Sélectionnez votre langue

"المجال السكني العائلي في الوسط الريفي التقليدي: الدار و القرية لدى "بني سنوس

إنسانيات عدد 07 | 1999 | فلاحون جزائريون ؟ | ص 25-35 | النص الكامل


Family dwelling space in a traditional rural milieu. The house and the village among the Beni-Senouss

Abstract : In this study we have tried to analyse in a concise way, some aspects of inhabited family space in a traditional family milieu, namely the house and the village among Beni-Snouss before 1960.
By showing the morphological characteristics of the house, we have insisted on its social dimension. We have shown how space is managed by values and beliefs making a world, where above all, family functions are practised.
Being the image of the house, because conceived in the same manner, the village is shown as a space fulfilling, in a larger scale, that of village community, the same functions as the home, thus reflecting the same culture, the same vision of the world.

Keywords : Beni Snouss, family accommodation, rural, parental relationship, home


Mohamed HAMDAOUI : Enseignant à l'Institut de sociologie
Centre de Recherche en Anthropologie Sociale et Culturelle, 31 000, Oran, Algérie


 يتطلب بحث المجال السكني بجوانبه المختلفة تضافر جهود العديد من الباحثين، نظرا لطبيعة موضوعه المعقدة. كما يتطلب توافر وسائل و مناهج في مستوى الكشف عن عناصره البنيوية و مستلزماتها الوظيفية. و يصدق هذا القول على الأوساط الإجتماعية المختلفة : الأوساط الحضرية و الريفية اليوم و الأوساط غير الحضرية التقليدية.

إن وجود الجماعات الإجتماعية، على تعقده و على صعوبة خضوعه للدراسية العلمية، ينتج و يعاد إنتاجه في مجالات مختلفة موسومة كلها بتصور من ابتكروها، و مناطة بها وظائف مادية و رمزية تضمن اندماج الأفراد و تماسك المجتمع.

غير أن هذا الوجود، كما ينكشف، يخفي عناصر ضرورية لفهم حقيقته، و هي غالبا ما تفلت للملاحظة: ليس فقط ملاحظة الفاعل الإجتماعي العادي، بل حتى الجماعة الإجتماعية التي تشكل دعامة هذا الوجود. فكثيرون هم أولئك الذين يجهلون تشكيلة عناصر المجال الذي تجري فيه أحداث حياتهم اليومية، في كل حين، كما يجهلون التأثير الذي تحدثه فيهم عناصر هذا المجال.

ليس في وسعنا في هذا المقال، كما يمكن فهم ذلك، التطرق إلى كل جوانب المجال العائلي في الوسط الريفي التقليدي، لذلك سوف نحصر حديثنا في الدار و القرية مدركين انهما ليسا المجالين السكنيين الوحيدين. و سوف نجعل حقلا لملاحظاتنا قرى "بني سنوس"، خصوصا منها تلك الواقعة في بلدية العزايل[1].

من غير أن نبالغ في التفاصيل، سوف نتطرق عند معالجة موضوع الدار إلى بنائها و المعتقدات المرتبطة بذلك و التي تعتبر لحظة حاسمة في مرحلة ما قبل البناء. كما سنقدم وصفا مقتضبا للدار بعد الإنجاز، مخصصين الفقرة الأخيرة لوظائف المجال السكني العائلي، من غير التعمق في العلاقة بين وظائف هذا المجال و الوظائف التقليدية للأسرة الممتدة، على أن هذه العلاقة صريحة حتى عند أبسط تحليل.

أما القرية كصورة مكبرة لسكن الأسرة الممتدة و التي تمثل بالنسبة للمجتمع الريفي ما تمثله الدار بالنسبة لهذه الأسرة، فسوف نتطرق إليها من هذا المنظور في فقرة خاصة.

أخيرا، فإن الدار و القرية اللتين ينصب عليهما اهتمامنا هما ذانكما المجالات اللذان وجدا قبل 1960 و اللذان لم يتأثرا كثيرا بعوامل التغير الإجتماعي، خصوصا منها العوامل الخارجية، ثمرة الحداثة وليدة الحضارة الأوروبية.

I- الدار : المعتقدات الإجتماعية و وظائف المجال

1- الخصائص المورفولوجية

رغم أن نوعه يختلف بإختلاف المناطق و بإختلاف نمط معيشية الأسرة الممتدة، فإن السكن غالبا ما نجده واسعا لدى سكان الريف السنوسي التقليدي. و يمكن هذا السكن أن تمثله دار واحدة أو مجموعة من الديار. هكذا يكون لكل أسرة نووية دارها المندمجة في مركب من الديار الأخرى[2]. الأمر الذي يزيد من جميمة و استقلالية الخلايا النووية من جهة، و يضمن قربا كبيرا من السلطة الأبوية.

هو نوع من السكن له نقائضه و أشباهه في البلاد العربية و غير العربية. و هو مختلف عن نوع السكنات المنتشرة في آسيا الجنوبية، متشابه مع السكنات الحضرية الأوروبية. إنه نوع يلائم حسب بيير لابا، نوعا من العلاقات الأسرية[3]. هذه السكنات تجمع كل الرجال المتزوجين و غير المتزوجين المنتسبين إلى جد واحد. فبقدر ما يوجد من السكنات توجد أسر ممتدة يشكل مجموعها سكان القرية.

قد تكون الدار المربعة الشكل أو مستطيلته، غيبر أن الغرف مستطيلة الشكل دائما و ذات مساحات متفاوتة. يتراوح طول الغرف بين ستة أمتار و إثنى عشر مترا و عرضها بين مترين و نصف و أربعة أمتار و نصف و علوها بين مترين و نصف و ثلاثة أمتار و نصف[4] و تشكل الحجارة و الطين و الخشب المواد الأولية للبناء. أما المطبخ الذي هو مشترك بين الأسر النووية المندمجة في العائلة، فإنه يتميز عن بقية الغرف ببنائه و تجهيزه التقليدي. بل إنه يمكن تحديد مكانه من الدار بمجرد الملاحظة الخارجية، كونه على خلاف الغرف الأخرى يعلوه ما يسميه أهل المنطقة بـ "الطراح". و هو بناء يعلو موقد النار في شكل مكعب، يتخلل طرفيه تجاويف لتسرب الدخان، مضللة أطرافه لمنع تسرب المطر إلى داخل المطبخ. و يفصل موقد النار عن بقية المطبخ نصفا جدارين علقا في زاوية التقائها على ركيزة من خشب.

تفتح الغرف جميعها على مجال واحد يسمى حسب القرى "حوشا" أو "وسط الدار" و غالبا ما يعبر عن الدار كلها بهذا الجزء منها فتسمى الدار حوشا. و ما ذلك إلا للأهمية الخاصة التي يكتسبها هذا المجال. "إنه يعبر عن نمط ثقافي غريب على المدينة الحديثة، و لكن يشترك فيه المغرب كله[5]. هذا الوسط المفتوح على الله و المنغلق بالنسبة للعالم الخارجي هو قبل كل شيء مجال نسوي، و لكنه يؤدي كذلك وظائف إقتصادية و ثقافية متعددة، كما سنشير إلى ذلك في فقرة خاصة.

2- البناء و المعتقدات الإجتماعية

إن المعتقدات الإجتماعية المرتبطة بالمجال العائلي متعددة و توجه سلوك الجماعة عند استغلاله، سواء تعلق الأمر يفلح أرض أو بتسخير مكان ما لبناء معين.

في الذاكرة الجماعية، فإن وجود عالم روحاني له حضور دائم. لا مجال للشك لدى المجتمع السنوسي في أحن أرواح الأجداد، و كذلك الأرواح الطبية و الأرواح الخبيثة تشغل المجال مثلما يشغله الإنسان : لا شك لديه أيضا في أنها، مثل الإنسان، تعرف السرور و الغضب و تمتلك قوتها الخاصة، و وسائلها الخاصة للعقاب، كلما أزعجها تصرف بشري و أقلق هدوءها. لهذا، فإن الجماعة لا تبادر إلى أي بناء إلا بعد تأكدها من رضى الأرواح التي تسكن المكان. و هذا الأمر تقرره "جماعة القدامي" أو "كبار الجماعة" الذين لا يملكون سلطة القرار وحدها. بل يمتلكون المعرفة بالمجال : فلهذه الجماعة وحدها الحق في تحديد ما إذا كان المكان أرضا وقفا أو مقبرة قديمة أو "مقام" ولي صالح.

يبدو الأمر و كأن هناك تبادل للرضى بين "جماعة القدامى" و أرواح المجال. أو بعبارة أخرى، يبدو و كأن قوى الأرواح الخفية مبثوتة في إرادة "كبار الجماعة" الذين ليس قرارهم لصالح استغلال هذا المجال أو ذاك أو عدم استغلاله إلا تعبيرا عن موافقة أو عدم موافقة الأرواح المرتبطة بالمكان.

ما من واحد، في نظر الجماعة، تنكر لهذه المعتقدات إلا و عرض نفسه للخطر. فالأرواح تتطلب من السكان سلوكات لصالح السكنية و الهدوء.فمن أغضبها و أزعج سكينتها، فقد جلب الشر للعائلة القاطنة بالدار، و ربما جلبه لسكان القرية كلهم.

إن سعادة العائلة إذن قائمة على أساس إرضاء هذه الأرواح التي تستمر بعد بناء الدار في البقاء بنفس المكان. بل إنها تظهر في كل مناسبة، تحت أشكال مختلفة، فتباغت أعضاء العائلة. بهذه الصورة فإنها تبرهن على وجودها، ة تثمن حضورها و ترغم العائلة التي تسكن معها على احترامها.

أن تبني دارا، بالنسبة للمجتمع التقليدي، معناه أن تخاطر بنفسك، ذلك أن من المحتمل أن تزعج روح التراب أو تتسبب في قلب نظام الأرض أو تحدث اضطرابا في مجرى المياه[6].

و يلتقي مجتمع بني سنوس، في هذه المعتقدات مع الكثير من بلاد العالم، و يكتسي البناء لديه طابعا طقوسيا. و إذا كانت "جماعة القدامى" تعبر بقرارها لصالح بناء عن مرضى الأرواح، فإن هؤلاء يمتلكون وسائلهم الخاصة للإتصال التي من بينها الحلم و التنبؤ.

أن يرى أحد الأقارب في نومه جدا من الأجداد يطلب منه مباشرة مشروع أو العزوف عنه، فإن ذلك، بالنسبة للجماعة، مسألة لا جدال فيها. إن حلم قريب أو تنبؤ "درويش" غالبا ما يؤديان إلى توقيف مشروع من المشاريع، بناء كان أو غيره. و في كل حال يبدو دور الجماعة من خلال تدخلها لقول الكلمة الأخيرة و إصدار القرار. فبشأن الحلم أو التنبؤ تعتبر الجماعة أن ذلك ليس إلا رسالة وجهتها إليها الأرواح. و لحماية السكان من عقابها، لا بد أن يشرك الجميع، وبصورة واسعة، في بناء الدار. و من هنا البعد الإجتماعي للبناء.

واقع الحال، فإن بناء الدار، حتى ة إن كان قضية عائلية، إلا أنه قبل ذلك، يعتبر قضية ثقافية يجسمها معاش المجتمع الريفي في كليته، من خلال كل ما يجعل محسوسة تصورات هذا المجتمع للكائنات و الأشياء، أي نظرته للعالم.

فإذا حدث إن غضبت الأرواح، لأن ضررا مسها، فإن تعبيرها عن غضبها متوقع حدوثه من طرف الجماعة في كل حين. فالأرواح لا تعرف الرد على الأذى إلا بالأذى، خصوصا و أن الأعراف البشرية لا تتضمن قواعد قادرة على منعها من ذلك، باستثناء قاعدة الإرضاء. لهذا، فإن الجماعة تسارع عند حصول الأذى إلى تقديم الصدقات لمنع العقاب. يجري الأمر كما لو كانت الأرواح و الناس ينتمون إلى ثقافة واحدة. بل أنهم ينتمون إليها. و على أساس ذلك لا بد على الأرواح من قبول المبدأ الذي يؤمنون به : مبدأ الصدقات. كما لا بد أن يحصل منهم الرضى فيمتنعوا عن الأذى: "الصداقة تدفع البلاء".

على كل حال، فإن الأسرة إتمامها مشروع البناء، تتوقع أن يستمر الأرواح في السكن معها بيد جدران المكان، غذ أنهم السابقون إلى الأرض، و بفضل رضاهم كان البناء. و لا تملك الأسرة إلى أن تدعوهم إلى التفاهم و حسن الجوار، فتنظم قبل أن تسكن الدار وليمة يكون الأرواح في الحقيقة ضيوفها الأولون. و هكذا يبدأ تبادل جديد بين جماعتين إحداهما اجتماعية و الأخرى روحانية، و تولد "عشرة" جديدة و تستأنف الأسرة بهدوء إعادة إنتاج وجودها الإجتماعي غير بعيد عن الأجداد و أرواح الأجداد.

3- وظائف المجال و الحياة الأسرية

بقدر مل توجد أسر نووية بالعائلة بقدر ما توجد غرف تشكل الدار الكبيرة. و هي غرف غير متخصصة بالمعنى الحديث للكلمة. إذا أنها تؤدي في نفس الوقت دور غرف النوم وقاعات الأكل و أماكن لقضاء أوقات أخرى من الحياة الأسرية، على أن بعض الديار مجهزة بمخازن للمواد الغذائية و باسطبلات للدواب. أما "الحوش" فإنه يؤدي وظائف أساسية. في أوقات الصحو، يعتبر "الحوش" مجالا يؤمه النساء و الأطفال. و نادرا ما يتردد عليه الرجال. هو بالنسبة إليهم مجال للمبادلات و الإجتماعات، يمكن تعويضه بإحدى الغرف في أيام المطر، غرفة الضيوف بالنسبة للأسر الميسورة، أية غرفة بالنسبة للأسر الأخرى[7].

في الوسط الريفي التقليدي، نجد الدار مبنية سواء وسط الملكية الزراعية العائلية أو على مقربة منها أو القرية ضمن التجمعات السكنية. و مهما كان مكانها، فإنها تتميز بخاصية أساسية، و هي أن تحتجب عن أنظار الرجال الذين لا تربطهم علاقة قرابة بالعائلة. لهذا السبب، فإنها تكون إما بعيدة عن طرق المرور أو محاطة بسور يتجاوز ارتفاعه قامة الرجل بكثير.

و تتصل الدار بالوسط الخارجي، أي بالمجالات الإجتماعية الأخرى بفتحة واحدة هي غالبا باب بمصراعين[8]. لا سبيل للغريب أن يرى ما يحدث في "الحوش"، خصوصا تحركات النساء. بهذا المعنى، فإن الدار مبنية من طرف الجماعة حسب تصور يجعلها تحافظ على الشرف العائلي، الذي يعرضه للدنس أي مساس بالحشمة أو الإحترام. يرتبط هذا الجانب إرتباطا واسعا بإحدى الوظائف الأساسية للأسرة الممتدة التقليدية: ألا و هي وظيفة الحماية و اللجوء. فإذا أمكننا أن نسقط التصور الخلدوني على المجال السكني يمكننا الاستنتاج، مقارنة مع السور الذي يحمي المدينة، بأن السور الذي يحيط بالدار ليس إلا شكلا من الأشكال التي تأخذها ظاهرة العصبية كعاهل يضمن للجماعة دفاعها عن نفسها[9].

الدار وحدة إنتاج. ذلك أنه في مجالها ينتج النساء، خصوصا هن، جزءا كبيرا من وسائل وجود العائلة. الحال أنه لا توجد أسرة ممتدة واحدة تقريبا لا تملك آلة للنسيج، أو مطحنة يدوية أو لا تختزن حسب إمكانياتها المادية جملة من المواد الأولية الضرورية لهذه الحرفة أو تلك : من صوف و شعر و حلفاء و غيرها… إن المنتوج الحرفي، إذا لم يكن يحتاج إلى تخصص، فإنه ينجز داخل العائلة، و في مجالها السكني بالذات. و كما أن الأدوار موزعة حسب الجنس : للذكور الدور الأداتي و للنساء الدور التعبيري، فإن العمل الحرفي مقسم أيضا حسب الجنس : فللنساء تعود صناعة الأدوات و الوسائل المرتبطة بفلاحة الأرض.

ما عدا في حالات استثنائية، فإن صناعة الفخار (مستبعدا منها صناعة الفناجين التي تتطلب مادة دقيقة خاصة) و صناعة الأواني الخشبية يقوم بها حرفيون متخصصون، كان عددهم، في بني سنوس، معتبرا قبل قيام الحرب التحريرية، كان يدخل في دور الرجل في هذه المنطقة أن يصنع قدرا أو قصعة، تماما مثلما تدخل في دور المرأة صناعة الغطاء و الحصير.

إن الإنتاج مرتبط بالملكية العائلية الزراعية غير المنقسمة، حتى عندما لا يكون النشاط زراعيا، مادام النشاط الحرفي لا غنى للزراعة عنه. فالمحراث أو الخرج أو القفف أو الأكياس أو الحبال.. إلخ كلها وسائل ضرورية لفلاحة الأرض أو نقل الغلال أو تخزين المنتوج.

كذلك، فإن الدار مجال للإستهلاك. فحسب الجنس ، تقسم هذه الوحدة السكنية أفراد العائلة للإستهلاك، كما قسمتهم أثناء الإنتاج.

ترتسم أثناء تناول الطعام جماعات تعكس القيم المرتبطة بالترابية الأسرية. واقع الحال، فإن ثلاث جماعات، على الأقل، تجد نفسها موزعة عند تناول الوجبات : جماعة رب العائلة و أبنائه المتزوجين الذين يقدمون على الجميع و يتناولون طعامهم معا؛ جماعة الشباب العازبين في الدرجة الثانية؛ و أخيرا النساء و الفتيات العازيات من جهة و الأطفال الصغار من جهة أخرى. و لا حاجة إلى القول بأنه من خلال هذا التقسيم، إنما تتأكد قيم اللامساواة بين الجنسين، و المكانات المختلفة للافراد في المراحل الثلاثة من حياتهم الأسرية، و الصراع بين الأجيال المتعاقبة.

و كما هو الشأن بالنسبة لأوقات تناول الطعام، فإن المجال السكني، يقسم أفراد العائلة ساعة النوم. إن البنين و البنات الذين ينامون في غرف مختلفة يخضعون إلى قاعدة تحريم الإلتقاء ببعضهم البعض ليلا. أما الأزواج من جهتهم، فإنهم الوحيدون الذين يدخلون الغرف حيث تنام زوجاتهم. و دخول أي رجل على زوجة أخيه "غرفة نومها" سرعان ما يتسبب في صراع عائلي صريح و عنيف في كثير من الأحيان، بل كثيرا ما يتسبب ذلك في الطلاق[10].

كمجال أسري، فإن الدار تعكس النظرة للعالم التي شخذتها الجماعة إنطلاقا من ثقافتها الخاصة، هذه الثقافة التي تعمل عناصرها على تعزيز العلاقات و تقوية الروابط بين الأجيال، بل بينهم و بين أرواح الأرض : أرواح الأجداد و غيرهم من الكائنات الخفية التي ترتبط بالمجال و تحبه و تنقل حبه إلى الأجيال المتعاقبة باستمرار.

II- القرية " صورة الدار المكبرة

كما أن الأسرة ممتدة في الوحدة الأساسية للمجتمع الريفي التقليدي، فإن الدار الكبيرة هي الوحدة الأساسية للقرية. هذه الأخيرة مكونة من مجموع الديار التي تكتسي حسب الإمكانيات المادية للعائلات أشكالا و أحجاما و ارتفاعات مختلفة، من غير أن تفقد مع ذلك خاصيتها المشتركة : بناء حجراتها حول "حوش" و انفتاحها على الخارج بواسطة باب واحد. في منطقة بني سنوس يجهل السكان نظام الكراء، و لا أحد يفتقد إلى سكن، باستثناء الفلاحين بدون أرض، الذين في مقابل خدماتهم المقدمة لملاكي الأراضي الكبار يقطنون لديهم. إنها حالات نادرة، مادام الفلاح بدون أرض، عندما يندمج في المجتمع الريفي، يجد من بين السكنات المهجورة سقفا يؤويه و يمكنه من الحياة بصورة مستقلة على غرار كل الأسر الأخرى.

تشترك القرية السنوسية مع بعض القرى في المغرب و المشرق الإسلاميين في الكثير من الخصائص. و لقد أمكن للإثنولوجي و عالم الإجتماع الفرنسي أندريه آدم ملاحظة بعضها لدى القبائل المغربية القاطنة بجبال الأطلس[11].

في معظم المناطق الجزائرية تحتل القرية عموما قمة هضبة أو سهلا أو منحدرا، نادرا جدا، أبدا تقريبا، ما تبنى في واد[12]و هو ما لا ينطبق على بني سنوس، ذلك أن السكنات هنا مجمعة في قرى تقع كلها في الوديان أو على مقربة من منابع المياه، أحيانا على ضفاف الوديان تماما (مازر، تافسره) أحيانا اخرى على قمم المرتفعات الجيرية (بني عشير) أو محفورة في الكتل الجيرية (بني بحدب) أو مبنية على منحدرات الوديان، إما على مقربة من الوادي (الخميس، أولاد موسى، أولاد عربي) و إما على بعد مسافة من مجري الماء (الثلاثا)، و تكون أحيانا معلقة في العلو الشديد على المنحدرات (الكاف)[13].

إن الجماعة و هي تموقع القرية في أماكن محددة جدا، و بشكل محدد تقريبا، تقيد نفسها بإلتزام و هو "ربط إقتصاد المجال بالضرورات الوظيفية، مع الحفاظ على الحميمة، كمبدأ أساسي للحياة الإجتماعية"[14].

على غرار الدار الكبيرة حيث تفتح الغرف كلها على نفس "الحوش"، فإن السكنات المجمعة في قرية تفتح على نفس الساحة. و بقدر التجمعات السكنية يكون عدد الساحات.

و على مستوى إجتماعي واسع هو مستوى مجموع أسر القرية فإن هذه الساحات تؤدي نفس الوظائف التي يؤديها " الحوش" : هنا يجتمع أرباب الأسر لتدارس مشاكلهم، و هنا تقام الحفلات، و هنا تنجز بعض الأعمال العائدة بالنفع على عائلة واحدة او مجموعة من العائلات.

إن الطرق الرابطة بين القرى مرسومة بصورة تجعل الغريب عن الجماعة يمر من مكان إلى آخر دون أن يتوغل فيه. أما داخل القرية، و نظرا للشكل الذي توجد عليه الممرات، فإن السكان وحدهم يستطيعون المرور بارتياح. تشكل الممرات هنا شبكة كثيفة يقطعها ممر أو ممران بصورة متعامدة، كما تتعامد أو تتقاطع الممرات و سواقي الري بين القرية و الحقول و المزارع الموجودة على مقربة من المجال السكني للعائلات. إن رسم الطرق بهذه الكيفية يخضع لضرورات التنقل و لمواقع الأراضي المطلوب ريها. كذلك ترتسم طرق أخرى غير متقطعة بين المراعي و الغابات و منابع المياه. و غالبا ما يكون عدد الممرات خارج المجال السكني بعدد المجالات التي ترتبط معها القرية بمسائل حيوية.

على كل حال فإن رسم هذه الممرات يخضع لتصور يجعلها تؤدي وظيفيتين في نفس الوقت تسهيل عملية التنقل بالنسبة للسكان لدى تأديتهم أدوارهم الإجتماعية.

الحفاظ على "حرمة" القرية بحجبها عن نظرة المارةالغرباء عن القرية و كسر فضولهم. بالنسبة للمؤسسات الإجتماعية و التي أهمها المسجد، فإنها تتكشف عن أشكال مختلفة. و إذا كان للمسجد هندسته الخاصة المميزة له عن مجالات القرية السكنية، فإن الغرف التابعة لـ "بيت الصلاة" لا تختلف في شيء عن تلك التي نجدها في أي دار.

لقد أمكننا ملاحظة غياب مؤسسة القلعة أو بقاياها لدى بني سنوس، رغم أنها تمثل في المجتمعات الزراعية حجر الأساس الذي يقوم عليه اقتصاد الجماعة، و القلعة الحامية في أيام الحروب، في نظرنا، فإن غياب القلعة يدل على تنظيم الإقتصاد الخاص بسكان بنى سنوس. فاستهلاكهم منظم على الموارد الطبيعية و الإقتصادية التي يمكنهم توفيرها لأنفسهم، و هي موارد لا تزيد على تلبية حاجاتهم.

لقد قدم الإثنولوجي الفرنسي إدمون ديستان، في بداية القرن، وصفا وافيا لغذاء هؤلاء السكان جاء فيه : أنهم "يعيشون خصوصا من منتوج الأرض (الحبوب و الزيتون و الفواكه المختلفة)؛ و عسل النحل و حليب القطيع؛ يستهلكون حبوب الزرع قبل اكتمال نضجه، سواء عن ذوق أو لأن حبوب السنة الفارطة بدأت بالنفاد. لا يأكلون اللحم إلا قليلا، و لكنهم يصطادون في "الكاف" سمك نهر تافنة"[15].

إن هذا النمط الغذائي الخاضع لرحمة الطبيعة لا يتطلب وجود قلعة، طالما أنه لا يوجد فائض في المواد الإستهلاكية، و أن وجود هذه المواد على قلتها منتظم على امتداد السنة. هذا من جهة، و من جهة أخرى، فإن لكل عائلة "مطمورة" هي جزء من مجالها السكني، و بها تخزن العائلة غذائها الأساسي المتمثل في الحبوب. لقد أعطت هذه المغارة للمجال السكني خصوصا لدى سكان "الخميس" طابعا خاصا. فهي بالإضافة إلى وظيفة التخزين التي تتمتع بها، تستخدم كورشة حرفية أو كمدرسة لتعليم القرآن الكريم، حسب الحاجة إليها

كذلك، فإن القرية السنوسية، بحكم موقعها يمكنها الإستغناء عن القلعة كحصن عسكري، فحصونها طبيعية، و يمكن انطلاقا منها أن تضمن الجماعة حماية نفسها. في "بني عشير" و في "الكاف" و في "بني بحدل" لقي الإستعمار الفرنسي في 1948 ما لا يمكن وصفه من الصعوبات في مواجهة السكان. و لم يمكنه إخضاعهم لسيطرته إلا بعد انتهاج بيجو سياسة الأرض المحروقة.

خاتمة

في الأخير يمكن القول أن الدار و القرية كمجاليين سكنيين في "منطقة بني سنوس" ما هما إلا صورة عن شخصية سكان مقيمين عمروا المكان قرونا عديدة، و شحذوا نظرتهم للعالم انطلاقا من ثقافتهم الخاصة، التي لا يشكل نمط العيش منها إلا جانبا. إنهم بشر مشدودون إلى المكان بصورة تجعلهم يعتقدون أن الموت نفسه لا يستطيع أن يهدد هذه الصلة بينهم و بينها بالإنقطاع. و من هنا، و حتى قبل مجيء الإسلام الذي أكد حياة الإنسان بعد الموت، فإنهم لا يشكون في أن أرواح الأجداد تراقبهم في كل تصرفاتهم و تنزعج إذا هم سلكوا سلوكا ينجم عنه التفريط في وحدة الأرض في تماسك الجماعة. لذلك فإن مجالهم السكني ظل قرونا طوالا تجسيما لتصورهم و نظرتهم للعالم. و لأن إنسان بني سنوس لا يقبل إلا بمشقة بوجود الغرباء في مجتمعه، فإنه أكد الزواج الداخلي كقاعدة، و صاغ المجال بناءه و مسالك الإتصال فيه بصورة يكون معها مستحيلا على أي غريب الإطلاع على واقع المكان و استغلال خبرته عنه لضرب وحدته و أضعاف تماسك أفراده. و لوعيه بأن موارده محدودة في مجال يوفر له، حين لا يغدق عليه وفرة من الغذاء، الأمن و السلام و عذوبة الماء و نقاوة الهواء و مال لطبيعة، فإنه عوض ذلك بالعمل فكان فلاحا لا يبارى و حرفيا لا ينافس، ما لم يبخل عليه المكان بالمواد اللازمة. و قد بلغ الإبتكار لدى إنسان بني سنوس أن صنع "الرشاش التقليدي" و زود به جنود الأمير[16]. و في علاقة الرجل بالمرأة فإن مجتمع بني سنوس أناط المرأة بدور الذاكرة الحافظة لنظام القيم، و بالغ في حمايتها الجسدية حرصا على نقاوة الدم و حماية لإنسان بني سنوس المفرط في حبه خصوصيته في الإختلاط. هذا من غير أن يحرمها من ممارسة دورها الإجتماعي كاملا فلاحة أو حرفية، على أن تقسيم العمل حسب الجنس ليس إلا مسألة تنظمية، و إن كنا نستنتج منه بمنظارنا نحن اليوم، كما هو الشأن بالنسبة لتقسيم الأسرة على المجال أثناء النوم أو تناول الطعام، بأنها تعكس فيها لا مساواتية. إن منطقة بني سنوس، على غناها كموضوع للدراسة السوسيولوجية ما زالت حقلا بكرا، خصوصا منه المجال السكني العائلي الذي لن يتأخر في فقدان خصائصه تحت عوامل التغير المختلفة.

و ليست هذه المقاربة إلا دعوة لاستكشاف هذا الحقل السوسيولوجي الخصب، لتحديده و فهمه و الإستفادة مما يقدمه الإستكشاف في مجال البحث و المعرفة.


الهوامش

[1] - بلدية العزايل مكونة من مجوعة قرى أهمها تافسرة (كانت مملكة في عهد الملك سيافاكس، و قد لعبت تحت حكم ملكها شروان دورا خطيرا في توحيد المملكة النوميدية) و ثلاثا و زهراء (و هو إسم أطلقه عليها في إعتقادنا المسلمون النازحون من الأندلس إحياء لذكرى مدينة الزهراء الأندلسية). و تشكل بلدية العزايل إلى جانب بلديتي بني بحدل و الخميس دائرة بني سنوس. كان هذا الإسم يشمل قبل سنوات كل هذه المنطقة الواقهة بين الحدود المغربية و عين غرابة وسبدو وحدود منطقة ترارة. و يشهد نهر تافنة و رافده نهر الخميس على حضارة عمرت قرونا و شكلت همزة وصل قوية بين عالمين : إفريقيا و أوروبا.

[2] أنظر : MAUNIER, René.- la construction collective en Kabylie.- Paris, institut d’Ethnologie, 1926.

[3] أنظر:LABAT, Pierre.- L’habitation et la famille dans diverses civilisations.- in famille et habitation (ouvrage collectif).- Paris, C.N.R.S, T1, 1975.- p.31.

[4] - ملاحظات ميدانية أجريت في قرية زهراء بلدية العزايل.

[5] - REVERDY, J.C..- Habitation nouvelle et urbanisation rapides.- Aix en Provence, CASHA, 1963.- p.25.

[6] - أنظر :NGYEN, Van Huyen.- Introduction à l’étude de l’habitation.- Paris, Librairie orrentaliste, Paul Guenthner Editeurn 1993, Cité par LABAT, L..- Op.cité.- p.38.

[7] - أنظر : DESCLOITRES, R et DEBLI, L..- Système de parenté et structures familiales

DESCLOITRES, R. et DELBI, L..- Système de parenté et structures familiales en Algérie.- In A.N.N., 1963.- p.p, 23-60.

[8] نفس المرجع – ص.30.

[9] - أنظر : الجابري، محمد عابد.- فكر ابن خلدون، العصبية و الدولة معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي.- الدار البيضاء، دار الثقافة، 1971.

[10] - أنظر METAIS, Pierre Mariage et équilibre social dans les sociétés primtives.- Paris, Institut d’Ethnologie, 1956.

[11] - أنظر : ADAM, A..- La maison et le village dans quelques tribus de l(auti-Atlas.- Paris, Larousse Ed., 1951.

[12] - BASAGANA, R. et SAYAD, A.- Habitat traditionnel et structures familiales en Kabylie.- Alger, SNED, 1974, p.18.

[13] - DESTAING, E..- Etude dur la dialecte berbère des Béni-Snouss.- Paris, Leroux, 1907.- Introduction p, X.X.

[14] - BASAGANA, R. et SAYAD, A..- Op.cité.

[15] - DESRAING, E.- Etudes sur le dialecte berbère des Béni-Snouss.- Op.cité, introduction, P.XVIII.

[16] - عن تصريح ادلى به إلينا أحد المسنين بالقرية زهراء (ب.ل.95 سنة) ورد فيه أن القرية عرفت هذه الحرفة مع بداية الإستعمار و خلال فترة طويلة من تواجده، إلى أن أكشف هذا الأخير الورشة الحرفية و قضى على نشاطها، و لم يبق حسب صاحب التصريح من أثر الورشة عبر الصخرة التي كانت تستخدم لتدويب الحديد.

 

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran
+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11
+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Recherche