتبر البعض ممارسته مخلفا من مخلفات الماضي. نستطيع أن نحدد هذه الدلالة السـيـاسـيـة انـطـلاقـا بالاقـتـراب الأنثروبولوجي لـبـلانـدي G. Blandier أن السياسي موجود في كل التنظيمات الاجتماعية و ليس مقصورا على المؤسسات السياسية للدولEtats  الحديثة و ما علينا إلا اكتشاف حلقه الحقيقي حددناه في مايلي :

في العلاقة "السياسية" بين كثرة تجمع النساء عند الأولياء و ارتباطها مع الأحداث السياسية في البلاد ما بعد "التعددية الحزبية"، حيث اعتبرناها نموذجا من المشاركة السياسية لنساء المنطقة كباقي نساء البلاد المنتظمات مؤسساتيا في جمعيات نسائية و حتى في المسيرات الوطنية التي نشطت كثيرا خلال هذه المرحلة كما أشرنا سابقا.

مشاركة غير مباشرة لأنها غير رسمية، ليست لها علاقة بالمواد المنصوص عليها في قانون[5] الدولة الخاص بالتجمعات، لكن دلالتها السياسية الثقافية عميقة تؤكد على أن النساء تمثلن الرأسمال الثقافي للمجتمع و خزان قيمه و معاييره، تقوم بالمحافظة على هوية الجماعة كلما اقتضى الأمر، كبعد تصاعد الخطاب الديني اللاغي للاولياء، و هذا الأخير الذي يمثل العلاقة السياسية الأولى مع تجمع النساء عند الأولياء، إلى جانب علاقتـها مع تصاعد"العنف"الذي"ندّدت" به  كثيرُ  النساء عبر كامل القطر الجزائري[6].

تمثل حضرة تجمع النساء عند الأولياء جمعية غير رسمية لأنها ليست لها علاقة مع مؤسسات "الدولة الحديثة"، لكنها تخضع لنفس سمات الجمعية  "الرسمية" من خلال بنيتها التنظيمية،      و تختلف عنها في الجماعة المكونة لها "تشترك كل التنظيمات ببعض السمات الأساسية فلديها جميعها بني متمايزة بدرجات متنوعة فالعناصر التي تنسق نشاطاتهم لا تحتلّ فقط مراكز متميزة تراتبيا و إنما تختلف هذه العناصر في حياتها الخاصة[7] و نساء المنطقة مازلن يحافظن على قيم و معايير الـمجتمع التقليدي Weber  جمعية لها خصوصيتها المرتبطة ببنية هذا المجتمع المبني على المقدس فقد برهنت النساء على أن ليس كل ما هو  مقدس غير دنيوي فإشكاليتي : الروحي / بدائي، دنيوي / حديث تسقط هذه الـمعادلة في الظاهرة المدروسة، حيث استطاعت النساء أن تكون مؤسسة من نموذج آخر تتحكم النساء في تسييرها من دون منازع لها و بفعالية يـميزها الاتحاد الشديد بين النساء لـعدم وجود سلطة "دنيوية" يخضعن لها في هذا المجال المكاني، أين السلطة هي تقليدية يمثلها الولي الحاضر الغائب، حيث تذوب كل الفوارق الاجتماعية عنده و تصبح النساء كتلة واحدة يلعبن فيه أدوارا سياسية فهي فعالية منبثقة من قوة فعالية الأولياء، التي ميزت هذه المؤسسة المغاربية في مرحلة قديمة.

الخاتمة :

فارتباط النساء بالطقوس في هذه المرحلة السياسية الراهنة، مؤشر ثقافي يعكس أساليب تفكير النساء و اتجاهاتهن نحو المحافظة. و الممارسات الغزيرة للطقوس الخاصة بالأولياء تؤكد على أن النساء تمثلن الرأسمال الثقافي للمجتمع و خزان قيمه و هويته.

فهذا الطقس سمح للنساء بـالمشاركة في :

- التنظيم

- التقليل من الصراعات الاجتماعية و السياسية و ذلك من خلال ممارستها لبعض الطقوس.

نستطيع أن نسمي هذه الممارسات النسائية : أفعالا اجتماعية سياسية تقوم بعملية المراقبة و التأثير على القرارات المتعلقة بشؤون المجتمع المحلي، و أنها  نموذج من الثقافة السياسية النسائيـة، لارتـبـاط سلوكـاتـهن الشـعـائرية بالدولة "Etat" الحديثة التي وجدنا علاقة النساء بها، علاقة تعاطف و اهتمام بأحداثها، لا علاقة مشاركة و ممارسة، و أن للنساء أدوار سياسية في حقول أخرى فعالة مرتبطة ببنية المجتمع الذي تنتمي إليه المرأة في مؤسسات الأولياء (القبة، الزاوية) "ترفض القيام بدورها التقليدي و تلعب فيها أدوارا قيادية في كل الميادين منها السياسية"[8].

 

الهوامش

[1]- Bourdieu, P.- La domination  masculine.- in : Actes de recherche en sciences sociales.- n : 84, sep 1990.- p.p. 4 - 15.

[2]- بوزيد، مريم .- المقامات  و إشكاليات تملك الخطاب، دراسة إناسية لمنطقة بحارة بومرداس.- رسالة ماجستير في علم الاجتماع الثقافي، جامعة الجزائر، 1993.-  ص.142.

[3]- El Moudjahid : 1989 N = 7332, 7375, 7381, 7404, 7616,

  1990 N = 7664, 7684, 7713, 7740, 7751

[4]- El  Watan  : 1991  N = 330, 348 , 363, 365, 373

1992  N = 398, 435, 453, 538, 545

1993 N = 716, 723, 740, 743, 767

1994 N = 1041, 1046, 1210, 1233.

[5]- أنظر المواد : 1، 2، 3، 4، 5 من القانون رقم 28 - 29 الصادر في 31 ديسمبر 1989 الخاص بالاجتماعيات و التظاهرات العمومية في :

Journal Officiel de la  République Algérienne, 24 Janvier 1990.- p.14.

[6]- في المسيرات كانت الأولى التي عبرت عن سخطها " للعنف " بعدما أصابها حيث اغتيلت 300 امرأة حسب TV.

[7]- بودون، ر. و بوريكو، ف..- المعجم النقدي لعلم الاجتماع.- ص.199.

[8]- المرنيسي، فاطمة  .- المرأة و زيارة الأضرحة " ت : صلاح فاطمة الزهراء في أبحاث العدد 4 - 5 جوان 1984.- ص.61.


Sacredness and violence in soufie experience : the Biskra example.

The relation between sacred and violence isn’t dialectal or structural. If violence comes from different multiple sources, the sacred is from one sole source which is religious. This takes a symbolic and mystic dimension, inking up, from an even though mystic experience, where «soufi» knowledge is responsible for expressing efficacy in space.

The sacred, person or institution, is a form of popular belief ; it expresses itself through traditional popular religious practices which show its relation ship with pacific space, violent, symbolic or material, and it brings into evidence that violence isn’t intrinsic to sacred, but it in filters when the sacred changes it self into an instrument annexing space, thus starting a mechanism of violence.

The efficacy of the violence is accomplished, when the sacred becomes a war horse and the favourite implement in the conflict for annexing space.


 الأسطورة و البعد الرمزي المعرفي:

ارتبطت الممارسة الصوفية منذ نشأتها، كممارسة فردية تأملية، مرورا بتحولها إلى نظرية فلسفية اتخذت الشكل الحركي المنظم، بالجدال و النقاش حول مفهوم التصوف و تأويله، كمصطلح مشتق من الصوف الذي يرتديه الممارسون حتى صار علامة مميزة لهم، أو من الصفة، و هي مكان خاص   أقيم خلف المسجد النبوي بالمدينة لفقراء المسلمين الذين لا مأوى لهم و لا دار يقيمون فيه، أو إلى الصفي من الصفاء الروحي و النفسي لرجال التصوف[1]…الخ.

وفي المرحلة التي تبلورت فيها الممارسة الصوفية وتحولت إلى ممارسة جماعية منظمة انخطرت فيها جميع فئات المجتمع و هيمن عليها الطابع العملي التطبيقي للتصوف متخذة الشكل المؤسساتي؛ عبر الزوايا الطرقية، كمؤسسة دينية متفتحة على المجتمع، من خلال إمتداداتها الاجتماعية و الثقافية و التربوية و الاقتصادية و السياسية، امتد النقاش و الجدل إلى النسب الشريف الذي أصبح خاصية جميع الأولياء المسلمين مؤسسي الطرق الصوفية، فما هو تأويل رمز ارتداء الصوف، وما مدلوله الأسطوري، وما علاقته بأسطورة النسب الشريف ؟ و ارتباط هذين الرمزين بالقداسة التي أصبح يتمتع بها الأولياء ؟

1. الرمز و التجربة الينبوعية:

يـبدو أن التصوف الإسلامي هو المرحلة الأخيرة في نظام تعبدي أسطوري مغرق في القدم، يقوم على احتفالات و طقوس متعلقة بالتضحية التي يقدمها المتعبد، فدية أو إرضاء، أو أملا بالوفرة      و البركة. بدأ بتقديم أضحية بشرية، ثم تطور فصار البديل عن ذلك غنما "جمل – كبش"، وفي مرحلة أخيرة صار البديل و ضع شيء من الصوف رمز ذلك الحيوان على الرأس أو لبسه على البدن…إلخ. بعبارة أخرى صار الصوف بديلا عن الجمل، الذي كان بدوره بديلا للبشر. فوضع الصوف على الإنسان أو لبسه، هو في ذلك المعتقد عملية نقل أو تمثل، أو أخذ أسطوري لصفات الغنم لما يمثله هذا الحيوان من فداء و تضحية، ورمز للـحياة الخالصة من الذنوب، كما نجد هنا عملية ربط سحري بين الإنسان و الشاة، و الغفران أو التطهر و طلب الخلود، و من هنا نقول صار صوفيا.

فالصوفي هو جمل الله، و الصوفية هم ظأن الله و ملكه و الأضاحي المهداة له، إنه قربان بجسمه بذاته نفسها تقربا لله، أو عبر خدمة بيته و حراسة معبده؛ حيث عوضت الضحية البشرية في هذا النسق التعبدي بالحيوان "الغنم" ثم تحولت الضحية البشرية إلى نذر الله منقطعة إليه بتكريس العمر كله لخدمة معبده و زواره، فهو مرتبط بالحياة الميثولوجية و لا ينعزل عن التضحية بأشكالها المتعددة.

و في ضوء هذا النسق التعبدي الأسطوري، يمكن أن تفهم التقاليد التضحوية السامية جاهلية كانت أم إسلامية، فالتصوف كتضحية يستدعي توضيحه و ربطه بينابيعه التي هي في التحليل النهائي، المستمرة لما سبق وقام به ابراهيم عليه السلام" فديه لابنه البكر إسماعيل" في موسم الحج، و التي نجدها تتكرر في التضحية الجاهلية و الإسلامية عند الكعبة. فإذا كان المسلمون يكرورن في شعائر الحج التي رسمها لهم إبراهيم، الذي بنى الكعبة، و فدى ابنه بذبح. فان الصوفي في قفزة روحية يتسامى فوق المألوف، ليتناول عملية الفداء نفسها، فهو يقفز إلى ذلـك الزمن السحري و يندمج فيه، ليكون ذلك الفدي و ذلك الذبح، أي الكبش الذي لم يولد من رحم، و الذي رعي أربعين عاما في الجنة، إنه أساسا كبش هابيل الذي قبله الله وأصعده إلى السماء، فهو يتماهى في الكبش و من ثم يقدم ذاته ضحية كي يعيش الإنسان، تحدوه الرغبة في أن يكون كبش هابيل الذي يتقبله الله و يرفعه إليه، يرجع الصوفي أسطوريا إلى ذلك الزمان و الحال اللذين سبقا الحال و الزمان المعروفين.

فإنتساب الصوفي لإبراهيم، يتم عبر علاقة معنوية قوامها التضحية إلى أقصى حدودها بتقديم القرابين و منها الذات نفسها، ولعلى ارتباط الفتوة بإبراهيم دليل إضافي آخر، فالفتوة سلوك يقوم على إنكار الذات على كل مبدإ آخر، ذلك لأن تحقيق الذات يستدعي التضحية بالذات نفسها، فإبراهيم رمز التضحية قدم ابنه ليضحي به كما سبق أن أسلم نفسه للنيران و ماله للضيفان و قلبه للرحمان، ولذلك اتخذه الله خليلا، فهو تجربة ينبوعية و نمط أولي للطقس الصوفي التضحوي النذري.فالصوفي الذي يكرر أعمال إبراهيم، ويتصل به و يهاجر مثله يسعى لأن يكون خليل الله، يوغل في ذلك بـجعل نفسه تلك الضحية ذاتها، فيتماهى بالكبش الذي قدم فداء لإسماعيل "في حـالة  الأذى و الهلاك" أو بإسماعيل نفسه المتقدم طوعا للذبح قربانا لله و تحقيقا لنذر يقوم على التضحية بالإنسان "في النجاة". و بتقديم ذاته دبيحة يرى الصوفي أنه يخلد، و يصبح حالتئذ فـدية و ضحية و قداسة. وهكذا يكون عبارة عن الكبش الذي لولاه لما كان العرب و لكانت الكعبة و لكان الإسلام فالتصوف ممارسة رمزية لإنبجاس أول بئر ماء و لإقامة أول بيت، و لبناء أول مجتمع في مكة. فهو عبارة عن عملية خلق سحرية خارج الواقع و التاريخ للحياة نفسها؛ الحياة المباركة حول ماء مقدس "زمزم" و بيت مقدس" الكعبة" و مدينة مباركة " مكة. فالصوفي يتماهى في الإثنين جده إسماعيل و الكبش و يزيل ما بينه و بين طوطمه كل فرق و كل بعد، و بذلك فهو يعيد خلق الإسلام الذي بدأ مع إبراهيم، و يضحي بذاته  لإعادة خلق الكون و المجتمع و الإنسان و البيت الحرام و الدين، و بذلك فهو اعتباريا شخص ضروري،لاستمرار الحياة و الدين ولبقاء الطقوس و تأكيدها و إظهار حقيقتها و حصولها التاريخي و الفعلي[2].

2. المعرفة و التجربة الروحية:

موضوع المعرفة في النظرية الصوفية هو الله، ومدارها صفاته و أسماؤه، لاستحالة معرفة ذاته. و منبع هذه الرؤية أن الوجود في نظرية المعرفة الصوفية هو الله و حده، أما الكون و الـمخلوقات بما فيها الإنسان الذي هو أرقاها، فما هي إلا تجليات لصفاته و أسمائه. و قد أدى هذا التصور للوجود، إلى هدم الأساس النظري لفكرة التوحيد المستمدة من الشريعة، و القـاضية بالفصل المطلق بين الله و الكون بما فيه الإنسان إلى الجمع بينهما، وهذا في الواقع رفـض للشريعة كواسطة بين الخالق و الإنسان؛ حيث يصبح مصدر المعرفة الله يستمدها منه العبد مباشرة عبر مقامات و أحوال يمر بها للوصول إلى تحقيق ذلك[3]. لقد نتج عن هذا التصور للوجود و المعرفة، عدم الاعتراف بالتأويل الرسمي للنص الديني "القرآن" و معناه رفض معرفي للأساس الأيديولوجي للسلطة باعتبارها المحتكر الوحيد له حسب النص الديـني، و المقرر بأن التأويل و معرفة أسرار القرآن هو الله و الرسول و أُولُو الأمر، بالاعتماد على نص ديني آخر من القرآن نفسه، يحصر التأويل في الله و الرسول و الراسخين في الـعلم، أي رفض النص الذي يمنح حق التأويل لأولي الأمر "السلطة"    و يمنعهم منه باعتبارهم ليسوا أولي الأمر. و تبنوا النص الذي يفتح لهم باب ممارسته، باعتبار أنهم من الراسخين في الـعلم، العـارفين بأسرار القرآن. فأولياء الله المؤيدون بكرماته التي يظهرها الله على أيديهم تثبيتا لهم، و دليلا على بلوغهم درجة رفيعة في اكتساب المعرفة، و تدعيما لهم في مواجهة مناوئيهم من الشيعة "الخصم الآخر لهم بعد السلطة و حلفائها من الفقهاء و غيرهم" الذين يحصرون الولاية في آل البيت و بالتالي حصر حق ممارسة التأويل فيهم.

و انطلاقا من النصوص القرآنية التي تعالج مسألة ممارسة حق التأويل التي فتحت لهم باب و لوجه "كما بيّنا سلفا" توسعوا فيه ليشمل السنة "الحديث" و توصلوا في فهمهم للنصوص الدينية إلى أن لها معنيان ظاهري وباطني، و منهما أخذوا بالباطن الموجه للخاصة "النخبة" من أولياء الله العارفين و من مستواهم من العلماء الأتقياء، ورفضوا الظاهر الموجه للعامة "الجمهور"، ثم توغلوا في تأويل النصوص القرآن و السنة، للقضاء على أي امتياز ينفرد به غيرهم. عنهم، و خاصة الانتساب إلى آل البيت، أي الرسول برفضه و عدم الاعتراف به في البـداية، حيث كان الحلاج يقول دائما ردا على المنتسبين إليه "ما كان محمد أبا لأحد منكم" في سخط على هذا الامتياز الذي يحضون به[4]. ثم تأولوا معنى "البيت" الوارد في الحديث النبوي الشريف، الذي ينسب سلمان الفارسي إلى آل بيت "سلمان منا آل البيت "بـأن المقصود به هو بيت" الله بتوسيع معناه، ليشمل و يستوعب حتى من هو من غير العرب، ليتناسب و يتطابق مع النص الآخر، الذي ينسب فيه الرسول إليه الاتقياء حتى و لو كـانوا من الأحباش و يتبرأ من الأشقياء ولو كانوا من قريش " أنا جد كل تقي    و لو كان عبدا حبشيا، وبريء من كل شقي ولو كان قريشيا"، و هو مافتح باب الانتساب إلى آل البيت الذي أصبح ظاهرة بارزة تستطيع أي جماعة أن تلجه بالانتماء، فيما صار يعرف ذلك بالنسب الشريف الذي هو سمة كل الأولياء[5].

و الخلاصة إذا كان الولي الصوفي قد انتسب إلى إبراهيم عبر عملية الفدي لابنه إسماعيل رمزيا بارتداء الصوف أو وضع جزءا منه على جسمه دلالة على الكبش الذي فدي به باعتباره تـجـربة ينبوعية و نمط أولي للطقس الصوفي التضحوي النذري. فإن التجربة المعرفية الروحية قد عمقت هذا الانتساب من خلال ربطه بالنبي صلى الله عليه وسلم حفيد إسماعيل دمـويا و روحيا. مما أهله لتلقي المعرفة من الله مباشرة، باعتباره وريث الوحي لانتسابه الدمـوي لشجرة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، و معرفيا لوراثة الأنبياء لأن العلماء هم ورثة الأنـبياء، فقد ورد في الحديث " علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل" و في الأثر "العلماء ورثة الأنـبياء". و هذه الميزات أو الصفات هي التي مكنت الولي الصوفي من محاكات و تقليد الأنبياء، واستلهام سيرهم و تجاربهم التي فتحت الباب أمامهم لاكتساب القداسة، وبالتالي التسرب و التغلغل في بنى التركيبة الاجتماعية القبلية في المغرب العربي، فجل قبائل المنطقة تنسب لولي صالح يتصل نسبه بالنبي صلى الله عليه وسلم، فكلها وصل أجدادها المؤسسون إلى منطقة إقامتهم الحالية قادما من المشرق مرورا بالساقية الحمراء. و هذا ما سنجد له أثرا في المعطيات الشفهية التي زودنا بها الميدان، و هو الأمر الذي سيظهر جليا في صيرورة القداسة و المقدس.

II .صيرورة المقدس و القداسة

المقدس محوره الإنسان، و مصدره الدين، خاصة في الديانات التوحيدية، فالإنسان يستلهمه من الدين و يقوم بتفعيله ليشمل بإشعاعه الفضاء بمختلف مكوناته. و في التجربة الإسلامية التي تعتبر صورة الله في الأرض فإن قداسة الإنسان تأتي في المقدمة، قبل أي شكل آخر من القداسة مـهما كانت درجتها، باعتبار أن هذه الأشكال من القداسة تم اكتسابها في الغالب من الإنسان و بواسطته.

فالقداسة مرتبطة بذات الإنسان بالدرجة الأولى و لهذا تأتي حرمته و عدم التسامح في انتهاكها في المقام الأول قبل حرمة الأماكن المقدسة نفسها، و في مقدمتها الكعبة بيت الله الأول، فهـدم الكعبة أهون من سفك الدماء ظلما بغير حق رغم ما لهذا المكان من قداسة تضعه في المرتبة الأولى من ثلاثة أماكن مقدسة في الديانة الإسلامية على الإطلاق و هي : البيت الحرام- الكعبة، المسجد الأقصى - بيت المقدس، المسجد النبوي.

لكن في المجال العملي نسجل بعض الاختلاف في منبع القداسة و سيرورتها التاريخية و في كل الأحوال فهي كامنة في ذات الإنسان، إلا أن تفعيلها قد يكون عبر الاكتساب بالوراثة أو بمجهود ذاتي إرادي كما يلي :

1.أشكال المقدس

  • المقدس في اللغة هو المطهر و المنـزه و المبارك، و من هذه المعاني فإن القداسة تكتسب بالوراثة، و هي بهذا الشكل تصبح غير ذاتية و لا تخضع لإرادة الإنسان بل هي قوة خارجة عنه و عن إرادته، و هو ما ينطبق على آل البيت المطهرين بصريح النص الديني الذي يؤكد ذلك و يثبته، فالقداسة بهذا المعنى و هذا الشكل مبنية على رابطة الدم و النسب العائلي، فالبركة النبوية تسري في عروق آل البيت بدون جهد ذاتي إرادي، و تمتد لتشمل الفضاء الاجتماعي و حتى الكون.
  • المقدس كفعل إرادي ذاتي يكتسبه الإنسان بمجهوده الخاص و هي طريق الأولياء في الاكتساب، الذين يمكنهم بفضل المجاهدة عبر الرياضة الدينية بعد المرور بالمقامات و الأحوال من الوصول إلى الحقيقة التي هي المعبر الموصل للقداسة، و ترتكز في ذلك على تفعيل البعد اللاهوتي في الإنسان ليطغى على البعد الناسوتي فيه، و هو ما قال به بعض المتصوفة في تأويل معنى (خلق الإنسان على صورته) كالحلاج و ابن عربي.
  • 2. مجالات المقدس و فضاءاته :

انطلاقا من اعتبار القداسة نقطة الارتكاز في المؤسسة الطرقية، و لكون المعطيات التاريخية لا تشير إلى وجود المؤسسة الطرقية بمنطقة شمال شرق الصحراء الزاب، واد ريغ، ووادي سوف بل كل ما تشير إليه هو وجود بعض الممارسات الصوفية الفردية غير المنظمة في أي شكل محلي و إن كان بعض الممارسين ينتسبون إلى بعض الطرق التي كانت منتشرة خارج الـمنطقة في بداية العصر الحديث منذ القرن الخامس عشر، إلا أنه ابتداء من تلك الفترة حدث تطور هام باندماج المقدس الموروث بالمقدس المكتسب عبر اتحاد ابن الصلب مع ابن القلب أو بالتحام الطيني بالديني، مما أعطى دفعا قويا للمقدس و فعالية اجتماعية، بتحول المقدس من الفرد كميزة شخصية إلى المؤسسة كالولي المؤسس للقبيلة أو القطب مؤسس الـطريقة الصوفية، مما نتج عنه ارتباط المقدس بالظاهرة العمرانية بدوية  كانت أم ريفية حضرية عبر التأسيس أو إعادة التأسيس أو المباركة لضمان الحماية و الاستمرارية.

لقد أدى هذا التحول إلى تركيز مجال فعالية المقدس داخل التشكيلات و البنى الاجتماعية للقبائل - بدوية كانت أم ريفية - حضرية، عبر الدور الفعاّل الذي لعبه في تأسيس القبائل البدوية المعروفة بالمنطقة، مثل سيدي أمحمد السايح الجد المؤسس لقبيلة أولاد السايح، و سيدي نائل الجد المؤسس لقبيلة أولاد نائل، عبر فرعها بالمنطقة عرش أولاد زكرى… إلخ.

أما في ما يتعلق بالعمران الحضري، فقد كانت للمقدس الدور المحوري في عملية التأسيس كما هو الشأن مع الولي سيدي أمطير مؤسس بلدة أولاد جلال القديمة التي كانت موقعها على الضفة الجنوبية لوادي جدي بجوار زاويته التي تضم الآن ضريحه و المقبرة المحيطة به. أو عملية إعادة التأسيس التي قام بها تلميذه سيدي أحمد بن سالم و التي بدأت ببناء دار الضيوف في الضفة الشمالية المقابلة، بناء على طلب من سيدي امطير و برغبة من الولي سيدي عيسى بن أمحمد، بعد أن منعه فيضان الوادي من العبور إليه لدى زيارته له، و انتهت بخراب الأولى، و عمران الثانية التي أصبحت نواة البلدة الحالية.

و أخيرا عبر ضمان الحماية و الاستمرارية بإضفاء البركة على العمران، كما هو الشأن مع مؤسسة مدينة توقرت الأميرة الأرملة تيقرت بعد نفيها من طرف أهالي غمّرة رعايا زوجها سلطان غمرة بعد وفاته، و طردها من طرف سكان بلدة الشمّاس الواقعة إلى الجنوب بجوار توقرت الحالية، بالدعاء لها بالخير و البركة من الوالي سيدي بوجملين والي المسيلة بالحضنة، نتيجة إساءة سكان الشمّاس معاملته عندما أتى لأخذ القفارة منهم، و الكرم و الحفاوة التي حظي بهما من طرف الأميرة. ثم الدور الذي قام به سيدي أمحمد بن يحي سلطان وادي ريغ الذي تولى الحكم لفترة انتقالية، في تأمين انتقال السلطة من الأميرة تيقرت التي لم تخلف من يرثها في الحكم بعد وفاتها، إلى الشيخ سليمان بن جلاب الذي أسس حكم أسرة بني جلاب بالمنطقة بعقد اتفاق بينه  و بين السكان يتنازل بموجبه الشيخ بن جلاب عن الديون التي كانت له ذمّتهم مقابل اعترافهم بسلطته عليهم.

3.علاقة المقدس بالمجال :

لقد اختلفت هذا العلاقة و تنوعت بين المجتمعين البدوي و الريفي - الحضري في منطقي الزاب ووادي ريغ، و تشابهت في المجتمعين حسب الروايات المتداولة من  :

  • العنف المادي الصريح، كما هو الحال لدى فروع عرش أولاد زكري أحد الفروع الرئيسية لعرش أولاد نائل، جنوب الأطلس الصحراوي، غرب ولاية بسكرة، باِستعمال قوة السلاح للسيطرة على المنطقة الممتدة من وادي جدي شمالا حتى وادي ريغ جنوبا، و امتلاكها بعد طرد ملاكها السابقين من عرش السلمية و رحمان جنوبا إلى حدود وادي ريغ الشمالية. فالمقدس هنا إضافة إلى مكانته في البنية الاجتماعية امتد تأثيره و توسع ليشمل الفضاء المادي.
  • العنف الرمزي : في منطقة وادي ريغ من خلال الصراع بين سيدي ناجي و سيدي أمحمد السايح حول المجال الحيوي، و انتهى بطرد سيدي ناجي من المنطقة إلى السفوح الجنوبية لجبال الأوراس بمنطقة الخنقة، التي صار يطلق عليها خنقة سيدي ناجي، حيث استوطن أولاد السايح منطقة وادي ريغ منذ تلك الحادثة التي وقعت بين الشيخين، و التي ترتكز حسب الرواية المتداولة على البعد الكرامي الذي يخفي العنف المادي، و ينتهي لصاحب الكرامة الأقوى، على حساب الكرامة الأقل قوة، و تفصح في النهاية عن مكانة الوليين في القوة مادية كانت أم روحية على أنه يجب تسجيل ملاحظة هامة تتمثل في أن الصراع في النموذج الأول الخاص بالعنف المادي بين أولاد زكري و السلمية رحمان كان بين قبائل بدوية، في حين أن الصراع في النموذج الثاني الخاص بالعنف الرمزي كان بين ريفيّي سيدي ناجي و بدو سيدي أمحمد  السايح، و هو ما يوحي بان الصراع في النموذج الأول كان بين مجموعات بشرية في حين كان بين شخصيتين في النموذج الثاني.
  • السلم و هو ميزة مؤسسي العمران الريفي و الحضري، بل هم ضحايا العنف كما هو الحال مع الأميرة تيقرت المنفية أو الوالي سيدي أمحمد بن يحي الذي توصل إلى حل سلمي لمعضلة الديون بين سكان توقرت و الشيخ سليمان بن جلاب، و هي نفس الوضعية بالنسبة لمؤسس بلدة أولاد جـلال القديمة حول زاوية سيدي أمطير على الضفة الجنوبية لوادي جدي، الذي حاول في الـبداية الإقامة في بلدة سيدي خالد، و لكنه رفض من طرف السكان، و منع من الإقامة معهم، فعاد بعد طرده إلى الإقامة بجوار زاوية سيدي أمطير التي صارت نواة للبلدة. أما التحاق السكان للإقامة بالبلدة فقد كان يغلب عليه الطابع السلمي، حـيث يتم قدوم بعضهم بصفة لاجئين فارين من بطش أعدائهم، أو كنجدة بطلب من السكان الأصليين لمواجهة أعداء متربصين بهم، و أخيرا كمساعدين بصفتهم حرفيين، أو ناشري علم و معرفة… إلخ.

هذا في ما يخص المجال في بعده الحيوي، أما في بعده الإنساني البشري، فهو يتمايز من :

  • الاختلاف حول المؤسسين ذوي الأصول الدموية، حيث تصبح المعطيات نادرة حتى تكاد تكون منعدمة في المجتمع الريفي القروي، مثل عدم توفر معطيات كافية حول شخصية الـهامل الجد المفترض كمؤسس لعرش أولاد الهامل بأولاد جلال، مقابل وجود كمية نوعية من الـمعطيات حول زكري الجد المفترض كمؤسس لعرش أولاد زكري أحد فروع عرش أولاد نائل متمحورة حول شجرة النسب التي يحتفظون بها، امتدادا من الجيل الحالي مرورا بسيدي نائل، و إدريس الأكبر و انتـهاء بالرسول صلى الله عليه و سلم، عبر حفيده الحسين بن علي و فاطمة.
  • الانسجام و التشابه إلى حد التطابق في الجانب الروحي، حيث يتوفر النموذجان على معطيات نوعية حول هؤلاء المؤسسين متمحورة حول سيرهم، بما تحتوي من مناقب و كرامات منسوبة لهم، تبرز دورهم في تشكيل المجموعات البشرية في العمران بنوعيه البدوي و الحضري، كما هو الحال مع سيدي الحبشي الجد المؤسس لفرع الملالطية من عرش أولاد الهامل، و سيدي علي بن حركات الجد المؤسس لعشيرة أولاد قرين فرع أولاد حركات المتفرعة من عرش أولاد زكري.

إن هذا الاختلاف في الاستحواذ على المجال الحيوي و مكانته في بعده الإنساني البشري يؤدي بنا إلى نتيجة هامة جديرة بالتسجيل و هي : رغم أهمية المجال الحيوي في المجتمعين البدوي و الريفي الحضري كمعلم يحدد هويتهما، فإن القبائل البدوية تؤكد كذلك إضافة على هويتها من خلال شجرة النسب التي تحافظ عليها كصك يبرر وجودها و هذا قد يعود لعدم استقرارها و تنقلها الدائم الذي يفرضه نشاطها الاقتصادي المتمثل في حرفة الرعي، رغم امتلاكها لمجال حيوي محدد و معترف به. في حين أن القبائل الريفية لا تعطي أهمية كبيرة لشجرة النسب لاستقرارها في مجالها الحيوي، و هو وضع يلائم نشاطها الاقتصادي المرتكز أساسا على الفلاحة و الحرف[6].

أما في العصر الحديث فإن الصراعات الناتـجة  عن التحولات الاجتماعية، أو بسبب محاولات السلطة  المركزية ممثلة في بايليك الشرق بسط نفوذها و التحكم مباشرة في المنطقة منذ منتصف القرن 18، بنزع منصب شيخ العرب من أسرة بوعكاز الدواودة الذين كانوا يتوارثون هذا المنصب منذ العهد الحفصي، و تم  إقراره في العهد العثماني عبر زرع عائلة غريبة عن المنطقة، من خلال تنصيب الشيخ الحاج بن قانة في منصب شيخ العرب، و محاولة توسيع نفوذ هذه الأسرة بنزع مشيخة توقرت من أسرة بني جلاب، الذين كانوا يتوارثون الحكم فيها منذ القرن 15 و تنصيب أحد أفراد أسرة بن قانة فيه. لقد أدت الصراعات الناتجة عن هذه السياسة إلى تحطم البنى الاجتماعية القديمة ذات النمط الإدماجي الهلالي و كل أشكال السلطة المحلية بالمنطقة في الثلث الأول من القرن 19[7] مما أدى بالنتيجة إلى توسيع مجال و مكانة المقدس ؛ حيث تجاوز مرحلة تأسيس القبيلة أو القرية، إلى تأسيس ما يشبه الفدرالية القبلية التي تضم مجموعات مختلفة من القبائل البدوية و الريفية الحضرية، و تشمل مناطق شاسعة من بوادي و أرياف و حضر في شكل طرق صوفية، و هو الوضع الذي يبدو أنه أثر على الأمير عبد القادر في اختيار خليفته بالمنطقة ؛ حيث عين في هذا المنصب الشيخ لحسن بن عزوز شيخ الطريقة الرحمانية بها، رغم محاولات شيخ العرب بالمنطقة الشيخ فرحات بن اسعيد في الحصول على هذا المنصب مع الأمير، حيث أصبح للصراع مع أو بين الأولياء مؤسسي الطرق الصوفية أو فروعها بمنطقة شمال شرق الصحراء حضورا قويا.

ففي منطقة الزاب كان الصراع بين تلاميذ الشيخ سيدي محمد بن عزوز ناقل الطريقة الرحمانية إلى المنطقة و من بعده الشيخ سيدي علي بن عمر مؤسس فرعها بطولقة، ممثلا في كل من الشيخ المختار، و الشيخ علي الجروني، الذي انتهى بطرد الأول من بلدة سيدي خالد إلى أولاد جلال أين أسس الزاوية المختارية، أو طرده من أفراد عشيرته حسب رواية أخرى، و هو الصراع الذي تحول إلى صراع بين البلدتين.

أما في منطقة وادي ريغ فتمثل في الصراع بين الشيخ بن جلاب سلطان توقرت و سيدي الحاج علي التماسيني مؤسس الزاوية التجانية بتماسين بسبب تدخل سيدي الحاج علي في الصراع بين فرع أسرة بن جلاب الحكام في تماسين مع سلطان توقرت و انغماس قبائل المنطقة في الصراع، و بالأخص قبائل منطقة وادي سوف كأحلاف للمحورين المتصارعين[8].

إن هـذا المآل للمقدس بإنغماسه في ممارسة العنف يعطي لنا فكرة عن التغيرات التي عرفتها المنطقة حيث خضعت لنموذج الإدماج المرابطي الذي كان سائدا في غرب المغرب العربي منهيا بذلك نموذج الإدماج الهلالي الذي كان سائدا في شرقه[9]. و يفسر بصورة دقيقة و واضحة ارتباط العنف بالمقدس ؛ فتماسس المقدس أي تحوله إلى مؤسسة يؤدي إلى تحرك آلية العنف و يفتح المجال لممارسته، لأن الرهان عندئذ يصبح السيطرة على الفضاء.

الهوامش

[1]- لمزيد من التفاصيل يجب الرجوع إلى المصادر الكلاسيكية للتصوف. كحلية الأولياء: لأبي نعيم الأصفهغاني؛ الرسالة القشيرية: لأبي القاسم القشيري ؛ كشف المحجوب: لأبي عثمان الـهجويري ؛ الإحياء: لأبي حامد الغزالي ؛ عوارف المعارف: اعمر السهروردي ؛ المقدمة: لإبن خلدون ؛ دائرة المعارف الإسلامية: الجزء الخامس: مادة تصوف ؛ تراث الإسلام تأليف شاخت، بوزورث، ترجمة حسين مِنس عالم المعرفة، الطبعة الثانية، الجزء الثاني، الكويت، 1988.- ص.ص 87 – 104… إلخ.

[2]- زيعور، علي.- العقلية الصوفية و نفسانية التصوف.- بيروت، دار الطلعية، الطبعة الأولى، 1979.- ص.ص. 12،13،27،28،29 ؛ الربيع، تركي علي.- العنف و المقدس في الميثولوجيا  الإسلامية.- بيروت، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1994.- ص.ص. 113 – 118.

[3]- لمزيد من التفاصيل يمكن الرجوع إلى المصادر الكلاسيكية حول التصوف السـابـقـة الذكر في الهامش رقم "1".

[4]- يبدو أن هذا الرفض ذو خلفية سياسية، لعلاقته بممارسة السلطة التي كانت حكرا على بني هاشم، و بالتحديد آل البيت كامتياز خاص بهم؛ و هو ما يظهر بوضوح في ثورات ذلك العصر التي كانت في أغلبها بقيادتهم.

[5]- مروة، حسين.- النـزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية دار الفرابي الطبعة الخامسة بيروت لبنان 1985 الجزؤ الثاني ص ص 193 – 226.

[6]- الهراس، المختار.- التحليل الانقسامي للبنيات الاجتماعية : حـصيلـة نـقدية - نحو علم اجتماع عربي : علم الاجتماع          و المشكلات العربية الراهنة .- بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، 1986.- ص.ص. 273-275.

[7]- معاشي، جميلة.-  الأسر المحلية  الحاكمة في بايليك الشرق.- قسنطينة، رسالة ماجستير، غير منشورة، جامعة 1987.- ص.ص. 19-76 ؛ 271-289.

[8]- معاشي، جميلة.- الأسر المحلية.- مرجع سابق.- ص.ص. 305-313.

[9]- و هذا ينفي ما ذهب إليه عبد الله العروي حول هذا الموضوع.- لمزيد من التفاصيل أنظر :

Laraoui, A..- Histoire du Maghreb.- Tome 2, France, Maspero.- p.p. 18, 19, 21, 27.


Modernity, citizenship, and the field of “fiqh” (elements for a problematic approach).

The research worker has tried throughout this article to give a contribution in establishing a problematic approach on the knowledge of “fiqh”. Learning and science of religious Islamic law covering all aspects of life, from modernity and citizenship in the arab, moslem civilisational area.

Based on the following paradox, modernity and citizenship established them selves in a western civilisational spare springing from original resolutions, but these categories could only form themselves in the civilisational arab, moslem space.

Considering this paradox, the article questions the obstacles which prevent this forming?

It is also interested in the aspect of these obstacles, represented by intellectual and mental structures which produced modern arab, moslem thinking, and in particular the intellectual and mental structures related to the domain of “fiqh”.

From an implicit structural hermeneutical methodology, this article covers three points with a view to founding its conclusions, firstly it tries to define space of belonging and institution, then it analyses the question of producing knowledge (in general) and the knowledge of “figh” (in particular) in the civilisational field of institution, while trying lastly, to dismantle the intellectual and mental field structures producing “fiqh”. By relying on the results achieved by other research work, and finally concluding in all self frankness putting structural elements in evidence which make all attempts at a qualitative transformation of arab – moslem thought structures answering the demands of modern times impossible.


 المقدمة:

تشكلت الحداثة والمواطنة (كمفاهيم، وكأبعاد حضارية) في الفضاء الغربي في رحم حركة ذات طابع مزدوج:

1- حركة أفكار تنظيرية ذات مسار (من النهضة إلى عصر الأنوار) تنشد الاستقلالية (في أبعادها المختلفة).

2- حركة اجتماعية وسياسية حملت على عاتقها تحويل هذه الأفكار الجديدة إلى أفق التحقق في الواقع الاجتماعي والحضاري الغربي.

في حين أن الحداثة والمواطنة في فضائنا الحضاري العربي الإسلامي تجد نفسها حتى الآن وكأنها المركب الغريب عنه والدخيلة عليه.

فما العوائق؟

بدون شك يمكن رصد هذه العوائق في الصيرورة التاريخية لمختلف البنى –الكلية والجزئية- للمجتمعات العربية الإسلامية الحديثة إلا أننا سوف نهتم، في هذا المقال، بأحد أوجه هذه العوائق، المتمثل في البنى الذهنية الفكرية المنتجة للفكر العربي الإسلامي الحديث، وبالتحديد تلك البنى الذهنية والفكرية المتعلقة بالحقل المعرفي الفقهي[1].

  1.  1.المواطنة، الحداثة: التحديد والانتماء :

1.1 التحديد:

كلمة مواطنة، هي ترجمة لكلمة Citoyenneté  باللـغـة الفرنسية، وتدل في Le Petit Larousse : " أن الفرد له صفة المواطن" وفي نفس القاموس يحدد المواطن بأربعة معاني، نذكر منها:

1- في القديم: هو الشخص الذي يتمتع بحق الانتماء للحاضرة

2- عضو دولة: وهو بهذه الصفة له حقوق وواجبات مَدَنِية وسياسية.

3- في إطار الثورة الفرنسية، صفة تعوض السيد والسيدة[2].

لقد أسست الحَاضِرة اليونانية القديمة دلالة المواطن وفق مشروطية ما اسميه المساهمة والفعل، فالمساهمة متعلقة بدفع الضريبة من أجل تسيير الشؤون العمومية للحاضرة، أما الفعل فيتعلق بحق المساهم في النظر والنقد لتسيير الشؤون العمومية للحاضرة وواجب الالتزام بقوانين الحاضرة، وبالنتيجة من لا يحق له المساهمة المالية يمتنع أن يكون مواطنا، فالمواطنة اليونانية من حيث هي جامعة للمجتمع الفاعل (بالدلالة التي حددناها) فهي في ذات اللحظة مانعة للمجتمع المنفعل (وفق الثقافة السياسية المهيمنة في الحاضرة آنذاك).

تَـنْزَلِقُ الدلالة الحديثة للمواطنة في اتجاه التعميم، فهي تتجاوز حدود منطق الإنسان المنفعل. إن كل إنسان، من حيث هو حيوان عاقل، لن يكون إلا فاعِلاً، المسألة تتعلق بمأسسة الشروط التي ينبغي أن تتوفر ليكون كذلك، فالتنوير (بالمفهوم الكانطي للاصطلاح) هو مـؤسس للإنسان الفاعل لأنه يقطع الصلة مع كل انفعال، كل سلبية، كل خضوع مقابل وهم لا يأتي، فكل فعل لدى الفاعل هو "وجود بالقوة"، توفير الشروط على مستوى الفرد وكذا على مستوى الكلية المجتمعية يؤدي إلى تحوله إلى "وجود بالفعل".

فالمواطنة بهذا المعنى هي امتلاك صفة المواطن المساهم، المتمتع من حيث هو كذلك بمجموع الحقوق المدنية ضمن مجتمع سياسي، فهي هيكليا ذات طابع قانوني تؤسس للفرد الحر المستقل العضو في الدولة (الدولة بالدلالة الحديثة)، لكن وبحكم طابعها الديناميكي (التعليل في سياق لاحق)، لم تبق في حدود المنطق القانوني، بل تجاوزته لتتخذ أبعادا حيوية سياسية، ثقافية، اجتماعية، إيديولوجية ورمزية...

إنها وارتباطا بهذه الحيوية تدل على انتماء، مكانة وتمتع في فضاء الحريات، باختصار أنها تعبر عن ولادة الفرد الحر، المستقل وبدون تمييز. إنها منتوج تاريخي غير مكتمل الإنجاز (وفق تصورات هبرماس) فهو في سيرورة التحقق يجد نفسه في ديمومة التحول.

أما كلمة الحداثة La modernité، فتثير جدلا سجاليا قاتلا لها، وخلطا مثيرا بينها وبين مفهومي الحديث والتحديث، في حين أنها تختلف جوهريا[3] فهي "ليست مفهوما سوسيولوجيا، وليست مفهوما سياسيا، وليست مفهوما تاريخيا خالصا... ليست مفهوما، إجرائيا للتحليل، ليس هناك قوانين الحداثة، مميزات الحداثة... بل هناك منطق الحداثة، إيديولوجية الحداثة، إنها نمـط حضاري متميز، منطق يتعارض مع منطق الأنماط الثقافية التقليدية السابقة عليه"[4] فمنطق الحداثة يحمل الأبعاد الموضوعية والكونية، وإيديولوجية الحداثة تحمل الأبعاد الذاتية، أبعاد المعنى والتي تنزع إلى الهيمنة[5].

2.1. الانتماء :

يمكن رصد الحداثة و المواطنة، من حيث هما حصيلة متجددة لصيرورة تاريخية طويلة، وفق المحددات التاريخية التالية:

أولها: مرحلة ما قبل الفكر السياسي، إنها تمثل مرحلة المجتمعات اللاهوتية الباهرة كما يصنفها غوريفيتش[6]، إن مقولة ما قبل الفكر السياسي تعني لدينا أن محددات الفكر السياسي وأطره السوسيولوجية وبنياته الداخلية وعملياته الذهنية المنتجة له مرتبطة عضويا بالمنظومة الفكرية اللاهوتية – الماروائية فهي التي تؤطر كل ما هو سياسي (تنظيرا وممارسة)، تغذيه وتباركه باحتفالية أو تمنعه وتحرمه بجزر وإكراه.

ثانيها: مرحلة الفكر السياسي، التي تبدأ بتأسيس الحقل الذي يُمكِّن في الآفاق اللاحقة، بعلمنة الفكر السياسي من خلال تحقيق استقلاليته عن حقل اللاهوت في الفترة اليونانية والرومانية (بالتحديد قبل تبني روما للدين المسيحي)، إنها المرحلة التي ازدهرت فيها الفلسفة السياسية... وظهور البذور الأولى المبكرة لفلسفة الحق (جمهورية أفلاطون وقوانينه، أخلاق نيكوماخ والسياسة الآرسطيين....) الـمُعَلْمَنَة.

ثالثها: مرحلة علمنة السياسي المؤسساتي (أقصد الدولة)، لقد تحققت في العصر الحديث، بتلوينات وتمايزات مختلفة، في الفضاء الغربي. ارتكز الغرب الحديث –وفق هذا التحليل- على مكاسب المراحل السابقة كتراكم تاريخي ملائم لصياغة تدريجية لتنظيم سياسي اجتماعي نوعي ومتميز عن أنماط التنظيمات المجتمعية السابقة عليه، بل لنقل لقد تمكن الغرب بعبقرية نادرة تاريخيا أن يدخل إلى عالم الحداثة السياسية. إن فهم هذا التراكم، آلياته وكذا الوقوف على منطقة الداخلي المتحكم فيه يمكننا من المسك بأحد أدوات إنارة المسلك، أو المسالك الممكنة التي تؤدي بنا إلى تملك الحداثة الرحم "الشرعي" للمواطنة.

ستصاغ الحداثة، من خلال تثمين المكاسب المتراكمة السابقة، فَتُبَنْيِنُ (بضم التاء وتسكين النون) الفضاء المجتمعي الغربي وتشكل بالنتيجة ثقافة سياسية جديدة يتحدد منطقها الداخلي (أقصد الحداثة) ارتكازا على أُسَّيْن اثنين أحدهما يغذي الآخر ويتغذى منه، الأس الفلسفي العام أولا: مؤطر من خلال الدور المتميز للعقل في علاقته بالكون، نظرة جديدة للزمان، وجود طبيعة لـها قـوانينها الخاصة وحرية الإنسان، وأس فلسفة الحق ثانيا: من حيث أن مصدر الحق لن يتأتى إلا من إرادة البشر وتجاوز الرؤى المعتقدة أن مصدره هو النظام الإلهي، أو هو انعكاس للنظام الطبيعي[7] .

في خضم الصراعات الاجتماعية السياسية في العصر الحديث، تم تدريجيا شرعنة الحقوق الإنـسانية الحديثة، وفي قلبها النابض مجموع الحريات الإنسانية بدون استثناء. إن هذه الحريات هي الـمُشَكِّلة لعصب المواطنة النامي، وهي في ذات الوقت الرحم الحي للحداثة، نسغ يغذيها ونسيج يشملها.

فمنطق الحداثة يسبح داخل فضاء متنوع، متعدد الأبعاد، ذو بنى مختلفة. متباينة، تتداخل فيما بينها ضمن تمفصل ملائم، متناغم ومتجدد. إنه (أقصد الفضاء) يحرك المجتمع في ديناميكية لا مثيل لها في اتجاه العالمية والأبعاد الإنسانية، إن منطق الحداثة، يفرض نفسه على الأبعاد الكونية بصفة موضوعية، أدركنا ذلك أم لم ندْرك، رغبنا في ذلك أو لم نرغب، أزعجنا ذلك أو لم يزعج، إنه يتجاوز موضوعيا الحدود وبالتالي الفضاء الذي أنتجها، وهو بهذا يؤسس لرحم المواطنة المتفتقة دوما والمتفتحة على العالمية بإستمرار.

ففي اللحظة التي تتشكل المواطنة في النسيج الاجتماعي و المؤسساتي تجد نفسها مندرجة في مسار تحولها إلى "مؤسسة" فعالة ومنتجة تنسج خيوط المؤسسات الاجتماعية لتؤول هي كذلك إلى فضاء الحداثة، ولِتَتَبِنْيِن وفق منطقها الداخلي، فالحداثة هي بمثابة فعل قلب الأرض (أقصد الأرض الاجتماعية) من أجل انبثاق المواطنة.

فلا يمكن لفعل الزرع إلا أن يكون مشروطا مسبقا بفعل قلب الأرض. وفي الفضاء الحـضاري العربي الإسلامي فعل قلب الأرض لم يتم بعد -رغم المحاولات الجادة التي قامت هنا وهناك منذ عهد النهضة – بل كَمْ هو عسير تحقيق ذلك تاريخيا، ذلك لأن الحداثة هي منبت مجتمعاتها فهي منطق ومعنى إنها كما يقول محمد أركون " تقدم نفسها في آن واحد كنظرية تأسيس فلسفي للعالم وكعلمية لتغيير المجتمعات، في الأنموذج الأول يَتِمٍ إيلاء الأولوية إلى الذات العارفة، إلى "الأنا"، والذات الكامنة تلك، التي كقيمة أسمى تضطلع بالمعنى وتبني العالم وتؤسس الرابطة الاجتماعية. وهو بطبيعته (أي الأنموذج الأول) لا يمكنه أن يؤسس ذاته، فكان عليه أن ينهل من "كاتالوغ" من القيم: الحرية، الفرد، العقل، الكونية. وبالمقابل في الأنموذج الثاني يَجْري الاهتمام بالتحديث، تلك الحركة التي تضمن الانتقال المعقد والمتعدد الأشكال من الحالة (أ) المجتمع التقليدي إلى الحالة (ب) المجتمع الحديث مع التساؤل عن أسبابها ورصد ميادينها ووصف أطوارها وتفحص أشكالها... في الأنموذج الأول: تأخذ الحداثة بالتقسيم المعياري، أما الأنموذج الثاني: التحديث يأخذ دلالة الحيادية[8]".

إن الدلالة التقييمية، المعيارية مرتبطة موضوعيا بالآليات والديناميكيات السوسيولوجبة و الأنتروبولوجية الحاملة للمعنى والتي تشكلت (هذه الدلالة) في أحضانها، فهي مُرَشَّمَة (الشدة على الشين وبفتحها) و تُرَشِّمُ بترشيماتها الخاصة؛ لكن –وهذا يتطلب التبصر- من العسير أن نرى بنـية الحداثة تنحصر في المعنى (الرمزي) المحلي الخصوصي (الفضاء الحضاري الضيق الذي أنـجبها)، بالرغم من أنها تتغذى منه نُسُغًا كثيفة. فهي تَنْزَع بطبيعتها إلى أن تكون عالمية، كونية، و هذه هي حيويتها المثيرة لأن عنقها يَشْرَئِبُّ دوما إلى العلى (التوسع و الانـتشار)، فتحمل في حركتها الأفقية حركية مماثلة عمودية، فالكونية هاهنا تتزاوج مع نزعة الهيمنة ويصبح أمر التمييز بينهما مستعصيا.

النتيجة معاداة الكونية تحت وطأة الهيمنة، أو الإنسياق وراء الهيمنة و الإعتقاد الوهمي بالظفر بالكونية دون التَّسَلُّح بالأدوات النقدية لتأسيس الذات الفاعلة في العصر.

في جميع الحالات، تندحر الأنا، وتَنْدَحِرُ معانيها الرمزية، ففي أحسن الأحوال تنتج الهيمنة، العداء ومن ثم المقاومة (مقاومة الآنا للأخر) وفي أسوأ الأحوال يؤول الأنا إلى الاحتضار في اتجاه التلاشي، فلا يعاد تشكيل الذات وفق متطلبات زمانها وتحدياته ورهاناته بل إما إنبهار وإما إمتعاض، إنبهار يولد الإغتراب، وكل إغتراب هو نفي للمواطنة، إنه نفي للفعل وتأسيس للانفعال، إمتعاض يولد الصدمة والصدمة المضادة، فلا تحقق إلا الإنطواء على الذات وفق منطق المقاومة، والمقاومة وإن كانت تبدو فاعلة، فهي فاعلة إلا ضمن بنية الإنطواء، فيتم إسْتِـنْـزَاف للقوى والملكات حتى يتم الاستنفاذ.

إن فهم المواطنة في مجمل أبعادها وفي بنية أَمْشِجَتِها، والعمل على تَشَكُّلِها في النسيج الاجتماعي وبالنتيجة إدراجها بتناغم في حداثة عقلية[9] في الفضاء الحضاري العربي الإسلامي، يُمَكِّن من هضم بعدها الكوني الموضوعي واستيعابه من حيث هو شرط ضروري لتملك موقع فاعل في حضارة الإنسان اليوم، و يُمَكِّن كذلك من تملك المسافة النقدية (الكافية) والروح الجريئة الثاقبة للكشف عن نزعات الهيمنة، آلياتها الصريحة والمضمرة، الثابتة أحيانا، الزئبقية أحيانا أخرى، المتربصة بكل تعبير حر ومستقل لتجليات رأس المال[10] (الذكاء، القدرة، العبقرية، الجرأة في الإبداع والإختراع) المتجهة للتوظيف الخلاق في فضاءاتها الأصلية (فضاءات الأنا المحلية).

2.المواطنة، الحقل الفقهي والعوائق الفكرية:

1.2. مكانة المعرفة الفقهية في حقل إنتاج المعرفة:

بإنقضاء الوحي، و إستكمال الرسالة، ووفاة الرسول (ص)، بدأ يدب في المجتمع الجديد، المتوسع في الأمصار إحتياجات جديدة ومتنوعة منها (في هذا المقام) الحاجة لإنتاج المعرفة المتعلقة بالله، بالكون، وكذلك بالإنسان، معرفة ملائمة ومتناغمة مع النسق الأطولوجي و الأكسيولوجي للنص المقدس (القرآن والسنة). إن حاجة الفرد (المسلم) والمجتمع الـمُنْتَمِي إليه إلى ضبط (في أدق التفاصيل) تشريعيا العلاقة المزدوجة: العمودية أولا، المتعلقة بالمسلم وربه والتي تتشكل من العقائد (كشرط للدخول في دائرة الإيمان) وكذا العبادات، والأفقية ثانيا والمتعلقة بالمسلم الفرد وغيره (بين المسلم والمسلم، بين المسلم وغير المسلم، بين الفرد و الجماعة، بين الجماعة والجماعة)، إنها تتشكل من المعاملات، وحاجة المجتمع للرد على العقائد المغايرة للإسلام والمجادلة له.

إن العقل في سيروراته و من أجل هضم وتمثل هذه الإحتياجات المعرفية سَيَتَلَونَّ بلونها، و يتشكل ويتبنين موضوعيا وفق منطق هذه الاحتياجات، وبالنتيجة لن تكون هذه المعرفة المنتجة إلا مستجيبة لهذه المتطلبات الضرورية، معالجة للمشاكل المطروحة على الفرد والمجتمع وفق المعاني الرمزية للنسق الأنطولوجي والأكسيولوجي للمقدس.

فظهر علم الفقه الذي يهتم بصياغة الأحكام الفقهية، وبعده علم أصول الفقه الذي يهتم بالمعايير التي تجعل تلك الأحكام مشرعنة، كما تشكل علم الكلام الذي سوف يحمل على عاتقه البحث في الأدلة العقلية للرد على العقائد المغايرة.

من حيث المبدأ، لاجدال في الحقل الفقهي و أصوله، إلا فيما يتعلق بالفروع بالنسبة للأول وآليات ضبط الأحكام من أجل أن تكون شرعية بالنسبة للثاني. إن الإيمان شرط مسبق للدخول داخل دائرة دار الإسلام، والتسليم بمسلماته أمر لا يمكن تجاوزه داخل هذه الدائرة. و بالتالي القبول والإذعان بطيبة خاطر لمنطقه ونتائجه المتعلقة بالأحكام (أي التشريع)، أما في الحقل الكلامي فالجدل هو المؤسس له، بحكم أنه موجه (من الوجهة المبدئية) خارج دائرة الإسلام، إنه موجه للرد على العقائد المغايرة.

في منظورنا، العقل العربي الإسلامي، في إنتاجه للمعرفة، خضع موضوعيا لآلية يمكن وصفها بالمجال المتحور حول نفسه، مجال مغناطيسي ممثل في "مركز-نواة" والأطراف تأتي لتتبنين حوله. إن آليات المركز النواة، بحكم طابعها المغناطيسي فهي تحدد حركة الأطراف من حيث التوجيه، الضبط والتحكم[11].

إن المعرفة الفقهية وأصولها في المركز النواة، والأطراف تمثل مجمل المعارف المنتجة في الفضاء الحضاري العربي الإسلامي، فالمعرفة الفقهية، معرفة دينية مُشَرِّعه للسلوك الفردي و الجماعي فهي مرتبطة عضويا بالنص المقدس، وعلماء الأصول بالرغم من أنهم علماء اجتهاد، فإجتهادهم لن يكون إلا في حدود النص ووفق هذه الحدود فقط وضمن أطر وبنيات العلوم اللغوية واللسانية لعصرهم. ومن هذا المنظور يعتبر الباحث عبد الجواد ياسين أن الفقه السني[12] قد احتل موقعا ليس له "إن النص الخالص لم ينفرد بتأسيس المنظومة السلفية، وإنما تأسست بوجه عام على مصادر تاريخية مفارقة للنص وإن كانت متاخمة له كالإجماع والقياس فلقد أتى مع الإسلام حين من الدهر لم يكن شيئا سوى النص، ثم أتى على الإسلام حين آخر من الدهر أصبح الإسلام فيه هو النص منضافا إليه الفقه والفكر.

و لقد صارت للفقه مكانة مرجعية مساوية لمكانة النص في الناحية العملية، ثم راحت تلعب في تكوين العقل المسلم على مدار الزمان دورا تجاوز بهذه المرجعية مكانة النص بقدر غير يسير، إن حجم الفقه في هذه المنظومة أكبر من حجم النص على وجه التحقيق[13]".

ولما كان المجتمع الإسلامي، تاريخيا، قد انقسم من حيث التراتب الفئوي الاجتماعي إلى العامة والخاصة، وخاصة الخاصة، سنجد العامة تهتم بالمركز- النواة، تدور في فلكه، إنها تخضع للفضاء المغناطيسي للحقل الفقهي، وهو بهذا يزود العامة - وعلى الدوام- بمختلف الأحكام الشرعية في أدق جزئياتها والمرتبطة بحاجات الناس اليومية المادية والروحية (الاعتقاد وشروطه، العبادات والمعاملات)، إنه الحقل المعرفي الوحيد الذي في فضائه يُضْبَطُ، يُشَرْعَنُ (بفتح الشين وتسكين الراء) السلوك الفردي والجماعي للمسلمين والنتيجة، التقنين الفقهي (بفعله، و مفعوله) "يسطو" موضوعيا على البنية الذهنية الوجدانية السلوكية للعامة، إنه يشكلها بالصورة التي تلائمه وتتناغم معه بصورة كلية، ومطابقة له إلى حد التماهي إطلاقا. وهي بهذا (أي العامة) والتي تمثل الجمهرة الواسعة المشكلة للمجتمع الإسلامي، تنفر من كل جدل في العقائد وبالتالي من المتكلمين. فالمعرفة الفقهية إذن هي أقرب إلى العامة وإلى أذهانهم ونفوسهم فهي التي تشكل هيكليا الحس المشترك (Le sens commun) لديهم، إنه نسق ذهني مغلق مشكل لعناصر بنائية في السِّمْتِ[14] (Habitus) بدلالة "بياربورديو"[15]. أما المعرفة الكلامية بعيدة عنهم إطلاقا، فهي مُشَوِّشَة، بل مُشَوِّهة لبنية أذهانهم مُخِلَّة بقواعد إيمانهم، مُزَعْزِعة لاطمئنانهم، مُعَطِّلة لعزائهم، فهي لا تتناغم مع سمت المؤمن، إنها معرفة غريبة عن عالمه البديهي، وتبدو له وكأنها معادية له، غرزوها من أجل تخريب السمت المتناغم والآنا، المنافي للآخر، بالنتيجة تكون المعرفة الكلامية في وضع معاكس لوضع السمكة في الماء، فيتم الشعور بثقل الماء، و لا يُدْرَك العالم وكأنه بديهي[16]، لذا سيدفع العقل العربي الإسلامي –من خلال بنيته الأساسية- عملية ذات طابع مزدوج ومتكامل، صرف أنظار العامة –أولا- عن المعرفة الكلامية "لوقايتهم" من كل مفسدة إيمانية (من خلال شرعية الأحكام التي تحرم السؤال الذي سكت عنه النص) العمل على إدخال وترجيح كفة آليات النص والنقل على حساب العقل –ثانيا- من أجل قص أظافر الجدل الكلامي، تهذيبه ثم تدجينه بالصورة التي يتقاطع ويتمفصل مع الفكر الفقهي السني تحديدا في المرحلة الأولى ويتناغم مع نسقه الفكري في مرحلة ثانية ليصبح جزءا منه يتمايز عنه في الدرجة وليس في الطبيعة، فيلائم السمت ويتناغم معه، إن فرقة الأشاعرة، قد تشكلت موضوعيا لتحقيق هذا الغرض، فقد غَذَّت الجدل والمساجلة من موقع "سني- متعقل".

إن داخل حقل النواة المركز الذي هو حقل مغذي، مؤطر، مراقب وضابط لمجمل عملية إنتاج المعرفة، يصطف إنتاج المعرفة الفقهية ذاتها من خلال رافعتين متكاملتين بالرغم من تعارضهما.

الرافعة الأولى: إجماع الأمة لغرض وحدة الدولة، الرافعة الثانية: الإختلاف الذي لا ينبغي أن يمس بالإجماع وبالتالي بالوحدة.

وبناء على هذا لن يكون الإختلاف الفقهي شرعيا إلا إذا كان مندرجا ضمن وحدة الأمة وبالنتيجة وحدة الدولة، إن آلية يجوز أو لا يجوز (الحلال والحرام) التي هي الآلية الجوهرية في الحقل الفقهي والمحددة لمختلف عملياته الإستيميولوجية (إن كل مستويات الأحكام الشرعية تصطف وفق تراتب ذكي، معقول ومثير من موقع أعلى وهو يجوز إلى موقع أدنى وهو لا يجوز)، هي سلاح في يد سلطة الفقهاء لتحقيق آلية الغلق حين يتجاوز الاختلاف في الحقل الفقهي الخط الأحمر ويمس بوحدة الأمة، هاهنا لتتقاطع سلطة الفقهاء مع سلطة الأمراء موضوعيا. أما في حقل الجدل الكلامي فيتخذ المسعى صيغة التقارب والنفور، فالتقارب من الأشاعرة والنفور من المعتزلة، ففي الحالة الأولى لغرض التلون بلون الإجماع والوحدة أما في الحالة الثانية لغرض الإبعاد و الإقصاء خارج الإجماع والوحدة.

إن تأسيس الرأي شرعا، حين غياب النص لا يمكن أن يندرج إلا ضمن النسق الفكري لعلم الأصول وهو الإجماع الفقهي للسنة بمختلف مذاهبها للحفاظ على وحدة الأمة، "فالرأي و الاستحسان، على حد تعبير سالم حميش، أخذا شكل القياس، وأن هذا الأخير ظهر مثيرا للاختلاف، وبرز أخيرا التنظير للإجماع بقصد محو آثار الاختلاف أو تليينها"[17] فبالرغم من أن الفقهاء ورجال الفكر عامة يقررون الاجتهاد، فلن يكون هذا الاجتهاد مشروعا إلا ضمن هذا الإطار ولا يمكن أن يكون خارجه، "إن كل المفاهيم الفقهية الرئيسية تتسلسل باتجاه الحفاظ على وحدة المذاهب السنية، ويلزم التأكيد على التبعية الصارمة التي تطبع علاقة مناهج الفقه بأصول الفقه وحتى وأن لاحظنا أحيانا في تلك المناهج بعض التوق إلى الاستقلال بذاتها، فإنه من قبيل التهافت أن نرى في الاجتهاد ممارسة للفكر الحر تُخَوِّل للفقه استقلالا بازاء الأصول و الحق أن الاجتهاد نفسه في هذا الحقل كما أكد الغزالي فيما بعد، ليس مطلوبا، إذ حيزه الخصوصي هو الظنيات وهو بالطبع هامشي وضيق كتحديد القبلة في حالة...[18]".

إنها آلية مضمرة تفعل فعلها من داخل بنية العقل الفقهي الأصولي السني (بدلالة أصول الفقه) فتحدد مساراته، إجتهاداته وتضاريس هذه الإجتهادات والمسارات من أجل كبح الصراع الإيديولوجي بين السنة والباطنية لصالح انتصار الأولى على الثانية لتحقيق "الغلبة" و بالنتيجة الهيمنة، الحصيلة هي أن "...هذا الخطاب، ومنذ نشأته، كان يراوده حلم الإكتفاء بنفسه وكفاية ممتلكاته و بدءا من القرن الرابع وطيلة الخامس الهجري كان ذلك الحلم في طور التحقيق وبدأت بالتوازي تلوح في الأفق علامات إنغلاقه ونهايته[19]".

2.2. الحقل الفقهي وعوائق إنبثاق الحداثة والمواطنة:

إن القراءة النقدية التي أنجزتها الباحثة لطيفة الأخضر للرد على الشيخ : محمد الطاهر بن عاشور[20] على علي عبد الرازق في مؤلفه "الإسلام وأصول الحكم" والتي اعتمدت فيها على آلية تفكيك الخطاب الديني كما وظفها محمد أركون، تمكننا من الوقوف على بعض أوجه العوائق الذهنية المانعة لإنبثاق وتشكل الحداثة والمواطنة: إن العقل الديني الـمُكَوَّن[21]، الذي يهدف إلى تحقيق إتفاق بين أفراده -تحت وطأة هيمنة قسرية- حول مجموعة القيم العقائدية والقواعد الفقهية التشريعية، ويسعى إلى وضع البقية في صف الملل والنحل[22]، هذا العقل الديني الـمُكَوَّن، وعلى طول تاريخ الفكر الإسلامي، كان إستجابة موضوعية لمتطلبات سياسية إيديولوجية متعلقة بالحفاظ على وحدة الأمة والدولة، من خلال تحقيق وحدة الفكر والسيكولوجيا وتشكيلها الديني والعقائدي والتشريعي، الـمُؤَسِّسَة للشخصية الإسلامية القاعدية الـمُبَنْيِنَة للسمت كمنتوج لمنطق الهيمنة السنية.

إن هذا التشكيل لا يرى ضرورة للتفاضل "بين الروحي الإيماني والتشريعي القانوني بل لا يرى له أي هامش للوجود المستقل... وهو بهذا يكرس فلسفة الأصول[23]" التي كانت تجديدية في البداية من خلال إمعان الرأي والاجتهاد، وغدت متحجرة في النهاية "لا يرى للروحاني و الإيماني مكان خارج القنوات التأطيرية التي أرْسَتْها إن كانت أصولا للدين أو أصولا للفقه[24]".

و بهذا الإعتبار الفكر الديني واحد، فهو نسق لا يقبل التجزئة على الإطلاق وبالتالي، هو نسق يشكل للرؤية التي ينبغي لكل مؤمن في كل زمان ومكان أن يتغذى منها ويغذيها، فينظر من خلالها لنفسه، لله وللوجود، و للخلق و العدم.

إن الحقل الفقهي الـمُوَظِّف لهذه الرؤية –بحزم وحسم- يقدم صكا يضع به المفكر داخل الإجماع فَيُشَرْعِنُ اجتهاده وإبداعه، وينزع صكا يضع به المفكر خارج الإجماع فَيُقْصَى و يُكَفَّر. تستخلص لطيفة الأخضر "أن رد الشيخ الطاهر بن عاشور مُؤَسَّس من منطلق نظام ديني مغلق، "إنه يلتجئ إلى حجة تقليدية تضع الطرف الآخر (علي عبد الرازق) خارج الإجماع السني ويعجز عن فهم هذا الاجتهاد الديني وهذه المقاربة النقدية خارج المنظور الأرتودوسكي السني[25]".

تتقاطع هذه القراءة التحليلية النقدية مع ما أطلق عليه البحث (حمادي رديسي)[26] التناول الثلاثي لما هو سياسي (أو خطاب السياسات الثلاث): الخطاب النبوي، الخطاب الملكي، الخطاب الفلسفي، فالخطاب الأول ينتمي إلى اللاهوت والثاني إلى الملك والثالث إلى المدن (البشر)[27].

ليصل إلى القول " فمن سياسات الإسلام الثلاث: صمد وحده مِلْحَاحًا عنيدا في العصور الحديثة الخطاب الديني البحت (ويقصد نظرية الإمامة) التي تأخذ مشروعيتها من الخطاب النبوي وبذلك أصبحت بمثابة الهوية السياسية للإسلام[28]".

إن نظرية الإمامة التي تستلهم الأفكار و الإجتهادات من السياسة النبوية تستجيب وبالتحديد لمتطلبات السؤال الوحيد والكافي.

من هو الأصلح لخلافة الرسول (ص) ؟ ما هي الشروط التي ينبغي أن تتوفر فيه ؟ وقد حددته الأدبيات الفقهية من خلال مصطلح الإمامة الكبرى وهو باب من أبوابها أنه ملحق بالمعرفة الفقهية وبالتالي خاضع لآلياتها وقوانينها الداخلية وهو آخر اهتمام الفقيه، وتلك هي المفارقة.

إنه بهذا قد جرى "انزلاق مضمر من السياسات في الإسلام، إلى سياسية الإسلام[29]" وتم الغلق النهائي والنتيجة التاريخية "تهاوى الخطاب الفلسفي ذو الأصل اليوناني (وكان بؤرة لإبتكار الحداثة الغريبة) واختفى من منظومة المعارف الإسلامية، وتمت أسلمة الخطاب الملكي "مرآة الأمير"ذو أصل " هندي –أوروبي" في حين الغرب حَوَّلَه إلى وصفةٍ حكم[30]"، كما تم فتح لإعادة إنتاج الخلافة[31] كمعنى تنزع إلى الهيمنة القسرية، نستلهم منها وليس من غيرها، نَتَمثَّلها لوحدها ولا وجود لغيرها الرمزي، ففي حدودها وفي حدودها فقط تتشكل هويتنا السياسية ويتنمط الفرد المؤمن وفقها، "فعوض الإنتقال من اللاهوتي السياسي إلى التعددية الحديثة، واجه المسلمون الحداثة بنموذج واحد هو الأنموذج النبوي ...وانطلاقا من هذه اللحظة وليس قبلها تَمَّ انزلاق الإسلام في خلط بين الروحي والزماني[32]".

و بهذا الغلق على الرؤية التعددية للسياسة وللإنسان، وللإيمان وفرض رؤية قسرية– على أساس منتوج فقهي أصولي مقدس له محدداته الزمنية المعرفية و الإبستيمولوجية- تنزع إلى الهيمنة وتلوح بعصا التكفير والتفجير، حجبت عنا إمكانية تاريخية واجتهادية هو تأسيس للحداثة وهي تنبثق من تضاريس العقل العربي الإسلامي ومساراته المعقدة.

و بتشكل هذا المانع أُوصدت الأبواب أمام المواطنة في تشكيلها التاريخي والطبيعي، إن بقاء النموذج النبوي في السياسة منفردا يصوغ المسلم و ينمذجه، ويشكل نظامه الرمزي و يتمثله، هو نتيجة لخضوع مجمل حقول المعرفة (خاصة حقل السياسة) إلى حقل النواة –المركز إلى آلية الإبعاد المضمرة لكن الفاعلة، لكل ما يمكن أن يؤدي إلى تحول نوعي داخل آليات العقل العربي الإسلامي وفق ديناميكية باطنية داخل طبقات العقل نفسه.

الأمر الذي انتهت إليه لطيفة لخضر حين ذهبت إلى طرح فكرة ضرورة تكوين نخبة من الـفقهاء الجدد: "الواقع الراهن للمجتمعات الإسلامية يشكو من شغور خطير يتمثل في انعدام وجود فئة من علماء الإسلام، يمكن أن تلعب دور الوسيط المتشبع بفلسفة الحداثة و ذلك بين الجماهير المؤمنة والمعرفة الدينية"[33] والذين يتكفلون بنقلنا من الأحادية الفكرية إلى رحابة التعددية، من الغلق إلى الإنفتاح، من الأورتودوكسية السنية إلى الإيمان الأنتولوجي –من التشريع وفق منطق الإمامة الكبرى إلى التشريع وفق المدن البشرية، وفي هذه الرؤية الجديدة تنصهر وتتشكل الحداثة وفي حضنها المواطنة.

الخلاصة:

إن الحقل الفقهي - من خلال عناصر هذا التحليل- يخضع لهيمنة داخلية (الأرتودوكسية السنية) وينزع هو كذلك، وفي ذات الوقت إلى إخضاع مختلف الحقول المعرفية الأخرى لهيمنتها، إن هذه الآلية المزدوجة هي المحور المحرك والمجمع للعوائق الذهنية و الفكرية المانعة لكل تحـول نوعي في العلاقة بني المسلم والطبيعة أولا وبينه وبين الحرية ثانيا و بينه وبين مصدر الحق (التشريع) ثالثا إلى الحداثة التي تمثل الفضاء الذي ضمنه تزدهر المواطنة لترتقي بالفرد إلى الأبعاد الإنسانية ضمن جذور تُوِميءُ إلى التفتح؛ ضمن أصول إيمانية متناغمة و حضارة اليوم تُمَكِّن الفرد من الاستلهام و العطاء، الأخذ و النقد بذكاء و كفاءة.

إنها تطلب زحزحة تحديدات المعنى وخلخلتها لتتحرر من هيمنة العقل الديني المكون وتصير إلى فضاء الوعي الديني الإيماني الرحب فَتؤسَّس الظاهرة الدينية وفق الأبعاد الروحانية الإيمانية الأنطولوجية التي يكون مركزها الإنسان في مجمل أبعاده، فيُؤَسَّس هنا لحداثتنا، وليس إستنساخا لحداثة غيرنا، تلتقي حداثتنا بحداثتهم في إحداثيات الإنسان، في إحداثيات المواطنة، في إحداثيات القيم، وتتباين عنها في المعنى بالمفهوم الأنتروبولوجي والرمزي.

الهوامش

* أصل هذه المقالة، مداخلة قدمت في إطار ندوة "الحداثة في واقع الفكر العربي المعاصر" والتي نظمها قسم الفلسفة، كلية الآداب والعلوم الاجتماعية، جامعة الجزائر بتاريخ 7 إلى 9 نوفمبر 1999؛ لقد أعدنا هيكلتها بما يلائم قراءاتنا الجديدة.

[1]- الحقل بالمفهوم الذي حدده بورديو،ب.- هو بنية من العلاقات الموضوعية بين أوضاع للقوة،يُسْنِد ويوجِّه الخطط التي بها يبحث المحتلون لتلك الأوضاع بشكل فردي أو جماعي ليَحْموا أو يُحْسِّنوا وضعهم وليفرضوا مبدأ التراتب الأنسب لحياتهم الخاصة". أنظر بورديو.ب وقاكونت ج.د، أسئلة علم الاجتماع، في علم الاجتماع الإنعكاسي، ترجمة عبد الجليل الكور، إشراف ومراجعة محمد بودورو، دارتو بقال. - 1977.- ص. 69.

[2]- Voir citoyen, le Petit Larousse, Grand format.

[3]- الحديث والتحديث من مكونات منطق الحداثة؛ لكن الحداثة تتجاوزهما من حيث الجوهر والشكل.

[4]- Baudrillard, J..- Modernité.- Paris, Encyclopedia Universalis, Tome 15, 1996.- p.552.

[5]-كل معنى (بالدلالة الأنتروبولوجية والرمزية) إن توفرت لها التربة الخصبة، تنزع بالضرورة إلى الهيمنة.

[6]- غوروفيتش.ج.- الأطر الاجتماعية للمعرفة.- ترجمة د. خليل أحمد خليل، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1981.- ص.ص. 182-189.

[7]- عياض، بن عاشور.- الضمير والتشريع. العقلية المدنية و الحقوق الحديثة.- الدار البيضاء، مركز الثقافي العربي،1998 .- ص.ص. 14-16.

[8]- أركون، محمد.- حوار أجراه حسان العرفاني، العقل الإستطلاعي المنبثق وأنواع الحداثة في السياقات العربية الإسلامية، العالم العربي في البحث العلمي (Mars).- باريس، معهد العالم العربي، العدد 10/11، 1999.

[9]- تشكيل الحداثة العقلية يتطلب توفير شروط النهضة وتحقيقها من جهة وانبثاق التنوير بالمفهوم الكانطي وسيادته من جهة أخرى.

[10]- رأس المال بالمفهوم الذي وظفه بوروديو.ب.- أنظر المرجع السابق.

[11]- عمليات التحديد، الضبط، التوجيه والتحكم لم تكن دائما نافذة بصورة آلية وخطية، إذ في حالات عدة كان يقع "تمرد" داخل هذا الحقل أو ذاك وفي الغالب يأخذ أشكال مضمرة، لكن سرعان ما آليات التحكم والإذعان تستعيد المبادرة لاسترجاع سلطتها الكاملة وفق مفاعيل متنوعة وملائمة. 

[12]- صنف الفقه إلى فقه سني، شيعي، صوفي، وهذا وفق الاتجاهات الفكرية والمذهبية للفكر الإسلامي، وقد هيمن الفقه السني على الاتجاهات الفقهية الأخرى، أنظر د. أبو الفتح بدوي عبد المجيد، التاريخ السياسي والفكري للمذهب السني في المشرق الإسلامي من القرن الخامس الهجري حتى سقوط بغداد، عالم المعرفة، جدة، 1983 (مؤلف يؤرخ لمسار هيمنة الفقه السني على المذاهب الفقهية المخالفة له).

[13]- عبد الجواد، ياسين.- السلطة في الإسلام، العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ.- الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 1998.- ص.60.

[14]- السِّمْتُ (Habitus) هو نظام من الاستعدادات والتصورات التي يصدر الفعل وفقه وبالتناغم معه.

[15]- بوروديو. ب و فاكونت.ج.د.- نفس المرجع السابق.- ص.87.

[16]- استعرنا المثال من بوروديو وفاكونت.- نفس المرجع السابق.- ص.87.

[17]- حميش سالم، التشكيلات الإيديولوجية في الإسلام، الإجتهادات والتاريخ، ترجمة ماكسيم رودنسون ومحمد عزيز الحبابي.- دار المنتخب العربي، 1993.- ص.40.

[18]- حميش، سالم.- نفس المرجع السابق.- ص.40.

[19]- حميش سالم.- نفس المرجع السابق.- ص.43.

[20]- أصدر الشيخ الطاهر بن عاشور كتيبا في ستة وثلاثون صفحة عنوانه: "نقد علمي لكتاب الإسلام وأصول الحكم" يرد فيه على الشيخ علي عبد الرازق.

[21]- ما يميز العقل الديني المكون "بضم الكاف وفتح الواو" عن الوعي الديني هو أن الأول "منظومة القواعد المقررة والمقبولة في فترة تاريخية ما تعطى لها قيمة مطلقة في تلك الفترة التاريخية (التعريف لمحمد عابد الجابري) والتي يسميها محمد أركون "بالأرتودوكسية السنية" أما الثاني فيؤسس للظاهرة الدينية وفق الأبعاد الروحانية الإيمانية الأنطولوجية (التمييز لمحمد أركون).

[22]- الأخضر لطيفة، قراءة في منهجية الفكر السني ومسلماته: حول رد الشيخ الطاهر بن عاشور على علي عبد الرازق "نقد علمي لكتاب الإسلام وأصول الحكم في IBAL N° 182, 1998, t 61 .- ص. 63.

[23]- الأخضر، لطيفة.- نفس المرجع.- ص.65.

[24]- الأخضر، لطيفة.- نفس المرجع السابق.- ص.65.

[25]- الأخضر، لطيفة.- نفس المرجع.- ص.64.

[26]- يعتبر الباحث رديسي حمادي أن إلتقائه بالفكر الإسلامي الهندي مكنه من اكتشاف التناول الثلاثي للسياسي في الإسلام.

[27]- رديسي، حمادي.- من التقليد التعددي إلى الحداثة الإسـتـبداديـة، الـعـالم الـعربي في البحث العلمي (Mars) باريس، معهد العالم العربي، العدد 10/11، 1999.- ص.156.

[28]- رديسي، حمادي.- نفس المرجع السابق.- ص.158.

[29]- رديسي، حمادي.- نفس المرجع السابق.- ص.158.

[30]- رديسي، حمادي.- نفس المرجع السابق.- ص.158.

[31]- تعني الخلافة لدى إبن خلدون (في المقدمة): "حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدُّنْيَوِية، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها لمصالح الآخرة".

[32]- رديسي، حمادي.- نفس المرجع السابق.- ص.158.

[33]- الأخضر، لطيفة.- نفس المرجع.- ص.74.


Islam and political representation: A survey on religious practices and political culture.

Academic research concerning linking Islam to politics is submitted to two main theses:

a- Islam in so much as social project encircling all sectors of life, at the same time law and the state.

b- Moslem societies are familiar with a certain separation between state space and religion.

Our contribution, which relies on field data, tries to examen the exactness of these theses, and to analyse, on the one hand, the social determinisms of religious practices and its links with political Islam, and on the other hand, the latter statute in political culture in Algeria.

This information proves that links between religious practices and politics are not automatic, but are refereed to objective sociological factors, which is what we try to discuss in this contribution.


 إن العلاقة بين السياسة و الدين موضوع ذو أهمية و حساسية قصوى في المجتمعات الإسلامية المعاصرة و ظل مجال نقاش بين الأكاديميين خلال معظم هذا القرن.

من الأفكار الشائعة بين الدارسين الغربيين و المسلمين على حد سواء هو أن الإسلام لا ينظم فقط مجال العبادات بل يتجاوزه ليكون مخططا أو برنامجا لنظام إجتماعي يشمل كل مـيادين الحياة بما فيها القانون و الدولة[1]. إن ما يؤكد هذه الحقيقة في نظر هؤلاء الدارسيين هو أن الإسلام ليست له مؤسسة رسمية كالكنيسة، بالرغم من وجود مؤسسات لعلماء الدين يسهرون كحماة لتفسير النصوص المقدسة. فهذا و خصائص أخرى تجعل من المجتمعات الإسلامية كيانات تختلف عن المجتمعات الغربية التي تتميز بفصل الدولة عن المؤسسات الدينية. فالذي يميز هذه المجتمعات كذلك هو وجود مجال مستقل لثقافة علمانية و مجتمع مدني يشكلان ركيزتين أساسيتين للحداثة الغربية.

إن غياب هذه الحداثة السياسية في المجتمعات الإسلامية و عدم الفصل بين العلماني و المقدس منع حسب العديد من المحللين، ظهور مجال مستقل للفضاء السياسي[2].

لا يتفق كل الدارسين للمجتمعات الإسلامية على هذه النتائج فبعضهم يقر أن هناك مجال مستقل نسبيا للممارسة السياسية- فلابدوس LAPIDUS- يرى أن المجتمع الإسلامي عرف نوعين من العلاقات بين السياسي و الديني: أ- علاقات تطابقية غير متمايزة (Undifferentiated) بين الدولة و الدين و التي تميز المجتمعات القبلية. أما المجتمعات الإسلامية الحضرية فعرفت تقسيما بين مجالات الدولة و الدين: "فرغم القول الشائع بأن مؤسسات الدولة و الدين موحدة، و بأن الإسلام هو نهج كلي للحياة الذي يحدد القضايا السياسية و الاجتماعية، فإن أغلب المجتمعات الإسلامية لا تساير هذا المثل بل قامت و أسست حول مؤسسات منفصلة للدولة و الدين"[3] [ لابدوس-ورد عند حسن..].

مهما يكن، فإن العلاقة بين الدين و السياسة مازالت تثير جدالا كثيرا بين الدراسيين و صراعا حادا و في بعض المرات داميا في المجتمعات الإسلامية المعاصرة. فأغلب الدول في هذه المجتمعات ظهرت للوجود على أثر صيرورة إزالة الإستعمار (Decolonisation) قادتـها حركات وطنية كان يتزعمها قادة ذوو نزعة علمانية نسبيا، و حافظوا بعد استقلال بلدانهم على المنظومات القانونية     و التربوية الموروثة عن العهد الإستعماري. فالحركات الدينية التجديدية و الحركات الدينية السياسية التي ظهرت على إثر فشل النخب الوطنية نددت  بالإتجاه العلماني في بلدانها و نادت بالرجوع إلى دولة تمثل الإسلام كمنهج للحكم و الحياة[4].

إنطلاقا من هذه الخلفية العامة سنحاول المساهمة في هذا النقاش الدائر في الأوساط الأكاديمية اعتمادا على معطيات ميدانية نركز فيها على تمثلات و مواقف الأفراد فيما يخص علاقة التدين     و الثقافة السياسية.

لن تكون هذه الورقة مساهمة أخرى إضافية في النقاش النظري الدائر منذ أكثر من قرن حول المسألة الحساسة لعلاقة الدين بالسياسة، و إنما سأحاول التركيز فيها، و من خلال إستعمال أدوات سوسيولوجية، على أبعاد و علاقات التدين بالتـمـثـلات السيـاسيـة بمعـنى آخـر هـي محاولـة مـوضعـة (Objectivation) و قياس علاقة التدين بالسياسة.

إن زخم الأحداث و كثرة الكتابات ذات الطابع الجدالي في مجال العلاقة بين الدين و السياسة، أضفى على هذا الميدان ضبابا كثيفا أصبح من الصعب بناء رؤية موضوعية فيه.

فبالرغم من كثافة الأدبيات حول هذا الموضوع فإنها تفتقر إلى معطيات ميدانية. إننا في هذا العمل سنعتمد على معطيات ميدانية جمعناها بواسطة بحث مغاربي لسبر الآراء شمل 1000 مستجوب في كل قطر (تونس-الجزائر-المغرب)*. فموضوع هذا البحث عام يهدف إلى رصد تمثلات، مواقف و سلوك المستجوبين حول مجموعة من الأبعاد للحياة الاجتماعية الأسرة، العمل، الدين و السياسية.

تنقسم هذه الورقة إلى فصلين، ففي الفصل الأول سنتعرض إلى الجانب المنهجي الذي يعالج تقنية تحليل المعطيات مع عرض للنتائج الإحصائية.

أما الفصل الثاني فسيخصص إلى التعليق و الشرح لهذه النتائج.

المعطيات و المنهجية

تم إخضاع المعطيات إلى مجموعة من التقنيات الإحصائية المختلفة :

- التحليل المعاملي، التحليل الإنحداري..إلخ. أفرز التحليل المعاملي

- مجموعات  من  المواضع (المتغيرات) ذات إرتباط عال فيما بينها مما يدل على أنها تقيس نفس البعد، إضافة إلى ما يسمح به التحليل المعاملي من تحديد الزمر التي بين عناصرها إرتباط عال، فإنه كذلك يمكن من تكوين سلم الإتجاهات (Scale of attitudes) حول المواضيع المطروحة.

- أسفر التحليل المعاملي على النتائج التالية:

 الأبعاد الدينية :

ثلاثة أبعاد دينية جرى عزلها و قياسها حيث بينت نتائج التحليل المعاملي ثلاثة زمر مختلفة تعبر عن أبعاد مختلفة للتدين. فالمجموعة الأولى للمتغيرات تدل على البعد الشخصي أو الفردي للتدين، و الثانية تبرز البعد السياسي للإسلام و دور الدين في الشؤون العامة، أما البعد الثالث فيشير إلى التقاليد المرتبطة بما يسمى بالإسلام الشعبي.

المتغيرات المكونة لهذه الأبعاد هي كما يلي :

* التدين الشخصي*

- أداء الصلاة بانتظام

- استشارة الإمام أو الفقيه في مسائل شخصية

- قراءة أدبيات دينية

* الإسلام السياسي (دور الدين في الشؤون العامة)

- الدين كمرشد في القضايا الإقتصادية و التجارية

- الدين كمرشد في القضايات الإدارية و السياسية

* الإسلام الشعبي

- زيارة أضرحة الأولياء

- الإشتراك في المواسم (الحفلات الدينية الشعبية)

- اللجوء إلى الطب الشعبي

تقدم توزيع مواقف (أجوبة) المستوجبين بالنسبة لهذه المواضيع بطريقتين:

أولا : تقدم الإجابات عن كل مؤشر على حدى-

ثانيا : تجمع التوزيعات لتكون سلما لقياس المواقف :

جدول I : (أنظر في الملحق)

من الجدول الأول يمكن استخلاص ما يلي :

التدين الشخصي :

الأغلبية العظمى من المستجوبين (76.9%) تمارس الصلاة بانتظام، و تمنح للدين دورا أساسيا كمرشد في الحياة الشخصية و العائلية، و لكن عدد قليل منهم يلجأون إلى استشارة دينية (الإمام) فيما يخص قضاياهم الشخصية أو العائلية، تجدر الملاحظة هنا أن السؤال المتعلق بالإستشارة الدينية كمؤشر على التدين سجل نسبة عالية عندما أختبر في بلدان المشرق العربي[5].

الإسلام السياسي و دور الدين في الشأن العام

إن نصف المستجوبين يمنحون للدين دورا في الشؤون الإقتصادية و الإجتماعية بينما الثلث منهم يؤكدون على دور الدين في الأمور الإدارية و السياسية. فتوزيع الإجابات في هذا المجال يبين أن ربع عدد المستجوبين يوافقون بشدة على الدور الريادي في الشأن العام، و ربع آخر يمنح بعض الريادة لـلدين، أما النصف المتبقى منهم فيرى أنه لا يجب أن يكون للدين أي دور في الأمور الإدارية و السياسية.

الإسلام الشعبي : حسب السلم المكوِّن لهذا البعد فإن ثلثي المستجوبين لا يتعاطون ممارسات لها علاقة بالإسلام الشعبي.

الأبعاد السياسية :

تمت معالجة المعطيات المتعلقة بهذا الفصل بنفس الخطوات المنهجية للفصل السابق –التحليل المعاملي- و كانت من نتائجه تحديد ثلاث زمر (أو مجموعات) بين عناصرها إرتباط عال- و تشير هذه الأبعاد إلى : أولا الموقف من النظام الإقتصادي، السياسي، ثانيا: يدل البعد الثاني عن المشاركة السياسية أما البعد الثالث فيشير إلى الموقف من الديمقراطية و الإنفتاح السياسي، أما التغيرات التي تكون هذه الأبعاد فهي كما  يلي :

* الموقف من النظام الإقتصادي و السياسي :

- الهوة بين الفقراء و الأغنياء أصبحت أكثر إتساعا في الخمس سنوات الأخيرة

- الحياة السياسية معقدة جدا حتى يفهمها المواطنون العاديون.

* المشاركة المدنية و السياسية

- الانتماء إلى جمعية مدنية

- المشاركة في المشاريع ذات المصلحة العامة

* المواقف من الديمقراطية

- تطوير المؤسسات الديمقراطية كأولوية في برنامج الحكومة

- الإنفتاح عن الأفكار المختلفة كمعيار للرِّيادة السياسية (أنظر الجدول رقم 2 في الملحق)

إن توزيع الإجابات كما يوضحه الجدول رقم 2، يبين الإتجاهات التالية:

* الموقف من النظام الاقتصادى و السياسي

أغلبية المستوجبين أبدو قلقهم من الهوة التي تتعمق باضطراد بين الأغنياء و الفقراء و في نفس الوقت يعتبرون أن السياسة أمر معقد خارج فهم المواطن العادي. و من هنا يتبين أن نسبة الرضا السياسي و الإقتصادي منخفضة جدا حيث لا تمثل إلا 5%.

* المشاركة المدنية و السياسية

قليل من المستوجبين يمارسون نشاطات مدنية أو سياسية فنسبة المشاركة بينهم لا تتجاوز 15%.

* الموقف من الديمقراطية

هنا كذلك قليل من المستجوبين يعيرون أهمية للمؤسسات الديمقراطية أو الإنفتاح على الأفكار السياسية كعامل في الريادة (Leadership)  السياسية. فعلى العموم هناك أقل من 20% تعطى أهمية  لتنمية المؤسسات و الأفكار الديمقراطية.

العلاقات بين الأبعاد :

لدراسة العلاقات بين البعد الديني و البعد السياسي و كذلك العلاقة الداخلية بـين الـعـناصـر الـمـكـونة لهـذه الأبـعـاد، عـمدنا إلـى تحلـيل متعـدد العـوامل (Multifactorial analysis) و طبقنا تقنية الإنحدار المعاملي (regression analysis) فهذه الأخيرة من شأنها أن تبين العلاقة بين المتغيرات و خـاصة أنها تحدد وزن كل متغير في المـعادلة. إحـتـوى الـنمـوذج الأول لـتـحلـيـل الإنـحدار (regression analysis) على الثلاثة أبعاد المكونة لسلم التدين مع إعتبار التدين السياسي كمتغير مستقل و البعدين الآخرين كمتغيرين تابعين.

بينت نتيجة هذا التحليل أن المستجوبين الذين سجلوا  نقاط عالية على مستوى التدين الشخصي هم الأكثر إحتمالا أن يناصرو الإسلام السياسي.

و على العكس من ذلك، فلا توجد علاقة بين التدين الشعبي و البعدين الآخرين (الشخصي و السياسي) أنظر الجدول رقم 3.

أما النموذج الثاني للتحليل الإنحداري و الذي يحتوي على المتغيرات السياسية و الدينية، فيوضح أنه ليست هناك علاقة بين البعدين الدينين و البعدين السياسيين (المشاركة السياسية و الموقف من النظام الإقتصادي و الإجتماعي).

فالعلاقة الوحيدة التي كشف عنها التحليل هو علاقة الإسلام السياسي بالموقف من الديمقراطية، بحيث توجد علاقة عكسية بينهما. أي أن المستجوبين الذين يعطون أهمية كبيرة للدين في الشؤون العامة من المرجح أنهم لا يبدون نفس الأهمية للمؤسسات و القيم الديمقراطية.

إن هذه الإستنتاجات ما هي إلا إتجاهات عامة لا تعكس الإختلافات و الفروقات في المواقف عند المستجوبين فحتى نلقي مزيدا من الضوء عن ديناميكية هذه المواقف المتعلقة بالتدين و الثقافة السياسية قمنا بربط هاته الأخيرة بمتغيرات مستقلة مثل السن، الجنس و المستوى التعليمي. جرى أيضا إجراء تحليل إنحداري (regression analysis) و أعطت النتائج التالية (أنظر جدول رقم 4).

البعد الشخصي للتدين :

يتبين أن نسبة الـتـديـن الشخـصي مرتفعة بين فئة الأكثر من ثلاثين سنة (30 سنة) ذوي مستوى تعليمي متدني و هذا بغض النظر عن الجنس. و تكون نسبة التدين الشخصي منخفضة بين الشباب ذوي مستوى تعليمي منخفض بغض النظر كذلك عن الجنس و كذلك بين الشباب ذو مستوى تعليمي عال :

تشير هذه النتائج إلى وجود تباين في مواقف الفئات الاجتماعية للشباب و الفئات الاجتماعية للكهول (Adults). يظهر أن الفئات الشبانية هي نسبيا أقل تدينا أو بالأحرى أقل ممارسة للدين. و هذا التباين هو أكثر إتساعا بين الأشخاص ذوي المستوى الدراسي المنخفض عند الجنسين و كذلك عند الرجال ذو المستوى الدراسي العالي.

البعد السياسي للتدين :

إن المواقف المؤيدة للسياسات المرتبطة بالإسلام السياسي توجد بنسب عالية بين الشباب من  الذكور ذوي المستوى الدراسي المنخفض و بين النساء ذات المستوى الدراسي المنخفض دون اعتبار السن، تنخفض نسبة التأييد بين فئة الذكور الغير الشباب ذوي مستوى عال من الدراسة.

فهذا يبين أهمية عامل التعليم في تفسير التباين في المواقف بين عناصر العينة دون إغفال عاملي السن و الجنس.

* الموقف من النظام الاقتصادى و السياسي :

إن مواقف المستجوبين من النظام السياسي و الحالة الإقتصادية لا تختلف، فهي مواقف تعبر عن عدم الرضا و خاصة بين الشباب ذو المستوى التعليمي المنخفض.

* المشاركة المدنية و السياسية :

إن المشاركة المدنية و السياسية هي أعلى عند الشباب ذوي  المستوى  التعليمي العالي. فنسبة المشاركة منخفضة بين النساء ذات المستوى التعليمي المنخفض مهما كان السن يشير هذا إلى أن عامل الجنس يمكن أن يفسر الإختلاف في المشاركة السياسية و المدنية بحيث نرى و يشكل عام أن نسبة مشاركة الرجال هي أعلى من نسبة مشاركة النساء.

* الموقف من الديمقراطية

يمنح الشباب من الجنسين ذوي المستوى التعليمي العالي أهمية كبيرة للقيم و المؤسسات الديمقراطية. تنخفض هذه الأهمية عند الذكور من الشباب ذوي المستوى التعليمي المنخفض و كذلك عند الكبار من النساء ذوات المستوى المنخفض كذلك. يتجلى هنا الدور الحاسم للتعليم في تفسير المواقف تجاه الديمقراطية. لكل من السن و الجنس دور كذلك إذا اقترنا مع التعليم.

 مناقشة

إن أهمية البحث الميداني و بخاصة في موضوع التدين و السياسة تكمن في إضفاء نوع من النسبية و التدقيق (nuance) على كثير من المسلمات التي يرتكز عليها الخطاب الأكاديمي و السياسي في هذا الميدان. طبعا، بعض النتائج جاءت مطابقة للحس العام و الملاحظة المباشرة.

فأحد أهم النتائج الإحصائية هي أن ظاهرة التدين على مستوى التمثلات و السلوك هي ظاهرة متعددة الأبعاد، و أن العلاقة بين أبعادها المختلفة هي ليست علاقة ثابتة و متكاملة.. أي أنه إذا كانت الثقافة الدينية تمثل مرجعا مهما في تمثلات المستجوبين فيما يخص حياتهم الشخصية و الفردية (حيث أن 70% منهم يقرون بأهمية الدين في هذا المجال) فإن الأمر يختلف في المجالات الأخرى للحياة الإجتماعية، بحيث أن 50% منهم فقط يؤكدون على أهمية الدين فيما يخص تنظيم الحياة الإقتصادية و الإجتماعية. تتراجع هذه النسبة إلى 31% عندما يتعلق الأمر بدور الدين في تنظيم الحياة الإدارية و السياسية. ليس من السهل التأكد من صواب هذه الإستنتاجات على مستوى المجتمع ككل، و لكن مع هذا توجد مؤشرات عامة و غير مباشرة تؤيد جزءا من هذه الإستنتاجات، فعلى سبيل المثال نذكر نتائج الإنتخابات التي جرت في 1990 و 1991 حيث كان نصيب التيار الإسلامي يـتـراوح مـا بـين الثلث (3/1) إلى الربع (4/1) من أصوات المنتخبين. فهذه النسبة تقترب من النتيجة التي كشف عنها البحث، و هذا بكل تحتفظ حيث أننا ندرك أن السلوك الإنتخابي لا يعكس بشكل آلي التمثلات و المواقف السياسية.

إن البعد الآخر الذي يكشفه البحث هو جانب الممارسات الدينية الشعبية حيث ما زالت هذه الأخيرة تعرف إنتشارا نسبيا في المجتمع رغم كون العينة تمثل مجتمعا حضريا أين من المفترض أن تكون فـيه هذه الممارسات هامشية. فهذا من شأنه أن يؤكد بعض جوانب نموذج E.GELNER[6]. للمجتمع الإسلامي. أنه أهم خصائص الدين الإسلامي حسب GELNER أن ينقسم داخليا بين إسلام  الصفوة (إسلام العلماء) و إسلام العامة. فالصنف الأول هو حضري يحمله علماء مدينيين ينحدر أغلبهم من الفئات البرجوازية التجارية الذين يعكسون قيم و أذواق الفئات الوسطى، تلك القيم التي تركز على النظام، إحترام القواعد، التعليم و الرصانة، و إلى جانب ذلك تؤكد على التوحيد في الدين تحارب كل أشكال التوسـط أو الـوساطة بين الله و الإنسان و يتميز أيضا بالصـفوية (Puritanism) و (Scripturalism) أمـا الإسـلام الـشعــبـي فـهـو إعـتـقـاد يـقــوم عـلى الـتوسط (Mediationist) بين الله و البشر. يرتكز على السحر أكثر منه على التعلم. و أهم مؤسساته هي زيارة الأولياء.

إن ما يلفت الإنتباه هنا و ربما يشوش هذا النموذج الثنائي، هو تواجد و بشكل واسع نسبيا لممارسات شعبية دينية بالحضر، و هذا بالرغم ما يظهر من إكتساح للساحة الدينية من طرف موجة الإسلام السياسي الذي هو أقرب إلى ما يصفه E.GELNER بالإسلام العارف (High Islam).

ربما النقطة التي تهمنا أكثر في هذا البحث هي العلاقة بين هذه الأبعاد المختلفة للتدين.. وخاصة منها العلاقة بين البعد الشخصي و البعد السياسي للتدين. إن هذه القضية و نظرا لحساسيتها في الظرف الحالي و هذا في مجمل المجتمعات الإسلامية، فإن النقاش حولها غاليا ما يكون ميرائي (Polemic) و مؤدلج.

تظهر المعطيات الميدانية  أن هناك علاقة بين البعد الشخصي و البعد السياسي للتدين أنظر جدول 5، نفس العلاقة تفرزها المعطيات المغربية. أنجزت بحوث ميدانية أخرى في مجتمعات شرق أوسطية توصلت إلى نتائج مختلفة، حيث أظهرت أن العلاقة بين سلم قياس التدين الشخصي و الإجتماعي هي علاقة ضعيفة. ففي هذا السياق إنتهى الباحث الأمريكي م.تسلار[7] من خلال دراسة مقارنة لسبر الأراء و المواقف في كل من مصر و الكويت سنة 1988 إلى أن 50% من المستجوبين الكويتيين و 70 من المستوجبين المصريين الذي سجلوا نسب عالية على سلم قياس التدين الشخصي أبدو تأييدا ضعيفا للحركات الإسلامية المعاصرة في بلدانهم.

إن دراسة المواقف و القيم و السلوك الإجتماعي بشكل إجمالي و شمولي قد يخفي التباين في المواقف و بالتالي لا يسمح لنا بإدراك الفروقات الموجودة، و عليه فإن ربط هذه المواقف و القيم  و السلوك بعوامل إجتماعية ديمغرافية كان ضروريا لإضفاء دقة و مصداقية أكبر عن النتائج العامة.

أفرز البحث عاملين أساسيين يفسران الاختلاف (Variance) في المواقف و القيم و هما عاملي السن و التعليم و إلى حدما الجنس.

يلعب عامل السن دورا مهما في تفسير السلوكات الدينية الشخصية و يصبح أكثر ثقلا إذا اقترن بالعامل التربوى، نلاحظ أن الفئات الشبانية الأقل تعلما هي الأقل ممارسة للدين. فالبرغم ما يلاحظ من تغيرات على مستوى الممارسات الدينية في الجزائر، فمازالت تخضع تـلك الممارسات إلى ثابت أنثروبولوجي (Anthropological invariant) وهو أن الممارسة الدينية تزداد كلما تقدم السن.

إن المعالجة الإحصائية لموضوع التدين تبقى عاجزة عن كشف طبيعة هذا البعد الحساس، فإن كانت توفر بعض المؤشرات المهمة فإنها تخفق في توضيح طبيعة الممارسات و التغير الذي حدث فيها. ففي ما يخص موضوع الدين و الشباب و رغم انخفاض درجة الممارسة مقارنة مع الكبار، فإن طبيعة الممارسة الدينية تختلف من جيل الشباب إلى جيل الكبار. إن ما حدث من غليان على الساحة الإجتماعية و السياسية الدينية منذ منتصف الثمانينات حتى اليوم هو ليس فقط اتساع في الممارسات الدينية (أو حركة إعادة أسلمة) بقدر ما هو طبيعة جديدة للعلاقة بالدين و الذي تمثله بالخصوص الفئات الشبانية.

فكما أوضحته دراسات سوسيولوجية[8] فإن التدين الشباني يهدف إلى مطلب هوياتي من خلال تمايزه و مخالفته لتدين الأباء. فالأمر هنا يتعلق بكيفية الممارسات الدينية و ليس مدى إنتشارها فحتى على مستوى الممارسات الدينية المحضة - أي الشعائر و العبادات- عمل الجيل الشباني على أن يتمايز عن الآخرين و ذلك بتبنيه لممارسات رمزية و شعائرية مختلفة، و التي تتمثل في ارتداء اللباس و طقوس تأدية الشعائر و كذلك الميل إلى الصرامة و التشدد في مجال المعاملات.        

فقيام الشباب بممارسات دينية تختلف عن تلك التي مارسها و يمارسها آباؤهم تعبر عن رغبة   و محاولة للتمرد عن النظام الاجتماعى القديم، و يتضح هذا الأمر أكثر عندما نلاحظ من خلال المعطيات الميدانية أن فئة الشباب القليل التمدرس (ابتدائي أو أقل) هم الأكثر تأييدا للإسلام السياسي (و المفارقة كذلك أنهم يمثلون الفئة الأقل ممارسة للعبادات)؟ هل هناك تفسيرا سوسيولوجيا لهذه المفارقات؟ ما معنى أن الشباب الأقل حظا في التعليم هم الأكثر تأييدا للإسـلام السياسي و كذلك في بعض الحالات هم أقل ممارسة للدين؟ ما معنى أن تكون النساء و بغظ النظر عن سنهن هن كذلك الأكثر مناصرة للإسلام الـسياسي؟ فهل من عوامل سوسيولوجية تلقى الضوء على هذا الموقف؟ لا توجد دراسات كيفية تبحث في هذا الموضوع. فإن ما في حوزتنا من معطيات تبرز فقط دور عامل التدريس، حيث المستوى التعليمي لهؤلاء النساء منخفض. فما يثير فضول الباحث أكثر هو أن النساء يمثلن القناة الأساسية لنقل القيم و التقاليد و المخزون الثقافي على الـعموم بواسطة عملية التنشئة الاجتماعية، فمن المتوقع إذا أن تكون تلك القيم والتقاليد أكثر إرتباطا بالإسلام الشعبي… في الوقت الراهن لا تتوفر لدينا معطيات أكثر لتحليل أدق لهذه النتيجة.

تعرضنا في هذا البحث كذلك إلى عناصر أخرى مكونة للثقافة السياسية: كالمشاركة السياسية، الموقف من النظام السياسي، الموقف من الديموقراطية… إلخ  و حاولنا البحث في العلاقة بين هذه الأبعاد و المكونات الدينية.

لا يبدو أن القيم الدينية بأبعادها : الشخصية، الاجتماعية و السياسية ترتبط أو تؤثر في مكونات الثقافية السياسية. بمعنى أنه و رغم الدور التجنيدي للإسلام السياسي فإنه لا يدفع إلى مشاركة مدنية أو إلى معرفة بالنظام السياسي… ربما يرجع هذا إلى محدودية و عدم مطابقة بين  المفاهيم النظرية للإقران الثقافية السياسية و الواقع السياسي الجزائري و تمثلاته… و قد يكون الظرف الذي أجرى فيه البحث الميداني - و ذلك في خضم الأحداث الدامية في الجزائر (1995) - جعل المستجوبين أكثر تحفظا في إبداء مواقفهم و آرائهم و سلوكا تهم و إبعادهم عن الاهتمام بالشؤون العامة، بحيث أكدت النتائج أن هناك نسبة عالية من العزوف أو الاغتراب السياسي political alienation)).

الخاتمة

وثقت نتائج هذا البحث لنسبية الأطروحات المتداولة في ميدان علاقة الدين بالسياسة. فبرغم تأكيدها لأهمية التدين داخل الجمع، فإنها اظهرت الدور النسبي للتدين السياسي.

و أهم من ذلك فإن المعطيات و تحليلها تبيّن الأهمية الكبيرة للمحدادات السيـوسولوجية للـظاهرة الدينية السياسية. فإن علاقة هذا الأخير مع التدين الشخصي / العادي ليست علاقة عضوية و لا آلية. و إذا فإن الثقافة السياسية للجزائري لا يمكن اختزالها في ثقافة سياسية إسلاموية، فمع أهمية البعد الاسلاموي في التعبئة السياسية و الـتمثلات، إلا أن المحددات السيولوجية و السياسية لها أهمية و وزن في تحديد طبيعة الثقافة السياسية.

الملاحق

الملحق 1:

جدول رقم 1 : (أ) البعد الشخص للدين الصلاة

 

التكرارات

النسبة المنوية

يصلي

لا يصلي

ملغى

المجموع

769

218

13

1000

,976

21,8

1,3

100.0

 

الدين كمؤشر في الحياة الشخصية و العائلية

 

 

التكرارات

النسبة

كثيرا

بعض الشيء

لا

ملغي

المجموع

715

156

59

70

1000

71,5

15,6

5,9

7,0

100.0

 

استشارة إمام أو فقيه

 

 

التكرارات

النسبة

دائما/ بعض المرات

نادرا / أبدا

ملغى

المجموع

120

849

31

1000

0,12

84.9

3.1

100.00

 

الملحق 2

تابع الجدول 1

(ب) البعد السياسي للتدين

الدين كمرشد في الحياة الاقتصادية و الاجتماعية

 

 

 

النسبة

التكرارات

 

43,5

43,7

87,2

12,8

100.00

435

437

872

128

1000

كثيرا

قليلا / لا

المجموع

ملغى

المجموع

 

الدين كمرشد في الحياة الإدارية و السياسية

 

 

 

النسبة

التكرارات

 

23,8

53,8

77,6

22,4

100.00

238

538

776

224

1000

كثيرا

قليلا / لا

المجموع

ملغى

المجموع

 

سلم لدور الدين في الحياة العامة (هو مجموع الجدولين السابقين)

 

 

النسبة

التكرارات

 

21,4

24,8

47,4

77,0

23,0

100.00

214

191

365

770

230

1000

مهم جدا

مهم بعض الشيء

أقل أهمية

المجموع

ملغى

المجموع

الملحق 3

الجدول 2

الأبعاد السياسية

أ ? سلم المواقف تجاه النظام الاقتصادي و السياسي و الذي يتكون من عاملين (أي الإجابات عن سؤالين : تقييم الفرق بين الأغنياء و الفقراء + تقيم للسياسة)

 

النسبة

التكرارات

 

4,5

28,1

55,90

87,6

12,4

100,0

45

281

550

876

124

1000

راضي جدا

راضي بعض الشيء

غير راضي

المجموع

ملغى

المجموع

 

 

ب ? سلم المشاركة المدنية و السياسية و الذي يتكون كذلك من عاملي العضوية في جمعية و المساهمة في أعمال للصالح العام.

 

النسبة

التكرارات

 

82,9

15,2

1,5

99,6

0,4

100,0

829

152

15

996

4

1000

لا توجد مشاركة

بعض المشاركة

مشاركة أكبر

المجموع

سلفى

المجموع

 

ج þ   سلم الموقف من الديموقراطية (يحتوى على متغيرين 1: المؤسسات الديموقراطية)

 

  1. 2. الإنفتاج على الأفكار السياسية المخالفة).

النسبة

التكرارات

 

52.3

27.7

7،4

84.7

15.3

100.00

523

277

47

847

153

1000

موقف غير مؤيد

2.00

3.00م

مؤيد

المجموع

ملغى مجموع

الملحق 4

الجدول 3: العلاقات بين الأبعاد الدينية

ا- التدين الشخصي

ب- التدين السياسي

 

المجموع

غير متدين

متدين

التدين السياسي

التدين الشخصي

587

%100

%2,76

245

%7,41

%6,71

342

%3,58

%9,79

متدين

183

%100

%8,23

97

%0,53

%4,28

86

%0,47

%1,20

غير متدين

770

%0,100

%100

342

%4,44

%0,100

428

%6,55

%0,100

المجموع

 

 

نموذج التحليل الانحداري: Model Régression حيث التدين السياسي هو المتغير التابع

 

Sig

T

Standard

Coefficient

نموذج

 

 

BETA

 

0,00

0,02

0,21

10,908

3,091

,3122

 

0,111

0,083

الثابت( (constant

التدين الشخصي

التدين الشعبي

 

الملحق 5

الجدول 4

علاقات الأبعاد بالمتغيرات السوسيوديمغرافية

السن + الجنس + المستوى التعليم مع مقارنة بإجابات المسجوبين من المغرب

نسب التدين الشخصي مقترن بالسن + المستوى التعليمي

 

إناث

كهول

تعليم

عال

(إ ك ت ع)

إناث

شباب

تعليم

عال

(إ ش ت ع)

إناث

كهول

تعليم

منخفض

(إ ك           ت م)

إناث

شباب

تعليم

منخفض

(إ ش  ت م)

ذكور

كهول

تعليم

عالي

ذ ك ت ع)

ذكور

شباب

تعليم

عالي

(ذ س ت ع )

ذكور

كهول

تعليم

منخفض

(ذ ك

ت م)

ذكور

شباب

تعليم

منخفض

(ذ ش ت م)

 

86

74

96

47

87

60

92

50

الجزائر

80

61

90

31

81

56

89

42

المغرب

 

نسب المستجوبين الذين يوافقون على دور الدين في الشؤون العامة (إدارية / سياسية).

 

إ ك ت ع

إ ش ت ع

إ ك ت م

إ ش ت م

ذ ك ت م

ذ ش ت ع

ذ ك ت م

ذ ش ت م

 

18

33

40

43

15

28

34

47

الجزائر

37

53

50

42

44

46

56

33

المغرب

 

 

الملحق 6

جدول 5

مقارنة للموافق السياسية و الدينية بين المستجوبين الجزائريين و المغاربة

 

الجزائر

المغرب

 

%78

%73

التدين الشخص (الصلاة)

%12

%29

التدين الشخصي استشارة الإمام

%50

%62

التدين السياسي : الدين كمرشد في الحياة الاقتصادية و الاجتماعية

%31

%50

التدين السياسي: الدين كمرشد في الحياة الإدارية و السياسية

%37

%37

التدين الشعبي

%86

%74

درجة عدم الرضا

الاقتصادي و السياسي

%05

ضصث

المشاركة السياسية: الانتماء إلى جمعية مدنية

%13

%14

المشاركة السياسية:

المشاركة في أعمال الصالح العام

%17

%20

الموقف من الديموقراطية:

تطوير المؤسسات الديموقراطية

%26

%16

الموقف من الديموقراطية

الانفتاح عن أفكار

 

 

المراجع

MAUDUDI, A.A..- The Islamic Law and constitution, Lahore : islamic publication.- 1960.

LEWIS,  B..- Islam and the west.-New-York, Oxford university press, 1993.

ESPOSITO, J.L..- The islamic threat : myth or reality.- New-York, oxford press, 1992.

HASSAN, R..- Faithlines : Social structure and religiosity in Muslin society, Working paper, university of califosmia - Los Angeles, 1999.

HUNTINGTON, Samuel. P..- The clash of civilisation and remaking of World order.- New-York, Simour Schuster, 1993.

LAPIDUS, IRAM..- State et religion in Islamic society.- post et present, 151.-  May 1996.

TESSLER, M..- The origins of popular support for Islamic movements : a political Economy Analysis.- occasional papers, University of wisconsin- Milwankee, 1993.

GELNER, E..- Muslim society – Cambridge.- Cambridge university press, 1981.

MERZOUK, M..- Quand les jeunes redoublent de férocité : L’islamisme comme phénomène de génération.- Archives des Sociences sociales des religions, 1997.- p.p. 141-158.

 الهوامش

[1]- Maududi, A.A..- The Islamic Law and constitution, Lahore : islamic publication.- 1960.

Lewis,  B..- Islam and the west.-New-York, Oxford university press, 1993.

Esposito, JL..- The islamic threat : myth or reality.- New-York, oxford press, 1992.

Hassan, R..- Faithlines : Social structure and religiosity in Muslin society, Working paper university of California – Los-Angeles, 1991.

[2]- أنظر

Weber, M..- Economy and Society.- Berkley, Californie press, 1978.

Huntington, Samuel.P..- The clash of civilization and remaking of World order.- New-York, Simour Schuster, 1993.

[3]- Hassan, R..- Op. cité.- 1999.- p.4.

[4]- أنظر

Esposito.- Op. cité.

Lapidus, Iram..- State et religion in Islamic society.- post et present, 151.-  May 1996.

* أنجز هذا البحث سنة 1995 - 1996  من طرف باحثين من الجزائر، المغرب، تونس و الولايات المتحدة، بإشراف المعهد الأمريكي للدراسات المغاربية (AIMS)، تحت عنون عام : "التغيرات الديموغرافية و الاجتماعية في الوسط  الحضري في المغرب  العربي". اعتمدت فيه الاستمارة كوسيلة لجمع المعطيات.

* إن المتغيرات المذكورة  هنا و التي احتفظنا بها في التحليل هي المؤشرات التي تنتخب عن التحليل المعاملي، بحيث أنها ترتبط فيما بينها بعامل إرتباط عال، و هي في نفس الوقت تشكل سلما لقياس المواقف. و قد تم حذف المؤشرات التي لم يبينها التحليل.

[5]- أنظر Tessler, M..- The origins of popular support for Islamic movements : a political Economy Analysis.-  occasional papers, University of Wisconsin- Milwaukee, 1993.

[6]- Gelner, E..- Muslim society – Cambridge.- Cambridge university press, 1981.

[7]-- Tessler, M.. مرجع سابق.- ص.17.

[8]- Merzouk M. : Quand les  jeunes redoublent de férocité : L’islamisme comme phénomène de génération .- Archives des Sciences sociales des religions, 1997.- p.p. 141 - 158.

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran
+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11
+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Recherche