صدر حديثا عن منشورات مركز البحث في الأنثروبولوجية الاجتماعية والثقافية CRASC بوهران (2002)، وبمساهمة المحافظة العامة لسنة الجزائر بفرنسا –الجزائر-كتاب نقدي باللغة الفرنسية حول "الرواية الجزائرية المكتوبة بالعربية : قراءات نقدية" للباحث محمد داود، يقع في 148 صفحة، موزعة عبر محاور أربعة : وقائع وواقعية : مرحلة تحولات، الآخرية، العجائبية والأسطورة الروائية، والعنف. أُطِّرت هذه المحاور بمقدمة وخاتمة وبيبليوغرافية غنية بالمصادر والمراجع.
يُعبّر المنتوج الأدبي الجزائري عن ظاهرة فنية وإبداعية غنية بالدلالات العميقة التي تمتح مادتها من امتزاج ثقافات ولهجات متعددة وأصيلة تعود جذورها إلى موروث ثقافي عميق في تاريخ المنطقة. ولعل السمة البارزة لهذه الآداب هي ازدواجيتها؛ فهي موزعة على مستوى الكتابة بين الإبداع باللغة العربية والفرنسية، حيث تعطيها هذه السمة اللسانياتية طابعا خاصا وفريدا يميزها عن التجارب الأدبية الأخرى في العالم العربي، وقد يطال هذا حتى الممارسات الأدبية في المغرب وتونس البلدين اللذين يشاركان الجزائر صفة الازدواجية في الكاتبات الإبداعية.
شكلت ظاهرة الازدواجية منذ استقلال الجزائر موضوع خلاف ثقافي جوهري، وإشكال نقدي تقاطعت حوله آراء الدارسين، وقد تركز النقاش حول هوية وشرعية انتماء أو لا انتماء الرواية الجزائرية المكتوبة بالفرنسية إلى المنتوج الأدبي الجزائري. ويأتي صدور الرواية الجزائرية المكتوبة بالعربية : قراءات نقدية ليملأ فراغا غالبا ما كان يقلق القراء للأدب الجزائري، وخاصة أولئك الذين لم تمكنهم لغتهم من الاطلاع على هذه المدونة الثرية والغنية، بالإضافة إلى ما يهدف إليه هذا العمل وهو الدفع بالإنتاج الجزائري المعرب إلى العالمية عن طريق ترجمته ونشره باللغات الحية. وهو قبل ذلك وبعده مساهمة في البحث الأدبي تؤسس لمرحلة قادمة تبشر بمستقبل واعد.
يتضمن هذا المؤلف مجموعة من الأعمال المقدمة في مناسبات مختلفة، نشر أغلبها في مجلات وطنية ودولية بالعربية والفرنسية، تمت ترجمتها من قبل الكاتب، وأجريت على بعضها رتوشات لأحداث التناسق بينها في إطار نشرها ضمن عمل واحد.
من إحدى السمات الثابتة والمميزة للساحة الفكرية والعلمية بالجامعة الجزائرية اليوم غياب التواصل بين الباحثين من جهة وأجيال المفكرين المتعاقبة من جهة أخرى، ويبدو أن هذا الانقطاع في التواصل هو المسؤول عن انكسار دينامية عملية التراكم الفكري والعلمي، وإلا كيف نفسر وضعية الفراغ والمراوحة في نفس المكان، رغم ما تزخر به جامعاتنا ومراكز البحث من كفاءات علمية وفكرية ذات سمعة أصبحت اليوم عالمية. أعتقد أن المسؤول عن هذه المأساة أننا مجتمع لا يثمن الفكر والعلم، ولا يقدر أصحاب الكفاءات حق قدرها.
لم تسلم الجامعة وهي المؤسسة المنتجة بامتياز للأفكار من التمزق والتشتت الذي أصاب النخبة المفكرة، ولكن ليس حسب المدارس الفكرية والفلسفية-ولو كان الأمر كذلك لكان ظاهرة صحية، ولكن حسب معايير لا علاقة لها بالعلم والفكر، إنها معايير اللغة، الجهوية، المذهبية الدينية، الولاءات السياسية بالمعنى الضيق والمبتذل للكلمة.
في ضوء هذه الخلفية تنجز أبحاث ودراسات دون أن تحظى بما تستحقه من اهتمام أولا ؛ كونها مساهمة جديدة في المعرفة، ودون إثارة ما يليق بها من نقاش علمي وجدل فكري كونها تعبر -ثانيا- عن رؤى مغايرة ومخالفة ولكنها جديرة بالتقدير والاحترام.
ويعتبر هذا المؤلف بمثابة عربون من قبل الباحث محمد داود للجهود التي تقدم في إطار الترجمة، ومحاولة ردم هذا المستنقع الذي يفصل الباحثين بحجة اختلاف اللغة والرؤية المنهجية للأمور، فهو يبذل من أجل ذلك جهودا مضنية بهدف التأسيس لفكر وممارسة بحثية جديدة في الدراسات الأدبية تتجاوز القيود والممارسات التي كبلتها في السنوات الماضية، بسبب ضعف التكوين وسيطرة الدوغمائية والانغلاق في فكر تقليدي متزمت يرفض التجديد ويكرس الرداءة.
كما حاولت هذه الدراسة الوقوف عند بعض الممارسات النقدية التي سعت إلى تفكيك الإشكالية المتصلة بقراءة النص الروائي الجزائري المكتوب بالعربية، ومن ثمّ البحث عن أشكال تحليل الخطاب السردي في ضوء ما أنجز من نظريات أدبية، وتيارات فكرية غربية. وقد وجه المؤلف دراسته نحو مساءلة المدونة النقدية لدى عدد من الباحثين الجامعيين الجزائريين حول مسائل القراءة النقدية للرواية، وقد أتاحت له المناهج المعتمدة في كل مقال على حدة، تجاوز المقاربات التي وقفت عند حدود الظاهرة المقارناتية، بحثا عن المتشابه والمختلف، ومن ثم توصل في أكثر من مقال إلى كشف الاضطراب المنهجي الذي اتسمت به بعض المقاربات النقدية نحو سعيها إلى دراسة الرواية الجزائرية. ثم توسع الباحث في استقصاء حيثيات القراءات النقدية، كالقراءة السياقية والنسقية والتداولية وما قدمته كل منها من ركام معرفي أدبي ونقدي أثرى معجم الثقافة النقدية العربية، وطبق ذلك من خلال إجراء دراستين تطبيقيتين على نصين روائيين، هما :
.1 الانزلاق لعبد القادر حميد
2. الابتذال واللامعنى وهي مقاربة سوسيو نقدية لرواية أرخبيل الذباب لبشير مفتي.
وقد احتاج المؤلف في إنجاز هذا العمل الجاد إلى قدرة في التركيز كبيرة، وصبر طويل قصد إحداث التكامل بين مواد هذا المؤلف. كما عبر هذا العمل عن إلمام بما نشر حول الموضوع، وهو مشفوع بقراءة موضوعية علمية للمصادر والمراجع، وظف فيها الكاتب/الباحث تمكنه من اللغة العربية والفرنسية على حد سواء. كما ثمن هذه المعرفة النقدية المتصلة بالموضوع المبحوث بموقف منهجي ونقدي صارمين.
عبد القادر شرشار