Sélectionnez votre langue

Cahiers Insaniyat

الماء والمكان والإنسان

يحتل الماء -باعتباره أهم أسس الحياة- مكانة هامّة في الأوساط الشعبية بالمنطقة الجنوبية الغربية من الجزائر (القْصور). هذه المنطقة التي ينقسم سكانها إلى فئتين: فئة حضرية وفئة بدوية. تسكن الأولى القرى المسماة بـ "القْصُورْ" وهي ذات بناء عمراني متميّز يعود بناؤه إلى عهد ما قبل الإسلام، مبني بمواد طينية صلبة. كانت في السابق محاطة بأسوار وأبراج ذات وظيفة دفاعية بدأت معالمها تتغير من سنة لأخرى.

يعيش السكان الحضر "القصوريون" اعتمادا على زراعة الأرض والتجارة وتربية بعض الحيوانات، ويعتمدون على مياه العيون المنبجسة من أطراف الأودية، ويعيشون عيشة اكتفاء ذاتي.

ويتبع هؤلاء القصوريون في عملية ريّ بساتينهم طرقا دقيقة متعارف عليها محليا، يتم فيها تعاقب التوزيع تعاقب الليل والنهار، "ويستعملون في ذلك ساعات شمسية [1] تجمع بين وظيفتي تحديد أوقات الصلاة وضبط توزيع المياه. وبهذه الطريقة يستعمل الفلاحون مياه العيون في كل قصر، كل حسب المساحة التي يملكها أو يكتريها" [2].

أما الفئة الثانية فهي البدو الرحل الذين يعتمد اقتصادهم على تربية الحيوانات في المراعي وزراعة الحبوب في سنوات الرخاء، إلا أن ندرة الأمطار تتحكم في قيمة المحصول.

وهكذا فإن الماء في هذه المنطقة التي تجمع بين مناخي الصحراء والإستبس هو الحياة برمتها، إذ أن حياة الترحال التي يقوم بها البدو ترتبط أساسا بوجود هذه المادة الحيوية
أو انعدامها، لذلك نجدهم في ترحال دائم وإقامة مؤقتة، فحيث كان الماء استقر البدوي ليتزود هو وحيواناته بما يكفيهم، فإذا انعدم بادر الجميع إلى شد الرحال بحثا عن هذا المورد الثمين الذي هو مصدر مستقرهم ومنتجعهم.

ولقد وُجد نوع خاص من العلاقة الحميمية بين هاتين الفئتين: الحضر والبدو، منذ عهود قديمة، وأصبح الواحد منهم ينعت نظيره بـ: "صاحْبي" أو "أصحابنا"، ويتم التزاور بينهما وتبادل السلع. حيث يزور البدوي صاحبه الحضري أسبوعيا أو شهريا ليتزود بالخضر والفواكه، بينما يزور القصوري (الحضري) صاحبه البدوي في فصل الربيع عندما تلد الشياه ويتوفر الحليب ومشتقاته، ويُزَوده البدوي بحاجياته من الحليب والأصواف وغير ذلك. وتنتقل الصلات إلى الأبناء فتتطور علاقات الأخوة بين الطرفين.

وقد أقيمت المراكز الحضرية المسماة بـ "القْصور" في هذه المنطقة على أطراف الأودية لتسهيل زراعة غذاء الإنسان والحيوان وللتزود بمياه الشرب. ومن أبرز هذه القصور نجد: السفيسيفة، تْيوت، مغرار التحتاني، مغرار الفوقاني، بوسمغون، أرْبَه التحتانية، أربه الظهرانية... .

وتنفرد بلدة تيوت بوجود سد ماء يختزن المياه، ومنه تخرج عبر فتحة تدعى "غار النّْحيرة" لتتوزع على قسمين: الساقية القبلية، والساقية الغربية. يقول أحد الرواة[3]: "إن السد الحالي أعيد بناؤه منذ حوالي مائة وخمس سنوات، بعد أن دمر الفيضان جدران السد القديم، فأعاد سكان القصر بناءه كما كان، وذلك عن طريق العمل الجماعي التطوعي (التّْويزة)، وتسمية تيوت جاءت من معناها الذي يعني العين (بالشلحة المحلية)، وتُجمع على تيطّاوين أي: عيون الماء" [4].

وتتواجد على طول منطقة الأطلس الصحراوي (جبال القصور جزء منه)، رسوم صخرية تدعى محليا بـ: "الحَجْرَة المكتوبة"، وهي عبارة عن أشكال وصور لحيوانات كانت تعيش مع إنسان المنطقة القديم، ويتبين من أنواع الحيوانات المرسومة (فيلة، غزلان، أبقار وحشية، زرافات، ...) أن المنطقة كانت تعيش عصرا مطيرا وكانت الغابات كثيفة، وهو المناخ المناسب لعيش مثل هذه الحيوانات، والتي انقرضت بتغيّر الظروف المناخية في العصر الحجري الحديث [5]. كما أن اكتشاف بقايا الديناسور (العشبي) مؤخرا، سنة 2000، بمنطقة سفيسيفة غربي عين الصفراء من قبل باحثين من كلية علوم الأرض بجامعة وهران يؤكد ذلك.

الماء في الموروث الشّعبي

إن أهمية الماء هذه جعلته يكتسي طابعا خاصا في الموروث الشعبي، ويتجلّى ذلك في ضرورة وجوده والدعوة إلى حسن استغلاله ومدحه، واستعمال كل الوسائل للحصول عليه، ويظهر ذلك في الممارسات اليومية لسكان منطقة القصور بالجنوب الغربي الجزائري عند قبائل الطرافي وأولاد سيد الشيخ وحميان والعمور والقصوريون وغيرهم. كما تتضح في بعض معتقداتهم في الحكايات الشعبية والأمثال والحكم وحتى في الأدعية.

ففي الأمثال الشعبية: "أَرْفَدْ الْمَا، ولُوكَانْ تحُطْ عْلَى المَا" و"ما تَهْرَقْ مَا، حتى تْصْيبْ مَا" وهي دعوة للتقليل من استهلاك الماء والاحتياط اللازم لذلك.

وعن ضرورة وجوده صحبة الطعام يرد المثل القائل: "الطّْعَامْ بْلاَ مَا، مَنْ قَلَّة الْفْهَامَة"، فكمال الغذاء لا يتم إلا بوجود الماء. و"الْمَا والاْعْوَادْ، والقُوتْ عْلَى الْجَوادْ" و"كَسَّرْتي وْمَايَا، وَلاحْديثْ قْفَايَا".

ومن أدعية الخير التي تعترف بقيمة الماء ما يلي: "الله يَّعَجْلَكْ كِي الْمَا، تَخْرُجْ مَنَّكْ كُلْ نَعْمَة".

وبما أن المجتمع المحلي مجتمع مسلم، فإنّ الدين يمثل لديه أحد الأنساق الهامة في الثقافة، وإليه يُعزى تكامل الثقافة وتجانسها. ولهذا فإن قيم الناس ومعتقداتهم تعود إلى أصول دينية، ولكن مسألة الدين لدى العامّة تظل شعبية في كلّ مظاهرها، علاقته ضعيفة بالتأويل النّصي المكتوب.

ولهذا فإنّ الماء مطهر للشخص من الكفر والنجاسة والأدران، فوجب استعماله وعدم التكاسل عن أداء الفروض الدينية بحجّة ندرة الماء لأن "الْمَا بْلاَ شْرَا، وَالْقَبْلَة بْلاَ كْرَا".

ويستخدم الماء في النظافة الشخصية كما يستخدم في شعائر الطهارة الدينية بأشكالها ومناسباتها المختلفة، كما هو الحال في الوضوء الذي يسبق الصلاة، أو للتخلص والتطهر من دنس الحالات الاستثنائية العارضة (الجنابة - الحيض)، أو غسل الميت المقبل على المحاسبة في القبر. "فالماء إذن هو الذي يرد الفرد من ذلك الوضع الاستثنائي إلى الحياة العادية، أي أنّه يرده إلى المجتمع، وبذلك يعود التوازن إلى العلاقات التي تربطه بالآخرين" [6].

وإذا كانت الشعائر الدينية تسن أدعية محدّدة وسلوكات معيّنة، فإن للعامّة سلوكاتها وطقوساتها الخاصّة، من ذلك أن بعض هؤلاء يستهلون وضوءهم للصّلاة بالدعاء التّالي على شكل خطاب موجه إلى الماء:

باسْمَ الله عْلِيكْ يَا لْمَا يَــا لَوْمـــَانْ [7]

باسم الله عْلِيكْ يا لْمَا ياغَرّاسْ الْغـْرُوسْ
يا عتـاق النّْفُـوسْ يا رَوّاحْ العـْرُوسْ [8]
يا الْخَارَجْ مَنْ جَنَّةَ الْفَرْدُوسْ
أَلْيَا مَتْنَا نَتْغَسّْلوا بِكْ وَلْيَا حْيينَا نَتْقَوّْتُو بِكْ
احْنَــا بالله وبـكْ
أَلْيَا مَـــا بْغِيتْنَا أَحْنَــا بْغِينَـــاكْ [9]

لقد جمعت الرؤية الشعبية في هذه المقطوعة، عددا من صلاحيات الماء في مختلف شؤون الناس.

فهو: غراس الغروس : أي بواسطته يسقى النبات والخضروات.

وهو: عتاق النفوس أي: المنجي من الهلاك.

وهو: رواح العروس: أي جرت العادة أن يستحم العروسان كل مع أصدقائه ليلة الدخلة. أي أن أول مراسيم هذه الليلة هو التوضؤ للتسلح ضد أي مكروه قد يصيب العروسين من جهة، وتنظيف الجسم من جهة أخرى.

وهو الخارج من جنة الفردوس: قد يكون القصد ما جاء في بعض الآيات القرآنية مثل قوله تعالى: "... جَنَّاتٍ تَجْرِي من تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ..."، والفردوس هي أعلى درجة يصلها المؤمن في الجنة، والجنة أمل كل مسلم مؤمن. إن المتاعب الحاضرة التي يلقاها المرء، وبعده عن اللذات العاجلة الراهنة هي سبيله إلى لذة كبرى آجلة مستقبلية، وهكذا فإن مجتمع الناس يتخيل الجنة التي سيثاب بها في المستقبل على سلوكه الطيب في الحاضر.

إن هذا الماء المقدس "الخارج من جنة الفردوس" هو الذي يعطي الحياة، وبواسطته يُغسَّل الميت، ليتطهر آخر مرة من أدران الدنيا فيدخل عالم الغيب نظيفا متخلصا من كل رذائل الدار الأولى (أليا متنا نتغسلوا بك * وليا حيينا نتقوتوا بك).

هكذا يمجد الماء ويقدّس، وقد قالت العرب قديما: الماء مِلْك أمر. أي: إن الماء مِلاك الأشياء وقِوامها.

وتنظر العامّة إلى الماء نظرة تبجيل أخرى عندما يتعلق الأمر بالينابيع المائية الحارة ذات الخاصية الاستشفائية، التي يقصدها الناس لعلاج بعض الأمراض الجلدية أو الباطنية، ذلك أنه يحدث - في كثير من الأحيان- أن يعارض بعض العامّة إدخال أي تغيير على تلك البقاع المحتوية على مياه معدنية حارة، إذ يرون أن بقاءها على حالتها الطبيعية أنفع للعلاج، وإبقاء لـ "البركة" فيما لو أحدث بها أي تعديل. وهم يفضلون الاستحمام في الأحواض الجماعية لأنها أقرب - في نظرهم - إلى الحالة الطبيعية من الغرف الحديثة، المزودة بالمرشاة، ويدعون هذه الغرف الجماعية (أو الأحواض) بـ "حمام البركة" تمييزا لها عن غرف المرشات الفردية التي هي في نظرهم مجرد حمامات عادية. "إن مثل هذه المقدسات المكانية تتكرر مرارا على امتداد الأرض العربية، وتعيش حكاياتها الأسطورية في أذهان الجماهير العربية، لدرجة أن بعضها بات جزء لا يتجزأ من طقوس الجماهير أو تقاليدها" [10].

إن قلة المياه في المنطقة موضوع الدراسة وترامي الأراضي الصحراوية بها، جعلت الماء موضوعا للخوارق ومادة للكرامات، فكم من بطل تمكن من حفر الأرض بركاب سرج جواده ليتفجر الماء، بعد أن استبد بالناس العطش وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فيرتوي منه رفقاؤه ومطاياهم، وقد جاء ذلك في بعض الحكايات الشعبية (حكاية عبو الاكحل). وكم من رجل صالح استطاع أن يسقي تابعيه من إناء ماء واحد ارتوى منه الجميع، وبقيت المياه في الطاس على حالها كأن لم يمسسها شيء [11].

وهكذا فإن المياه هنا لا تأتي عن طريق حفر بئر أو من ينبوع ماء، بل يأتي نتيجة قوى خارقة لبطل شجاع أو بركة ولي صالح، وعلى هذا لمنوال تقدم الكرامة حلا غيبيا لمشكلة الماء في مجتمعاتنا العربية. ويرتبط بالماء ما يدعى بعملية الاستسقاء، وهي عملية "طلب السقاية من الله سبحانه عند حدوث الجدب وتؤثر الناس بالجفاف في شربهم وشرب مواشيهم، وتأثر نباتاتهم ومزروعاتهم لانعدام المطر" [12].

والاستسقاء قديم قدم الإنسان، فقد كان الناس يلتجئون إلى معابدهم وأصنامهم يقيمون فيها صلواتهم وطقوسهم، ويقدمون لها القرابين رجاء أن يسقوا "ويحصلوا على الطقس الملائم والمحصول الوفير" [13].

وفي الجزائر وبخاصة في المناطق الغربية يقوم الأطفال بترديد أنشودة "غُنجة" في شوارع القرية أو الحي، عندما تنقطع الأمطار ويسود الجفاف، وهم يحملون ملعقة كبيرة يلبسونها ألبسة جميلة فتصبح على شكل دمية يرفعونها إلى أعلى وهم يسيرون بين الشوارع، يقومون بحمع المواد الغذائية لتحضير وجبة بعد نهاية الدورة ويأكل الجميع.

وعادة "غُنجة" هي عبارة عن استسقاء شعبي، موجه إلى الإله عسى أن يرحم البلاد والعباد بإنزال المطر.

وتتعامل العامة مع الماء - أحيانا - بكل حذر، حين يرتبط الأمر بالمعتقد الشعبي عن عالم الجن والشياطين، ولذا تمنع العامة أبناءها من الاستحمام في بعض الأوقات من اليوم، والحكمة الشعبية تقول في هذا المعنى: "عَوَّامَة ونوَّامَة، من العَصْرْ لْهيهْ مَاضْمَنَتْ لْهُمْ سْلامَهْ". أي أن الاستحمام والنوم في الفترة الممتدة من وقت العصر إلى المغرب، قد يؤدي إلى الإصابة "بضربة جن". كما يُمنع الأطفال من الخوض في المياه في هذه الفترة من اليوم وأثناء الليل للسبب نفسه، لأن الناس تعتقد أن الجن والشياطين تنشط في هذه الفترة، كما تمنع العامة أبناءها من الاجتياز فوق مداخل المياه القذرة كل وقت، لأنها –كما يعتقدون- ملجأ للجن وأبنائه.

فالماء أصبح في هذه الحالة مجلبة للمكاره والمصائب، ولعل هذا المعتقد يعود إلى عهود ما قبل الإسلام، فقد نقل المسعودي ما ذكره أهل التواريخ والمصنفون لكتب البدو، كوهب بن منبه، وابن اسحاق وغيرهما، "أن الله خلق الجان من نار السموم وخلق منه زوجته،وسكنت كل طائفة مكانا معينا كالبحور والجزائر والخلوات والحمامات والمزابل"[14] وغير ذلك.

وعلى العموم فإن الماء هو المتحكم في حياة الناس، لذا مجدوه واحترموه، وأجهدوا أنفسهم للحصول عليه بكل الوسائل مباشرة أو بالواسطة، في عالم الناس أو في عالم الغيب.

عبد القادر خليفي

المراجع

أبو زيد أحمد، (1999). الماء والبناء الاجتماعي ومفهوم الزمن. المجلّة العربية للثقافة (36).

أحمد خليل خليل، (1986). مضمون الأسطورة في الفكر العربي. بيروت: دار الطليعة، ط.3،
ص. 73.

خليفي عبد القادر، (2000-2001). المأثور الشعبي لحركة الشيخ بوعمامة. رسالة دكتوراه دولة، نوقشت بقسم اللغة العربية وآدابها، بجامعة وهران، ص. 263.

خليفي عبد القادر، (1995). من الموروث الثقافي الجمعي المغاربي (غنجة). مجلّة الثقافة الشعبية (02)، ص. 133.

خليفي عبد القادر، (1990-1991). القصص الشعبي في منطقة عين الصفراء. رسالة ماجستير نوقشت بمعهد الثقافة الشعبية بتلمسان.

سير جيمس فريزر، (1971). الغصن الذهبي. ترجمة تحت إشراف أحمد أبو زيد، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، ص. 101.

أبو الحسن علي المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر. ج.2، بيروت: دار المعرفة، بدون تاريخ، ص. 158.

Vaufrey, R. [s. d]. Préhistoire de l’Afrique. Le Maghreb, tome 02, Tunis : Imprimerie officielle de la Tunisie, p. 357.



[1] توجد إحدى هذه الساعات بقصر مغرار التحتاني، كما تستعمل طرق تقليدية أخرى مثل الساعة المائية.

[2] خليفي، عبد القادر، )1990-1991.( القصص الشعبي في منطقة عين الصفراء. رسالة ماجستير نوقشت بمعهد الثقافة الشعبية بتلمسان.

[3] بنواز، سليمان، 76 سنة، فلاح متعلم، تيوت 1989 م.

[4] الراوي نفسه، ويعود سكان القصور إلى أصول أمازيغية، مازالت الشلحة مستعملة بينهم.

[5] أنظر:

Vaufrey, R. [s.d], Préhistoire de l’Afrique. Le Maghreb, tome 02, Tunis Imprimerie officielle de la Tunisie, p. 357.

[6] أبو زيد أحمد، (1999). الماء والبناء الاجتماعي ومفهوم الزمن. المجلة العربية للثقافة (36).

[7] أمان: هو الماء بالأمازيغية.

[8] رواح العروس، بمعنى حلول ليلة دخلة العروسين.

[9] بمعنى: إذا لم ترغب أنت في حبنا فنحن نحبك، رواية سعداوي فاطنة وأختها أم الخير، 80 و82 سنة على التوالي، عين الصفراء، 1996م.

[10] أحمد خليل خليل، (1986). مضمون الأسطورة في الفكر العربي. بيروت: دار الطليعة، ط.3، ص. 73.

[11] خليفي عبد القادر، (2000-2001). المأثور الشعبي لحركة الشيخ بوعمامة. رسالة دكتوراه دولة، نوقشت بقسم اللغة العربية وآدابها، بجامعة وهران، ص. 263 .

[12] خليفي عبد القادر، (1995). من الموروث الثقافي الجمعي المغاربي (غنجة). مجلة الثقافة الشعبية(2)،
ص. 133.

[13] سير جيمس، (1971). الغصن الذهبي. ترجمة تحت إشراف أحمد أبو زيد، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، ص. 101.

[14] أبو الحسن علي المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر. ج.2، بيروت: دار المعرفة، بدون تاريخ،
ص. 158.

نبذة عن تاريخ تعمير الأهڤار » « Ahaggar

تعود أولى المصادر المكتوبة التي تناولت تاريخ الطوارق لعدد من الجغرافيين والمؤرخين العرب، والتي تم استغلالها لاحقًا على نحو واسع من طرف المستكشفين والرحالة الذين ساروا على نهج هؤلاء وذلك بعد عدة قرون من تلك الاكتشافات الأوليّة، ونذكر من بينهم إبن حوقل (القرن العاشر) والبكري (القرن الحادي عشر) والإدريسي (القرن الثاني عشر) وإبن بطوطة (القرن الرابع عشر) وإبن خلدون (القرن الرابع عشر هجري)، وجون ليون الإفريقي (القرن السادس عشر) و(محمود كاتي)، بحيث يعدّ هؤلاء من بين الأوائل الذين دوّنوا التسلسل التاريخي لهذه الشعوب الصحراوية، وسجلوا أوصافا تتعلق أساسا بالنمط المعيشي السائد في المنطقة من عادات وتقاليد. كما منح هؤلاء المؤرخون أهميّة بالغة في دراسة وبحث التبادلات بين الطوارق وجيرانها من العرب في الشمال، والأفارقة في الجنوب وذلك على جميع الأصعدة، على عكس الجانب العقائدي الذي لم يحظ بالاهتمام.

أطلق العرب تسمية الهڤار « El Hoggar »على هذه البيئة الصحراوية القاسية، بامتداد جبالها الرمليّة والصخرية، في حين سار ابن خلدون على خطى البكري (القرن الحادي عشر) وعرفها باسم هوارة « Howwara »، ليدعم فكرة انحدار الطوارق من المجموعة البربرية الكبرى صنهاجة (إلى جانب المجموعة الأخرى الممثلة في "كتامة" الوافدة إلى هذه الأراضي قبل مجيء الإسلام من شبه الجزيرة العربية (اليمن)، ويبدو أنّ اسم أسلافهم "هوار" هو أصل كلمة أهڤار« Ahaggar » ، حيث يشكل السكان المدعوون "بـكال أهڤار" وحدة جغرافية أكثر منها اجتماعية.

وحسب ملاحظات علماء الآثار ومؤّرخي حقبة ما قبل التاريخ، فإنّ أول ظهور للشعوب البيض كان خلال العصر الحجري الوسيط بمنطقة الطاسيلي، أين قام هؤلاء المحاربون–حسب التراث الشفهي لدى الطوارق- بالسيطرة على السكان الأصليّين مربي الإبل والماعز والمعروفين بإسم إيسباتن « Issabaten » إلى غاية فترة حكم تينهنان « Tin Hinân » القادمة من منطقة تافيلالت، والتي تعدّ السلف الأسطوري لأسياد منطقة الأهڤار.

السلف النسوي الأسطوري ؟

ورد في العديد من روايات الرحالة العرب خلال العصور الوسطى ظاهرة تواجد الكثير من المدن المأهولة بالنساء فقط، واللواتي يتعارفن على بعضهن البعض في أوقات الاستحمام والسباحة في مياه المنابع(Bonte, 1994) ، ضف إلى ذلك ما جاء على لسان الرحالة والمؤرخ المغاربي ابن بطوطة، الذي عبّر عن امتعاضه وسخطه من النمط المعيشي لهؤلاء البدو الرّحل الذين يفرضون ضرائبًا على الرّحالة والمارة، في مجتمع تعيش فيه النساء بحرية "غير مشروطة".

يؤكد طوارق الأهڤار على سلالتهم النبيلة التي تنحدر عن امرأة تدعى تينهنان قدمت من منطقة تافيلالت المغربيّة، هذه المرأة التي نُسجت حولها روايات امتزجت بين الأسطوري والتاريخي، ومازالت إلى يومنا هذا تحفظها الذاكرة الجماعيّة أين تمنحها حق السلطة على القبائل النبيلة، تيوساطين « Tiwsatin »- وهي كلمة مشتقة من الرابطة الأمومية- لذلك، يعد هذا السلف النسوي الأصل في النظام الأمّوسي الذي تعود فيه السيادة في التراتبية الاجتماعيّة إلى علاقة -الخال وابن الأخت، والعلاقة أخ وأخت-، وحسب الروايات الشفهية فإنّ منظومة الطوارق المستندة أساسًا على النسب الأموسي تأسست على نسب ملكتهم الأسطورية تينهينان، لذلك رويّت حولها العديد من الأساطير منها ما يرجع نسب أبناء الطوارق من الزوجين الشقيقين إلى علاقة المرأة بعمالقة الجن، وهذا التقليد كان متعارف عليه قبل ظهور الإسلام. ونشير هنا إلى نصبها التأبيني التذكاري الذي يعد من أهّم المعالم التاريخية بمنطقة الأهڤار بالقرب من منطقة "أبالسة» « Abalessa .

الاضطراب الاجتماعي: من حياة البدو والترحال إلى التحضر والاستقرار

يقيم غالبية طوراق "كال الأهڤار" حاليا في مناطق معينّة أثرت على أسلوب معيشتهم التي أضحت مضطربة، وقد برّر الباحث بادي ديدا (Badi, 2001)، هذا الاضطراب بعوامل عدّة منها: عوامل اقتصادية وتجارية، ودينية وسياسية، إلى جانب الهجرات البشريّة المتتالية من وإلى الصحراء. هذا إلى جانب الاستعمار الفرنسي الذي كان له الأثر الكبير في تغيير المنظومة الجغرافية، خاصة ما قام به من خلال خلق حدود عشوائية، واعتبارهم شعوبا غير منظمة تجول في فضاء صحراوي بطريقة فوضوية، متجاهلين بذلك معنى "الإقليم"، لتبقى هذه الصورة قائمة إلى غاية ما بعد الاستقلال، بحيث تمّ انشاء عدة دول فتيّة وتأسيس الحدود الجغرافية دون النظر في المتطلبات السوسيو-سياسية؛ كالنمط المعيشي والخصائص الصحراوية التي تتطلب الترحال بحثاً عن المراعي.

وبذلك ظلت الأهڤار معزولة تمامًا عن باقي مناطق الوطن إلى غاية سنة 1962 بحيث كان ينظر إليها بوصفها جهة من جهات الوطن المهملة، لا يعرفها إلّا القليل من خلال بعض الصوّر الإشهارية، واعتبارها إقليما جديدا صالحا لإجراء التجارب والخبرات. ولكن نظرا للتحضّر والاستقرار الناتج عن الاستقلال؛ وبسبب الجفاف الذي دمّر العديد من المراعي، تعرض الاقتصاد القائم على الرعي وتربية المواشي إلى ضرر كبير ما أدّى إلى لجوء ساكني هذه المناطق إلى قطاعات أخرى أتاحت لهم فرص العمل خارج قطاع الرعي وتوفير ما يعرف بالأجرة الشهرية، إلى جانب إمكانيّة التعليم لفائدة أطفالهم، بحيث التحق العديد منهم بالمدارس في تمنراست، تاركين القرى والمداشر، ليجدوا أنفسهم في فضاء حضري مغلق، يتعارض أساسًا مع ما ألفوه من حرية التنقل وحياة التحرّر في ربوع الصحراء.

أضف إلى ذلك، أنّ كل المؤسسات الهرميّة التقليدية التي كانت تهتم بالرعي وبالسلطة التقليدية هي الأخرى عرفت اضطرابات مختلفة، بحيث نجح البعض في التحرر من قيود هذا السلم الهرمي، كما هو الحال بالنسبة للعبيد سابقا أو الحدادين المعروفين تحت اسم "إنادن" « Enaden » الذين كانوا يشكلون الطبقة المحكومة والخاضعة لسلطة الأسياد أي الطوارق الشُرْفة المعروفين بإسم "إموهاق" « Imuhagh » أي الرجال الأحرار الحاملين لشرف السلطة.

وعليه عاش هؤلاء باختلاف مراتبهم الاجتماعية السابقة، شرفاءًا كانوا أم عبيدًا أم متدينين، حياة التحضر والاستقرار بطريقة مختلفة كلياً، بحيث وجدوا صعوبة في التأقلم والاندماج بشكل فعّال مع نمط العيش الجديد للحياة فلم يتفاعلوا مع طريقة الاتصال فيما بينهم.

أسلمة مجتمع الطوارق

وفد الصنهاجيون المعروفون بالملثّمين، لوضعهم اللثام على وجوههم، في حدود القرن الحادي عشر من منطقة الرباط بالمغرب، وهم الذين أسسوا الحركة المرابطية، وكانوا يحملون تعاليم الدين الإسلامي المتشدّد، وقاموا بفرض تلك القيم على الجميع. كما أنّهم لم يعترفوا بالحدود الجغرافيّة، ولم تكن لديهم أي قاعدة إقليميّة معينة، فقد تجد أحيانًا أشخاصًا يحملون الأسماء نفسها وينحدرون من الأصول نفسها بالرغم من المسافات الفاصلة بينهم والتي تعد بآلاف الكيلومترات.

وقد قامت مجموعة من بدو صنهاجة الصحراويين وهم "اللمتوميون « Lemtouma » " بنشر تعاليم إسلاميّة صارمة في أجزاء هامّة من المناطق المغاربية والإسبانيّة
(Camps, 1992)، فانتشر الإسلام فيها كغيرها من المناطق العالم، وفي كل جزء منها كان يصادف عادات وتقاليد موروثة من الديانات السابقة ومع زوالها ظهر إسلام بشكل مختلف، نوعا ما، تصاحبه بعض آثار تلك العادات القديمة، وهو ما جعله يمتاز بطابع خاص في كل منطقة من مناطق العالم الاسلامي.

ومع نهاية القرن الخامس عشر انتشرت موجة جديدة من الإسلاميين في جميع ربوع الصحراء تسمى بالمرابطين. ومازالت الذاكرة الشعبية الشفهية للأهڤار تحمل ذكرى المرابط "أقاق" الأمين « Agag » القادم من منطقة تافيلالت، حيث يوجد ضريحه الذي يحضا بالتقدير والاحترام بين "إرافوك" « Hirafok » و"إيدلس"« Idelès » . إلا أنّ النسب الأمومي قد منع الرجل من إعداد جيل متدين ينال بعده السلطة، زيادة على انعدام مؤسسات دينية دائمة كالمساجد تسمح بإنشاء سلطة دينية في مجتمع أموسي طالما شجع على اختلاط الأنساب والأجناس. إلى جانب الظروف المعيشية في هذا الإقليم الذي لا يقع على الطرق التجارية الكبرى الخاصة بالقوافل وغير المأهول بالسكان، والذي لا يفضل تواجد طبقة متدينة ليس لديها أي دعم مادي واقتصادي (Gast, 1976, p. 205).

ظهور طبقة المتدينّين: " الشُرْفة " و"الانسْلَمَنْ" « Ineslmen »

انتشرت الوظيفة الدينيّة بين جميع طبقات الرجال الأحرار، إلا أنّ بعضهم يتميز بأهميّة دينيّة بالغة وهم من يعرفون "بالأنسْلَمَنْ". والملاحظ أنّ هذه المجموعة لم يتم تصنيفها ضمن السّلم الهرمي الاجتماعي التقليدي لمجتمع "كال الأهڤار" المبنى على أساس تصنيف أرستقراطي حربي، لأنّ معظم رجال الدين أصلهم أجانب عن هذه المجتمعات، في حين أنّ بعضهم تمّ ادماجهم داخل هذا السّلم الهرمي لمجتمع الأهڤار فيما بعد.

من المحتمل أن يكون دخول فئة من الشرفاء إلى الأهڤار من منطقة توات بين القرنين الثاني عشر والسادس عشر، متفاخرين بسلطتهم الدينية وأصولهم الشريفة [1]. إلا أنّ تأثيرهم على المجتمع في تلك المرحلة كان ضعيفا. فقد توافد هؤلاء الشُرْفة من فاس، تافيلالت المغربية، الساقية الحمراء... ونتج عن اختلاطهم بالبربر قبائل جديدة تعرف بالمرابطين، في حين أنّنا نعلم أن جُّل هؤلاء الشُرْفة تعود أصولهم إلى أصول بربرية من الجنوب الغربي للمغرب، وبأنّ استراتيجية هذه السلطة تقوم أساسا على انتماءات أسطورية حسب مولود معمري (Mammeri, 1989) فإنّ هؤلاء يزعمون أنهم ينتمون أبا عن جد إلى أهل البيت.

الظاهر أّنّ حياة البداوة والترحال لا تتماشى مع التطور الإسلامي من (مدن، مساجد، جمعيات، حياة اجتماعية مرتبطة بالتجارة...)، ففي المناطق الجبلية للأهڤار نجد "الزاويا" وهي كلمة مشتقة من الفعل العربي "انزوى"، أي بمعنى انعزل عن البقية)، التي لم يكن لها تأثير كبير على تغير مجريات الحياة اليوميّة وانحصرت سيطرتها على المحاربين الشُرْفة، رغم أهمية رجال الدين والأخذ بنصائحهم.

أمّا عند الطوارق، فإنّ سمة الشرف كانت تمنح للمحاربين الشُرْفة المعروفين باسم "ايموهاق" « Imuhagh »، هؤلاء الذين وجدوا صعوبة في تقبل أفكارٍ غير التي يتميّز بها المحاربون الشُرْفة، في حين أنّ بعضهم الآخر كان يسخر من سلمية الشُرْفة. فقد منح الإسلام للشرفة مكانة هامة بحيث أضحى هؤلاء بمرتبة رجال الدين، واكتسبوا قوة وسلطة رمزية بفضل الدين، وأصبحت هذه السلطة موازية للنظام القائم على شرف المحاربين.

من بين أهّم التقاليد التي نجدها في الصحراء، ما يُعرف بـ "الزيارات" وهي من بين الشعائر الدينية التي تمارس بشكل تقليدي حول الأضرحة بغرض التقرب من أولياء الله الصالحين، إلا أنّ هذه الممارسات لم تكن منتشرة بشكل كبير مثل المناطق المغاربية الأخرى، لا سيما لدى مجتمعات البدو الرّحل، التي يصعب فيها تأسيس طرق وزوايا، هذا إضافة إلى باقي خصوصيّة العلاقة بينهم وبين الأموات بحيث لا يذكرون أسماءهم ويعرفون باللغة المحلية باسم "إينموتن" « Inemutten » أي "الأموات" ولا يشّيدون لهم الأضرحة، وفي المقابل نجد بعض آثار المساجد القديمة كمسجد "تامسغيدا" « Temesguida » بمنطقة "تمهاق" « Tamahaq »، أو "إيلامان" » « Ilamane وسط الهقار، وحسب الأسطورة، فإنّ هذه المساجد بنيت من طرف صحابة الرسول.

كما تعتبر مدينة "تومبكتو"» « Tombouctou مثالا للمدينة الإسلاميّة الجامعة لمختلف الأجناس والأعراق منهم الطوارق، وبرابرة صنهاجة، و"الفولاني" « Peuls »، و"السونغاس" Songhaï » «، و"السونينكيين" « Soninké » ، و"الهاوسا"« Haoussa » ، وتعد أيضا أرضًا خصبة لعدة لغات وثقافات توحدت بسبب سلطة وقوة الدين. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ مدينة "تادمكا" « Tademekka » و"تومبكتو" تعتبران مرجعية دينية لمجتمع الطوارق، ومهدا لميلاد حضارتهم.

فيما يخص مدينة "تادمكا" المسماة "تادمكات" « Tademekka »(مكة) وعاصمتها "أداغ" « Adagh »، وتسمى أيضا "السوق"؛ كانت تمثل مكانا حقيقيا للقاءات والتبادلات؛ انبثقث منها عدة قبائل دينيّة نذكر منها "كال إيسوك" el Essouk » «، التي تعد مركز انطلاقة الديانة الإسلامية نحو جميع بقاع إفريقيا، ومن هناك انحدرت مجموعة كبيرة من الفقهاء أو
« Alfaqi » بلهجة تامهاق، والعلماء الذين شكّلوا مجموعة من القبائل االشريفة المرابطية المعروفة نذكر من بينهم "كال إيسوك"el Essouk » «، "كال إنتصار" « Kel Intessar » أو "كال النصر"، "كال اغلال" Kel Eghlel » «، "ايفوغاس" « Ifoghas » وهم يمثلون النخبة الدينية لدى الطوارق.

ومن بين أهمّ القبائل المهمة قبيلة "كال إنتصار" التي اكتسبت تراثا دينيا غنيا وهاما، هذا إلى جانب كونها تشمل العلماء والفقهاء، الذين كان لديهم صيت وشهرة واسعين خلال الاحتلال الفرنسي لمالي، بحيث تصدّوا للاستعمار طوال فترة تواجده بأراضي مالي، وشجّعوا تمدرس أبنائهم لضمان مستقبلهم في دولة مستقلة، كما اعتبروا التعليم بمثابة القوة الضاربة للاستعمار. ضف إلى ذلك، اعتمادهم على طرق أخرى للتصدي للمستعمر كالسياسة والشعر والموسيقى، وسائل دفاعية ضد المستعمر.

وعليه تعّد "كال الإنتصار" أو "كال نصر" من بين أهمّ قبائل الطوارق التي تعيش في مالي، والتي تمركزت خاصة في منطقة تومبكتو، في حين توزع الآخرون في مناطق أخرى مثل "أغاداز" Agadez » « بالنيجر، فقام الكثيرون منهم بالهجرة نحو تمنراست والمناطق الحدودية، الشئ نفسه بالنسبة "للإيفوغاس"» Ifogha « المعروفين أيضا بنضالاتهم ومقاومتهم ضد الاستعمار.

في حين يذكر لنا الكثير منهم لجوءهم إلى تمنراست خلال فترات النزاع مع متمردي الطوارق بمالي والنيجر سنة 1991، واستقرار بعضهم بها بصفة نهائية، ما يوضح لنا موجات الهجرة المتتالية منذ السبعينيات وذلك لأسباب وظروف مختلفة مثل القمع والجفاف المستمر...

التمثلات المحلية حول "الانسْلَمَنْ"

لقد نشأ مجتمع "الأنسْلَمَنْ" الديني حديثا، أي بعد التطور الحضاري الذي شهدته تمنراست، مشكّلا بذلك وحدة متكاملة ذات سلطة سوسيو-اقتصادية، كما هو الشأن بالنسبة للشُرفة القادمين من الواحات الصحراوية الملقبين "بـمولاي" وهو لقب الشريف، هؤلاء لم تكن لهم قيمة في مجتمع الأهڤار في بداية الأمر، إلا أنّهم نجحوا في توسيع دائرة سيطرتهم على المنظومة الصحراوية.

على غرار الحدادين أو "إنادن" » Enaden «، يشكل "الانسْلَمَنْ" طبقة اجتماعية تتولى وظائف وسائطية، إلا أنّهم يتمتعون بمكانة أعلى منهم، فهم وسطاء بين العالم المرئي وغير المرئي، بين الإسلام والتقاليد، وبفضل طبيعتهم المسالمة بين مختلف الطبقات الاجتماعية من المرتبة نفسها، أُحيلت لهم مهمة الفصل والحكم بين المتخاصمين، وغالبا مايؤدون دور "الظهور الرمزي" (Walentowitz, 2003, p. 44) والمستشار السياسي والحكيم "إيمغارن" « Imgharen » الحامل للبركة المتمثلة في السلطة الروحية التي تسمح لهم أحيانا باتخاذ قرارات سياسية في الاجتماعات الاستشارية.

ولذلك نتساءل هل هناك تمثلات حقيقية لدى طوارق الأهڤار وبعض الصحراويين الآخرين فيما يخص قواعد وممارسات رجال الدين المجتمعين باسم الانسْلَمَنْ؟
"الشريف" « L’acherif »: شخصية دينية تترأس قمة السلم الهرمي "الأنسلمن"،تتمتع بالاحترام وامتلاك البركة التي ورثوها عن أجدادهم الأولياء، يجنون من خلالها هبات نقدية أو معنويّة على طول السنة بغرض حصول زبائنهم على الحماية والراحة النفسية، ثم يتم إعادة توزيع هذه الهبات خلال مواسم "الصدقات" أو "تاكوتي"» « Takuté، والغرض من هذه المواسم هو توزيع "البركة" [2] على جميع أفراد المجتمع. لا يحبذ الشُرْفة اكتساب صفة العالم أو الفقيه، إنما يفضلون التصوف والزهد بعيدين كل البعد عن الحياة الماديّة والانشغال بها، إلا أنّهم يملكون حيّزا شرعياً، بشكل أو بآخر لممارسة السلطة الدينية، وذلك نظرا لاكتسابهم تلك السلطة الدينية السائدة في باقي مناطق المغرب الكبير والتي يكتسبون من خلالها شرف تسمية "مولاي الشريف"، وأيضا مكانة "شيخ زاوية" وهذا بعد اتباعهم طريقة معينة وإنشاء زاوية يقومون من خلالها بتنظيم مواسم بشكل دوري لزيارة ضريح أسلافهم. وتمثل هذه الظاهرة قوة دينيّة ذات أبعاد سياسية واجتماعية.

سمحت هذه السلطة ذات الأبعاد الدينيّة والسياسية بتراكم وظائف أخرى "للشريف" كحاكم في العديد من القضايا ومستشار وعارف في العادات... كل ذلك سمح بأن تكون له قرارات في المجال السياسي المحلي، بالإضافة إلى ذلك، لا ينقطع الشريف أبدا عن أداء وظيفته الروحية ألا وهي تقديم البركة وهي وظيفة دينية علاجية. إلى جانب إمكانية إدارته للعمل التجاري والفلاحي وقدرته أيضا على العلاج النفسي أو ما يسمى بـ "التسبيبة" والتي لا تكون إلا بعد عمر معيّن بقراءة القرآن وبصق لعابه -الذي يحمل البركة في اعتقادهم- في الماء أو في سائل آخر كالزيت أو العسل، هذه البركة التي توارثوها عن أسلافهم الذين يمتلكون الحكمة في الشفاء. والجدير بالذكر أنّ معظم هؤلاء الأولياء يعتقدون أنّ لديهم خُدامًا "روحانيين" يقومون بتحقيق المعجزات والتي تعرف "بـالكرامات".

كما أنّ "للفقيه" أيضًا دورا هاما في المجتمع، إلا أنّه لا يمارس العلاج الروحاني وليست له علاقة اتصال بالعالم غير المرئي، فهو عالم فقيه يشتغل كقاضي أو منظم لأهمّ القضايا الكبرى في الحياة العامة كــــ (الزواج، الميلاد، الطلاق). ففقهاء "الانسْلَمَنْ" يمنعون التواصل مع العالم غير المرئي رغم علمهم ببعض الأمور في هذا الشأن، هذه المعرفة التي استوحوها من الكتب وبعض "الأساطير"، وأغلبية هؤلاء الفقهاء هم من ساكنة المدن أو الحضر الذين شغفوا بالعلم والمعرفة ودراسة التعاليم الدينية، عادة ما ينحدرون من عائلات ذات شرف ديني. ومن الفاعلين في هذا المجال الديني أيضا فئة "الطُلْبَة"، أو صانعو التمائم الذين اكتسبوا مكانة مميزة خلال فترة الاستعمار في منطقة الأهڤار وباقي الصحراء، ثمّ عززت وضعيتهم الاجتماعية بعد الاستقلال. والملاحظ أنّ التمائم والخدمات المقدمة من طرف "الطُلْبة" تكلف ثمنا باهظا، ولهذا السبب تميزوا بمستوى معيشي محترم وأحيانا تجدهم أفضل من بعض الفلاحين، يحافظون على وظائفهم إذ عادة ما يرث الأبناء صفة "الطَالِبْ" عن أبيهم بحيث يعلمهم طريقة علاج بعض الأمراض، إلا أن بعضهم يفشل في ذلك، فيقوم "الطالب" بتلقين أشخاص آخرين (كالأحفاد، أو أبناء الأخ...) ما تعلمه خلال مسار حياته ويُوَّرِثَهم ذلك.

لا ينحصر تواجد "الطُلْبَة" في الوسط الحضري فقط، بل يمتد إلى الوسط الريفي، ومنهم من المتمرسين في مجال السحر وأسرار الطلاسم، فهم لا يترددون في اللجوء إلى هذه الطرق لغرض الحصول على ما يريدونه مثل المال والسلطة. ويمكن "للطَالِب" البسيط أن يكون محققا للمعجزات وصانعا للتمائم، ومحركا للقوى الخفيّة، وحليفا مثاليا للجّن والعفاريت، بحيث يتواصل معهم من خلال القيام بممارسات وطقوس مدنسة ونجسة وصلت ببعضهم إلى تدنيس القرآن بالدم، وتقديم "الفدية" في شكل حيوانات يقومون بذبحها وتقديمها قربانا للجّن والأرواح الشيطانية -حسب ما يعتقدون-. والملاحظ أنّ "الطَالِب" فقدَ نوعا ما مكانته السابقة في الصحراء ولم يصبح مرجعية دينية متميّزة، إلا أنّ حضوره بقي واضحًا، يتواصل معه الكثيرون من الناس بغية قضاء حوائجهم الاجتماعيّة والعاطفية. وهناك من "الطُلْبة" من ينحدرون من الطبقة الاجتماعية السفلى، لجأوا إلى تعلّم مبادئ الدين من أجل نيل بعض الاحترام والتقدير وسط مجتمعاتهم ممّا يكسبهم شرعية، خاصة إذا ثبتت قدرتهم على علاج بعض الأمراض، فينالون بذلك شهرة واسعة وصيتا منقطع النظير. تجدر الإشارة هنا إلى أنّ العلاج الديني والروحاني لم يعد حكرا على فئة معينة من المجتمع، بل انفتح تدريجيا على مختلف الطبقات الاجتماعية بمن فيهم "الحراطيين" (العبيد المحررّين). وقد سمح هذا بظهور شرعية جديدة مرتبطة باكتسابهم معرفة دينية مفتوحة على الجميع. كتسب "الطَالِب" أو الشيخ في مناطق الشمال مكانة مرموقة ومحترمة من طرف الجميع بحيث يخضع هؤلاء إلى معايير صارمة، عكس الأرياف التي يختلط فيها هذا المفهوم بالمرابط الذي يتحكّم في الشؤون الدينية وفي كتابة "الحروز" أو "الحجاب" للأشخاص المرضى، كما يؤطر المناسبات الدينية، ومراسم الدفن. أمّا في المدن، فحضوره يظل ناقصًا مقارنة بالمناطق الريفيّة، وهذا بسبب الإسلام السياسي الذي أنقص من دور هؤلاء في الساحة الاجتماعية، متنكرا لكل أنواع تلك الممارسات، ليتمّ تعويضه بأشخاص جدد نذكر منهم "الراقي" (المعالج الروحي) والذي يساعد على طرد الجّن والشياطين من جسد الشخص المريض، كما يقوم بتطهير المنازل والنفوس بطرق نبوية ومطابقة للشريعة الإسلامية، تسمى "الرقيّة" وتتمثل في تلاوة القرآن، وهي طرق مستوحاة من طقوس وممارسات علاجية قديمة أعيد إحياؤها وأضفت عليها الشرعية، وهذا حسب التغيرات الحاصلة ومن أجل التمييز بينها وبين مختلف الممارسات التقليديّة، فإنّ الرقية لا تشمل أي نوع من أنواع الأضاحي.

الزيارة: الفضاء المقدس

تمثل "الزيارة" إحدى أنواع زيارة أضرحة الأولياء، وهي تهدف إلى تكريمهم وذلك عبر تقديم الأضاحي والتبرع بها، بغية نيل البركة التي يتمتع بها الأولياء. هذا إلى جانب اعتبارها مكانا للاحتفال يمتزج فيه المقدس بالدنيوي، تؤدى فيه الأغاني الصوفيّة المعروفة باسم "البردة" El’Burda » «المرافقة لاحتفالات الزواج، أو الأشعار الحربيّة المصاحبة لآلة "الإمزاد"
» « l’imzad أو حلقات الذكر (ممارسات دينية صوفيّة مرافقة للحج) التي نلاحظ من خلالها تجمع الزوار حول ضريح الولي الصالح، وتأدية "التهاليل".

كما تساهم حلقات الذكر وأغاني "البردة" في خلق جوّ من الروحانيات التي تعّم المكان ويحرك مشاعر الحاضرين في تلك الزيارة، هذا إلى جانب حضور هذه الحلقات عادة في مراسم الزفاف أو مراسم الدفن. مع الإشارة إلى عدم مشاركة المرأة في مثل هذه الأغاني الصوفيّة واكتفائها بالزغاريد أثناء مرور الزوار وذلك من أجل تشجيعهم. وفي عزّ اللَّيل، يواصل "إيكلان"
Iklan » «و"إيزغاغن"» « Izzegaghen (وهم الخدم والعبيد المحررين) السهرة، فيقومون بالرقص والغناء وما يسمى "بـتازنغارت"« Tazengharet » .

وزيادة على هذا فإنه لا تكفي "بركة الأولياء" لشفاء جميع الأمراض أو بعضها التي يعاني منها مجتمع الطوارق، ولهذا فإنّه يلجأ إلى القوى غير المرئية والمسماة "كيل إيسوف"
« Kel Esuf »، من أجل تخفيف الألم الناجم عن مختلف الأمراض وما ينعكس عنها من حزن وأسى وسط المجتمع، وبالتالي يهدد توازنه، ممّا يستدعي الاستنجاد بتعاليم الدين الإسلامي، والموسيقى والأغاني [3]. كما تهدف "الزيارة" إلى تنقية البلاد، والابتعاد عن "الإيسوف" « l’Esuf » (الفراغ)، وتعمل على خلق توازن بين الخارج والداخل، وتجمع بين مختلف أفراد المجتمع، وتجديد علاقات التضامن بين أفراده، كما تحيطهم بالبركة.

صورة 1 : الدعاء بالقرب من ضريح مولاي عبد الله الرڤاني، زيارة "تازروك" « Tazrouk » ( أوت 1998 )

صورة 1 : الدعاء بالقرب من ضريح مولاي عبد الله الرڤاني، زيارة
صورة 1 : الدعاء بالقرب من ضريح مولاي عبد الله الرڤاني، زيارة "تازروك" « Tazrouk » ( أوت 1998 )

 

في كثير من الأحيان تنشب صراعات بين السلطة الدينيّة والمؤسسات السياسية حول تاريخ "الزيارة" فالسلطات المحلية تعطيها طابعاً فولكلوريا الغرض منه إثارة فضول الزائرين والسواح، بمعنى آخر: الحصول على دخل إضافي، وجعل هذه الزيارات بمثابة إشهار لهذه المناطق، ما أثار غضب منظميها الذين يرغبون في الحفاظ على بعدها المقدس وعدم تشويه مظهرها الروحاني. لذلك يولي العديد من أهل المنطقة أسباب المصائب التي توالت على منطقة تمنراست (أمراض معدية، فترات جفاف طويلة، فياضانات، فقر مدقع) إلى انتهاك حرمة هذه الزيارات والشعائر الدينية من طرف السلطات المحلية.

وتجدر الاشارة إلى أنّ تأسيس أول زاوية بمنطقة الأهڤار كانت بـ "تيت" « Tit »، المكان المسمى "دغمولين" « Daghmouline » أو "اداغ مولن" « Adagh Molen » (الجبل الأبيض)، حيث يتم الاحتفال فيها سنويا منذ الاستقلال، وهذا بزيارة الولي الصالح مولاي عبد الله المنحدر من "أولف". بالإضافة إلى ذلك، زيارة "تازروك" « Tazrouk » والتي تنسب إلى الطريقة القادرية ويتم الاحتفال بها خلال شهر أوت في تخليد ذكرى مولاي عبد الله الرڤاني الذي ينحدر من واحات "رڤان"، ويجدد الاحتفال بهذه الزيارة كل فصل خريف بمنطقة "أبالسة". أمّا زيارة "تسنو" « Tesnou » هي مكان مرور المسافرين الذين يقومون بالطواف حول ضريح مولاي لحسن ثلاثاً. والزيارة الأكثر رواجا هي التي تقام بالأقاليم التي يتواجد بها البدو الرحل، ويسهر على إحيائها وتنظيمها السكان الأصليون بالمنطقة، وذلك بإقليم "داق غالي" .« Dag Ghali » وهي مرتبطة برجل ذي سلطة وسمعة دينية كبيرة، يدعى "الحاج أحمد أق الحاج البكري"، وهو من أعرق "الأمينوكال" ménokal » «كبار شيوخ الأهڤار، يتواجد بالقرب من القرية المسماة "تارهاننت"« Tarhananet » . تكتسب هذه "الزيارة" بعدا جماعيا وأثرا كبيرا في التجربة الدينية لهؤلاء. والملاحظ أنّ هذه "الزيارة" تقام في سرية وتستر من طرف أسلاف الولي الصالح بإقليم "داق غالي"، وهو أحد الأقاليم العذراء بجبال "تايسة" « Taessa »، ولهذا لا يتّم الإعلان عن موعدها قبل أوانه لغرض تفادي كثرة الزوار، وهي تضم عددا كبيرا من "تيوساطين"« Tiwsatin » الطوارق.

صورة 2 : تحضير وجبة الصدقة بـ "تاكوتي" » « Takuté أثناء زيارة "تازروك" « Tazrouk » من طرف بعض نسوة "إيزغاران" Izzegharen » « (الفلاحين)، أوت 1998

صورة 2 : تحضير وجبة الصدقة بـ
صورة 2 : تحضير وجبة الصدقة بـ "تاكوتي" » « Takuté أثناء زيارة "تازروك" « Tazrouk » من طرف بعض نسوة "إيزغاران" Izzegharen » « (الفلاحين)، أوت 1998

تحولات المجال الديني والرمزي

نشهد اليوم تحولا في المشهد الديني، بحيث أنّ تكريس شرعيّة رجال الدين في الصحراء هي اليوم محل نقاش بين الفقهاء، بحيث يعارض العديد منهم فكرة وجود رجال دين يتبعون هذه الطرق، فمنهم من انفتح على المعرفة العالميّة المحبة للثقافة الصوفية، في حين أنّ الكثيرين منهم تأثروا بتطور الحركات الدينية الحديثة. كما ظل الفقهاء أوفياء للمذهب المالكي، وذلك من خلال تأثر تلاميذتهم به إلى يومنا هذا؛ إلى جانب ما أصاب التكوين الديني من تغيرات، بحيث لم يصبح تقليديا يتلقى فيه "الطُلْبَة" تعليمهم على يد مشايخهم فقط، بل أصبح تلاميذتهم يلتحقون بالجامعات، ويختلطون بغيرهم متأثرين بالموجات الدينية الجديدة، وهذا ما جعلهم يشعرون بهيمنة وظلم العالم الغربي بالنسبة لهم. لذلك انتهجوا استراتيجية جديدة، تقوم على استلهام المعرفة الدينيّة من أيادي المشايخ، إلى جانب ما يتلقونه في الجامعات المعاصرة، وذلك بغرض التوفيق بين التيارين، واحترام الطريقتين سواء كانت على يد مشايخهم أو على يد أساتذتهم.

وتجدلا الإشارة هنا، أنّ محاولة تغلغل التيار الوهابي ومجموعات سلفية في أوساط الطوارق المتدينين والتقرب منهم - خاصة وأنهم يعلمون مدى تأثير "الانسْلَمَنْ" عليهم-، باءت بالفشل تقريبا، بحيث أنّ "الانسْلَمَنْ" ينبذون جميع أشكال العنف الناتج عن الإسلام السياسي، ولغرض التصدي لمثل هذه التيارات الجديدة، دعى هؤلاء إلى احترام ثقافة "الاجتهاد" والتي تدعو إلى بذل مجهودات أكبر للتفهم والتعقل، وإلى تحليل وتجديد النصوص الدينيّة مع متطلبات هذا العصر، هذا إلى جانب اتباع الممارسات الروحيّة الصوفيّة؛ حيث أنّ مجموع هذه العوامل تسمح بمقاومة وتصدي كل نهج عقائدي متطرف.

تحولات الفضاء الأنثوي وعلاقته بكل ما هو مقدس

لطالما حظيت المرأة الطارقية بحرية كبيرة داخل مجتمعها، بحيث كانت تمارس السلطة على أكبر المستويات وتتخذ القرارات الكبرى داخل مجتمعها وتنقلها عن طريق النسب الأمومي، وهذا النظام لا يزال ساري المفعول عند جميع القبائل الطارقية، مع استثناءات قليلة. إلا أنّ التغيرات الطارئة التي مسَّت كثيرا الوسط الاجتماعي الطارقي؛ بسبب الهجرة والتشتت والحاجة إلى التحضر أدّت إلى المساس بوجوده وكيانه وعلاقاته مع بعضه البعض ومع الفضاء المتواجدين فيه، ما أثّر على عادات المجتمع وتقاليده خاصة نظام النسب الأمومي. فأصبحت النسوة اللواتي اعتدن على هذا النظام يتزوجن خارج مجموعتهن، ليجدن بعد ذلك أنفسهن مطلقات أو أرامل، ما أثر على حالاتهن النفسيّة كشعورهن بالضعف والانكسار، لأنّ معظمهن لم يستفدن من التعليم المدرسي أو التكوين الحرفي الذي يسمح لهنّ بمجابهة الواقع المعيشي للحياة والتكفل بأبنائهن الصغار.

كما كان للنزوح نحو المدن والقرى آثارا سلبية على الحياة الاقتصادية والاجتماعية للطوارق، بحيث لم يكن لديهم دخل ثابت، إذ يعيش أغلبهم الفقر ماجعل حياتهم مضطربة وغير منتظمة رغم محافظتهم على هويتهم البدوية، ما أدّى إلى فقدان توازنهم الاجتماعي.

عمومًا، تبقى المرأة "الطارقية" -سواء كانت تنحدر من سلالة الأشراف أم لا - امرأة تملك "البركة"، إلا أنّ هذه الصفة لا تكون فعّالة إن لم تكن المرأة حاملة لصفات شخصية معينة تمكنها من نقلها إلى أخريات عبر النسب أو وسائل رمزية كالرضاعة مثلا. فالممارسات الدينيّة للنساء تندرج ضمن حياتهن الاجتماعية وتصاحب دورة حياتهن ككل، إذ يمارسن ذلك بصفة يومية وبشكل طبيعي، يُدرن الحياة اليومية وصعابها كحالات الأمراض المستعصية، الحمل والولادة أو أي مكروه يصيب العائلة أو يؤدي إلى وفاة الأطفال.

ختامًا، يجدر بنا القول أنّ مجتمع الطوارق تأثر كثيرا بالإسلام وقواعده الصارمة، ممّا أدّى به إلى التخلي تدريجياً عن بعض الممارسات والعادات التي تتعارض مع تعاليم الإسلام ومبادئه منها النسب الأمومي، ومبدأ الشُرْفة والمكانة الاجتماعية، هذا إلى جانب التغيرات الاقتصادية التي كان لها دور في هذا التحول.

 

فايزة صديق أرك ا م *

ترجمة زكريا بن علي وصليحة سنوسي

المراجع

Badi, D. (2001). Les migrations touarègues. Alger : Publications du CNRPH.

Bonte, P. (dir.), (1994). Epouser au plus proche. Inceste, Prohibitions
et Stratégies matrimoniales autour de la Méditerranée
. Paris : Ed. de l'EHESS.

Camps, G. (1992). Rubrique « Issabaten ». Encyclopédie berbère, Aix-en-Provence : Edisud, p. 102.

Gast, M. (1976). Modernisation et intégration. Les influences arabo-islamiques dans la société des Kel Ahaggar. (Sahara-Algérien), Annuaire de l’Afrique du Nord, p. 205.

Mammeri, M. (1989). « Yenna-yas Ccix Muhand », « Cheikh Mohand a dit ». Alger : éd. Laphomic.

Raymond, J. (1981). Honneur et Baraka, les structures sociales dans le Rif. Paris : Maison des sciences de l’homme, Cambridge University Press.

Seddik Arkam, F. (2006). La musique traditionnelle face à la maladie et à la possession chez les Touaregs de l’Ahaggar (sud de l’Algérie). Cahiers des musiques traditionnelles, (19), 139-159.

Walentowitz, S. (2003). Enfant de Soi, enfant de l'Autre. La construction symbolique et sociale des identités à travers une étude anthropologique de la naissance chez les Touaregs (Kel eghlal et Ayttawari de l'Azawagh, Niger) . Thèse de doctorat, Paris : EHESS, p. 44.



* Seddik Arkam, F. (2008). Thèse de troisième cycle en socio-anthropologie, Université de Besançon.

[1] الشريف: كلمة تعني في الأصل النبيل، وهي تشير إلى القبائل الشريفة في مكة، ورجل الدين الذي ينسب إلى أهل البيت أحفاد على وفاطمة الزهراء.

[2] Ce pouvoir mystique de la baraka, on le retrouve dans le reste du monde berbère, il a été décrit par plusieurs auteurs Dermenghem, Doutté, Westermarck, et analysé finement par Raymond, Jamous, Honneur et Baraka, les structures sociales dans le Rif, Paris, Maison des sciences de l’homme, Cambridge University Press, 1981.

[3] Voir un article consacré à ce sujet, Seddik Arkam, F. (2006). La musique traditionnelle face à la maladie et à la possession chez les Touaregs de l’Ahaggar (sud de l’Algérie). Cahiers des musiques traditionnelles, (19), p. 139-159.

استحوذت الصحراء على فكر الكثير من الكتّاب والمفكرين سواء كان ذلك قديما، أو في الوقت الحالي، لما تشكله من تنوع ثقافي وما تحمله من أفكار، ومعالم، وكنوز مختلفة من عادات وتقاليد، ومعتقدات، ولهذا اتجهوا نحو دراسة مجتمعاتها وثقافاتها المختلفة. من هذا المنطلق؛ اخترنا في هذا العدد عشر مقالات منشورة بمجلة إنسانيات باللغتين العربية والفرنسية، وقد تّم ترجمة المقالات المكتوبة باللغة الفرنسية إلى اللغة العربية، بغية الوصول إلى نقاش موضوعي أوسع حول قضية الاهتمام بالصحراء والانفتاح على رؤى أخرى.

شكلّت الخصوصيّة السوسيوثقافية التي تتميز بها الصحراء الجزائرية حافزا لاهتمام الباحثين بها، حيث تطورت الدراسات وتبلورت فكرة "البحث في مجال الصحراء" بداية من رحلة المستكشفين، والرحالة الأدباء، ورجال الدين، والتجار، والعلماء... الذين اختلفت مقاصدهم وأهدافهم، فدوّنوا مذكراتهم اليوميّة وملاحظاتهم الإثنوغرافية التي تزايدت في القرنين التاسع عشر والعشرين؛ واصفين لنا صحراء الجزائر الشاسعة ونمط معيشة سكانها وكل ما يتعلق بتراثها الثقافي والاقتصادي ومجالها السكاني والحضاري. ومن أهّم من كتب عن الصحراء الجزائرية، ج. أ. بول، رحلة "ذكريات عن الجزائر أو رحلة في إفريقيا خلال شهري سبتمبر وأكتوبر 1838"[1]، وجورج روبرت "رحلة عبر الجزائر"[2] وغيرهما ممّن سجلوا لنا أحداث رحلاتهم.

لطالما كانت الصحراء مكانا ملهما للكثير، أين تلتقي الحقيقة بالأسطورة، والواقع بالخيال، ومن الممكن أن يكون هذا المزج بين الواقعية والشاعرية هو ما جعل الصحراء -ثيمة للدراسة- تحظى باهتمام عديد من المفكرين والعلماء والمتدينين. يلمس فيها الباحث في المجال الاجتماعي والثقافي الفروق القائمة بين الشعوب واختلاف ملامحهم الجسدية والثقافية وغيرها من مظاهر الحياة المختفلة. ويجد فيها المتدين موضعا للخلوة والتأمل في الكون والحياة. وبهذا نالت الصحراء دورها في اكتساب المكانة الروحية في عالم التصوف، فاشتهرت بأوليائها وأضرحتها وزواياها، ما يؤكده الروائي الليبي ابراهيم الكوني [3] في وصفه للإنسان الصحراوي بأنه "صوفي بالفطرة، يجد سعادته في الحيرة الدائمة والتقلب في المعاناة".

وفي هذا السّياق، تعالج مقالة رشيد بليل "زناتيّو ڤورارا، أولياؤها والأهلّيل" مجموعة من المصادر الشفهيّة التي تدور حول مواجهة نموذجين مختلفين: الأول متمثلا في الأولياء المحليين وما يدعون إليه من قيّم إسلامية، والثاني مرتبط بممارسات "الأهليل" وطقوسهم المختلفة. إذ يؤكد صاحب المقال أنّه بالرغم من حرص المتدينين على التشبث بالتعاليم المكرسة إلا أنّهم يقبلون بعض الممارسات الثقافية المتداولة.

وتطرق عثمان بلميلود في مقاله "صورة الصحراء العربية في المخيال قبل ظهور الإسلام"، إلى أهميّة الصحراء منذ القِدَم، واقفا عند مضامين بعض القصص المتداولة عن الصحراء في الكتب المقدسة والتي نجد فيها العديد من الدلالات الأسطورية والمقدسة.

ويضيئ مقال عبد القادر خليفي "الماء وطقوسياته في منطقة القْصُور" في الجنوب الغربي الجزائري جوانبا من حياة سكان الصحراء، كون اعتماد هؤلاء في حياتهم اليومية على زراعة الأرض وتربية الحيوانات؛ جعلهم يولون أهمية كبيرة للماء، وذلك من خلال ما يحمله تراثهم الشعبي من حكايات وأمثال وحكم وأساطير ومعتقدات وغيرها من التعابير الشعبية حوله. وهذا العنصر الحيوي في المنطقة الصحراوية اكتسى طابعا مميزا في المخيال الشعبي.

ما تحمله المنظومة الصحراوية من زخم مخيالي ما هو إلاّ انعكاس إبداعي لما يعيشه الإنسان الصحراوي وما يواجهه في حياته اليوميّة بغية التأقلم مع واقعها ومسايرة ظروفها. ولهذا تحفل الذاكرة الجماعية الصحراوية بمجموعة من الصوّر والتمثلات الرمزية مع حضور مكثف للحكايات والأساطير التي نسجتها مخيلته، فكان حضور الماء والواحة والولي في المخيلة الاجتماعية حضورا قدسياً.

أدّت مسألة المقدس والسلطة الرمزية عند بعض الفئات الاجتماعية الصحراوية كفئة "إسْلَمَنْ"، دور الوسيط في المجتمع التارڤي، لما يمثلونه من رمز للسلام باعتبارهم ينحدرون من سلالة الأشراف. وهو ما تطرقت إليه فايزة صديق أركام في مقالها "الفضاء المقدّس والسلطة الرمزية في الصحراء: تأثير الشُرْفَة المرابطين الوافدين من "إيسوك" في تسيير مدينة الأهڤار" والذي أشارت فيه إلى التمثلات المحليّة لممارسات رجال الدين الطوارق أو ما يطلق عليهم باسم "إنسْلَمَن" وعلاقتهم مع سكان الصحراء .

أمّا على مستوى الفضاءات العمرانيّة شهدت مدن الصحراء في الجزائر نماذج متباينة على المستوى الهيكلي والتوسع السكاني، ما أثّر على خصوصية الصحراء وسكانها، وهو ما أشار إليه عابد بن جليد في مقاله " أولاد سعيد، واحة نخيل ڤورارة: التنمية المحليّة وإعادة تشكيل مجتمع تقليدي " حيث تطرق إلى التّحولات والتغيرات الجغرافية في واحة أولاد سعيد بمنطقة تيميمون إثر استخدام الدولة لمؤسسات عصرية واتخاذ إجراءات جديدة منها إعادة ترميم القصور والفڤارة وحماية البيئة.

تطرق عبد القادر حميدي، في مقاله "تطور حي دبدابة بضواحي بشار إلى مركز تنشيط" للتّحولات البنيوية داخل السكنات على مستوى التركيبة الحضرية لمدينة بشار بشكل عام، وحي "دبدابة" بشكل خاص، وذلك بسبب النمو الديموغرافي. وقد أدى هذا التطور إلى التسريع في نمو الكثير من التجمعات السكنية، والتحول داخل البنية الاجتماعية، ما فرض عليهم واقعا جديدا لم يكن موجودا من قبل عند سكان الصحراء.

والملاحظ أنّ هذا التطور لم يراعِ في بعض الأحيان خصوصيات المنطقة، وهو تحديدا ما تعرض له عبد الله خياري في مقاله "أزمة الواحات التقليدية في الصحراء الجزائرية: واحة طولقة نموذجا" أين ركّز على أهمية الواحة في الفضاء الصحراوي ومنها واحة "طولقة" بإقليم الزيبان الغربي، منوّها بمكانتها الاستراتيجية، خاصة بعد تعرضها إلى أزمات منها: التوسع العمراني، ونقص الماء، وتراجع الإنتاج الفلاحي، وهجرة السكان، وتضاؤل إشعاع الزاوية العثمانية.

وضمن الموضوع نفسه جاء اسهام بدر الدين يوسفي في مقاله الموسوم بـ: "مدينة أدرار وفق السياق الحضري الجديد: نحو إعادة تنظيم المجال الجهوي للأقاليم الصحراوية الجنوبية الغربية للجزائر"، متناولا التّحولات داخل المجتمع المحلي للصحراء مؤخرا -أدرار نموذجاً- وهذا بعد ظهور نشاط الخدمات والتجارة الجديدة، ما سمح لها بالاندماج داخل الشبكة الحضرية الوطنية. ومن أهم التّحولات التي طرأت على المجتمع المحلي تراجع دور الزوايا والأعيان (الشُرفى والمرابطين) من ناحية؛ وتنامي مكانة "الحراطين" من ناحية أخرى، وذلك في ظل السلطة الإدارية المنظمة للخدمات الاجتماعية والاقتصادية.

ولم تقتصر أزمات الصحراء على التحولات المجالية والعمرانية؛ وإنما تعدى ذلك إلى انتشار ظاهرة الهجرة في مدن الساحل الصحراوي، وهذا ما تعرض له عبد القادر خليفـة في مقاله
"مهاجرو دول الساحل في مدن الصحراء الجزائرية: من مسار عبور إلى فضاء استقرار (مدينة ورڤلة - الجزائر)" والذي تناول فيه من خلال مقاربة أنثروبولوجية ظاهرة الهجرة ومسار المهاجرين الأفارقة في مدينة ورڤلة.

قيمة الصحراء الرمزية والتراثية هي ما جعلت الباحثين يولون لها هذا الاهتمام من خلال الدراسة والتحليل، كما جاء في مقال أندري لارسونو حول "الصحراء وهوامشها، موضوع دراسي محدّد: نحو تجديد الأبحاث حول المناطق المتصحرة"، أين أبرز إسهامات الباحثين من مختلف التخصصات والمقاربات حول إشكالات مختلفة تتعلق بطبيعة نظام الصحراء البيئي والسوسيوثقافي، وما يترتب عنها من تحولات وتغيرات، ما يدل على انفتاح توجهات البحث نحو التفكير في مجالات تنفرد بها الصحراء.

وفي الأخير، نشير إلى أنّ هذا العدد من دفاتر مجلة إنسانيات ينضاف إلى سلسلة الأعمال والإنتاجات المعرفية التي تناولت دراسة الأقاليم بصفة عامة ودراسة الصحراء بشريا وجغرافيا بصفة خاصة.

صليحة سنوسي



[1] Bolle, J.-A. (1839). Souvenirs de l’Algérie ou relation d’un voyage en Afrique, pendant les mois de septembre de d’octobre 1838 . Angoulême : Imprimerie de J. Brouisse.

[2] George, R. (1891). Voyage à travers l’Algérie. Notes et Croquis.1886-1887. Paris : imprimerie G. Rougier.

[3] ابراهيم الكوني، كاتب ليبي أمازيغي، مواليد سنة 1948، ولد بواحة غدامس في ليبيا، درس الآداب في معهد جوركي للآداب بموسكو.

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran
+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11
+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Recherche