إنسانيات عدد 22 | 2003 | ممارسات مغاربية للمدينة | ص3-7 | النص الكامل
قد تبدو عملية إصدار عدد أخر من مجلة إنسانيات يتكفل بالاشتغال على موضوع المدينة نوعا من المجازفة، بعد أن تم نشر مجموعة من الأعداد من المجلة المخصصة لهذا الموضوع[1].
كل ما في الأمر، أن الموضوع الدائر حول الممارسات المغاربية للمدينة قد فرض نفسه على هيئة التحرير بسبب توفر أبحاث كثيرة في العلوم الإنسانية و المرتبطة بهذا الحقل، و هذا يعني أن مسألة المدينة أصبحت تمثل في الفترة الحالية هاجسا في الأوساط المشتغلة بالبحث نظرا للأهمية التي تطرحها المدينة بمشاكلها المرعبة للمجتمعات المغاربية (التسيير الحضري، المبني الفاقد للورثة، الانتشار الواسع للبناء الفوضوي، المصادر المالية المحلية، تدهور الوضع البيئي، التجهيز، الحصول على السكن، إنشاء مناصب العمل، التحكم في العقار،توسع النشاط الممنوع قانونا، التشاور الاجتماعي...).
هذا بالإضافة إلى أن المجلة قد استلمت لأول مرة أبحاثا علمية تعتني بمجموع البلدان المغاربية باستثناء ليبيا، كما تم إدراج في هذا العدد دراسة عن العاصمة الأردنية، التي تبدو في هذه الحالة نموذجا مشرقيا نظيرا يمكن مقارنته و بشكل مفيد مع بقية المدن المغاربية.
يقع منطلق كل الأبحاث التي تطرقت لهذه المدن في ذلك التوسع الحضري الهائل المتميز بطبيعة الحال بالتكاثر الديموغرافي، و بالتنوع في النشاطات و بالتغييرات و التأثيرات التي تحدثها على الأقاليم. ينتج هذا التوسع الجغرافي للمبني و بصفة منطقية عن الحياة بالمدينة التي تنمو و تكبر لأسباب متعددة: إعادة البناء بعد الزلزال (مدينة آقادير)،تمدد عفوي إلى حد ما بسبب الجفاف (مدينة نواكشوط)، توسع مبرمج بواسطة أداة عمرانية (مدينة تونس)... و هكذا تظهر المدينة المنتجة بالأقطار المغاربية، باعتبارها تجمعا عمرانيا تجاوزه الواقع اليومي غالبا، بفعل إلحاح الحاجيات الحقيقية التي يعبر عنها المجتمع و المتمثلة في السكن و التجهيزات الاجتماعية و الشبكات المختلفة و الشغل...، هذا على الرغم من البرامج و التوقعات المعدة ضمن المخططات العمرانية و الأموال التي توفرها السلطات العمومية.
و ينجز هذا التوسع الفوضوي أو العفوي للمجال المبني بشكل أو بأخر، و المتحكم فيه إلى حد ما انطلاقا من النواة الحضري، حيث تتم الإقامة بالأراضي العقارية من قبل العائلات التي تلجأ للمدن بصفة استعجالية و دون مراعاة المعايير التي يتطلبها القانون مثلما وقع بمدينة نواكشوط أو بشرق مدينة عمان. و من هنا يطرح السؤال المخيف و المتعلق بقضية تطبيق مجموع القواعد التنظيمية. إذ أننا نلاحظ أن الدولة في سعيها لتجسيد هذا الفعل المؤسساتي الهام، لا تستطيع فرض المعايير العمرانية الحديثة على السكان التي ينظرون إلى العقار على أنه مسألة ثانوية: و لنا في حالة مدينة نواكشوط أحسن مثال، حيث أن البدو الرحل لا يقيمون بالمجالات الحضرية إلا بفعل التجمع في أراضي يملكونها على الأقل افتراضا. يمثل استبطان لفكرة الاستعمال الجماعي للأرض من قبل البدو الرحل واقعا لا مناص منه عبر كامل الأقاليم السهبية و الصحراوية التي يجوبها هؤلاء الناس. و عليه،لا تبدو الممارسة الاجتماعية المميزة للإقامة بالأراضي العقارية الموجودة على هامش المدينة – في نظر هؤلاء – مناقضة لعاداتهم و تقاليدهم و كذا لعقلياتهم، مما يجعلهم يدخلون في صراع مع مؤسسات الدولة و هيئاتها الحديثة المكلفة بالتسيير الحضري... بسبب عدم تطبيق هذه المعايير. و إذا كان التعويض القانوني للأرض لا يطرح أي إشكال قانوني، فإن المسألة تختلف عندما يتعلق الأمر بالتسوية القانونية لوضعية المقيمين بالبناء المحظور قانونا أو بطردهم بعيدا عن هذه الأراضي، مما يجعل الصراع يأخذ شكله الحاد بين المقيمين اللاشرعيين و السلطات العمومية.
تقتضي الإقامة الممنوعة قانونا للأراضي العقارية، من قبل البدو الرحل و النازحين من الريف و اللاجئين إلى هذه الأراضي بدوافع مختلفة منها الجفاف و الفقر أو الحروب، و بشكل منطقي ممارسات عقارية تدخل تغييرات ذات نوعية عمرانية رديئة على الإطار المبني، و الذي لا يمكن تحسينه و تدعيمه من قبل الساكن إلا في جو مبني على الثقة و الأمن، أي من خلال مباشرة العمل بإجراءات التسوية العقارية. و على الرغم من هذه النقائص، يمكن القول أن هذه الأحياء المشتتة و المحظورة قانونا تسهم في إنتاج المدينة الراهنة. و بتوسعها المطّرد قد تكون هذه الأحياء مجالا حضريا ضخما يجعل العاصمة تتميز، و بشكل ثابت، بطابع الصدارة، مثلما يلاحظ ذلك بمدينة عمان و كذلك مدينة نواكشوط.
يشكل عدم انتظام المبني المتصف بخاصية الارتباك في البنية العمرانية و بالغياب التام لعملية تهيئة مرافق الحياة الضرورية و بالنقص المفضوح للتجهيزات، مصدرا للنزاعات بين السكان و السلطات المحلية بسبب أن هذه السلطات لا تتصور « الحي » إلا في شكله القانوني بينما في الوقت ذاته تنمو المدينة و تكبر يوميا من خلال بناءاتها السكنية و محلاتها التجارية و مناطق نشاطاتها المختلفة...
تتأسس بشكل شامل المدينة المغاربية بهذه التمايزات، حتى لا نقول بهذا التعارض بين الأحياء الغنية و الأحياء الفقيرة، بين الأحياء المطابقة للقانون و الأحياء المحظورة قانونا، و بين مراكز المدن و المناطق المحيطة بها و بين أحياء الهامش والمجالات المحاذية للمدينة. و تبرز هذه المواصفات في كل المدن المعنية بالدراسة في هذا العدد: آقادير، تونس، باتنة، نواكشوط و عمان... و تتسبب هذه التمايزات المادية و الاجتماعية في سلوكيات تقليدية بالمجال الحضري. إذ يمثل مركز المدينة مقام اللياقة و المدنية بحكم تراكم الخبرات الاجتماعية التي استجمعت لدى سكان النواة الحضرية عبر التاريخ (عمان، تونس). و تتعارض – كما يبدو - ممارسات و سلوكيات هؤلاء السكان مع ما يقدم عليه من تصرفات أولئك الوافدون من القرى الذين يتجمعون على أساس صلات القرابة العائلية و العشائرية و القومية أو بسبب ذلك (نواكشوط،عمان). و يتحكم في هذه التجمعات إحساس قوي بالرغبة في التعاون و التضامن المعروفة لدى الأوساط الفقيرة. و يشبه هذا الوضع الأخير، تقريبا، ما يسم أحياء « السكنات الفردية » الحديثة، مثلما نجد ذلك بمدينة باتنة، حيث يحمي الرابط الاجتماعي، السكان من الهشاشة الاقتصادية التي قد تمسهم.
لكن في المقابل، نلاحظ أن الممارسات الاجتماعية التي يتعاطاها أصحاب السكنات الجماعية الجديدة التي تنتمي ل« مناطق السكن الحضري الجديد » أنها تتميز بالرخاوة و المتسبب في هذا هو ذلك الأسلوب الإداري المتبع في الحصول على السكن، و كذلك « المزج الاجتماعي » للمستفيدين من هذا السكن و بسبب الغفلية المسموح بها في المدينة. و بهذا المعنى يبرز تدهور حالة المبني هنا باعتباره معطى اجتماعيا يرتبط بالتأويل الأنثروبولوجي لهذا السلوك، إذ أن سكان الجزائر يملكون تصورا خاصا للمجالات العمومية أو شبه العمومية على أن هذه الأخيرة هي ملك للبايلك.
أما الممارسة الاجتماعية الأخرى التي تخص بشكل عادي المدن المغاربية، فإنها تتمثل في التنقلات اليومية لأولئك المكدين، القاطنين بالأحياء الفقيرة و الهاشة اقتصاديا، الذين يتوجهون للمساحات المركزية (الإدارية و التجارية) للعمل و إن كان النشاط غير الرسمي لا يزال حاضرا بشكل قوي بصفته نشاطا مكملا أو للاقتيات فقط. ويمكن، في صلب النشاط الحضري، أن ينوب عن المركزية الحضرية، بعض الأحياء التي تتضمن مركزيات ثانوية المقامة بالضواحي و التي تجتذب إليها جزءا من الحركية البشرية التي تنزع عادة في اتجاه وسط المدينة مثلما يحدث ذلك بمدينة تونس. و يطرح وجود القطائع الفضائية و الاقتصادية في الحواضر العربية الأخرى مسألة مقلقة تتعلق بالتمييز الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي، ولعل ما يلاحظ بمدينة عمان قد يدعو السلطة السياسية المركزية للتحرك. كما يجب التكفل بهذه المسألة بجدية في المغرب العربي، و إن كانت المدن المغاربية تبدو حاليا أقل تعرضا لهذا التمييز. زد على ذلك أن التباينات الثقافية تنتج ممارسات اجتماعية متعارضة في المجال الحضري للعاصمة عمان و منها يمكن الإشارة لأسلوبين معيشيين: غربي بغرب المدينة و شرقي بشرقها.
و قد تتولد عن طبيعة هذا التعارض الثقافي نزاعات سياسية لا يمكن لتوزيع إداري للعاصمة أن يجد له حلولا مرضية.
و تملك المدينة بالجزائر خاصية تتمثل في منح النساء حقا مقيدا لدخول المجال العمومي، و إن كانت هؤلاء تسعين بكد لاقتحام بعض المجالات العمومية، و بخاصة بوسط المدن، هذا على الرغم من وجود بعض التقاليد التي تمنع مثل هذه السلوكيات و بعض « الثوابت الثقافية » التي يفرضها الرجال. و مع ذلك لا بد من التمييز بين المدن في هذه المسألة، أي بلوغ المجال العمومي من قبل الإناث.
و يتبين من الدراسات التي يتضمنها هذا العدد، أن وحدة المدينة المغاربية - أو وحدة المجال الحضري- هي مطروحة بوضوح أمام الفاعليات العمومية المركزية منها والمحلية أولا و للفاعليات الخاصة ثانيا.
يقتضي العيش جماعيا بالمدينة الآن، في الواقع، التخفيف من التمايزات الاجتماعية و الاقتصادية، بمعنى أنه يجب على الدولة أن تضطلع بمسئوليتها في إعادة بناء اقتصاد و مجتمع أضعفتهما العولمة، و في الانفتاح على الطلب الاجتماعي الذي يبديه السكان من خلال اعتماد قواعد الحوار والتشاور.
عابد بن جليد
نقله إلى العربية محمد داود
الهوامش
[1] - الفضاء المسكون: المعيش المنزلي و أشكال تمدنية سنة1997 ، المدن الجزائرية سنة 1998، أبحاث عمرانية سنة 2001.