Sélectionnez votre langue

المسألة الإثنية و الدّولة في موريتانيا وانعكاسها على الخصوبة و السلوك الإنجابي للأقليات

إنسانيات عدد 32-33 | 2006 | الامتزاجات المغاربية | ص 61-79 | النص الكامل


The State and the ethnic problem in Mauritania. Consequences on fecundity and minority reproductive behavior

Abstract : This article considers the ethnic question in Mauritania and the relationship with the central power and its legitimacy in view of enriching research on the nature of the relationship between Politics and Demography, and also to know the different ethnic strategies in their behaviour with demographic variability and its investment in political life.
In this context , the article shows that in spite of a single ethnic control over the power since the 17th c by the Hassania tribe, originating from a mixture of Arab tribes and Sanhadjia Berbers, modern studies show a demographic regression of the politically dominant ethnic group advantaging black ethnic groups with a  high fecundity rateand high reproductive behaviour. This is a new factor which can push black ethnic groups to claim more participation in general political life.

Keywords : ethnic question - politics - demograph - black ethnic group - hassanide tribe - Mauritania.


Imad EL MIGHRI : Spécialiste en sociologie, chercheur, Centre de recherche et d'études économiques et sociales, Tunis, Tunisie


يحكم التكاثر البشري عديد العوامل المتداخلة بدرجة كبيرة من التعقيد، ومن ضمن هذه العوامل سيطرة الإنسان على الطبيعة، و الدين و أنماط الإنتاج، و علاقات الإنتاج إلى جانب الميل الغريزي للإنسان للتكاثر.

و بالتالي فإن مسألة التكاثر عند الإنسان تختلف عن تلك الموجودة لدى الحيوان و الحشرات و سائر الكائنات الحية الأخرى التي تتأثر عملية تكاثرها بالمحيط الطبيعي الذي تعيش فيه. فالمحيط هو الذي يؤثر على التحول الديموغرافي[1] داخل المجتمع الحيواني من حيث الزيادة الطبيعية الانخفاض أو الانقراض.

و المحيط الطبيعي هو تقريبا جامد، لا يعتريه التغير إلا عبر مئات السنين في حين أن المحيط الاجتماعي الذي هو مجال التكاثر الإنساني يتميز بالديناميكية فهو سريع التحوّل و التّغير، فالتغيّرات الاجتماعية داخل المحيط الإنساني هي التي تؤثر بصفة كبيرة على السلوك الإنجابي للأفراد.

فالمحيط الاجتماعي الإنساني تتداخل فيه عديد العوامل المؤثرة في السلوك الإنجابي كالعوامل الاجتماعية، و السياسية و الاقتصادية و الثقافية و غيرها، و قد تبرز إحداها على بقية العوامل في مرحلة من مراحل التاريخ الاجتماعي لمجتمع ما من دون، أن تغفل العوامل الأخرى، إلا أن وزن العامل المهيمن يبدو أكثر بروزا لدى الباحث الاجتماعي.

من ذلك ما يوحي به إلينا صاحب المقدّمة، عند حديثه عن المتغيّر السياسي كعامل مؤثّر في السلوك الإنجابي في المجتمع العربي، فقد رأى ابن خلدون في معرض حديثه عن قيام العصبيات و تفوقها، و علاقة ذلك بالكثرة العدديّة ما يلي نصه:

"ولما كانت الرّئاسة إنّما تكون بالغلب وجب أن تكون عصبية ذلك النّصاب أقوى من سائر العصائب ليقع الغلب بها وتتم الرئاسة لأهلها"[2] .

فالتكاثر الذي يحصل لأهل العصبيّة عند ابن خلدون يجعلها أكثر عددا و بالتّالي تصبح أقوى العصبيّات، فتتمّ لها الرّئاسة بذلك. فالعدد هو المقياس الأوّل الذي يقيم العصبيّة إلى الحد الّذي يجعلها قادرة على حماية مصالحها، فيزداد طموحها إلى أن تصبح مهددة لنفوذ الدّولة القائمة.

فالملك و الدولة عامة إنّما يحصلان بالقبيلة و العصبيّة و عندما يستقر الأمر للدّولة و يكثر العمران، و تزداد الخيرات و يعم الرّخاء يتّسع نطاق ملك الدّولة من الممالك و الأوطان بحسب نسبة القائمين بها في القلّة و الكثرة.

ثمّ إنّ الدّولة عند ابن خلدون عندما تصل مرحلة انهيارها يكثر في أهلها الموت و المجاعات و الأمراض و الأوبئة، فتضعف عصبيّتها بقلة عدد أفرادها مما يجعلها لقمة سائغة لعصبيّة جديدة متحفّزة.

و يبدو أن التّحليل الخلدوني في كثير من ملامحه يظل صالحا لدراسة المجتمع العربي خاصّة فيما يتعلّق بتكوّن العصبيّات و الرّئاسة داخل المجتمع.

و المجتمع الموريتاني في المنطقة المغربية يعتبر أفضل المرشحين لاختبار هذه الفرضيّة، فالمتأمّل لتاريخ موريتانيا الاجتماعي و السياسي منذ القرن السابع عشر إلى الآن يلاحظ أن العصبيّة قد لعبت دورا هاما في تشكّل دولة مركزية قويّة.

وقد تمثلت العصبيّة الغالبة في هذا المجتمع من قبائل عربيّة من بني حسّان، و قبائل صنهاجة البربرية، كونت مع بعضها جماعة أثنية واحدة منصهرة، أصبح لها الرّئاسة و الغلبة إلى يومنا هذا.

إن دراسة تأثير العامل السّياسي في بروز الرّئاسة و العصبيّات و الملك سوف يحيلنا إلى موضوع مرتبط بهذا العامل و هي المسألة الديموغرافية لِمَا لها من ارتباط كبير بينهما، سبق أن أشار إليها ابن خلدون كما تقدم. و هذا ما يجعلنا نبحث عن طبيعة العلاقة القائمة بين السّياسي و الديموغرافي في هذا المجتمع و محاولة دراسة العوامل المؤثّرة في الزيادة السكّانية في موريتانيا، و للإجابة على هذه التساؤلات لابدّ من دراسة مختلف مكوّنات المجتمع الموريتاني،و محاولة معرفة استراتيجيات مختلف الإثنيات في تعاملها مع المتغيّر الديموغرافي، و كيف تستثمره لضبط سوقياتها السياسيّة.

إن اختيارنا لموريتانيا كنموذج إنّما ينبع من اعتبارين، الأوّل شخصي مرتبط بالفضول المعرفي للتعرّف على بلد عربي لا يزال مجهولا من قبلنا نحن العرب، فهو مجتمع لا يزال في حاجة إلى الدّراسة و البحث، لاعتباره أقل المجتمعات المغربية دراسة من قبل الباحثين العرب، و قد ظلّ و لزمن بعيدا عن الفضاء المغاربي، حيث أنّه لم يكن يحشر ضمن هذه المجموعة لأسباب سياسيّة، يعود بعضها إلى مشكلة الصّحراء الغربية و الصّراع الجزائري المغربي حولها، و محاولة النظام المغربي في زمن سابق ضم موريتانيا بالقوّة العسكرية و عدم اعترافه ببلاد شنقيط منارة العلم و الرباط، إلى أن قبلت عضويتها بجامعة الدّول العربية.

أما السّبب الثّاني الّذي دفعنا إلى اختيار موريتانيا في هذه الدّراسة كنموذج، كونها تحتوي على مجتمع فسيفسائي التركيبة، و إن كانت تشترك في ذلك مع كل من الجزائر و المغرب، لتواجد مجموعتين ثقافيتين بهما، العرب و البربر، إلا أن ما يميّز موريتانيا هو كون المجموعة الموازية للأغلبيّة العربية ليست بربرية، بل زنجية، فالنموذج الموريتاني يعطينا صورة جديدة في المنطقة للعلاقة التي يمكن أن تكون عليها الأغلبية العربيّة مع أقلية زنجيّة. فهذا النّموذج يمثّل استكمالا لمعرفتنا بشعوب المنطقة المغربية، التي تتواجد بها ثلاثة "أعراق" عربية و بربرية و زنجيّة.

و تجدر الملاحظة أنّنا اعتمدنا على الأرقام و المعطيات المتوفّرة، الّتي كانت تتحدّث عن حجم الإثنيات خلال الستينات و السبعينات دون غيرها لأنّها الإحصائيات الوحيدة على ندرتها التي كانت تعتمد التصنيف العرقي للمجتمع أما إحصاء 1988 هو آخر إحصاء عام بالبلاد فإنّه لم يعتمد التصنيف العرقي للسكان نظرا لحساسية المسألة في موريتانيا.

-I مكونات المجتمع الموريتاني

إن المجتمع الموريتاني هو عبارة عن خليط من الأجناس يمكن تقسيمه إلى مجموعتين، فهناك العرب أو ما يسمّون في موريتانيا "بالمور" أو "البيضان"، وهي تشكل غالبية السكّان، تتميّز بوحدة ثقافيّة أساسها اللّغة العربية الحسّانية و الدين الإسلامي، و هي تشكّل الغالبية، تتشابه تشابها كبيرا في هياكلها الاقتصادية و الاجتماعية[3] و قد كانت السّمة البارزة في حياة هذه الجماعة البداوة بما تعنيه من عدم الاستقرار، نظرا لطبيعة النّشاط الاقتصادي المميّز لهذه المجموعة باعتبارها تشتغل في الرّعي بدرجة أولى و التجارة البعيدة المدى بدرجة ثانية، و هذه الخاصيّة الاقتصادية "للبيضان" سوف يكون لها انعكاس على الخصوبة كما سوف نلاحظ ذلك بصفة تجعل منها تجربة متميّزة تماما عمّا نلاحظه عادة في المجتمعات القروية المستقرّة، التي تتميّز بارتفاع نسق الخصوبة لديها في باقي المنطقة المغربية.

1- مجتمع المور أو البيضان

و مجتمع "المور" أو "البيضان" من العرب الذين قَدِمُوا إلى البلاد منذ القرن الثّالث عشر ميلادي في شكل هجرات متتابعة. تنقسم هذه المجموعة إلى شرائح اجتماعية متباينة و متكاملة، فهناك:

أ- الحسّاني

و هم الذين يحملون السّلاح، من المقاتلين الذين يتولون حماية بقيّة الشّرائح، فهي الفئة الّتي تحتكر قوّة الإكراه أهل السّيف و هناك.

ب- الزّاوي

و هم أهل القلم من أصحاب الزّوايا الّذين يمثّلون السّلطة الرّوحية و دورهم يراوح بين نشر العلم و الثقافة الدينية، إلى جانب دورهم السّياسي و طبيعة العلاقة بين الزّاوي و الحسّاني، ليست دائما مستقرّة و ثابتة و محدّدة، بل هي تخضع إلى المهارة الدّينية للزّاوي و القوّة العسكرية للحسّاني، و الأمر الذي يربط بين هاتين الشريحتين هي طبيعة الحياة القاسيّة الصحراوية[4].

ج- اللحمة أو أزناكة

و هناك فئة تابعة و خاضعة لكل من الزاوي و الحسّاني، و هي فئة "اللحمة" أو "أزناكة"، و رغم قدرتهم على حمل السّلاح كمحاربين و القيام بالوظائف الدّينية مثل الزّاوي، فليست لهم وظائف محدّدة ذات بال كما هو شّأن سائر القوم، فهم يمثّلون الطّبقة الثّانية بعد الزّاوي و الحسّاني.

د- الأكاون

و هم المغنّون و المدّاحون الذي يقتصر دورهم على التّرفيه و إبراز أمجاد القبيلة.

هـ- المعلّمون

و هناك طبقة المعلّمين أو الصناع الذين يتولون صناعة الحليّ و الأدوات التي يحتاجها المجتمع و هناك العبيد و الحراطين.

و- الحراطين

و المقصود بالحراطين، العبيد الذين وقع عتق رقابهم، و هم عادة ما يقع استخدامهم من قبل الفئات السّابقة الذّكر كرعاة و خدم في المنازل و الحقول[5].

2- المجموعة الزنجيّة

و يقابل المجموعة العربيّة أو "البيضان"، المجموعة الزنجيّة، و هي تنقسم إلى ثلاثة إثنيات مختلفة، و هي "التكلور" و "الوتنكي" و "الولوف"، هذه المجموعة الزنجيّة تميل إلى الاستقرار و تشتغل خاصّة في القطاع الزّراعي الرّعوي و في الصّيد البحري، و تتمايز هذه المجموعة فيما بينها على النّحو التّالي، فهناك :

أ- " الهاليولار"

و تسمّي محلّيا "بالتكلور"، و تنقسم هذه الإثنية إلى أربعة طبقات، مرتبة ترتيبا اقتصاديا و اجتماعيا تفاضليا، نجد في أعلاه طبقة "التوربي Torube " و هي طبقة تقابلها عند "البيضان" الزوايا تختص بنشر الثّقافة الدّينية ووضعها الأرستقراطي يمنحها دورا قياديا، ثمّ تأتي طبقة "الرمبي "Rimbe،و تنقسم هذه الطبقة بدورها إلى ثلاثة أقسام هي "الصوبالي Souballe" و هم الصيادون و "السلي selle" و هم المزارعون و المحاربون، و فئة "الديامبي "Dyawonbe.

ب- طبقة ميانبي Myenbé

أمّا الطّبقة الثّانية في "التكلور" فتعرف بطبقة "ميانبي Myenbé" وهي طبقة الحرفيين المهرة، و يشتغل في هذه الفئة النّساء و الرّجال على حد سواء، و تتفرغ عن هذه الطبقة خمس فئات طبقية و حرفية و هي"ولمبي"Wylube وهم الحدّادون و الصّاغة، و"لوبي Laube" وهم النجّارون، و فئة "مانوبي Manube" وهم النسّاجون و "سكلوني Saklube" و هم المشتغلون في صناعة الجلود و الأحذية ثم فئة "أولوبي Awlobe" و هم المغنّون، ويقابلهم "الأيكاون" في مجتمع "البيضان".

ج- طبقة العمّال

أمّا الطّبقة الثّالثة من الزّنوج فهي طبقة الخدم و العمّال اليدويين غير المهرة، و هم من العبيد Matynbe" و عند تحريرهم يصبحون " غالونكي Gallunke"، حراطين في مجتمع البيضان[6] أمّا فئة "الوتنكي و الولوف Wolof"،فهي لا تختلف كثيرا عن الطبقات السّالفة الذّكر من حيث ترابطها الطبقي المتراوح بين الطبقة الأرستقراطية و الوسطى و الدنيا، و لكن من حيث الوزن الديموغرافي فإن "Wolof" تعتبر أقل الإثنيات الزنجيّة ثقلا ديمغرافيا.

هذه إذا صورة التكوين العرقي و الإثني للمجتمع الموريتاني التقليدي، فهي اليوم وليدة المد و الجزْر الديموغرافي و حركة السكّان بين الشّمال العربي وبلاد السودان في الجنوب، هذا التيّار التبادلي الديموغرافي هو الّذي صاغ حاضر موريتانيا السكاني و السياسي. و الاقتصادي و الثّقافي عبر كامل تاريخها، حيث كان للوزن الديموغرافي للإثنيات و الأعراق، الدّور البارز و الفاعل في الواقع السياسي للبلاد.

فالوزن الديموغرافي للقبائل العربيّة هو الّذي راهنت عليه هذه الأخيرة في سيطرتها السياسيّة و العسكرية على كامل المجال الجغرافي للبلاد، وهو نفس الثّقل الّذي أعطى للعرب دولة جديدة في أطراف المغرب العربي، هي بلاد شنقيط أو موريتانيا اليوم.

-IIعلاقة السياسي بالديموغرافي في موريتانيا:

إن المسألة الديموغرافية تزداد تعقيدا و أهمية، خاصة إذا كان البلد المعني بها متعدد الأعراق، حيث يلعب العدد دورا خطيرا و محدّدا في غالب الأحيان للوضع السياسي إلى الدّرجة الّتي تجعل من السياسي متغيّرا تابعا للديموغرافي.

و تعود أهمية المتغّير الديموغرافي إلى كون الكثير من القضايا المطروحة اليوم على الصعيد الدولي في جوهرها قضايا ديموغرافية بالأساس، حيث تشعر بعض الإثنيات بوزنها الديموغرافي، فتسعى إلى ترجمة هذا الواقع الجديد سياسيا، و قد تكون هذه المطالب في شكل سلمي كالمطالبة بمزيد من المشاركة في الحياة السياسية و الحصول على امتيازات و حقوق أكثر في صلب الدولة الأم، أو تكون في شكل انتفاضة مسلحة، و الأمثلة على ذلك كثيرة في بورندي وروندا، و في الكنغو، و قبل ذلك في البوسنة و الهرسك، و في الشيشان و الكوسوفو و الأكراد في تركيا....إلخ.

أما في موريتانيا و منذ القرن السابع عشر ميلادي أصبح البيضان الإثنية الأقوى و صاحبة الهيمنة و النّفوذ السياسي إلى الوقت الحاضر و هي تمثل حوالي 50 % من مجموع السكّان، و إلى جانبهم توجد مجموعة إثنية أخرى و هي قبائل بربرية لم تتعرب، و هي تمثل حوالي 15% من مجموع السكّان، إلى جانب مجموعة ثالثة غير متجانسة من السودان أو الزنوج و تتكون من ثلاثة أعراق سبق الإشارة إليهم و يمثلون حوالي 35% من مجموع السكّان في موريتانيا[7] .

أ- هـاجس الأرقام في موريتانيا

تطرح قضيّة الإحصائيات في موريتانيا إشكالية كبيرة لارتباطها بمسألة الوزن العددي للاثنيات التي تتكون منها البلاد، و الثابت أنه لا توجد بموريتانيا إحصائيات دقيقة وثابتة حول حجم الإثنيات بهذا البلد لاعتبارات يعود بعضها إلى الطبيعة غير المستقرة لغالبية السكان خاصة خلال الفترة 1964 - 1965 و هي الفترة التي وقع فيها أول إحصاء وطني.

أما الاعتبار الثاني فهو سياسي، فالمعلوم أن البيضان أو الـمور قد سيطروا سياسيا على البلاد وأصبحت لهم بذلك شرعية تاريخية، إلى جانب شرعيتهم السياسية لاعتبارهم وجدوا البلاد تحت قيادة سياسية واحدة مدت نفوذها حتى نهر السينيغال جنوبا و بنت دولة مزدهرة و قوية في الترارزة عام 1632م، هذه الشرعية السياسية و التاريخية كانت تدعمها شرعية ديموغرافية باعتبار أن البيضان يمثلون الغالبية السكانية.

لهذا الاعتبار فإن أصحاب السلطة في البلاد يحرصون دائما على سرية البيانات المتعلقة بالحجم العددي و الديموغرافي للإثنيات، مما أوجد تضاربا بين الإحصائيات و الأرقام. و لهذا الاعتبار أيضا نجد أن أول إحصاء للسكان بموريتانيا (1964-1965)، قد احتوى على تعداد تفصيلي لحجم كل إثنية على حدة في حين أن إحصاء عام 1977 فقد تجنب تقسيم المجتمع إلى إثنيات، و ذلك نظرا لحساسية المسألة، و تبعاتها السياسية. و هذا أيضا جعل هذه الدراسة تقتصر على فترة الستينيات و السبعينيات لتوفير إحصائيات حسب كل فئة على حدة، في حين أن إحصاء 1988 لم يشمل تفصيلا للحجم الديموغرافي للإثنيات.

تشير الدراسات المختلفة التي أجريت حول خصوبة الإثنيات بموريتانيا، إنه يوجد اختلاف فيما بينها، خاصة بين الإثنية الحاكمة من مجتمع البيضان و الإثنية الزنجية المتمركزة خاصة في جنوب البلاد، حول المناطق الخصبة لنهر السينيغال. فقد بيّنت دراسة قام بها Ignegonba أن معدّل الخصوبة عند إثنية "الـمور "أو البيضان" في حدود 4,4طفل لكل امرأة متزوجة، في حين أنها تبلغ عند الزنوج 5,3 طفل، و ذلك حسب الملاحظات الميدانية التي قام بها هذا الباحث حول مستوى الخصوبة، كما أنه اعتمادا على المسح الميداني للمناطق الحضارية و الذي قامت به الدولة خلال الفترة الممتدة من 1961 - 1962، لاحظ التقرير النهائي أن الولادات في مجتمع البيضان متوسطة، في حين أن الولادات في مجتمع الزنوج تتسم بالارتفاع، وقد أبرز التقرير المشار إليه أن الخصوبة عند البيضان هي حدود 4,1 طفل لكل امرأة متزوجة و 4‚6 طفل عند الزنوج [8].

و نفس الملاحظة العامة سوف تقع الإشارة إليها في إحصاء 1964-1965 و المتعلقة بالتراجع في نسبة تمثيلية مجتمع "الـمور" أو "البيضان"، مقارنة بالمجتمع الزنجي، مما يعني استمرار تفوق خصوبة الزنوج على البيضان.

فحسب إحصاء 1962-1965 فإن "الـمور" أو "البيضان" يمثلون حوالي 80,1 % من السكان و يمثل الملونّين %14,6 أما "التكلور" و "الوتنكي" فتمثل 3,4 % و يمثل "الولوف" %0,9 .

و قد تطور حجم الإثنيات منذ ذلك التاريخ فتراجعت النسبة الممثلة لمجتمع البيضان خلال الإحصاء الثاني لسنة 1977 حيث أصبحت في حدود 78,8 % و تطورت نسبة التكلور بــ 0,1 % لتصبح في حدود %14,7 و بلغت إثنية الولوف 1,0 % و تعلل الحكومة الموريتانية التراجع في نسبة الإثنية العربية البيضان، إلى عاملين الأول ديموغرافي يتمثل في تراجع نسب الخصوبة و العامل الثاني بشري يتمثل في الأخطاء المرتكبة في الإحصاء و التقييم، فخلال إحصاء 1965 اعتبر أن القبائل الرحل و المشتغلة أساسا بتربية الماشية كلها قبائل عربية، غير أن هذا الأمر غير صحيح، فالتكلور تشترك مع القبائل العربية في النشاط الرعوي و تربية الماشية، وقد وقع إدماجها خطأ ضمن المجموعة العربية و عند التفطن إلى هذا الخلط فيما بعد، وقع استبعاد هؤلاء في الإحصاء الثاني عن المجموعة العربية و هذا سر تراجع حجم هذه الإثنية في إحصاء 1977. و يتواصل التعليل الخاص بتطور حجم الإثنيات الديموغرافي، على اعتبار أن إحصاء 1965 وقع في خطأ تقديري آخر أثر على النسب المتعلقة بالإثنيات و حجمها الديموغرافي، فليست كل القبائل العربية من البيضان الحسّانية تشتغل بالرعي و تربية الماشية فحسب، فهناك جزء من هذه الفئة مستقرة حول حوض نهر السينغال في الجنوب، وهي تشتغل بالزراعة و الصيد النهري، وقد اعتبرت هذه الفئة ضمن القبائل الزنجية لاعتبار أن معظم سكان هذه المنطقة من الزنوج، الولوف و الوتنكي وغيرها من الفئات الإثنية، وقد وقع تصحيح هذا الخطأ أيضا فيما بعد سنة 1977.

ولكن ما هي الأسباب التي تسهم في تراجع الخصوبة، بالنسبة لمجتمع البيضان ؟

ب – مشكلة الإثنيات في موريتانيا

حسب الدراسات التي أجريت حول مجتمع البيضان تبين أنه داخل نفس الإثنية هناك اختلافا كبيرا في معدلات الخصوبة، فهناك فوارق في الخصوبة بين الزاوي و الحساني و المعلمين من أصحاب الصنائع و الحرف و الحراطين و الخدم. ولعل هذا الاختلاف في الخصوبة من العوامل الدافعة لتراجع النمو الديموغرافي لهذه الإثنية.

و يمكن قياس ذلك بدراسة درجة العزوبية و تردداتها بالنسبة لكل فئة اجتماعية على حدة، فنلاحظ أن الحسّاني داخل مجتمع البيضان يتمتع بأرفع معدلات الخصوبة، أما المعلمين و الحراطين فلهم خصوبة متساوية تقريبا، في حين أن الخدم الذين هم في أسفل السلم الاجتماعي لديهم أقل معدلات الخصوبة في مجتمع البيضان. و العزوبية التي تتحدث عنها لا تمس إلا فئة النساء. فاستمرار مؤسسة الزواج في هذا المجتمع مرتبطة بما ينجر عن هذا الزواج من إنجاب الأبناء من عدمه، لذلك فالعزوبية لا تمس الرجال بقدر ما تمس النساء في مجتمع هو رجالي بالأساس. فقد أثبتت الدراسات أن نسبة العزوبية في صفوف النساء تقل كلما ازداد عدد الولادات الحية لكل امرأة متزوجة. فبالنسبة لفئة الحساني فإن نسبة النساء العازبات داخل هذه الفئة قليلة، في حين أن أعلى نسبة من النساء العازبات نجدها عند فئة الخدم، الذين لهم أخفض نسب الخصوبة. إن الخصوبة عند النساء الحرائر من فئة المحاربين و المعلمين و الزاوي تفوق بـ 1,5 مرة مثيلاتها عند نساء الخدم، في حين أن العزوبية عند نساء الخدم تفوق بحوالي 4 مرات مثيلاتها عند النساء الحرائر.

جدول عدد الأطفال المولودين أحياء لكل امرأة في سن الــ 50 سنة فأكثر و معدل العزوبية لكل امرأة في سن 12 سنة فأكثر و نسبة النساء بدون أطفال أعمارهن من 50 سنة فأكثر حسب التراتب الاجتماعي داخل مجتمع الـمور و البيضان (1964-1965)[9].

الفئة الاجتماعية

عدد الأطفال الأحياء

ترددات العزوبية

النسبة % للنساء المتزوجات بدون أطفال أحياء

 

كل النساء

الـنـســــــــاء

المتزوجات

النسبة المئوية

 

الزاوي أو المرابط

4,64

5,7

18,9

10,8

الحساني أو المحارب

5,05

6,1

17,0

8,7

المعلمين

4,02

4,8

16

5,8

الحراطين

4,11

6,3

34,9

13,0

الخدم

3,33

9,4

64,5

19,0

المجموع

4,36

-

-

11,9

إن الاختلاف في نسبة العزوبية لدى النساء بين مختلف الفئات الاجتماعية داخل طائفة الـمور أو البيضان يضبطها و يحددها نظام الأمومة داخل الإثنية الواحدة، فالزواج بالنسبة للبيضان يتم داخل بالفئة الاجتماعية ولا يتم خارجها مع الفئات الأخرى.

و بالنسبة للخدم فليس من السهل عليهم أن يرتبطوا بعلاقة زواج مع غيرهم من العائلات، لذلك فإن نسبة العزوبية لدى هذه الفئة كبيرة جدا، و هو ما انعكس على خصوبة هذه الفئة داخل الـمور، و هي تعد من أقل نسب الخصوبة على الإطلاق.

في حين أن المرأة الحسانية تستطيع في الغالب أن تتزوج حساني أو زاوي، أما بالنسبة لنساء الزاوي فإنهن قليلا ما يتزوجن من الحساني، و هذا ما يجعل من نساء الحسانية يتمتعن بهامش كبير من الأمومة، مما يجعلهن أكثر نساء البيضان خصوبة، و هذا أيضا يجعل نساء المحاربين أقل عزوبية من غيرهن.

أما الحراطين فإنه لا يمكنهم كما هو حال المعلمين إلا التزاوج فيما بينهم، أي داخل نفس الفئة الاجتماعية.

هذا بالنسبة لمجتمع البيضان و العوامل الديموغرافية المؤثرة في أعداد و خصوبة هذه الإثنية المهيمنة سياسيا على البلاد، أما بالنسبة للإثنيات الأخرى الملونّة أو الزنجية، فإن التغيرات التي طرأت على أحجامها يمكن إرجاعها إلى أسباب منها التراجع الطفيف للنسبة الممثلة لإثنية الوتنكي، إلى الهجرة الخارجية التي تدخل في تقاليد هذه الإثنية. أما الزيادة الطفيفة التي عرفتها إثنية "التكلور و الولوف"، فيرجع بالأساس إلى ارتفاع الخصوبة عند هاتين الجماعتين العرقيتين، حيث أن معدل الخصوبة يصل إلى 5,3 طفل لكل امرأة في سن الإنجاب من 15 إلى 49 سنة، فارتفاع عدد المواليد عند هذه الإثنية يكتسي قيمة أخلاقية و اجتماعية و اقتصادية كبيرة، فكثرة أفراد العائلة و الأبناء يجلب الاحترام و التقدير للأسرة. ولعل هذه الأسباب الاجتماعية قد دعمت ما نلاحظه عند هذه الإثنية من انتشار الزواج الداخلي بين أفراد الأسرة الواحدة في سن مبكرة[10] و هذا سوف يدفعنا إلى الحديث عن الزيادة السكانية و العوامل المؤثرة فيها في موريتانيا.

III- العوامل المؤثرة في الزيادة السكانية بموريتانيا

أ - العوامل الاجتماعية

إلى جانب العوامل الديموغرافية و المتعلقة خاصة بارتفاع عدد المواليد الخام نتيجة لتحسن المستوى الصحي للسكان فإنه بالنسبة لموريتانيا لا يمكن فهم العوامل المؤثرة في الزيادة السكانية، التي جعلت من هذا البلد يشهد انفجارا ديموغرافيا كبيرا إلا إذا أضفنا إلى العامل الديموغرافي العوامل الثقافية و العقائدية و الدينية، فتحليل هذه العوامل مجتمعة يمكن أن يفتح أمامنا سبل فهم مجتمع يمتاز بخصوصيات فريدة و خصبة الدراسة و التحليل، و لعل هذه الخصوصية تنبع من كون البلد لم يعرف عمليات تحديث قيصرية كما عرفتها باقي دول المنطقة.

كما أن التحضير بمعنى بناء المدن و الاستقرار لم تعرفها موريتانيا إلا حديثا مع اكتشاف الثروات الباطنية من المعادن و غيرها، مما شجع على بعث مراكز حضرية حول هذه المناطق، وقد ظل النشاط الرعوي هو النشاط الاقتصادي الـمهيمن، كما أن الاستعمار لم ينجح كما هو الحال في تونس و الجزائر و المغرب في تغيير الأنماط السلوكية و النشاط الاقتصادي للسكان، لهذه الأسباب ظل المجتمع الموريتاني مجتمعا خاما و تقليديا، كما أن هذا المجتمع يكمن أن يعطينا صورة تقريبية للمنطقة المغربية التي وصفها لنا ابن خلدون، وان كان اليوم نسق النمو و التحضر و التغير في هذا المجتمع بدأ يتسارع بمفعول التمدرس و التحضر و تغير أنماط الإنتاج و النشاط الاقتصادي.

إن الخصوبة في موريتانيا تخضع لقانون أخلاقي، فالقيم مثل الاحترام و النفوذ الذي يمكن أن تحضى به القبيلة و الأسرة و مكانتها، تقاس إلى حد كبير بحجمها العددي و الديموغرافي و ممتلكاتها، لذلك ظلت الوظيفة الإنجابية عبارة عن عملية استكمال للنقص الحاصل في الـممتلكات المادية الأخرى، كما أن الإنجاب بالنسبة للمجتمع هو نوع من التأمين ضد الانقراض، ولعل هذا الخوف يرجع أساسا إلى موجات الأوبئة التي كانت تصيب العباد و الدواب في هذه المنطقة المدارية، و تفتك بها، إبان فترة النظام الديموغرافي التقليدي الذي كان قائما على التوازن الحاصل بين الوفيات المرتفعة و ما يقابلها من الولادات المرتفعة.

فلهذه الأسباب كان على الإنجاب أن يبلغ حده الأقصى، بل إن استمرارية مؤسسة الزواج مرتبطة بما يمكن أن ينجرّ عنه من الإنجاب، فالأطفال هم الضمانة لاستمرارية العلاقة الزوجية، لذلك ظل الزواج المبكر و الإنجاب اللامحدود من سمات المجتمع الموريتاني، كما أن البعد الديني يلقي بظلاله على مؤسسة الزواج، فالمجتمع المسلم، تمثل العقيدة الدينية إحدى مكونات شخصيته الأساسية، و نعلم مدى تشجيع الإسلام على الزواج و إنجاب الأطفال و التكاثر هذا إلى جانب الطبيعة البشرية التي تميل إلى حب الشهوات من النساء و الأموال و البنين.

ب- العوامل الثقافية و الاقتصادية

إن القيم التي تحكم السلوك الإنجابي في موريتانيا هي قيم تشجع على الإنجاب و الزواج المبكر، حيث أن المرأة تتزوج في سن 15 سنة و هي من أخفض النسب و المعدلات المغربية، و إذا علمنا أن سن الهضي أو (عدم القدرة البيولوجية على الإنجاب) في حدود 50 سنة فأكثر، فإن فترة الخصوبة تمتد بالنسبة لكل امرأة متزوجة فترة 34 سنة، و هي فترة طويلة نسبيا، كان لها انعكاس إيجابي على الخصوبة التي ارتفعت من 5,7 طفل لكل امرأة متزوجة سنة 1965 إلى 6,3 طفل لكل امرأة متزوجة سنة 1988 و ذلك حسب دراسة قامت بها وزارة التخطيط الموريتانية حول السكان و المساكن.

غير أن ارتفاع الخصوبة ليس متساويا في كامل مناطق البلاد، حيث أن التوزيع الجغرافي للزيادة السكانية و الخصوبة تعبر عن خصوصية جديدة في هذا البلد، فالمعلوم أنه في كامل المنطقة المغربية تنخفض الخصوبة في الوسط الحضري لترتفع في الوسط الريفي، و ذلك طبقا لخصوصية المجتمع التقليدي المغربي التي تجعل من الطفل منتجا و من العائلة و حدة اقتصادية متكاملة، أي أنها و حدة إنتاجية و استهلاكية يلعب فيها الأطفال دورا فاعلا لاعتبارهم قوة عمل داخل العائلة، لذلك فهم يمثلون سلعة مرغوب فيها في إطار هذا النظام الاجتماعي و الاقتصادي التقليدي، لذلك فالخصوبة مرتفعة في الوسط الريفي المغربي عكس الوسط الحضري الذي أثرت فيه عمليات التحديث الاقتصادي و الاجتماعي، ولعبت فيه المدرسة دور المعراج الطبقي، فتحسن المستوى المعيشي وازداد الطموح، مما جعل من الأطفال سلعة غير مرغوب فيها و بالتالي انخفضت الخصوبة بهذا المجال أي المدينة المغربية.

غير أننا في حالة موريتانيا نجد العكس تماما، حيث تشير الدراسات أن الخصوبة في الوسط الحضري في حدود 6,35 طفل لكل امرأة متزوجة و تبلغ 6,27 في الوسط الريفي المستقر، مقابل 6,21 طفل لكل امرأة متزوجة في الوسط البدوي، و هكذا نلاحظ أن معدل الخصوبة يرتفع كلما استقر السكان في موريتانيا، لذلك نجد أن البدو يتميزون بأقل معدل للخصوبة في البلاد[11].

و يمكن أن نرجع ذلك إلى عدة أسباب منها طبيعة النشاط الاقتصادي فنسبة كبيرة من نساء البدو ليس لديهن أطفال رغم كونهن يتزوجن في سن مبكرة، إلا أنهن في غالب الوقت تنجبن في سن متأخرة نسبيا و ذلك نظرا لطبيعة الحياة البدوية التي تلعب فيها المرأة دورا كبيرا في العائلة، فالاستمرار في التنقل لطبيعة النشاط الرعوي البدوي و يشكل خطرا على حياة الطفل و يجعل و يجعل من نسب الإجهاض في هذا الوسط مرتفعة، و هذا ما يجعلنا نلاحظ ووجود فترات متباعدة بين الحمل و الآخر، بعكس النساء الحضريات حيث تتقارب فترات الحمل لديهن، و ذلك لاستقرارهن و عدم اضطرارهن للتنقل، بما يرفع من فرص نجاح الحمل، وبقاء الطفل و نمائه.

و من الأسباب الأخرى أيضا العنوسة لدى نساء البدو، حيث توجد العديد من النساء البدويات عازبات. فالبدوي قليل الميل للطرف الآخر، لطبيعة الحياة و قسوتها التي تجعل من البدوي يخصص معظم وقته للعمل و توفير لقمة عيشه، كما أن الروابط الأسرية القوية تدعم هذا السلوك. لذلك نجد أن كثير من النساء البدويات لم يتزوجن أبدا أو تزوجن لفترات متقطعة أو في سن متأخرة، كل ذلك سوف يكون له انعكاسات سلبية على خصوبة المرأة البدوية رغم زواجها المبكر و رغبتها في الحصول على الأبناء و الأطفال الذكور منهم خاصة و ينضاف إلى هذا السبب سبب آخر يتمثل خاصة في بعد البدو عن المراكز الصحية، فقلة الرعاية التي حرمت منها المرأة البدوية جعل من نسب الإجهاض كبيرة و قلل من احتمالات حصول حمل، أضف إلى ذلك نقص الغذاء الكيفي مما يسبب سوء التغذية لدى هذا المجتمع البدوي و خاصة النساء منه. كل هذه العوامل مجتمعة تجعل من الخصوبة في المجتمع البدوي بموريتانيا منخفضة مقارنة بالمناطق الريفية المستقرة أو الحضرية.

أما مسألة تنظيم الأسرة و ما يمكن أن تمارسه من ضغط على الزيادة السكانية في المجتمع الموريتاني قضية غير مطروحة البتة، فالمجتمع الموريتاني يحكم على هذه المسألة من المنظور الديني، لذلك فالمجتمع يراوح في موقفه بين الرفض بإطلاق وهم الأغلبية الساحقة و القابل بتحيز و حذر، و هم الأقلية، و هذا ما جعل المجتمع الموريتاني أقل المجتمعات المغربية استعمالا لهذه الوسائل، حيث تصل نسبة الاستعمال 4 %[12] حسب أكثر الأرقام تفاؤلا، فبنية المجتمع و ثقافته و قيمه و معاييره التي تحبذ الكثرة و تمجدها تصطدم بمفعول هذه الوسائل الكابحة للزيادة السكانية، مما يجعله يرفضها.

بما يجعل أثر تنظيم الأسرة على الخصوبة يكاد ينعدم في المجتمع الموريتاني و بالتالي لا يمكن الحديث على هذا العامل كأحد العوامل المحددة للزيادة السكانية و لجم الخصوبة بهذا البلد، و هذه أيضا من الخصوصيات الموريتانية التي تنفرد بها في المنطقة المغربية ككل، و حتى التجربة الليبية في هذا المضمار لا تضاهي التجربة الموريتانية إلا من حيث النتائج أي محدودية الاستعمال إلا أن الاعتبارات تختلف، ذلك أن الإرادة السياسية في ليبيا هي المحدد للنتيجة، و ليست العوامل الثقافية و الاجتماعية من القيم و المعايير.

كما تجدر الملاحظة أن انتشار وسائل منع الحمل تختلف من وسط لآخر، فهي أكثر انتشار في الوسط الحضري عنه في بقية الأوساط رغم أن هذه الوسائل منتشرة أكثر في المجتمع الحضري، إلا أن ذلك لم يساهم في تخفيض من معدل الخصوبة بهذا الوسط و هذه أيضا من خصوصية التجربة الموريتانية في المنطقة.

و رغم العوامل الثقافية و الاجتماعية المؤثرة في السلوك الإنجابي إلا انه توجد عوامل تساهم أيضا في عدم انتشار وسائل منع الحمل بهذا المجتمع منها سوء التعامل مع هذه الوسائل من قبل النساء، مما يحدد من فاعليتها خاصة في وسط النساء الأميات إلى جانب قلة التأطير الطبي و غياب المرافق الصحية اللازمة و المختصة.

و رغم ذلك فإن معرفة الوسائل و استعمالها بطرق أوسع في الأوساط الحضرية الموريتانية لم تشفع لهذه الوسائل في أن تسهم في الضغط على الولادات، فسكان الحواضر ذوي أصول ريفية بدوية يتمتعون بتنشئة اجتماعية و دينية توجه السلوك الإنجابي و تدفعه إلى التناسل و التكاثر، فالمجتمع الموريتاني مجتمع كان و إلى زمن قريب يمثل السكان الرحل فيه حوالي 85 % من مجموع السكان فهو مجتمع بدوي يأنف الاستقرار بطبيعة نشاطه الاقتصادي، تحتل فيه العقيدة الدينية مكانة كبيرة و جوهرية، لذلك فرغم التحضر الظاهري للسكان، إلا أن سلوكيات المجتمع و معتقداته الدينية و قيمه و معاييره ظلت مصطبغة بطابع البداوة، لذلك سوف تظل الأخلاق البدوية تحكم السلوك الإنجابي للمجتمع الموريتاني لعقود أخرى.

خاتمة

إن المسألة الإثنية في موريتانيا تعتبر شديدة التعقيد لارتباطها بالسلطة، ذلك أن الإثنية الغالبة منذ القرن السابع عشر ظلت تفرض وجودها و سطوتها السياسية اعتمادا على شرعية تاريخية تمثلت في بناء دولة مركزية تحت راية فئة الحسانية من مجتمع المور البيضان، التي هي خليط من القبائل العربية الوافدة للمنطقة على دفعات و القبائل البربرية من صنهاجة التي كانت تجوب المنطقة منذ سنين خلت.

غير أن الدراسات بدأت تشير إلى تراجع ديموغرافي للفئة الغالبة سياسيا لحساب الفئات الزنجية، التي بدأت تتكاثر بأنساق أسرع حتى صارت خصوبتها تفوق خصوبة مجتمع البيضان، هذا العامل الجديد قد يعيد ترتيب البيت الموريتاني إذا ما تواصل هذا النسق التصاعدي للأقليات غير العربية من الزنوج و الولوف خاصة حيث تشير التقديرات أن نسبة الخصوبة عند هذه الإثنية تعتبر الأرفع على الإطلاق في البلاد، كل ذلك من شأنه لو استمر أن يدفع الإثنيات الزنجية إلى المطالبة بزيادة تشريكها في الحياة السياسية العامة.

و لعل من بوادر صحوة الإثنية الزنجية أن هؤلاء كانوا من أكبر المعارضين لسياسة التعريب التي حاولت الدولة تعميمها على مؤسساتها التعليمية و الإدارية، حيث لاقت هذه الخطوة معارضة كبيرة و مثّلت مناسبة عبر من خلالها الزنوج عن تخوفهم من هيمنة عربية مطلقة على الحياة السياسية، و تهديدا للوجود السياسي للزنوج في البلاد، لذلك كانوا من أشد المعارضين لهذا المشروع، و قد ساندت فرنسا الدولة الاستعمارية السابقة للزنوج في مطالبهم بعلة أن في موريتانيا "لغتين، العربية و الفرنسية، و أنه ليس من الحكمة تغليب عامل أو إثنية على أخرى". و لعل التسمية الرسمية للبلاد توحي لنا أيضا بمدى حساسية مسألة اللغة في موريتانيا كإحدى السمات الثقافية و الهوية التي تميز الإثنيات، لذلك نجد أنه وقع التنصيص على اسم الجمهورية الإسلامية الموريتانية و ليس الجمهورية العربية الموريتانية على سبيل المثال.

كما أن الإحساس بالحجم الإثني للزنوج في مواجهة الحسانية، الإثنية الغالبة تمثلت في المحاولات الانقلابية العسكرية الفاشلة و التي برز من بين أعضائها و قادتها عناصر تنتمي للفئات غير العربية من الزنوج خاصة، مما يوحي بمدى إحساس هذه الفئات بوزنها الديموغرافي و تطلعها إلى السلطة.

إن خوف الدولة في موريتانيا من تنامي هذا الشعور لدى الزنوج و الفئات غير العربية هو الذي دفعها في إحصاء 1976-1977 إلى عدم اعتماد التصنيف الإثني الذي يبرز حجم كل إثنية و خصوبتها و الاكتفاء فقط بدراسة عامة و شاملة لكل السكان و إيجاد تسويغات و مبررات لتراجع الإثنية الحسانية و تنامي باقي الإثنيات الزنجية، و هذا يوحي بمدى القلق و الحيرة السياسية جراء تنامي الإثنيات الزنجية و تهديد ذلك للاستقرار السياسي للبلاد و استغلال بعض الدول ذلك للتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد، مثلما فعلت فرنسا في قضية التعريب.

إن التجربة الموريتانية في المغرب العربي فريدة و غنية و يمكن اعتبارها نظير الحالة السودانية في المشرق العربي. فهي تجربة تمكننا من معرفة مدى تأثير الديموغرافي في السياسي، كما أن دراسة هذه الحالة يمكن أن يعطينا صورة لفهم الأزمات السياسية في العالم العربي كحالة السودان و الصراع في هذا القطر بين الأغلبية العربية في الشمال و الأقلية الزنجية في الجنوب، و هذه التجربة تعطينا أيضا صورة عن الأزمات الموجودة في العالم الثالث و خاصة إفريقيا و حتى أوروبا حيث أن جوهر هذه الأزمات التي تحتدم لتصبح نزاعات مسلحة، يرجع إلى المسألة العرقية. لهذه الأسباب رأينا أن نجعل من التجربة الديموغرافية الموريتانية نموذجا عن الآثار الثقافية و انعكاساتها على السلوك الديموغرافي للأفراد و الجماعات العرقية داخل مجتمع ما، و ما يمكن أن تفضي إليه و الموضوع يحتاج إلى دراسات أخرى خاصة و أن كل الدلائل تشير إلى أن من بين أسباب النزاعات في العالم خلال القرن القادم تبرز مسألة الإثنيات من بين أهم الأسباب و الأمثلة في عالمنا اليوم عديدة، و آخرها قضية شعبي الكوسوفو، و كشمير.

المصادر والمراجع باللغة العربية

إبراهيم، سعد الدين ، الملل و النحل و الأعراق هموم الأقليات في الوطن العربي، القاهرة، مصر، مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية،1994، الطبعة الثانية.

ابن خلدون، عبد الرحمان بن محمد، مقدمة ابن خلدون، بيروت، لبنان، دار الجيل مؤسسة خليفة للطباعة.

أنكر، ريتشارد و زملائه، المرأة و المشكلة السكانية في العالم الثالث، القاهرة/مصر، دار الثقافة للنشر و التوزيع.

الجمهورية الإسلامية الموريتانية: دراسة مسحية شاملة، لعام 1988.

وزارة الصحة الموريتانية: دراسة صحية شاملة سنة.

ولد أبيه محمد، مختار، المسألة القومية في موريتانيا: الجذور و الآفاق، تونس الأولى، قسم علم الاجتماع، كلية الآداب و العلوم الإنسانية - شهادة الكفاءة في البحث.

المصادر والمراجع باللغة الأجنبية

Blanc, Rober et Paccou, Yves, Le recensement des nomades Mauritaniens. - Revue population 34ème année, 1979, Mars/Avril N° 2.

Dechasy, Francis, La Mauritanie de 1900-1975, Paris, Edition anthropos, 1977.

Ignegonba, Kermaye: Fécondité et ethnies en Mauritanie -Edition CERPAA et CERPOD, Paris, 1992.

République Islamique de Mauritanie: Enquête démographique 1964-1965.


الهوامش

[1] ريتشارد، أنكر و زملائه، المرأة و المشكلة السكانية في العالم الثالث، ص.ص: 35-38.

[2] ابن خلدون، عبد الرحمان، المقدمة. ص170، راجع الفصل السابع من المقدمة في "أن كل دولة لها حصة من الممالك و الأوطان لا تزيد عليها" و الفصل الموالي في أن "عظم الدولة و اتساع نطاقها و طول أمدها على نسبة القائمين بها في القلة و الكثرة".

[3] Francis, Dechasy, La Mauritanie de 1900-1975. P:30.

[4] محمد، مختار (ولد أبيه)، المسألة القومية في موريتانيا، الجذور و الآفاق ص،8 .

[5] Yves, Paccou et Rober, Blanc, Le recensement des nomades Mauritaniens, p 347.

[6] وزارة الصحة الموريتانية، دراسة صحية شاملة، ص 254-255.

[7] سعد الدين، ابراهيم، الملل و النحل و الأعراق هموم الأقليات في الوطن العربي، ص 107.

[8] Kermaye, Ignegonba, Fécondité et ethnies en Mauritanie, P.87.

[9] Kermaye, Ignegonba, Ibid P.P 40-41.

[10] République Islamique de Mauritanie, Enquête démographique 1964-1965. P: 30

[11] Kermaye, Ignegonba, Fécondité; op. cit p86.

[12] الجمهورية الإسلامية الموريتانية : دراسة مسحية شاملة. ص 362

 

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran
+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11
+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Recherche