إنسانيات عدد 43 | 2015 | الخطاب الأدبي والديني في الفضاء المغاربي | ص07-12| النص الكامل
أدى تطور علوم اللغة خلال كامل القرن العشرين الذي تميز بنمو متسارع لوسائل الاتصال (النقل، الاتصال عن طريق الأقمار الصناعية و الإعلام) إلى ضرورة إعادة التقييم الإبستيمولوجي لمسألة تواصل الثقافات في العالم. تجدر الإشارة أن هذا التواصل الذي طبع القرن التاسع عشر و النصف الأول من القرن العشرين بعنف الغزوات الكولونيالية و حروب التوسع، يبدو اليوم أكثر من أي وقت مضى بوصفه علاقة بالآخر محددة أساسا بالتعقيد الشديد الذي تواجهه اللغات في عملية تعبيرها عن الفضاءات بشكل أو بآخر حسب قدرتها أو رغبتها. و في هذا الصدد لم تعد المسافة الموجودة بين الملفوظ و شروط تلفظه تطرح سوى إشكالية لغات الأم، أما فيما يخص اللغات المسماة "دولية" (كما حددتها منظمة الأمم المتحدة) أي السنن اللساني ذو دلالة متفق عليها و ثابتة بسبب معياريتها التي منحتها لها الجماعات التي ولدت و تربت مع هذه اللغات و بطبيعة الحال، لم تعد هذه اللغات الدولية غريبة عن مجموعة كبيرة من المجتمعات التي تستعملها، و بامتلاكهم لها ينتج هؤلاء معاني خطابية تتنوع حسب تنوع الجماعات التي تشكلها و حسب الفضاءات التي ترتبط بها هذه الجماعات.
و هكذا، ولّدت هذه اللغات كلاما ذات سلطة إبداعية، بسبب أن الإبداع هو إنتاج "للثقافة" دون مقياس آخر سوى عبقرية الإنسان، و تتشكل أحيانا تلك التنويعات اللسانية ضمن ثقافة واحدة إلى حد يجعلنا نعتبر اليوم أن كل جماعة تملك ممارسة لغوية قد تنتج خطابها الخاص، و هو خلاصة لعملية تناسب بين المتلفظ و الملفوظ (الرسالة) و شروط تلفظه (المكان و الزمن)، و ما ينطبق على "اللغات العليا" ينطبق أيضا على "اللغات السفلى" التي قد تتعرض بحكم "عدم كتابتها" (الشفوية: أي غياب خط يحددها) إلى الزوال من ذاكرة الجماعة الجديدة التكوين، أي الأمة.
يتضمن هذا العدد مجموعة من وجهات النظر التي تطرح، كل واحدة حسب طريقتها و حسب المتن المدروس، مقام المتلفظ في ارتباطه بخانات القراءة للتلفظات المتمفصلة و فق مسار تصنيف للمقولات المزدوجة الموزعة حسب ثلاثة أجزاء: الخطاب و التخييل، الخطاب و المقدس و الخطاب و الديداكتيك، و هي تحدد حسب ما نراه كالسلطة و موازين القوى التي تعبر المجتمعات الحديثة في الراهن.
ففي الجزء الأول من هذه المجموعة، "الخطاب و التخييل" تبيين رحمونة مهاجي كيف يمكن لـ "القصيدة" محوّرة و مدمجة في جنس آخر و المتمثل في الحكاية أن تصدر عنها صفة تجنيسية ثالثة، أي وظيفة خطابية أصلية و جديدة ضمن العربية الدارجة لمنطقة وهران. يجمع هذا الفن الشعبي بين المميزات الغنائية الإيقاعية للشعر التقليدي و المميزات السردية للشعر المحكي، و بهذا يعطى هذا الفن مستوى عال من الانفعال للحكي إلى حد يبلغ فيه المرء التوهج تعطي هذه الصياغة الجديدة للنشر الذي يسرد الشغف مع الشعر الذي يمثلها.يبدو شيئا فشيئا أنه يتأسس في نظام للعبارات البلاغية الخاصة بالمنطقة، كما تبين من خلال نموذج لمتن، وهو عملا ستخلص ضمن تحقيق أجري من سنة 1998 إلى سنة 2005.
إن ما سبق يبين لنا العلاقة الموجودة بين خطاب ينتمي لـ "لغة سفلى" و لغة ما، إلا أن سيدي محمد لخضر بركة يبرز لنا، من جهته، علاقة خطاب لغة ما مع"لغة عليا" إذ يقوم بسير أغوار و يدرس الأوجه الرمزية المتنوعة في رواية الغريب لألبير كامو، انطلاقا من خانة للقراءة تبرز نظاما من المعاني المجازية التي يؤدي تكرارها إلى ما يمكن اعتباره نمدجة لتقنيات استعمال الانزياح و جعلها تظهر بوصفها خاصية تجنيسية.
ينتج غموض الوظائف الخاصة بالمعاني في علاقتها بمكان و زمن المتلفظ، تلفظ قراءة هجينة تدخل الثنائية لتفكير متقايس للمعيش بواسطة المجاز (السابق عن الكلام) مع تصور عقلي لهذا المعيش نفسه بواسطة المقولات الدلالية المرتبطة بسنن لساني (اللغة الفرنسية). يعطي كامو، من خلال إخضاعه للاتفاقات اللغوية لتأثيرات المادة المشتغل عليها، مقاما خاصا بالغرابة، أي الاقتسام العضوي للمكان و الزمان، الذات الجغرافية، بين الجماعتين، التي تبقى منفصلة من خلال الكلمة "القول" . وفي الاتجاه نفسه، تقوم خديجة زعتر، بإيجاد العلاقة بين السيرة الذاتية ووظائف السارد، انطلاقا من إعادة قراءة لعملين أدبيين لجبرا إبراهيم جبرا "البئر الأولى" و "شارع الأميرات". تؤكد هذه المقاربة على القواعد و المبادئ السردية التي بتكرارها تبرز الملامح الأول لمسار تجنسي، الذي يبدو أن طرق اشتغاله ترسم خطاب الهوامش.
كما تقترح علينا أنوال طامر مقاما لهذا التباعد بين "فعل القول" و "الكلام المنجز". إنها تستدعي بطبيعة الحال "فعل القول" الدرامي فيما يبدو أنه يملك تعقيدا أكبر، أي في عملية إنتاج النص في علاقته مع زمن و مكان يؤسسهما الفن بواسطة تمثيل الواقع: أي على مستوى الركح. إنها تطرح الصعوبة النسبية التي تمكن من رفع ثنائية المتلفظ/الذات المتكلمة إلى مستوى سنن ذي تعبير فني يعتمد على صياغة ذات تحسس متزامن تشرك كل الحواس التي يمتلكها الجسد، أي فن التفاعل بين الخطاب/الصورة/الحركة. إن هم هذه "الكتابة" هو تطوير نظام من العلامات تسمح بقراءة الضمني و الرمزي من خلال سنن يملك قوانينه و تقاليده الخطابية.
أما فيما يخص الجزء الثاني من هذه المجموعة و المتمثل في "الخطاب و المقدس"، نجد عبد الغاني نايت براهيم يسائل الانزلاقات و التحولات التجنيسية التي غالبا ما تجعل المتلفظين المنتمين للمؤسسات في حالة تخلف عن ملفوظاتهم أو عن شركائهم في عملية التواصل ينتج عن الخلط بين الأجناس (المسماة "الأولى" أو "الثانية") إلى انحرافات سوسيو-إديولوجية في الممارسات اللغوية للفاعلين / رمز السلطة. تؤدي العبارات الحماسية، الصور البلاغية و أشكال التوجه الكلامي المنظمة في الحياة العمومية لجماعة الممارسة للتواصل التي تحتال على الأماكن و الأزمنة المحددة لوظيفتها إلى انحراف في تأثيرات الأفعال الآمرة الخاصة بالملفوظ و ذلك من خلال التداخل التي تعرفه المكونات الثلاثة للنظام الاجتماعي و هي العرف، السلطة و التراتبية. كما سيعرف جنس ثان من الخطاب، أي الوعظ الديني، نوع من التحول التدريجي و سيشهد بوصفه جنسا أوليا انحرافا خطابيًا بتوزعه داخل أجناس أولية أخرى متعارف عليها مثل الخطاب العلمي و الخطاب السياسي. و هو الأمر الذي يجعلنا نؤكد على تشكل، في الأفق الثقافة جديدة حيث ينسحب الفكر النقدي أكثر فأكثر ليترك المكان لأصحاب الحقيقة و اليقين اللذين تكرسا دون نقاش.
وهو انزلاق للملفوظ من المكتوب إلى الشفوي يعطي الفرصة لسميرة بشلاغم لإجراء دراسة مقارنة لأجل تحديد التحويرات التي يخضع لها المدلول نفسه حيث ينتقل من لوغوس إلهي إلى لوغوس بشري بحكم تغييره لقناة التواصل، أي من المكتوب إلى الشفوي.
إن القصة القرآنية لسيدنا يوسف عليه السلام (سورة رقم 21) و قصة أضحية سيدنا إبراهيم عليه السلام أيضا (في شكلها المنشد)، المقدستان من قبل التقليد الشفوي وحتى الغنائي ستكشفان عن أنساق خطابية مميزة للمخيال الشعبي في الجزائر، و ذلك على المستوى الموضوعاتي والرمزي و على مستوى المقدس، و تتميز أيضا بمجازها وروحانيتها على المستوى الفضائي و في زمنها السردي (للقصة) و في تلفظها و بنيتها (حيث يعلن عن النهاية في بداية القصة).
توضح هذه الدراسة مدى انتقال المعنى من القصة المنبع (المقدسة) إلى القصة الهدف (المدنسة) ضمن انساق ذات طابع مأسوي التي يستخدمها المخيال الجماعي في المجتمعات المغاربية عموما و في الجزائر خصوصا لنزع التجسيد عن الكلام و القيام بعملية نزع الدلالة عن النص القرآني، دون أن يكون ذلك عائقا أمام إعادة كتابة هاتين القصتين.
وضمن هذه الإطار، تقوم دراسة عبد الله بكوش بالتشديد على ضرورة استبدال تعددية الذاكرة، "الأقوال" بذاكرة نابعة من الثقافة المغاربية تتمركز حول الوحدة المزدوجة للعروبة و الإسلام المثمنة و المفعلة "القول". يعتمد صاحب الدراسة في خطواته على المقاربة السوسيو-أنثروبولوجية لكتابات محمد أركون الذي يعلن من شأن الثقافات المسماة شعبية التي لا "تملك الكتابة"، التي تعتبر – ظلما - مناقضة للثقافة العالمة المتضامنة مع مقتضي المصلحة العامة.
إذ تقوم "الذاكرة" الرسمية الانتقائية بحجب ما تركته ذاكرة المجتمعات المتعاقبة، من بربر قدامى و أفارقة ورومان وكذلك إخفاء الذاكرة المتوسطية والقبلية. تعتمد هذه المقاربة على تفكير يشتغل بوصفه "نظاما مضادا" حيث يوصي و يدعو إلى قيم إسلام "شعبي" (و معاش) في مقابل إسلام "عالم" مكتوب.إن الحماس و القوة الانفعالية و التمسك ب"العجيب" التي تميز الشعوب "بدون كتابة" لا يملك إلا أن يتحمل حقائق ذات بعد أنثروبولوجي التي تكشف عن جدلية العلاقة بين السلطة المركزية و المجتمعات الخاضعة" إن أهمية مثل هذه الدراسات تمكن في تعزيز مكانة خانة قراءة تنطلق من "سوسيولوجية المعتقدات" التي تتجاوز الطروحات المسبقة للفقه (الأورتودوكسية) و التصنيف الثنائي للإثينوغرافية الناتج عن الاختزال المزدوج : إسلام شعبي/ إسلامي عالم.
و أخيرا في الجزء الثالث من هذه المجموعة المتعلقة بـ "الخطاب و الديداكتيك" تخضع العلاقة بين "فعل الكلام" و " القول المنجز" لفحص دقيق و بخاصة في تجليها الأكثر حساسية، أي "القول المنجز" في الكتاب المدرسي.وفي هذا الصدد تعكف نبيلة حميدو على دراسة الثنائية الخطابية للهوية و الغيرية المدمجة، التي تبرز للعيان في الكتاب المدرسي لتعليم اللغة الفرنسية في السنة الأولى من التعليم الثانوي، إذا أن الكتاب موضع لتمثل ثقافة الآخر على حساب ثقافة الأنا.إذ يسعى كل من الخطابين إلى بسط نظير يدخل شيئا فشيئا في ذهن المتعلم تضيفا ثنائيا ثقافيا مؤكدا بواسطة مقولات تمثل الأنا، و هي نظائر سلبية (مدينة أهلية، قاموس البؤس، الخوف و اللاأمن) و تقدم الآخر بتمثل إيجابي (مدينة أوروبية، فضاء الحادثة، و الرفاهية و الحضارة).
تلقى الدراسة نظرة شاملة على مجموعة من النصوص التي تسائلنا، بوصفها متنا، عن الرسالة التي نحاول تلقينها للمتعلم الجزائري و المتمثلة في مؤلف يوافق على اندثار الشعب الجزائري، و آخرين يدافعون عن الأطروحة الكولونيالية وآخرين تنكر حتى وجود العربي. و من هنا تسمح لسانيات التلفظ بالابتعاد عن المقاربات ذات التصنيف الثنائي بين الهنا و الهناك، بين الأنا و الآخر، وتسهم في تعلم اللغات الأجنبية التي هي في الأساس ممارسة حول التقاء الثقافات باعتبارها معاشرة للتنوع و للغيرية.
الواضح أن الدراسات التي يضمها هذا العدد و التي تعطيه مضمونا موضوعاتيا تدور كلها حول تلك الإشكالية الثلاثية التي يسميها باختين بالزمكانية أي تلك العلاقة القائمة بين المتكلم و الزمن و مقام إنتاج ملفوظه الذي يفترض المبدأ التالي: لمعرفة و تعليم لغة ما، لا بد أولا من معرفة و تعليم الثقافة التي تحملها (د.هيمس 1972). إن محاولة الابتعاد عن هذا المبدأ باسم البحث الهوياتي أو تحت عذر آخر مثل "مقتضى المصلحة العامة" يؤدي إلى عملية نزع التجسيد عن الوظيفة الطبيعية للكلمة أي "فعل القول" لمأسسة "قول منجز" مصطنع. يرغب هذا العدد في أن يكون مبادرة تفتح المجال لنقاش حول الأفكار تستدعي تصورات أخرى تدور حول هذه الإشكالية، لتعبر في المجال المفتوح للتفكير المتمثل في مجلة إنسانيات، حيث أن فائدة ذلك تكون في الالتزام الهادئ بممارسة الموضوعية من خلال اعتماد ثقافة النظرة المزدوجة المسلطة على "أفعال القول" و"القول المنجز" حول الآنا و حول الآخر، ما دام الآخر قادر على تقديم المعرفة حول ذاتنا، و هو أمر يبدو مستحيلا، في ظل هذه المزايدة المرعبة المتمثلة في المشهد "المتعولم".
سيدي محمد لخضر بركة
ترجمة: محمد داود