Sélectionnez votre langue

الأسس الثقافية للأمة الجزائرية

إنسانيات عدد 47-48 | 2010 |  جماعات، هويات و تاريخ  | ص11-19| النص الكامل


Cultural grounds for the Algerian nation

Abstract: Examining the cultural grounds for the Algerian nation supposes taking the religious dimension into account for the same reason as other factors which have contributed towards its formation. Nevertheless in the colonial situation, the Moslem religion shared by the majority of Algerians, imposes itself as the main integration element. The Oulema current, by using Islamic references (defending Islam and the Arabic language) won a political legitimacy obliging other nationalist movement tendencies to conform. From this point of view it is suitable to revisit the nationalist historiography and to call attention to the period anterior to the Oulemas, concerning the Messalist current as for the nationalist question. However the reformist heritage, whose past representations continue to back up the cultural history of an Algeria which has become independent, is not for all that free from criticism.

Keywords : Cultural grounds - Algerian nation - Messalist movement - nationalist historiography.


Mohammed HARBI : Historien algérien, Professeur de Science Politique, Université Paris VIII, Paris, France.




لقد اخترت أن أتناول الأبعاد الثقافية للتجنيد الوطني في الجزائر لأن المعطيات الثقافية خلال العشريات الأخيرة لم تُعطى حقها في الغالب مثلما هو الحال بالنسبة للمعطيات الاقتصادية التي حظيت باهتمام بالغ في الدراسات. ومع ذلك ينبغي عدم الوقوع في عكس هذا الخطأ لأنه ومهما كانت تساؤلاتنا حول المشاكل المرتبطة بالهوية الثقافية كما يقال (والتي تعدّ من صميم مسائل المثقفين والنخب)، فإنه يجب الرجوع إلى السياق الاقتصادي الذي يعدّ المتغير الرئيس من أجل تفسير استراتيجيات الجماعات والأفراد. يضاف إلى ذلك أن الدولة في البلاد حديثة الاستقلال، ليست فقط حَكَماً ولكنها أيضا منتجة للأملاك وهي المكان الذي تُنتج فيه الثروات ويتمّ فيه التفاوض حول المصالح. وفي هذا الخيار الذي أتناول فيه المشاكل الثقافية للحركة الوطنية، أُلح إذن على ضرورة عدم نسيان أهمية هذه المعطيات الاقتصادية، لأنه وعند قراءتنا لبعض التحاليل، يتولد لدينا انطباع مؤداه أن الجزائريين يتصارعون فقط من أجل الأفكار، بينما ومن وراء مواجهاتهم، هناك أيضا مصالح عظمى محل رهان، وبالخصوص مسألة إعادة توزيع الريع النفطي على أفراد المجتمع.

ما هي المكانة التي احتلها الدين في التجنيد السياسي ؟ خلال فترة تشكيل الدولة-الأمة، كانت هناك دينامية وطنية، ديناميات جهوية ولغوية، ولكن أيضا دينامية دينية. وكانت هذه الأخيرة الأكثر أهمية، من حيث أن الجماعة الدينية هي القاعدة التي انبثقت من خلالها الجماعة الوطنية. ومن المهم جداً التذكير أن الجزائريين ليسوا فقط شعبا مسلما، ولكن شعب إسلامي-مركزي (islamocentrique)، وذلك على اعتبار أنهم، من جهة، يتقاسمون مع الشعوب المسلمة الأخرى تاريخا مشتركا بدأ مع أسلمة بلاد المغرب، ومن جهة أخرى، مثلما هو الحال بالنسبة لغالبية الشعب، فإن التمييزات المرتبطة بهذا الموضوع هي أولا ذات طابع ديني.

إن التمييز الغالب بالنسبة للجماعة الدينية هو بين المسلمين وغير المسلمين، وبالخصوص بين المسلمين والمسيحيين، وذلك لكون أغلب الصراعات التي ميزت تاريخها وقعت بين المسيحية والإسلام. والعامل الآخر الذي يؤسس هذا التمييز في المجتمع الجزائري هو وضع المرأة الذي يقوم في المجتمع المسلم على الدونية. وفضلا عن ذلك فإننا نجد في الجزائر عجزاً عن أقلمة سياسية لكل القوميات المسلمة، بمعنى أن هناك تناقض دائم بين الفضاء المرجعي  "للأمة الإسلامية" أو   "للأمة العربية" من جهة - وهي ليست فقط حقائق ولكنها أيضا منتجة للأساطير- ولمجال تدخل السكان في كل دولة من جهة أخرى.

تعتبر هذه العوامل )التمييز البديهي بين المسلمين وغير المسلمين، مكانة المرأة، مشكل الإقليم (هي عناصر مؤسسة للهوية الإسلامية. وشخصيا لدي الاعتقاد أنه ما لم نتعرض لمسألة الشريعة بوصفها مجموعة معتقدات، وما لم نقم تاريخيا بالعمل الذي قامت به الديانتان المسيحية أو اليهودية بالنسبة للأسطورة، فإنه لا مخرج لنا من المشاكل التي نعيشها، وذلك لأن المراجعات التي تمت في سياق القرن التاسع عشر[1] ليست مراجعات ملائمة كلية مع حقيقة اليوم. لقد أدى قرن من الهيمنة الاستعمارية إلى اضمحلال البعد الديني للهوية الجزائرية، لكن من دون أن يؤدي ذلك إلى محوها. صحيح أننا نشهد في الجزائر منذ القرن التاسع العشر ظهور ثقافة دنيوية غيّرت بعض الذهنيات على اعتبار أن كل واحد في السابق كان يميّز بين الرؤية الخارجية الذي تتطلب كل الاحترام للمعايير والرؤية الداخلية التي وحده الله هو الحكم فيها. ولكن وعلى العكس مما يقال اليوم، فإن الدين في الإسلام لم يكن أبدا قضية ضمير، ذلك أننا نولد في جماعة ما كان لنا فيها الخيَرَة، وليس لنا الحق من أن نخرج منها من دون أن نكون عرضة للتكفير. ولقد عشنا مع الاستعمار، وفي حدود ضيقة خاصة بالنسبة للنخب لمسار فردنة (individualisation) المعتقدات والممارسات الدينية.

و الإبقاء على النظام العضوي للسلف كان من جديد موضع اتهام ونحن نحْضُر ميلاد مفهوم مُشخَّص للدين، وهو مفهوم ما يزال يبحث عن الاعتراف به، ولكن من دون إنكار، عدا بعض الاستثناءات، للرؤية الجماعية التقليدية.

ونشر هذا المفهوم كان محدودا إلى درجة أنه ونظرا لغياب مركز سياسي ولتخريب الدولة في الجزائر، فإن الدين (الدين من حيث هو أولا مؤسسة عائلية والمحافظة عليه تتم أولا داخل العائلة) أصبح في المجتمع الجزائري العامل الأول للاندماج.

وظاهرة شخصنة الدين هي التي وصفها العلماء المسلمون الجزائريون في سنوات الثلاثينيات  بـ  "الإكراه على الابتعاد عن الإسلام" بينما كان الأمر يتعلق في الواقع ببداية للعلمنة ولانبثاق الفرد من الجماعة، وهو مسار كان من شأنه أن يؤدي إلى ظهور نوع من العقلانية تُعَدُّ مجردة من كل اعتبار ديني.

 و صحيح أن إلحاح العلماء على ظاهرة  "الإكراه على الابتعاد عن الإسلام " كان يقوم على عوامل حقيقية، فقد كان عدد من الجزائريين في حِلٍّ من الانتماء إلى حركية الإسلام وذلك من خلال تجنسهم، وآخرون، في بعض المناطق مثل منطقة القبائل أو جزء من الشلف فقد اعتنقوا المسيحية بسبب التنصير.ولكن هذه الظواهر لم يكن لها إلا انتشار محدود ولم تكن لها المكانة التي يعطيها إياها العمل التأريخي الديني. و ما ينبغي الإشارة إليه هو أنه كان لدى العلماء كما لدى خصومهم في الحركة الوطنية، معرفة غير دقيقة بعمق الشعور الديني وهي ترجع إلى الفترة الاستعمارية. فبالنسبة إليهم بقاء عناصر من العبادات القديمة الموروثة عن العهد الروماني عائق لتجذر حقيقي للإسلام.

وفي نظر العلماء، فإن أسلمة الجزائر لم تنتهي كلية، ومن درجة عدم اكتمالها فإن الإيديولوجية الاستعمارية كانت وبقصد تؤكد على استمرار الديانات القديمة من أجل التأكيد على سطحية الثقافة الإسلامية في الجزائر، خاصة عندما يتعلق الأمر ببعض المناطق الجبلية كالأوراس أو القبائل.

وهذه الظاهرة )بقاء الديانات القديمة (ليست مع ذلك ظاهرة خاصة بالدين الإسلامي، بل نجدها أيضا في الديانة المسيحية، ويكفي للدلالة على ذلك أن نرى ما هي عليه المسيحية في أمريكا اللاتينية أو في بعض بلدان إفريقيا من أجل أن نفهم أنه ليس هناك دين قضى نهائيا على الرواسب التي سبقته.

اندماج العلماء في جبهة التحرير الوطني

يركز العلماء أيضا على الثقافة السياسية للنخب الجزائرية الجديدة، والتي يصفونها عمدا بالمتغربة، والحق أنه وصف لا ينطبق عليها في الواقع حتى وإن كانت فعلا فرنكوفونية، ذلك أن الأمر يتعلق بتقاليدها أو برؤيتها للعالم والتي لم تكن تختلف عن باقي عناصر السكان الجزائريين. ومع ذلك اعتبر العلماء أن هذه النخب هي حاملة لفردانية تشكل بذرة لانحلال الجماعة العضوية، ومن ثمّ تولدت لديهم الإرادة لـ  "إعادة أسلمة" هي بالأحرى قوية لدرجة أنهم لم يكونوا فقط رواداً لمفهوم مغلق للدين ولكنهم أنتجوا أيضا في الساحة السياسية الجزائرية نوعا من اليعقوبية الدينية في المكان الذي كان يتميز سابقا بتعدد للمجتمع الإسلامي التقليدي. و يحق القول إذن أنّ وسائل الاتصال والعناصر الثقافية الجديدة أعطت للعلماء إمكانية نشر هذه اليعقوبية الإسلامية. و ما سهل لهم هذه المهمة، هو أنهم شوّهوا إلى جانب الاستعمار ولأسباب تكتيكية الطرق الدينية، وذلك رغم أنّ هذه الطرق كانت وإلى غاية نهاية القرن التاسع عشر العامل الرئيس لمقاومة الاستعمار.

وبمعنى آخر، فإنّ مركزية المرجعية الإسلامية قد لعبت دورا كان لصالح العلماء. و في المقابل كان يتعين على القوميين الشعوبيين، الذين كان عليهم انطلاقا من سنوات الثلاثينيات أن يتجاوزوا تأثيرهم، أن يأخذوا على حسابهم دلالاتهم ورموزهم. وهكذا شكّل الدفاع عن الإسلام والعروبة رهانا رئيسا في الصراعات السياسية التي تمت من أجل المشروعية وبالتتابع مع مد الحركة الوطنية، وهو ما أنتج ركودا بل ارتدادا للإيديولوجيات العلمانية في بعض القطاعات. وأصبحت هذه الصراعات أكثر غموضا إلى درجة أن الإيديولوجيات العلمانية وجدت نفسها أمام مصادرة مفرداتها مع كونها تحمل وبشكل قوي صبغة دينية.

ويمكننا القول بأنه، ومن خلال جوانب عدة فإن حرب التحرير الجزائرية قد تمّت تحت راية الشعبوية، وكان إطارها في ذلك استحواذ جبهة التحرير الوطني على الحياة السياسة، ولكن بطابع الجهاد. و قد استُعمِل الدين لدى النخب كأداة على أساس أنه كان يُنظر فيه أساسا على أنه عنصر للانسجام الاجتماعي والوطني، بينما ظل الإسلام يُمارس لدى عامة الشعب بشكل مغاير تماما، بحيث أنه كان قضية يرتبط شأنها بالعائلة وبالأمة.

ومن أجل فهم رهانات الشرعية بين الوطنيين الشعبويين والعلماء، فإنه من الضروري العودة إلى الصعوبات التي واجهت اندماج تيار العلماء في جبهة التحرير الوطني. فعندما طالبت جبهة التحرير الوطني كل المنظمات التي سبقت تأسيسها (جبهة التحرير) أن تحُلّ نفسها من أجل أن تترك لها المكان وأن تمكنها من الاستئثار بالشرعية السياسية وذلك بتقديمها الكفاح المسلح كعنصر رئيس للشرعية (وليس رؤية مخالفة لتلك التي سبقت تأسيس الجبهة فيما يتعلق بمستقبل الجزائر)، فإن العلماء أبدوا عدم موافقتهم على هذا الأمر. لم يقبل العلماء إذن بأن يصبح الدين مستعملا من طرف أشخاص ليسوا بالفقهاء. وخلال فترة من الزمن كان العلماء بقيادة الشيخ الإبراهيمي يبحثون عن تحالفات، خاصة مع حركة مصالي الحاج، ولكن وأمام الانطلاقة السريعة لجبهة التحرير الوطني في الميدان، حدث في صفوف العلماء تصدع في الموقف بين من بقوا أوفياء للشيخ الابراهيمي ورفضوا بذلك استئثار جبهة التحرير، وقد تمّ تهميشهم عقب ذلك، وبين من لحق بالشيخ العربي التبسي في انضمامه للجبهة. واثنين من أبر مساعدي الشيخ الابراهيمي ممن رفضوا الانصهار في بوتقة جبهة التحرير وهما الشيخ عباس (الذي أصبح فيما بعد عميد مسجد باريس) والشيخ خير الدين الذين تمّ الحكم عليهما بالإعدام من طرف قيادة جبهة التحرير في منطقة قسنطينة رغم أنهما أصبحا من قيادات الجبهة.

لقد كانت الحركة الإصلاحية لجمعية العلماء تحمل رؤية سكونية وجامدة للهوية الجزائرية. و لكنها كانت مع ذلك تتميز بكونها التيار الوحيد الذي كان يملك في صفوف الحركة الوطنية برنامجا ثقافيا منسجما، رافضا لكل تهجين ثقافي، حتى وإن قبل العلماء بفكرة ازدواجية اللغة في الظرف الاستعماري. ولكن ومن أجل فهم مواقفهم في ظل الاستعمار، بما في ذلك مطالبتهم الفصل بين الدين الإسلامي الذي كان يهيمن عليه الاستعمار و بين الدولة، يجب التمييز بين "الوطنية التكتيكية" و "الوطنية التاريخية"كما فعل ذلك المؤرخ المغربي عبد الله العروي.

والوطنية التكتيكية هي أن يتم الدفاع عن المواقف بحسب ما تقتضيه الظروف بينما الوطنية التاريخية تندرج ضمن سياق تاريخي طويل الأمد. ويندرج هذا التمييز نفسه إلى حد ما ضمن الثقافة الإسلامية الشعبية التقليدية للجزائر على اعتبار أن التمييز في المذهب المالكي يَتمّ بين الموقف الذي يجب علينا الأخذ به تبعاً لما يسمى بـ " حالة الضرورة "  أي بحسب غياب توازن متكافئ للقوى، وبين الموقف الذي يمكن اتخاذه عندما يتغير ميزان القوى لصالحنا. ويجب تأويل مواقف جمعية العلماء انطلاقا من هذا التمييز، وهي مواقف تتميز بعدد من التسويات التكتيكية، وهي مع ذلك لا تخلو من نزعة أصولية فيما يتعلق بمقاصدها البعيدة المدى.

أسبقية جمعية العلماء مقارنة بالتيار المصالي

من أجل فهم هذه الرهانات المتعلقة بالشرعية، ينبغي مراجعة كاملة للكتابات التاريخية للحركة الوطنية فيما يتعلق بنقطة أساسية: الحركة الوطنية الأولى التي دخلت معترك الساحة ليست هي الوطنية الشعبوية، كما يسود الاعتقاد في الغالب، ولكن الحركة الوطنية الدينية. منذ 1925 تحدث الشيخ عبد الحميد ابن باديس الذي شارك في تأسيس جمعية العلماء عن "قوميتنا" والتي يمكن اعتبارها أيضا حديثا عن  "جنسيتنا  وعندما طُلِب منه بعد سنوات من ذلك أن يوضح ما يعنيه بـ "قوميتنا"  كان جوابه " قومية الجزائريين هي الإسلام، إنه العامل الرئيس لتمييزهم" وجب هنا الأخذ بعين الاعتبار بهذه الفكرة في الرد على الكتابات التاريخية الوطنية التي سمحت بالاعتقاد بأن العلماء اندماجيين بتيجة تأييدهم خلال فترة ما لمشروع بلوم-فيوليت (Blum-Violette) الذي منح الجنسية الفرنسية لفئة من الجزائريين. والواقع أنّه ما كان العلماء اندماجيون أبدا، إذ أنهم يقرون تمييزا لا لبس فيه، وذلك منذ 1936-1937، بين الجنسية السياسية التي يمكنها أن تكون جنسية فرنسية والجنسية القومية التي ما كان أن تكون إلا مسلمة. ويتراءى لنا هنا ذلك النموذج القديم للحكم الإسلامي المُؤَسَّس على تواجد مجموعات لها نظم قانونية خاصة، تقوم بشكل مستقل عن طبيعة الحكم. وبالنسبة لهم فإنه وفي الوضعية الاستعمارية كان الحكم فرنسيًا، ولكن الأمة الإسلامية كانت تقوم بذاتها وكان الإسلام جنسيتها.

و في نصوص العلماء، كان هناك نعت واضح جدا بالكفر لمن تجنّس بالجنسية الفرنسية. ذلك أن التجنّس من وجهة نظرهم كان يقتضي أولا، وبحسب ما يُقرُّه القانون الفرنسي أن المرأة  "لها مرتبة أعلى" من الزوج المسلم. ومن ثمّ رفضهم إمكانية أن ينشأ الأطفال على غير التربية الإسلامية. وكانت حجتهم الثانية هي الاختلاط الذي كان بالنسبة إليهم أمرا مرفوضا جملة وتفصيلا. أما ثالث حججهم فكانت أن يؤدي ذلك كله إلى اللجوء إلى المحاكم الفرنسية مع ما يمثّله ذلك من خطر عدم اعتراف هذه الأخيرة بحكم نطق به قاضي مسلم. تلك هي إذن الحجج التي أدت سنة 1938 بالشيخ ابن باديس بأن يطلق حكم الكفر على التجنس.

واعتبارا لأسبقيتهم الزمنية، فقد ترك العلماء للحركات السياسية الوطنية إرثا تضمن ثلاثة محاور كبرى، أولا : صلة الإسلام باللغة العربية، ومن ثمّ برزت فكرة قومية لغوية قوية ذات طابع يعقوبي. والعامل الثاني هو قومية قانونية، بمعنى رفض استقدام قانون حديث مصدره فرنسا، وخاصة فيما يتعلق بعناصر تخص الاجتهاد الفرنسي في القانون الإسلامي، ولأجل هذا السبب كان رفضهم تكوين القضاة المسلمين الجدد في المدارس المختلطة الفرنكو-عربية  التي أسستها فرنسا، ولم يضع العلماء أبدا ثقتهم الكاملة في تلك الشريحة من السكان (الجزائريين) التي كانت مزدوجة اللغة. والعامل الثالث الذي ورّثه العلماء هو نظرة معينة للتاريخ. لقد تبوأ العلماء مكانة في التاريخ الوطني وصاغوه بطريقة جوهرانية (essentialiste) وفق نظرة دينية خالصة. وكانت هذه النظرة التاريخية وبشكل مطلق هي المرآة المعكوسة للأساطير المؤسسة للجزائر الفرنسية.

ومن بين كل بلاد العالم الإسلامي، كانت الجزائر هي البلد الذي برزت فيه القومية السياسية، القومية اللغوية والقومية القانونية بشكل عنيف. أكثر بكثير من تونس والمغرب، وأكثر بكثير من بلاد المشرق العربي التي تمّ فيها التثاقف القانوني وإدماج القانون الوضعي بشكل هادئ وذلك بالاتفاق مع السلطات الدينية، أحدث تطور الحركة الوطنية في الجزائر وقفة عنيفة لما تمّ اقتباسه في المجالات السياسية، اللغوية والقانونية. وبالنسبة للنخب الجزائرية الجديدة، فإن هذه المظاهر التي تُعدّ في صميم توجهات الحركة الوطنية، لم  يكن ينظر إليها كما كان يجب، ومردّ ذلك ببساطة أن هذه النخب تنتمي إلى أجيال لم تعش أو تعرف هذه المشاكل. بينما وشهدنا مع ظاهرة التعريب، تجدّد نشاط المخيال السياسي لكل هذا الماضي. و نحن اليوم نتصارع ضد أشباح هذا الماضي، بثقافة الماضي وذلك من أجل الحديث عن مشاكل الحاضر. وبمعنى آخر فإن ذلك يتفق مع ما أسماه مارك بلوخ (Marc Bloch) بظواهر عدم التعاصرية، ومن أمثلة ذلك ما نجده في تصرف رجالات الثورة الفرنسية الذين ارتدوا الثياب القديمة لروما أو اليونان من أجل مواجهة خصومهم. وفي الجزائر كذلك هناك أيضا صراع من كل حدب وصوب يكتسي أثواب الماضي.

مخاطر إعادة بعث أشباح الماضي

في نظرة التاريخ هذه، هنالك ثلاث مسلمّات قاعدية. تشير المسلّمة الأولى أنّه ومنذ فجر التاريخ، هناك ثنائية قطبية وثنائية بين الشرق والغرب. وقد تحدّث الفرنسيون أيضا منذ السنوات الأولى للاستعمار عن هذه الثنائية القطبية، وجعلوا من الاستعمار الفرنسي استمرارية لروما مرآة الغرب. والمسلّمة الثانية في هذه النظرة فمؤداها أن الشرق متفوق على الغرب بروحانية قيمه. ولم يفعل الجزائريون هنا أكثر من استعادة للحجج التي اعتمدتها الأدبيات الإسلامية التبريرية خلال القرن التاسع عشر، وقد أخذت هي نفسها بعض عوامل مرجعيتها من الإيديولوجية الألمانية. ويمكننا ملاحظة أنّ هذه الظاهرة لا تخصّ الجزائر فقط بل كل البلدان النامية، وكذلك الصينيون والروس والألمان. وبمعنى آخر إنها ظاهرة مُمَيِّزة للتأخر مقارنة بالغرب ولسيطرته الغرب على باقي بلاد العالم. وتبعا لهذا، فإننا نجد كما هو الحال لدى كاتب مثل مبارك الميلي، أن المناهج الغربية التي كانت انطلاقتها من روما والتي تبعها في ذلك كل ورثتها من اللاتينيين، هي الاضطهاد والاستغلال والسيطرة. و أما المسلّمة الثالثة فهي أن بلاد المغرب تنتمي من خلال أصلها وروحها وثقافتها إلى المشرق السامي، وأن البربر هم جزء من الأمة العربية على اعتبار أنهم تحولوا إلى ساميين من طرف الفينيقيين. وهذه الأساطير هي ومن دون تحفظ نقيض الإيديولوجية الاستعمارية الفرنسية. ومثلما تشير إلى ذلك الأعمال التي نشرت مؤخرا لملتقى عقد بجامعة وهران في 1992 والذي تم فيه الاعتراف ولأول مرة بأن التاريخ الثقافي قد استحوذ عليه وبشكل كامل المُعرََّبون الذين أضفوا على مدرستهم صبغة البيئة الثقافية للجزائر، فإن هذه الرؤية للتاريخ قد شرع في إعادة النظر فيها وأن ثمة تغيرات ملموسة بدأت تجد مجالا لها.

لقد أدت البيئة الدينية في التاريخ السياسي للجزائر شيئا فشيئا إلى تناقض بين الحركات المنبثقة مباشرة من الميدان، والتي يمكن تسميتها بالحركات المُخلِّصة، وأنتلجينسيا من صنف طلائعي كانت لها نظرتها الخاصة للأشياء والتي فوَّتت في مناسبات عديدة ارتباطها بالعالم.

ترجمة بلقاسم بن زنين


الهوامش

* نشرت المدونة الأولى لهذا النص باللغة الفرنسية على المؤلف الموسوم بـ :  Gille Manceron (dir), Algérie comprendre la crise, Éditions Complexe, Bruxelles, 1996.   

[1] الإشارة هنا إلى الإصلاحات التي تمت في ما سمي بعصر النهضة بقيادة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده (المترجم).

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran
+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11
+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Recherche