Sélectionnez votre langue

القوْل، المرأة والثورة التحريرية

إنسانيات عدد 25-26 | 2004 |  الجزائر قبل و بعد 1954 | ص07-25 | النص الكامل


“El gaoul”, Women and the liberation war

Abstract: “El gaoul” is a popular kind of poetry It is sung collectively by women in the southern Oran region, on the occasion of religious and familial festivities. These songs are accompanied by a traditional instrument (the bendor).
This artistic type took on a new sense during the Algerian liberation war; that of becoming a variant of literature about revolutionary combat which marked the history of Algerian people in their struggle against occupation.(1830-1962) The different topics of this poetry concerned popular mobilization, identity roots, they express their misery and encouragement for freedom.
These songs glorify moudjahidines’ heroism and by humbling their enemies and collaborators, they even treat the role of women in the fight for freedom alongside men.

Key Words : “el gaoul” - Revolution - people - djihad - France - arms - emancipation - maquis - women.


Abdelkader KHELIFI : Maître de conférence, Université d'Oran, Faculté des sciences humaines et de la civilisation islamique, Département d'histoire,  31 000, Oran, Algérie


 

مقدمة

اندلعت الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي في أول نوفمبر من سنة 1954 تحت قيادة جبهة التحرير الوطني، والتف الشعب الجزائري تحت لوائها. وصَدَقت بذلك مقولة العربي بن مهيدي، قائد الولاية الخامسة آنذاك، وهي: القوا بالثورة إلى الشارع فإن الشعب سيحتضنها. وتوحدت كلمة الشعب الجزائري من أقصى البلاد إلى أقصاها لأول مرة منذ دخول الفرنسيين أرض الجزائر.

وقامت جبهة التحرير الوطني بتعبئة الشعب الجزائري من أجل القضية الوطنية بواسطة مجاهديها ومحافظيها السياسيين وجريدتها "المجاهد" وإذاعتها التي كانت أحد ركائز ووسائل توصيل الخطاب الثوري للجماهير الشعبية بكل فئاتها.

وكان لفنون القول الشعبية دورها الفعال هي أيضا في هذه العملية النبيلة بواسطة الكلمة الشعبية البسيطة من أفواه مبدعين عصاميين، هم من أوساط الشعب المقهور، يتحدثون لغته اليومية ويعيشون مأساته كغيرهم. خرجوا عن الصمت المطبق إلى الكلمة المعبرة عن النفوس الجريحة، تبكي المأساة وتعمل على تضميد الجراح التي لم تندمل، وتفتح للشعب الأمل العريض من أجل غد أفضل ومستقبل واعد.

"وتنظيم القصائد والأغنيات الشعبية ترددها الألسنة ويتغنى بها الأطفال في كل مكان، ترفع من معنويات المجاهدين ومعنويات الشعب، وتعوض الكثير من وسائل الإعلام وأجهزة الدعاية التي كان يستعملها المستعمر، ولا تملك منها الثورة إلا أحاسيس وألحانا وكلمات مؤثرة تزيد الثورة كل يوم قوة على قوة."[1]

وكان فن "القول" أحد أبرز وسائل التعبئة والنضال لِرَصِّ الصفوف وتوحيد الكلمة.

القوْل

القول لغة هو الكلام والتلفظ والمخاطبة. والقَوَّال والقؤول هو الحسن القول والكثيره. والقوَّال في اصطلاح الزجالين من يقول الأزجال ارتجالا.[2]

وهكذا يقترب المعنى الفصيح من المعنى العامي المقصود؛ لأن القوال في هذا الأخير يعني الشاعر الشعبي الذي يقول الشعر طبعا. ويُنطق حرف القاف هنا مفخما فيما يشبه نطق المصريين لحرف الجيم.

ويَستخدِم أحد الشعراء "تسمية القوْل في الشعر الشعبي كما في البيتين التاليين:

باسـم الله بْدِيـتْ القـوْل       يا ناس صَلوا على الرسول

اللي مات للجنة والقصور       وسبعين من بَنات الحور."[3]

وتطلق تسميات أخرى على الشعر الشعبي لا مجال للتعرض لها الآن, لأن ما يهمنا هنا هو كل ما يرتبط بكلمة "القوْل" التي تدخل في عنوان هذه المقالة. فبالإضافة إلى ماسبق قوله حول مصطلح "القول" نجد له تفسيراً آخر في المنطقة الجنوبية الغربية من الجزائر، وفي منطقة جبال القصور تحديدا. هذا التفسير يعني نوعا من الشعر الشعبي الذي كان يُغنى ولا يزال من قبل النساء في الأفراح العائلية وخلال المواسم المحلية؛ إلا أنه أخذ مدلولا جديدا خلال الثورة التحريرية 1954-1962. إنه شعر شعبي وطني ثوري يدخل في إطار ما يُدعى بالأدب النضالي الذي واكب تاريخ الشعب الجزائري خلال المرحلة الاستعمارية 1830-1962، والذي كان من أهم أغراضه التعبئة الشعبية وربط الجماهير بأصولها والتعبير عن مأساتها بالكلمة الشعبية البسيطة. ويتميز هذا "القول" بخصوصيات محددة، أهمها:

- أنه يغنَّى من قبل النساء جماعيا في جلسة ذات شكل دائري بمصاحبة آلة الدف التقليدية (البَنْدير)، ولا يلقى إلقاءً كما هو معروف عن بقية الأشعار الشعبية الأخرى.

- يُغَنَّى أيضا أثناء رقصة الصف التي تنقسم فيها الراقصات إلى صفين متقابلين، يتحركان نحو بعضهما ثم يبتعدان مسايرة للحن ولضربات البندير الذي تحمله بعضهن، كما يغنى في رقصة ثانية وهي الحيدوس.

- هو عبارة عن مقطوعات في مجمله، إلا أننا قد نجد أحيانا قصائد متوسطة الطول تدخل في هذا المجال.

- هو شعر جماعي مجهول المؤلف لأنه كثيرا ما يتم ارتجاله أثناء جلسة الغناء.

وقد قمنا بجمع بعض المقطوعات من هذا النوع الذي واكب الثورة التحريرية في المنطقة المذكورة آنفا، وسنتعرض إليه من خلال مواضيعه، أي أننا سنقوم بدراسته موضوعاتيا.

1-التغني ببطولة المجاهدين

البطولة ميزة يرتفع بها الشخص عَمَّن حوله من الناس العاديين ارتفاعا يملأ نفوسهم له إجلالا وإكبارا. والبطل هو ذلك الشخص الذي كثيرا ما يخلق منه الوجدان الشعبي مثاله ونموذجه في الحياة، أي لِما ينبغي أن يكون عليه الإنسان.

والبطل صاحب حق وصاحب رسالة واضحة، تدفعه مبادؤه للعمل وفق رؤية معينة للحياة، وهو شخصية إيجابية "تعيش القضايا وتؤمن بها حتى النخاع وتضحي بحياتها من أجل هذه القضايا رغم تعقد الواقع وضبابيته."[4]

والشعر هو الوسيلة الناجحة للتغني بالبطولة والشجاعة بوصف الأبطال في حومات الوغى وبلائهم ضد الأعداء. وهو "أغزر مادة أدبية وأتقنها فنا وأكثرها تأثيرا، لأن الشعر خير معبر عما يختلج في النفوس، والقصيدة هي اللون الأكثر ملاءمة والأسرع تجاوبا وانعكاسا والتصاقا بالحدث اليومي للثورة."[5]

وهاهو فن القول المتداول بين النساء يطرق هذا الميدان بكل قوة، فيمدح المجاهدين ويذم جيش الأعداء:

آ الزّعَمَا نُوَّارْ الجّبال       وزيْشْ[6] فرانسا رَاهْ اذبال.

وتتحدث المرأة عن هزيمة العساكر الفرنسية وتشتت قبعاتهم في المعركة، وتحيي في المقابل جنود جيش التحرير الوطني الذين كان النصر حليفهم وتقول:

خَلاوْا الشابو يَتْرامَى       بُوجُورْ عْلِيكم يَا الزّعَمَا.

وعن استعراض جيش التحرير وقوة أسلحته الحديثة التي تفتك بالأعداء:

آ زيش التـحـريـر فايـَت مَنا           المورْطـي[7] والعْشـارياتْ

راكوا تعـايْـرونا بالطـنوكـة[8]             والمورطي راه عند الريَّاس[9]

رافدين القرطاس[10] في وَسْط المَا[11]        أولاد الدزايَـرْ[12] يا الزعما

تَسْتاهْلُوا تـرْقـدوا فـوق الريش           يا الزعما أصحـاب الزيش.

وعن أماكن تواجد المجاهدين بالغابة وبنائهم لمراكز نظامية مجهزة تقول المرأة:

لا تحْسَادوا[13] الزعَما ساكنين الغابة       آ دَايْرين بْسَاط[14] في راس الجّبل

لا تحْسادوهُمْ دَايْـريـن قرابَـة[15]             آ دايريـن بْسَـاطْ فـي الغـابة

الزعـما بـارودهـم نمـيـلي[16]               في الجـبـال ومـا يَتَّسْـمَعْشِي

آ الرَّايَسْ وين خَليت الرّعِيَّة؟       خليتها في الجّبَل ايْدِيها عْلى الأقـراص.

وفي التغني بما فعل المجاهدون من أعمال يُمْدحون من أجلها يَرِد ما يلي:

واه ما داروا أولاد سيد الحاج المجاهدين   وَاهْ مَا دَارُوا

رَفْدُوا سْلاحْـهُـم لبْسـوا مِنـيتـير[17]   واه ما داروا

سَمْحوا في الدّرَارِي والـوالْدين           وَاهْ ما دَارُوا

أولادنـا أولاد سْـبَـكْـتـور            واه ما داروا

رَعّْدوا البِيرُو جُـوجْ مَنْ الناس           واه ما داروا

حَـرْقوا الكَـارْ وزادوا مُـولاهْ           واه ما داروا

وصَيّدوا في الطيارة كالبُرْطال[18]   واه ما داروا واه ما داوا

ابراهيـم وخيَّهْ بوشـريـط[19]                 واه ما داروا

تيْمُوا[20] ابَّاهُم زاروا ومْشـاوْا             واه ما داروا

سيدي معمر في واده ماصر الخدمة       واه ما داروا

العسكر ولاليجـو[21] دَايَرْ بِنَـا             واه ما داروا

أولاد العلج كالنخالة والبَرَكة في أولاد الوطن واه ما داروا واه ما دا روا

مَتوَسَّد السجْرَة يَسْحادْها[22] أمَّه             واه ما داروا.

وتخاطب المرأة الغابة كي تخفي وتحمي المجاهدين بأوراقها وأغصانها وبنباتاتها المختلفة:

يالغابة نَوّرِي نَوْري[23]       أنَوْري دَرّْقي ذاك الشباب

نَوْري يا الغابة نوري       أنوري يا الغابـة نـوري    

الغابة حْنِينة دَرّقّتْ أولادنا

نوري يا الغابة نوري         أنوري درقي ذاك الشباب

نوري يا الغابة نوري         أنوري درقي ذاك الشباب

 البُسْطْ والغنَّايَة[24] في رَاسْ الجّبل

نوري يا الغابة نوري         أنوري درقي ذاك الشباب

نوري يا الغابة نوري         أنوري درقي ذاك الشباب.

وتتحدى المرأة العدو للإقتراب من أماكن تواجد الثوار، لأن الاستعمار تعوَّد على صب جام غضبه على المدنيين بدل مقابلة جنود جيش التحرير في الجبال، وبخاصة جبل الأوراس الذي أصبح رمزا للثورة والصمود:

الروبْلانْ الصفرَا[25] إلَى فِيكْ النيفْ         أحَوْمـي عْلَى جْبَل لُورِيسْ

الرومـي يا زَرْق العـيـنـيـن         قبَّاضْ عُمْرك راهْ في الكيفان

رانـا مـا دَرْنـاشْ بالطـيـارة         هَـا فـرانـسـا الغَـدَّارَة.

وعن تضحية المجاهدين بالمال والولد في سبيل تحرير الوطن:

آ خَلاوْا المال مع الاولاد       آ طلعوا للجّبل يجاهدوا.

وتشجع المرأة المجاهدين وتحرضهم على الصبر والثبات والتغلب على المحن والشدائد والإتكال على الله الذي لاشك أنه ناصرهم فتقول:

زيدوا يا أولاد الدْزَايَرْ زيدوا       واللي دَارْها رَبي السَّاعْ تكون

آ الساكْنيـن الجّبـل بْلاَ مَا         راها التـقوى عَنـدْ مُـولانا.

وتدعو لهم بالنصر والنجاح:

عاوَنهم يا العْزيز رَبي           راهم يْدَاقوا[26] في الجّبال

يْعاوَنكم يا المجاهدين           اليا كنتـو مـع خـويا.

وعن إلقاء القبض على الزعماء الخمسة في 22 أكتوبر من سنة 1956 والقرصنة التي وقعوا فيها من قبل الطيران الفرنسي، وهم في اتجاههم نحو تونس قادمين من الرباط على متن الطائرة التي كان ربانها فرنسيا، وذلك في إطار التشاور وتوحيد الجهود بين الزعماء المغاربيين، جاء ما يلي:

كي شيبتني هذا الأخبار       فرانسا قبضوا الزعما.

كما تعرضت هذه المقطوعات للمناطق المحرمة التي جعلها الاستعمار الفرنسي أراضٍ لا يسكنها أحد، منعا لاستعمالها من قبل ثوار جيش التحرير الوطني. فبعد اندلاع الثورة مباشرة تم تحديد مناطق سميت "غير آمنة"Zones d'insécurité يُنقل السكان منها إجباريا. وقد تحولت تسمية هذه المناطق إلى "مناطق محرمة" Zones interdites، أعطيت للسكان بعض الأيام وأحيانا بعض الساعات فقط لإخلاء المكان والإلتحاق بمساحة محددة. وأحيانا، ومن أجل الضرورة الأمنية، يحل الجيش الفرنسي فجأة ويحاصر القرية ويقوم هو بنقل سكانها نحو المركز المحدد القريب.

لقد أرادت السلطات الفرنسية من ذلك تطبيق طريقة ماو تسي تونغ القائلة: "يعيش الثائر بين السكان مثل السمكة في الماء، فإذا فقد الماء ماتت السمكة."[27] وكان الهدف من تجميع السكان هدف عسكري واحد هو تجويع "الفلاقة" وحرمانهم من كل اتصال بالسكان. "والتجمع هذا يعني في نظر العسكريين الفرنسيين عبارة عن آلة حرب تسمح بقطع جيش التحرير عن قواعده الشعبية والدعم اللوجيستيكي الضروري له (أغذية، تجنيد، أدِلاء، معلومات...).[28]

فـ "منذ 1956 أخذت فكرة التجمع طابع الخطة المنظمة المستمرة لإخلاء كل المناطق -المتعفنة- بالثوار، من السكان وجعلها مناطق محرمة يحرق فيها كل شيء تطبيقا لخطة الأرض المحروقة."[29] وقد شملت كل المناطق التي تمتاز بتضاريسها الوعرة ويصعب على الجيش الاستعماري مراقبتها والسيطرة عليها، ومنها المناطق الحدودية.

وهي مناطق واسعة من البلاد كان على السكان الجزائريين إفراغها حينا، لأن القوات الفرنسية ستضرب كل شيء يتحرك على وجه هذه الأراضي، مما أدى إلى تشريد السكان وانتقالهم إما إلى المحتشدات -التي أقامتها السلطات العسكرية الفرنسية- رغما عنهم، أو إلى البلدين الشقيقين المجاورين المغرب وتونس؛ مما سيؤدي إلى بروز ظاهرة الهجرة.[30] وتسمِّي الأغنية هذه الجهات بكلمة "حْدَادَة"، لأن المناطق الحدودية كانت إحدى أهم المناطق المحرمة، من حيث كان السلاح يتسرب. وقد أقامت السلطات العسكرية الفرنسية الأسلاك الشائكة المكهربة والملغمة على الحدود الشرقية والغربية، فيما دُعِيَ بخط شال وموريس، لمنع كل تسرب للأفراد أو الأسلحة أو غير ذلك مما يأتي من الخارج لدعم الثورة في الداخل.

وكانت بعثة جبهة التحرير الوطني في الخارج هي المكلفة بتوفير السلاح الذي كثيرا ماكان الفرنسيون يستولون عليه في عرض البحار أو قرب الموانيء التي كان يُنتظر رُسُوِّ السفن بها. ورغم كل هذا استطاع جيش التحرير الوطني استغلال هذه المناطق والمرور منها متحديا القوات الفرنسية.

وبما أن منطقة عين الصفراء هي منطقة حدودية مع المغرب الأقصى، فقد ركزت الأغنية على هذا النوع من المناطق المحرمة التي استغلها جيش التحرير، وأصبح يتنقل عبرها بكل حرية:

الْيَا قلتو عين الصفـرا حْـدَادَة       والزعـما حَوْسـوها بَنهار

يا الرِّياس اللي ماتوا في الحْدَادَة       وينْ كُنتو يا زيش التحرير؟

وتدعو المرأةُ الجنديَّ للرفق بأخيه المجند حديثا، وتدعوا الجميع إلى التضامن والتعاون لتحقيق الهدف المشترك وهو تحرير الوطن وتقول:

آ الجندي حـاوَلْ عْلـى خيَّك     الصحرا بْعيدة والسلاح ثقيل

آ دَاوِي يا سِيدْ الطبيب وْحَاوَل     الجنـدي ما مْوَالَفْ بَجْراح.

أما التغني بشخصياتٍ بأسمائها فتَرِد العديد منها ضمن المقطوعات التي تم جمعها ميدانيا. فعن جمال عبد الناصر زعيم ثورة 23 يوليو 1952 المصرية، التي أطاحت بنظام الخديوي الملكي، والتي كانت عاصمته القاهرة مقرا لمكتب المغرب العربي الذي أسسته الحركات التحررية المغاربية في نهاية الأربعينيات من القرن العشرين، وكانت بعثة حركة الإنتصار للحريات الديموقراطية الجزائرية أحد هذه الحركات التحررية. هذه البعثة التي أصبحت ممثلة لجبهة التحرير الوطني منذ اندلاع الثورة سنة 1954، كما أصبح صوت الجزائر مدويا من إذاعة القاهرة للتعريف بالقضية الجزائرية وبث الوعي في الأوساط الشعبية المختلفة.

من ذلك يَرِدُ مايلي:

شكون حَلْ الفتحة نتاع البابور   جمال عبد الناصر المذكور.

لاشك أن صاحبة البيت الشعري كانت على علم بالأحداث؛ فـ "الفتحة نتاع البابور" هي قناة السويس التي أممتها الثورة المصرية سنة 1956، والتي أعقبها العدوان الثلاثي على مصر في السنة نفسها بمشاركة فرنسا التي كانت تهدف إلى الانتقام من هذا البلد الذي كان يؤيد الثورة الجزائرية ويدعمها في كل الميادين، وبخاصة منذ المؤتمر الأفرو-أسيوي المنعقد بباندونغ سنة 1955 الذي حضره وفد ملاحظ عن جبهة التحرير الوطني، والذي أوصى بعرض القضية الجزائرية على الأمم المتحدة، وكانت مصر الثورة وبعض البلدان الأخرى ممن طالب بإدراج هذه القضية في جدول أعمال الدورة العاشرة للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر من سنة 1955.

ومن القصائد التي تتغنى بأبطال الثورة نجد هذه التي تخاطب "سِّي امْحَمد":

كِيفْ نْدير لك يا سِّي امْحَمَّدْ     كيف ندير لك لَجِيبْ[31] جات

                 الشَّيْ والمطلوع في رَاسْ الجّبل.

كيف ندير لك ياسي امحمد     كيف ندير لك لجيب جات

                 توَكّى على الدومَة طيَّحْ ليتنه.[32]

كيف ندير لك يا سي امحمد     كيف ندير لك لجيب جات

                 لجيب دخلت للدوار خلعَتْ[33] الصغار.

كيف ندير لك يا سي امحمد   كيف ندير لك لجيب جات

                 لجيب تجري والرزايَزْ[34] طايْرَة.

كيف ندير لك يا سي امحمد   كيف ندير لك لجيب جات

                 امَّيْمْته تبكي وخَيْته تشتكي.

كيف ندير لك يا سي امحمد   كيف ندير لك لجيب جات.

وهاهي قصيدة أخرى عن بطل آخر من أبطال الثورة التحريرية هو "منصور" جاء فيها ما يلي:

شوفوا لِيشارْ[35] كِـي جَـارْ     مْنين جَا للحَوْض مُولاهْ كِي حَارْ[36] واذبَالْ

وقال منين ناخُض[37] بالعَسْكر     وعَندي غيْر العسكر واليهود

                         مافيهم فَتنة[38].

طاحوا عليهم بَنْهَارْ زَيْش الغُزار       رايَسْهم منصور

                         في الدزايَرْ مشهور

ما يخاف لا مَنْ طيارة ولا من كُورْ[39]     مْحَرّبْهُم حَرْب التمْلاس

                         ما ينقبضوش باليد.

وعن البطل "عبد الوهاب" يرد ما يلي:

من الـدزايَـر حتـى لَـهْـنـايـَه[40]     انْ شا الله تبقى لاولاد الشهـدا

يا خوتي راني مذلول بين مَشتى وخْريف   قدْمـوا خـويـا للسيـلـون[41]

يا بن الخنزير لا تزيَّرْ عْلِيـهْ الكُورْدَة[42] ايْديه مْخَنثين ما مْوَالفش بَتمَرْميد[43]

يالكافر سامحنـي ننـظر ونـشـوف   في الليل مسلسل راسه مكشـوف

لالَّة سَكْسْيـون[44] مْسَنَّـدْ عَـطـشان

                         قال ما طقناش نضربوا من صَهْد الحُمَّان

يا النوْ[45] هَـوْدي ريـبي للـصحـرا   شحال عـطشت فيها جـنود

يا لالَّة واش ادَّانـي لجـبل العـمور   هـذا طـالـع هـذا عـيان

يا لالة راه سـيفـط عـبد الوهـاب     شكـون عـنا جـا مخلص

يا لالة راه سيفـط عـبـد الوهـاب     وقال غير كلمة وصلت الزيش

حتـى القـافـلـة سَــرْكْلـوها[46]   قالـو كتـلوها هَـذو فلاقة[47]

                 حتى الدقيق كْفوهْ[48] والسكر زيادة

لاكيس جنـدي ورافـد بنـدقية         وأنت تقول هـذا فلـوس

تحت الطابلـة وعينـه تخـزر[49]       ويقول هذا ادّوهْ هذا شدوه

كتلـونا بزفـوف والطـيـارة           والصانفيل تّدِّي الأخبار[50]

زيش التحرير دَارْ خَصْلات كْبَارْ         وزاد لقـلـبي نْـزَاهـة

زيش التحرير راهْ غادي يَشرَعْ           وأنت تعـاونه يا رحمان.

لقد أبرزت هذه المقطوعات الشعرية بطولة المجاهدين الذين أدركوا أن الموت حتمي فتقبلوه، وهكذا خططوا لحياتهم على ضوء هذا التقبل. ولم تنف البطولات الفردية التي كانت في كثير من الأحيان نموذجا يقتدى به، فمجدت هؤلاء وخلدت أسماءهم. لقد دافع الثوار المجاهدون عن قيم ومباديء آمنوا بها فخاطروا بمصالحهم وبحياتهم باسم معتقداتهم؛ فتقبلوا الموت؛ لأن الموت في هذه الحالة يعتبر بمثابة حياة. يمكن أن يكون موتا للفرد ولكنه حياة بالنسبة لتلك القيم والمعتقدات أو التصورات أو المعايير.

ومن الدلالة الأكثر بلاغة أولئك المجهولون من الشهداء الأبطال الذين قوَّضوا هدوء العدو وغطرسته. إنهم المجهولون بالأسماء في مختلف مقاومات الشعب الجزائري، حيث ارتقت بهم الشهادة إلى نكران الذات وارتفعت بهم إلى السماء فحاكوا الملائكة طهرا وروحانية وتصوفا[51].

ولكن المرأة التي أوردت هذه المقطوعات لم تَفْصِل كل هذا عن واقع الناس، أي أنها لم تسبح في عالم الخيال والأحلام، بل كانت أقرب إلى الواقع، فهي عندما تتغنى ببطولة المجاهدين لم تنس ذكر الأعمال العدوانية للأعداء عن طريق المداهمات وإقامة المعتقلات والمحتشدات واستعمال أحدث الوسائل لترهيب السكان، وأظهرت في المقابل نكرانها لهذه الأعمال الإرهابية والمشينة.

2- تحدي المرأة ورغبتها في الجهاد

عاشت المرأة جنبا إلى جنب مع شقيقها الرجل تدعم الثورة بالنفس والمال والولد، فكانت المجاهدة في ميادين القتال والفدائية في المدينة، وكانت الممرضة التي تسهر على راحة الجرحى والمصابين، وكانت الإدارية والمعلمة والمحافظة السياسية، وكانت تطهو الطعام للمجاهد يأكل في بيتها أو يحمل معه مؤونته على ظهره يقتات منها بين الحين والآخر من الأنواع الغير القابلة للتعفن مثل "المعَكْرَة" أو "الطمينة" المصنوعة من دقيق القمح والسمن والتمر، وهي أكلة دسمة تحتوي على مقويات هامة وتستعمل لوقت طويل جدا.

"كانت المرأة في بلادنا وما زالت قلعة الصمود والمقاومة، عماد الأسرة وخزان الوطنية، حافظت على الإنتماء الحضاري للأمة عقيدة وسلوكا، وبَلَّغت ذلك الإنتماء للأبناء والأحفاد عن طريق التربية بواسطة الأحاجي والأساطير الملحمية والقصص الشعبية عن بطولات الأجداد للإبقاء على جذوة المقاومة. في أحضانها نشأ وترعرع الأبطال من الشهداء والمجاهدين أبطال الحرية والمدافعون عن الكرامة والهوية.."[52]

ودخلت الميدان بنفسها فساهمت بكل طاقاتها في خدمة الثورة على مختلف مستوياتها وطبقاتها الإجتماعية، وتحملت الصعاب في كل مكان كمحاربة أو مسبلة أو سجينة معتقلة، يقول عنها شاعر الثورة مفدي زكريا:

وجلجل صوت نشيد اللواء فتعنو الرؤوس له خاشعة

وبِنْت الجزائر تتلو نشيد العَذارَى، فتصغي الدنا راكعة.[53]

وهاهي تتحدى ضغوطات الاستعمار وترفض السير في مخططاته، ومنها التصويت على دستور الجمهورية الفرنسية الخامسة في 28 سبتمبر 1958 الذي قدمه الجنرال ديغول للفرنسيين والجزائريين على السواء[54]، باعتبار الجزائر جزء من الجمهورية الفرنسية، وذلك رغم ما سيجر عليها هذا الرفض من تسلط وانتقام من قبل السلطات الاستعمارية:

جَرّوني عْلَى السّدّرْ والقنـدول         ما نفوطيش مْعَ ديغول.[55]

وتطالب في الوقت نفسه بحقها في الكفاح والجهاد لتثبت أنها أهل لكثير من الأعمال التي يمكن أن تسند إليها، لا فرق بينها وبين أخيها الرجل:

آ الطـالـع للجّبَـل اعْلمْـني         خويا عْلاه تدَسْـها مَنِّي

هاتْ لِي كابوسْ[56] بَاشْ نجَاهَدْ         ونمْشي مْعَكم يا الزعَمَا

يا الوَاغَشْ دِيرُونِي فرْمْلِيَّة [57]         و بَاهْ نْدَاوي المُجـاهدين.

وعن غياب المجاهد عن أمه وزوجته وأخته، والحزن عليه وعلى الوطن نجد ما يلي:

خوَيْرَة تبْكي تشيَّبْ الأعْراش         حّمو الجُندي ما يْرَاقَبْهَاشْ[58]

ما نمْشطْ ما نْديـرْ الحَـنَّة           وغِيـرْ إلى جانِـي وَلدْ امَّ

أو:

ما نفرَحْ ما نـدير الحَـنة           غير إلـى جانـي وْلِيـدْ امَّ

آ الدَّارَق شَقْ الجبل تْعَالى           أمَّـك راهـا سَـارَتْ حالة

آ الدارق شق الجبل تعالى           غُزَيْلـك راهـا فـي هَانَـة

لا تبكِ لا تنَـوِّ عـقـلك           إلى مات خَيَّك راه في الجنة

آ نَحْزن عْلِيك يالعشارية             هَوْدي مُولاكْ مَنْ رَاسْ الجّبَلْ.

وتتحرش المرأة بزعماء فرنسا الاستعمارية وتهجوهم شر هجاء وتنعتهم بنعوت هزلية وتقول:

يا ديغول ما زينتُـه بْهَمَّـة         نِيفُه طويل مْليحْ للشمَّة.

أو:

آ ديغول ماهوش نتاع الهَمَّة         نيفه طويل مليح للشمة.

وديغول هو الرئيس الفرنسي الذي جيء به سنة 1958 لينقذ الدولة الفرنسية الاستعمارية من غضبة الشعب الجزائري، فاتبع وسائل متعددة من أجل الحفاظ على هذه البلاد، لكن الشعب على لسان المرأة: البنت والأخت والأم، يَرُد بكل قوة رافضا التصويت على مخططات الجنرال (ما نفوطيش مع ديغول)، وهي تدعوه إلى ترك الجزائر لأهلها والإهتمام ببلده، وتبين فشل سياسته مسبقا عن طريق الإستهزاء به (ديغول ماهوش نتاع الهمة- نيفه طويل مليح للشمة) أي أن سياسته ستؤول إلى الفشل لا محالة. مما جعل الرئيس الفرنسي هذا يقتنع، بعد تردد، بوجوب الإنسحاب وترك البلاد لأهلها، ويسمع لهم بحقهم في تقرير المصير، حيث خاطب الشعب الفرنسي في 14 جوان سنة 1960 بقوله: "ما مصير الجزائر؟ إنه لم يدر بخلدي قط أنني سأتمكن، بين لحظة وأخرى، أن أحل هذه المعضلة الماثلة منذ مئة وثلاثين عاما.. إن حق الجزائريين في تقرير مصيرهم هو الحل الوحيد الممكن لمأساة معقدة ومؤلمة."[59]

3- وعن الخونة أعوان الاستعمار

إذا كانت الأنفة والعزة ومختلف أنواع الفضائل من سمات الرجال الغيورين على وطنهم وأهليهم، فإن الضعف والإستكانة والغدر بالأهل من سمات رجال آخرين اختاروا لأنفسهم طريقا سهلا في الحياة، وسَلَّموا ضمائرهم لغيرهم خدمة لمَصالحَ آنيةٍ ومَكاسب فانية.

ويعد هذا السلوك ظاهرة شاذة، ساعد على بروزها المغريات المادية. أما أسباب الخيانة فتعود إما إلى ضعف الوازع الأخلاقي في نفوس هؤلاء أو إلى أطماعهم السياسية وخوفهم الدائم من العدو، أو إلى فقرهم وسوء حالتهم المعيشية، مما أجبر بعضهم على التجند في صفوف العدو (القوْمِية- الحَرْكَة- السبَايَسْ- المَخزَن- العَسْكَر). وهناك طائفة من السكان كانت تستغل الشعب في الماضي، ورأت في المحتل الجديد فرصة لتحافظ على امتيازاتها. وكانت تترفع بنفسها أن تكون في مستوى الشعب الفقير –وهو يمثل غالبية السكان- والذي كان خادما لها. "وتحت ظلام الخزي والعار مثلت بعض الأدوار المخجلة، لكنها لم تفلت حتى هي نفسها من ضربات الاستعمار."[60] وقد سمى محمد بن الأمير عبد القادر في كتابه "تحفة الزائر"، هذه الطائفة من الجزائريين بـ "القبائل المتنصرة والمرتدة"[61]. ألم يقم أحد هؤلاء بإرشاد الفرنسيين إلى عاصمة الأمير "الزمالة" في شهر ماي من سنة 1843! كان من نتائج ذلك تنفيذ الفرنسيين لمذبحة شنيعة ضد ساكنيها وحراسها، على حين غفلة وفي غياب الأمير، كما كان من نتائجها القضاء على مكتبة الأمير الثمينة مما جعله يحزن عليها حزنا عظيما.

فلم تكن المرأة الجزائرية ببعيدة عن أحداث البلاد، وهاهي تفضح هؤلاء "البَيَّاعَة" و"المْرَانْدِينْ" و"بَيَّاعِينْ دِينهُمْ" وتقول:

البّيَّاعَة شْحال يْدوروا                 ويْوَصْلوا الأخبار لَلْبِيرُو[62]

أو:

كي ندير لك يا حْبيبي لَجيب جات     وجابها بَيّاعْ دِينه

كي ندير لك يا حبيبي لجيب جات     وجابْها مُراندي.[63]

لقد تمكنت السلطات الفرنسية أحيانا كثيرة من تمزيق القيادات الجزائرية، "غير أنها لم تتمكن من تمزيق الشعب الجزائري، ونجحت في تكوين فئة من العملاء، غير أنها لم تتمكن من تحطيم ما يملكه الشعب من أنفة وكبرياء."[64]

4- مرحلة الإستقلال والفرحة التي عمت الأرجاء:

دامت الثورة التحريرية سبع سنوات ونصف ذاق فيها الشعب الجزائري مختلف أنواع المحن، فلم يكن من المنطق أن يعبر الناس عن أفراحهم آنذاك أو أن يحتفلوا بأعيادهم، ولهذا أصدرت جبهة التحرير الوطني قائدة الجماهير الجزائرية أوامرها للشعب كي يمتنع عن إقامة كثير من مظاهر الأفراح التي تعَوَّد على إقامتها مثل مناسبات الأعراس وذبح الأضاحي وغير ذلك من المظاهر والوسائل الدالة على الفرح والسرور، ودعوة للإقتصاد في الإمكانيات. وقد عبرت المرأة آنذاك عن حزنها وامتناعها عن التعبير عن أي فرح كان:

ما نَفرَحْ ما ندِيرْ الحَنة       غِيرْ إلى جاني وْلِيدْ أمَّ.

ولكن هاهو الاستقلال قد بان وظهر، فالفترَحْ جميلة ولتعلن عن ذلك على الملإ. وجميلة (بوحيرد- بوباشا- بوعزة)[65] هي رمز الإباء والتضحية والفداء، و"قصة جميلة بوحيرد... نموذج لبطولة المرأة الجزائرية وصمودها الشامخ شموخ جبال الجزائر، بل تحولت أيضا إلى محرك قوي للعديد من الأفلام الأدبية والسياسية في العالم... تبرهن على عدالة قضية هذا الشعب."[66]

ولتضع الحناء في يديها بعد سنين من الكفاح، فقد زال الكَدَر وانمحى ليل الاستعمار بلا رجعة، ولتهنإ البلاد بأبنائها، وليقيموا دولتهم ويؤسسوا لمستقبلهم آمنين مطمئنين:

سبـع سنـين ماداروا الحـنة           وما صبروا بنات الوطن!  

جميلة ديـري الحَـنَّة لِيـدِيكْ           لانْجِيرِي[67] ادَّى الحُرِّيَّـة

لانجيـري يا عـز البـلـدان           الاستقـلال ادَّاوْها بارود

يا الـبْـناتْ يا الوَطـنـِيَّـات           فرْشوا للزَّيْش وِينْ يْبَاتْ

فـرانـسـا قلـعـي لبْـلادَك           والدْزايَرْ عَمْرَتْ البْلادْ

يا خَـيْري أنا بْسِـيدي رَبِّـي             القونْصُو وَلَّى عْروبية[68]

هَرْسوا البْوَارَا وبْناوْا الحْكومَة[69]          أوْلاد الـدْزايَـر الأحْرار

طالعة للبيرو ورَاسِي عَـرْيان             مَتحَزْمَة بَالْوَاغش الوَطن[70]

هَذِي عْـلى أوْلاد الـدْزايَـرْ             يَالمْشَعْـليـن النيـرانْ

آ رَيَّضْ يا مُولْ الكَارْ رَيَّـضْ             الزعَمَا في الحْدادَة يَرْجوكْ.

وقد واصلت المرأة إبداعاتها الجماعية هذه معبرة عن كل ما يختلج في وجدانها من مطامح وآمال وآلام، مسجِّلةً الأحداث بطريقتها، وها هي تتابع أحداث ما بعد الإستقلال، من ذلك مقتل محمد خميستي وزير الخارجية في أول حكومة للجزائر المستقلة في عهد الرئيس أحمد بن بلة، وتقول:

بَن بَلة وين كَانوا عينيك     خمِيسْتي ضَرْبوهْ بين إيدِيك.

والمعروف أن محمد خميستي (1930-1963) تم اغتياله يوم 11-4-1963 عند خروجه من إحدى جلسات الجمعية الوطنية وهو رفقة زوجته العضو في المجلس نفسه[71].

الخصوصيات الفنية

إن ما يلاحَظ فنيا على هذه الأبيات الشعرية الشعبية أنها قريبة الصلة من الحديث اليومي المحلي السائر بين الناس، لأنها صادرة عن أشخاص من جمهور الشعب، وأنها لا تخضع للأوزان الشعرية المعهودة، بل هي أقرب في كثير من الأحيان إلى النثر. وقد حاوَلتِ المرأة المبدعة أن تقدم هذه الأبيات بقافية محددة حتى تكون هناك متعة موسيقية، تعبيرا عن الإنفعالات النفسية تعبيرا مُوَقَّعا، يصل إلى أذن السامع رنانا خفيفا منتظما. وتتميز بعض الأبيات المقفاة بتشابه في قافية شطري البيت الواحد مثل:

أ الزعَمَا نُوَّارْ الجّبالْ   وزيْشْ فرَانسا رَاهْ اذبَالْ

أو:

شْكونْ حَلْ الفتْحَة نتاعْ البَابورْ     جَمَالْ عَبْد الناصَرْ المَذكُورْ.

ويلاحَظ أيضا أن هناك كلمات أجنبية ذات أصل فرنسي وردت في النصوص، تأثرت بها اللغة اليومية للجماهير الشعبية نتيجة الإحتكاك الطويل مع الفرنسيين وارتباط المصالح، وقد وردت هذه الكلمات أكثر في أسماء الآلات والأجهزة المختلفة التي لم تجد لها المرأة العامية نظيرا لها في لغتها اليومية (البِيرُو- المورْطِي- الطنك- البُسط- فرْمْلِية-الصانفيل- الكارْ..الخ). لقد أصبحت اللغة الفرنسية هي لغة العلم والقوة والحضارة، وأصبحت العربية مغلوبة على أمرها في عقر دارها، و"المغلوب مولع أبدا بالإقتداء بالغالب في شِعاره وزيه ونِحلته وسائر أحواله وعوائده."[72]

وقد وردت أوصاف وأسماء مختلفة للفرنسيين المستعمرين منها: الكافر- ابن الخنزير - أولاد العلج- القونصو - لاليجو- ديغول- فرانسا.

كما استعملت مصطلحات مرتبطة بالثورة والحرب منها مثلا: الجبال- الأوراس- السلاح- الحْدادة- الجّراح- الزعما- النيران- الوطن- المجاهدين- الغابة- العشارية- زيش التحرير-الاقراص- القرطاس...الخ.

ومن الكلمات والتعابير ذات المعتقد الديني نجد: المجاهد- سيدي ربي- الجنة- إن شا الله- عاونهم يا العزيز ربي- اللي دارها ربي الساع تكون- التقوى عند مولانا.

ومن الكلمات والتعابير المحلية الخاصة بالمنطقة التي تدل على الحياة البدوية في الجنوب الجزائري نجد: الصحرا- عين الصفرا- الشيْ(الشواء)- الدوار- صهد الحُمان- جبل العمور- القافلة..الخ.

أما الكلمات الدالة على جنود جيش التحرير الوطني فنجد ما يلي: الزعما- الرايَسْ والرِّياسْ- الجُندي والجنود- الزيْشْ وزَيْش التحرير- أصحاب الزيش- أولاد الدزايَرْ- أولاد الوَطَنْ- زيش الغُزار- ذاك الشباب- الوَاغَشْ- المجاهدين- أولادنا- اوْليد أمَّ- خويا.

وبعد تِعْداد الكلمات المكررة أكثر، توصلنا إلى أن الكلمات الدالة على الجندي الجزائري المحارب هي الأكثر ورودا من غيرها رغم اختلاف التسميات. وهذا يؤكد القصد الأساسي من هذه النصوص وهو التغني بالبطل بذكر خصاله والإشادة بها لاستنهاض الهمم والتنفيس عن الخلجات، وقد ارتكزت الابداعات الشعبية في رسم البطل على مرتكزات دينية واجتماعية، استمدت قوتها من ذلك الصراع القائم بين المستعمر الغازي للبلاد منذ القدم والقوَى المحلية المدافعة عن النفس وعن خصوصية هذه الأمة؛ لذا قُدمت عناصر البطولة على أنها نابعة من التراث ومن الصراع القائم بين الشرق والغرب ومن معطيات العصر في إطار الحرب والسلم.

والخلاصة

أن المرأة الجزائرية شاركت في أحداث البلاد بكل ما لديها من جهد بدني ومعنوي وبالكلمة الشفوية تتغنى بها لتثير حماس المجاهدين والمجاهدات وتدفع بعجلة الثورة إلى الأمام بصمود وجرأة، مما يزيد الثوار إصرارا وعنادا أكثر. وكانت تقدم المثال بشجاعتها وتضحياتها في سبيل الحرية، فكان منها المجاهدة والشهيدة مثل: حسيبة بن بوعلي ووريدة مداد ومليحة حميدو وغيرهن كثيرات من المجهولات في السهول والجبال وفي التلال والصحاري.

فالمرأة بمشاركتها المباشرة في الثورة وبدعمها وتشجيعها للآخرين بواسطة المساعدات المتعددة وبزغرودتها في حالة النصر والإستشهاد على حد سواء وبأناشيدها، لم تقم سوى بواجبها تجاه الوطن الذي كان ولا يزال في حاجة إلى تعاون كل أبنائه.

المصادر الشفوية:

-أم الخير سعداوي، 73 سنة، عين الصفراء 1985.

-فاطمَة سعداوي، 88 سنة، وهران 2004.

-من جمع فاطمة طيبي، 25 سنة، معلمة بعين الصفراء 1987 من لدن الراويات:

-فاطنة 60 سنة. -عابدة 56 سنة. -عربية 70 سنة. -حادة 70 سنة. -الجراحية 46 سنة. -آمنة 40 سنة. - مربحة 44 سنة.


الهوامش

[1] زهور ونيسي، المرأة والثورة، الملتقى الوطني الأول حول كفاح المرأة، المنعقد بعنابة يومي 9 و10 جوي 1996. مطبوعات المركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر 1954، ص: 206.

[2] المنجد في اللغة والأعلام، دار المشرق، الطبعة 26، بيروت، بدون تأريخ.

[3] التلي بن الشيخ، دور الشعر الشعبي الجزائري في الثورة (1830-1945)، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر 1983، ص: 384.

[4] عبد الحميد بورايو، منطق السرد، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر 1994، ص: 97.

[5] أنيسة بركات، محاضرات ودراسات تاريخية وأدبية حول الجزائر، منشوات المتحف الوطني للمجاهد 1995، ص: 65.

[6] الزيش: هو الجيش وقد قلبت الشين زاياً لتسهيل النطق بها.

[7] المورطي: Mortier كلمة فرنسية تعني سلاح الهاون.

[8] الطنوكة: جمع لكلمة طنك Tank وهي كلمة أجنبية تعني دبابة.

[9] الرِّياسْ: تعني الرؤساء أو الزعماء.

[10] القرطاس: كلمة تعني الذخيرة، أو هي الطلقات التي تخرج من فوهات الأسلحة.

[11] يقصد بذلك القِرْبَة التي يوضع داخلها الماء لأنها سهلة الحمل على ظهر الشخص. وربما استعملت لإخفاء السلاح.

[12] الدزاير: هي الكلمة العامية لاسم الجزائر.

[13] لا تحسادوا: أي لا تظنوا.

[14] بُسْط: Poste كلمة أجنبية تعني مركز.

[15] قرابة: هي جمع لكلمة قربي Gourbi وهي كلمة فرنسية تعني كوخ.

[16] نميلي: بمعنى جيد، وبارود نميلي: بارود من النوع الجيد.

[17] مِنيتيرْ: Militaire كلمة فرنسية تعني عسكرية.

[18] البُرْطال: كلمة محلية تعني الطير.

[19] إبراهيم وبوشريط ومنصور وسي امحمد، هي أسماء لبعض المجاهدين في المنطقة الجنوبية الغربية.

[20] تيَّمْ: وتيموا بمعنى مَروا بالمكان.

[21] لاليجو: La Légion كلمة فرنسية تعني نوعا من المجندين الأجانب مع القوات الفرنسية كمرتزقة. La Légion étrangère

[22] يَسْحادْ: بمعنى يظن.

[23] النوار: هو الورد والزهر، أي أزْهِري أيتها الغابة لإخفاء المجاهد عن العدو الفرنسي.

[24] البُسط: Poste كلمة فرنسية تعني مركز. والغناية: هي الحاكي المستعمل آنذاك للغناء بواسطة الإسطوانات.

[25] الروبلان: نوع من الطائرات اشتهرت بالقصف والتدمير في فترة الثورة الحريرية.

[26] يَدَّاقوا: بمعنى يحاربون.

[27] أنظر: Michel Cornaton, Les Camps de regroupement de la guerre d'Algérie. L'harmattan, Paris 1998. P/62.

[28] أنظر: IBID. PP/62-63.

[29] يحي بوعزيز، ثورات الجزائر في القرنين التاسع عشر والعشرين، دار البعث، قسنطينة 1980، ص: 393.

[30] أنظر: Mohamed Teguia, L'Algérie en guerre, O P U, Alger sans date, P/359 et suite.

[31] لجيب: Jupe نوع من السيارات السريعة التي كان الجيش الفرنسي يستعملها لمختلف مصالحه وفي ملاحقة الشعب الجزائري، لأنها الأقدر على ذلك لسرعتها وصلابة هيكلها.

[32] ليتنه: Lieutenant مرتبة عسكرية هي ملازم أول.

[33] خلعَتْ: بمعنى أزعجت.

[34] الرزايَزْ: ومفردها رَزَّة، وهي العمامة على الرأس. والرزايز طايْرَة: بمعنى سقوطها من على رؤوس الرجال بسبب مطاردتهم من قبل الجنود الفرنسيين.

[35] ليشار: Char كلمة فرنسية تعني مَرْكبة قتال.

[36] حار: بمعنى احتار.

[37] ناخُضْ: بمعنى نتخذ طريقا.

[38] فتنة: تعني هنا شجاعة.

[39] الكور: يعني قذائف المدافع.

[40] هْنَايَه: بمعنى هنا.

[41] السيلون: Cellule كلمة فرنسية بمعنى الزنزانة..

[42] الكورْدَة: Corde هي الحبل.

[43] التمَرْمِيدْ: هو الغبن.

[44] سَكْسْيون: Section كلمة فرنسية تعني فصيلة من الجيش.

[45] النَّوْ: هي المطر.

[46] سَرْكَلْ: Cercler كلمة فرنسية بمعنى حاصر.

[47] فلاقة: Fellaga كلمة أطلقها الفرنسيون على الثوار التونسيين والجزائريين.

[48] كفاه وكفاوَه: تعني أهرق الشيء.

[49] تخزر: بمعنى ترى.

[50] زف وزفوف: بمعنى الضجيج. أي أقلقنا ضجيج الطائرات. والصانفيل: Sans fil كلمة فرنسية بمعنى الهاتف اللاسلكي آنذاك.

[51] عبد القادر خليفي، المأثور الشعبي لحركة الشيخ بوعمامة، أطروحة دكتوراه دولة، كلية الآداب اللغات والفنون بجامعة وهران، 2000-2001، ص: 313.

[52] أبو طارق محمد العربي، المرأة الجزائرية مَشتلة الثورة وحاضِنة الوَطنية، الملتقى الوطني حول كفاح المرأة الجزائرية، عنابة 9 و10 جوي 1996، مطبوعات المركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر 1954، ص: 105.

[53] مفدي زكرياء، إلياذة الجزائر، المعهد التربوي الوطني، وزارة التربية الوطنية، الجزائر، بدون تأريخ.

[54] يحي بوعزيز، ثورات الجزائر في القرنين التاسع عشر والعشرين، منشورات المتحف الوطني للمجاهد، الجزائر 1996، ص: 281.

[55] السدر والقندول: نوعان من النباتات الطبيعية الشوكية. والفوط Vote ونفوطي كلمة فرنسية تعني الإنتخاب والتصويت.

[56] كابوس: هو المسدس.

[57] فرْمْلِية: Infirmière كلمة فرنسية تعني ممرضة.

[58] حمو: اسم لأحد جنود جيش التحرير الذي تغيب عن أمه خيرة أو خويرة أو أم الخير.

[59] "مذكرات ديغول: الأمل 1958-1962"، ترجمة سموحي فوق العادة، مراجعة أحمد عويدات، منشورات عويدات، بيروت، 1971، ص: 99 و100.

[60] محمد قنانش، الحركة الإستقلالية في الجزائر بين الحربين، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر 1982، ص: 263

[61] محمد بن الأمير عبد القادر، تحفة الزائر في مآثر الأمير عبد القادر وأخبار الجزائر، المطبعة التجارية، الإسكندرية 1903، ص: 263

[62] البيرو: Bureau كلمة فرنسية تعني مكتب، ويقصد بهاBureau 2em وهي السلطة الاستعمارية العسكرية التي كانت تتابع السكان خلال الثورة وتعاقبهم أشد العقاب إذا ما ثبت تورطهم فيها أو لمجرد الشك في ذلك.

[63] مْرَاندي: Renduكلمة فرنسية يقصد بها الخاضع لسلطة العدو. Se rendre

[64] بسام العسلي، المقاومة الجزائرية لللإحتلال الفرنسي، دار النفائس، بيروت 1983، ص: 170.

[65] إبراهيم لونيسي، نساء جزائريات تحت التعذيب: الجميلات الثلاث نموذجا،حولية المؤرخ، الجزائر، العدد 2/2002.

[66] نفسه.

[67] لانجيري: L'Algérie تعني الجزائر.

[68] القونصو: يعني به الفرنسي. وعروبية: يعني الجزائري، أي أن الحكم انتقل من الفرنسي (القونصو) إلى الجزائري (عروبية).

[69] أي أن الجزائريين قضوا على الإدارة الاستعمارية (البْوَارَا) وحلوا محلها إدارة وطنية (حْكومة).

[70] أي أنا ذاهبة إلى الإدارة الجزائرية والحكم الجزائري دون خوف -مثلما كنا سابقا- وأنا في كامل الحرية (راسي عريان: تعبير مجازي).

[71] أنظر: Achour Cheurfi, La classe politique Algérienne de 1900 à nos jours, Dictionnaire Biographique, Casbah éditions, Alger 2001, PP/224-225.

[72] عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، كتاب العِبر وديوان المبتدا والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، دار ابن حزم، الطبعة الأولى، بيروت 2003، ص: 111.

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran
+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11
+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Recherche