Sélectionnez votre langue

أرض الميعاد في "الحياة الأخرى": الموت وعودة الجثث إلى الوطن في تصوّر المهاجرين المسلمين في إيطاليا


إنسانيات عدد مزدوج 75-76| 2017 | حول الإصلاحات في الجزائر| ص 9-30| النص الكامل


Mohammed Khalid RHAZZALI, Université de Padoue. Département de Philosophie, Sociologie, Pédagogie et Psychologie Appliquée, FISPPA. 35 100. Padoue. Italie


تقديم

إذا كانت المجتمعات الأوروبية قد أخْلت فكرة حضور الموت عن أفق الحياة اليومية، فإنّ الفكرة نفسها ما زالت تسري في كيان المجتمعات المسلمة التي شكّلت حول الموت حقلا رمزيا غنيا ومعقدا. ويعتبر المجتمع الإيطالي واحدا من هذه المجتمعات التي تحوّلت إلى أرض استقبال للمهاجرين المسلمين الذين وجدوا أنفسهم تحت الإكراه فرضته عليهم ديناميات مجتمعات الاستقبال دفعهم، بوصفهم أقلية، إلى إعادة تعريف تصوّراتهم حول العالم ونمط عيشهم.

ومادام إكراه ديناميات مجتمعات الاستقبال هو الدافع من وراء مراجعات المهاجرين المسلمين لمختلف تصوّراتهم، فإنّ تصوّرهم للموت عنصر من العناصر المتغيّرة التي لها وقع على أحكام المهاجرين تجاه المحطّات الأساسية لتجربتهم في الحياة بسبب هشاشتهم المادية، وأخطار الحياة التي يواجهونها، وكذا عدم يقينية المشاريع المستقبلية، فمسار هجرة المسلمين إلى أرض الاستقبال قد ينتهي بسفر للأرواح في بحر الأبيض المتوسط؛ سفر يحوّل هذا الأخير إلى مقبرة بدون طقوس.

تأخذ زاوية المقاربة العلمية لهذه الظاهرة بالاعتبار الإطار الرحب للدراسات التي قاربت موضوع هجرة المسلمين في أوروبا (Cfr. Cesari, 2015)، ولا تستثني من ذلك التحوّلات السوسيوثقافية التي يكشفها الواقع في إطار هذه السيرورة السريعة ذات الأهمية العلمية المتزايدة. يتطرق هذا الإطار البحثي، الذي تداخل مع مواضيع أخرى، لبعد خاص حول تمثل الموت وتدبيرها في الحياة اليومية لمجموعة من المهاجرين والأفراد الذين يتسمون بدرجة عالية من "المحافظة الدينية".

إذا كانت باقي التخصّصات قد انفتحت على موضوع الموت، فإنّ السوسيولوجيا لم تهتم بهذا الموضوع الخاص بالمهاجرين بشكل عام(Allievi, 2014) . وكنتيجة لذلك، فإنّ هذا التخصّص العلمي حمل في طياته منذ ميلادها مواضيع المجتمعات التي ظهر فيها باعتبارها مجتمعات حاولت تخليص الحياة من فكرة الموت. ويمكن القول بأنّ الدراسات البارزة خلال العشرين سنة الأخيرة قد انفتحت على العلاقة الموجودة بين الموت والهجرة في إطار مقاربة متحرّرة من هاجس نفي الموت الذي له امتداد في الحقل العلمي.

تتطرق هذه الدراسة إلى دور الذي تلعبه صورة الموت في الحقل البصري الرمزي، كما تحلّل العلامات الدلالية التي تواجه تجربة الحياة عند المهاجر. إذا كانت غالبية المهاجرين يُصرّون على ترحيل رفات الميت من أرض المهجر إلى أرض الأسلاف على أنّه مؤشر مركزي حول سلوك المسلمين، فإنّ تفعيل الدراسات حول الهجرة الحالية للأحياء واندماجهم في مجتمعات الاستقبال وإعادة تشكيل مسارات المهاجرين الموتى يمثل محدّدا أساسيا من أجل فهم تمثّل الموت وتدبيرها عند المسلمين في بلاد المهجر.

لم تبلغ هذه الإشكالية، رغم كل محاولات الدراسات الأنتروبولوجية، بعدُ مداها المطلوب في حقل العلوم الاجتماعية، ولم يظهر لها أثر حتى لدى السياسات العمومية في أرض الانطلاق والمهجر. فسؤال عودة رفات الميت إلى أرض الميلاد هو سؤال محوري، خصوصا أنّه يمتد ليشمل المهاجرين الذين يمكن تصنيفهم ضمن فئة مندمجين الذين يدافعون عن حقوق كاملة للمواطنة في أرض المهجر سواء بالنسبة إليهم أو بالنسبة لأطفالهم. لقد أفرز هذا الإطار البحثي حول صورة الموت عند المهاجرين خطة تحليلية قائمة على الكشف عن تجربة المهاجر تجاه الموت باعتبارها تجربة قادرة على توليد محدّدات خفية على المستوى الماكروسوسيولوجي (السلطة، السياسة، الاقتصاد)، إلى جانب كونها فضاء لتشكيل الواقع المعيش في علاقته بالسيرورات الهوياتية.

تعتبر المتابعة العلمية للواقع المعيش للمهاجرين الأموات مساهمة في الآن ذاته في دعم نماذج التحليل التي تنطلق من مقاربات متعدّدة غايتها التطرّق لظواهر شديدة التعقيد. هذه النماذج التحليلية لها القدرة على نقد الرؤية المركزية الأوروبية حول ظواهر الهجرة المعاصرة، لذلك، توجه هذا المقال نحو تقديم جزء من نتائج دراسة أجريت على المهاجرين المسلمين في إيطاليا، مع العلم أنّ الدراسات حول هذا الموضوع تكاد تكون نادرة إن لم نقل منعدمة. يستدعي الانفتاح على هذا الموضوع تبني منهج علمي قائم على التعدّدية الوطنية(Ambrosini, 2008) ، كما يستدعي في الوقت نفسه توظيف مقاربة اثنوغرافية تمكننا من الوصول إلى تحديد وجهة نظر المهاجر وتجربته المعيشية بعيدا عن التأثيرات القواعد المنتجة من طرف بلدان الانطلاق والوصول.

ستتطرق هذه الورقة البحثية إلى إعادة موضعة تعقد المعاني التي تتدفق زمن الموت في صورة سرد اجتماعي لنمط تفكير عند المهاجرين حول معيشهم اليومي، والذي يضع الخطوط العريضة لمشهد متحرك وتعدّدي وبعيد كل البعد عن الثبات الوجودي الذي يغفل النظر للظاهرة في أبعادها الاجتماعية المتعدّدة، فتعدّدية المعاني الاجتماعية حيال فكرة الموت هي انعكاس لطبيعة الانخراط الاجتماعي للمهاجر في أرض الاستقبال.

الموت في المعيش اليومي للمهاجرين المسلمين : الدراسات السابقة وسؤال المنهج

ارتبطت الدراسات التي تطرقت لموضوع الموت عند المهاجرين بسياقات ثقافية وجغرافية متعددة خلال العشر سنوات الأخيرة(Cf. Ambrosini, 2008) ، فقد درست طقوس دفن الميت عند المهاجرين (Burkhalter, 2001; Chaïb, 2000; Aggoun, 2011 ; Moreras, Sol 2012)، كما تطرقت إلى سلوك إعادة الميت إلى أرض الميلاد (Chaïb, 1988; Branquinho, 1983; Petit, 2002; Berthod, 2006 ; Lestage, 2008-2009) ضمن مسعى تحليل دور مؤسسات في بلاد المهجر خصوصا في ظل التناقضات الممكنة بين معايير الدولة والممارسات التقليدية، كما لم تغفل الأبحاث التطرق لطقوس المآتم عند المهاجرين واقتصاد نهاية الحياة، وكذا تدبير جسد الميت وركز قدر هام من الأبحاث التي أنجزها بعض الباحثين الذين ينتمون للجالية المسلمة على المهاجرين المسلمين في محاولة للقيام بنظرة فوقية تساهم في تغذية مقاربة عابرة للحدود الوطنية عند دراسة ظواهر الهجرة.

وفي إطار سيرورة الهجرة التي تعرفها كيانات الجاليات المسلمة داخل بلاد المهجر، يلاحظ تأثير واضح لديناميات المجتمعات المستقبلة على الأقليّات الدينيّة، وهو ما تترتب عنه تحوّلات لامست نظرتهم للعالم وطريقة عيشهم. وفي سياق أصبح التراث الرمزي للجالية المسلمة في وضعية صدام مع أشكال الحياة اليومية التي يعيشون
في كنفها، فموضوع الموت من المواضيع التي أفرزت تناقضات شديدة في صفوف الجالية المسلمة، بحيث ظل هذا الموضوع يحظى بأولية لدى الوعي الإسلامي في بلاد المهجر، لذلك، يظهر من اللازم إعادة مساءلته في علاقته بمختلف أنظمة المعاني التي تحكم السلوكات الاعتيادية للمهاجرين، وأيضا الانسجام الذي يربط بين سلوكاتهم.

ويكشف الاهتمام البارز للجالية المسلمة بمسألة الموت وجود تباعد بين المهاجرين ومجتمعات الاستقبال على مستوى تعريف التراتبية القيمية التي تظهر بشكل واضح في المناسبات المرتبطة بتدبير نهاية الحياة وما بعد الموت. وفي ظل هذا التباعد القيمي، فإنّ البنيات المعيارية – بمعنى مجموع الوقائع المعرفية التي تقدم صور متكاملة ومستقرة عن الواقع لجماعة بشرية، تنخرط في بنياتها بدون تحفظ – المعرّفة من طرف الباحث بيرج (Berger, 1969) يمكن إعادة مساءلتها نظرا لظهور أبعاد جديدة للتجارب الفردية والجماعية.

إن تعدّدية الإمكانيات المقترحة والمفروضة بواسطة المعايير الاجتماعية في بلدان المهجر تفترض وضع الجالية المسلمة في إطار تناقض مع معيارية بلدان الاستقبال يتجلى في سياق الأفق الديني في رفض التخلي عن ممارساته الدينية التقليدية، وتحويله لقدرة ضعيفة على إنتاج أجوبة للواقع الحالي مما يجعل هذا الأفق يبحث عن استراتيجيات معرفية جديدة من أجل توجيه سياقه الحياتي. يبدو ذلك واضح عند الاستماع لصوت أولئك الذين يفكرون في موضوع الموت ويشيرون وصعوبات اندماجهم في ثقافة المجتمعات المستقبلة أثناء التواصل المباشر معهم حول أماكن معيشتهم، وكل ذلك يعكس تغيّرات معقّدة ومفاجئة طالت هجرة الجالية المسلمة
إلى إيطاليا.

لا تبدو مساءلة الموت مسألة هينة، فجلّ المستجوبين المتديّنين أو غير المتديّنين عبّروا عن عدم ارتياحهم لمناقشة هذا الموضوع الذي يصعب التعبير عنه بالكلمات. فالحمولة الرمزية لحدث الموت وأبعاده في الحياة الجماعية والحياة الفردية، تجعل التحفظات الكلامية عند المستجوبين سمة بارزة أثناء استدعاء موضوع الموت لأنّه يندرج ضمن محاولة الكشف عن هوية طابو الموت الذي يزعج هدوء الذات الإسلامية(Fall ; Mamadou, 2011)[1]. لذلك، كشفت تصريحات المستجوبين المتديّنين عن تصورات عامة تخفي خلفها محوريّة مسألة الموت في الواقع المعيش لهم، وبخاصة في علاقتها مع تجربة الهجرة لديهم[2].

وبما أن علاقة المستجوبين بالدين قائمة على اللايقين، فإنّهم يميلون أثناء حديثهم عن ذلك إلى تكثيف استخدام الرموز والصور المشتقة عن الدين الإسلامي، معتبرين أنّها المصدر الرئيسي المنظم للخطاب الديني. مرور المستجوب أحيانا على محطّات خطابية مبهمة يجعل الباحث أمام صعوبة التعرّف على تصوراتهم الذاتية، وملاحظة كيفية حضور الديني في وسائط الاعتقاد أو الانتماء لمجموعة في حقل التجربة الداخلية[3]. علينا التذكير أنّ التصريحات المستجوبين حول الموضوع كانت موجهة بسلسلة من الأسئلة التي عالجت موقع الموت في حياة الأفراد المستجوبين وتجربتهم المباشرة مع هذا الحدث (موت صديق، موت فرد من العائلة وغيرهم)، وتطرّقت لما يحمله المستوجب من معرفة حول العقيدة الإسلامية في علاقتها بطقوس المآتم، وممارسة فعل إرسال الموتى إلى أرض ميلادهم دون إهمال مسألة احتمال الدفن في بلدان الاستقبال.

الصورة المثالية للمسلم: حسن الخاتمة

رغم تعدّد التجارب في صفوف الجالية المسلمة في إيطاليا، فإنّ نموذج المسلم المثالي يعيد إنتاج نفسه من خلال معيارية "حسن الخاتمة". فصورة المسلم المثالي قائمة على "عدم الخوف" من الموت، نظرا لأنّ المسلم في حاجة ماسة للعودة إلى الإله من أجل تحديد وجوده الأنطولوجي، فالمسلم المثالي يعوض الخوف من الموت بالخوف من الإله، وتحدوه في ذلك رغبة جامحة في الموت وفق المبدأ الإلهي لأنّه حدث يعكس رمزية عودة المسلم إلى الحضن الإلهي، عودة تتجسد في التجربة الإيمانية لطقس الصلاة بوصفه طقسا يستلزم بلوغ مرتبة الخشوع التي تعني الكثافة الإيمانية الواعية التي يستشعرها المسلم أثناء أداء هذا طقس، وكذا قدرة البعض على توجيه رغباته من خلال بلوغ درجة الإحسان.

يصرح أمير (24 سنة، تونس) قائلا:

" فالموت موجود، إنّه الواجب الذي يلحق الإنسان مرة واحدة في حياته...أفكر في الموت عند موت أحد الأقارب أو المعارف...حاليا، نتحدث كثيرا عن الموت في علاقته بالحروب...أنا خائف، لذلك أعود إلى الإله، أقول "أستغفر الله"...المشكل ليس هو الموت، ولكن حياة ما بعد الموت، بمعنى ما اقترفناه من أفعال في الحياة. لقد نصح الرسول الناس باستحضار الموت الذي يعتبر التفكير فيه تعويضا للإنسان في حياته قبل الموت وبعده، ما يجعل الإنسان حذرا حيال سلوكك، ومتخلصا من خوفه الدائم".

يقدَم الوعي بحتمية الموت نفسه كقدرة معيارية ناظمة للحياة تعكس نوعا من الشعور المسبق بالوحدة مع الإله من خلال الصورة المثالية للمسلم. وبهذا المعنى، فإنّ الموت يعتبر معطى أساسي في حياة المسلم، ومسألة التفكر في الموت محورية في حياة المسلم لأنّها تعلمه بفناء الحياة وعدم خلودها (éternels/immortels)، وحتى قيمة النجاح تستلزم التعوّد على تذكر الموت والتفكر فيه.

فبالنسبة لسعيد (53 سنة، المغرب):

" تَذَكُر المهاجرين للموت مسألة أساسية، خصوصا أثناء أداء الصلاة. فالتفكير في الموت يبعث على الخوف، لكنه يساعدني على البحث عن الطريق المستقيم. في الصلاة، أفكر بكل فرح في قدوم الموت، كأنني أرغب فيه زمن الصلاة...لا أعرف إذا كنت واضحا، فنحن نخاف من الموت باعتبارنا كائنات بشرية، وإذا بحثنا عنه فإن مآلنا النار. فالصلاة بخشوع أساسية في حياة المسلم. فقبل النوم أقرأ الشهادة [la profession de foi]، وأقرأها بشكل دائم في حياتي اليومية، قبل الخروج من عتبة المنزل...قبل النوم، أقرأ القرآن..."

هذا المضمون الحامل لتفكير عفوي حول مسألة الموت، يبرز مقدار تعقّد وتعدّد خطط نسق الاعتقاد الإسلامي التي تتطور على شاكلة ممارسات عقلانية وروحية، لم تعد قائمة على مبدأ الطاعة، بل أصبح ينظر إليها كوصايا أخلاقية. فلابُدّ من الإشارة إلى أن الحياة في المعتقد السائد لدى المسلمين هي امتحان دنيوي تختبر فيه قدرة المسلم على التخلّص من عبء الذنوب بواسطة الذكر الإلهي، فمساءلة المسلم تنطلق مباشرة بعد دفنه، حيث توجه له أسئلة الملكين " منكر" و"نكير" من أجل التأكد من إيمانه، أو تعذيبه في حالة إذا لم يتمكن من تقديم أجوبة عن أسئلتهم العقدية. وعندما يقدم الميت أجوبة تتطابق مع العقيدة للملكين في قبره، فإنّه يُترك لكي ينتظر الحكم الأخير والأجر الذي سيحصل عليه يوم القيامة في حياته الأبدية[4].

تجدر الإشارة إلى أن اليقين في الموت في خطابات المستجوبين المهاجرين هو بمثابة تذكير بضرورة جعل الحياة تمرينا مستمرا من أجل إتمام الالتزام التام بالإرادة الإلهية والحفاظ على هذا الالتزام حتى تستعد الروح لمواجهة لحظة الموت. فحضور فكرة الموت هي طريقة من أجل إبراز البعد الروحي حتى في أكثر الجوانب الدنيوية. وهذا خط تتبناه مؤسسات الشريعة في بلاد المهجر التي تعمل على توجيه الوصايا الدينية عن طريق شخص الإمام الذي يجسد معنى الإسلام الإيطالي.

يصرّح سمير (إمام في توسكانا) في هذا السياق قائلا:

" لابد للمؤمن الصالح أن يقوم بالعديد من الأشياء لكي يبلغ درجة حسن الخاتمة، ويكون مقبولا في ال"دار الآخرة". ولكن هنالك شيء خاص نصح به الرسول، وهو الاستحضار الدائم للموت. فكتابة الوصية هو فعل حثت عليه الشريعة، فهو ليس فعلا ذا وظيفة قانونية فقط، بل إن له وظيفة روحية لأن يذكر المؤمن بال"دار الآخرة". فالمسلم الحق هو من يضع وصيته بجانبه استعدادا للموت. هذه هي سنة رسولنا".

تفترض الوصيّة تحينا دائما يعكس سعي " المسلم الصالح " بلوغ درجة حسن الخاتمة، فالتحرير المستمر للوصية يشكل تمرينا روحيا يضمن الشعور الدائم بنهائية الحياة الدنيوية، وهو إسهام في الآن ذاته في تفعيل السنة النبوية في صفوف طائفة المؤمنين في المهجر. نموذج المسلم الصالح مترسّخ في المخيلة الجمعية للأفراد المستجوبين الذين توجه بعضهم للوصف المكثف لهذا النموذج المعياري بدل وصف تجربته المعيشية. تُظهر المقابلات الميدانية الاستحضار المكثف لمقولة "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا. واعمل لآخرتك كأنك ستموت غدا" التي تلخص بفعالية الرؤية الوجودية للمسلم المثالي، فهذه المقولة يتم استدعاؤها كأنها حديث نبوي لكن ما يخفى على متداوليها المسلمين أنّها مقولة لمعلم روحي ليس مسلما وهو غاندي  .Ghandi Mahatma [5]

يثير الموت في الإنسان، بوصفه مصيرا محتوما، الخوف والرعب وتتجه ردود أفعال الأشخاص المستجوبين نحو هذا المشهد الراديكالي معلنة عن تلاشى كل المرجعيات الدنويية المرتبطة برجال الدين، سواء كان من المتديّنين أو من غير المتديّنين، وهنا تحضر صورة يوم القيامة بقوة كأحد أركان الإيمان الذي يجمع الرعب من الموت مع الرهبة من العقاب الذي ينتظر الذين لم يسيروا في الطريق الإسلامي القويم.

يصرح علي (28 سنة، من أصل مغربي مولود بإيطاليا):

"الدار الآخرة هي المهمة وما هو مهم بالدرجة الأولى هي اللحظات الأخيرة. والحالة التي تأخذ فيها الموت المؤمن هل يكون مستعدا عندما يأتي عزرائيل ملك الموت . قل لي متى وكيف تفكر في هذا الموضوع ؟ آه في كل الأوقات. وتقريبا كل يوم لا يمكنني أن لا أتذكر هذا الأمر في ايطاليا. نحن في صراع متواصل مع الأشياء الواجب علينا تجنبها. فنحن لا نعيش في بلد مسلم ونحن بذلك معرضين لها بشكل دائم. وان لم نتذكرها تكلفت أنظار الآخرين بذلك. إذا ما اتبع شخص ما طريق الله من الجيد بالنسبة له استحضار الموت. بالنسبة لي أخاف عندما أفكر بالأمر. يوجد الخوف من الله وهو واجب … من حساب يوم القيامة عندما ننتقل للعالم الآخر. هل تصرفنا كما ينبغي ؟ هل صلينا ؟ هل ساعدنا الفقراء ؟ثم ( يتنفس الصعداء) نرى من الجانب الآخر ليس هنا".

كما يصرّح مستجوب آخر (38 سنة، من ألبانيا) قائلا:

"تراودني فكرة الموت باستمرار وذلك منذ أن شعرت بالخوف بعد الزلزال. كنت مرتعبا لفكرة أنني سأموت من دون أن أكون مستعدا لذلك. منذئذ وأنا أنتظر الموت في كل حين. أتلفظ بالشهادتين قبل النوم . يجب الحذر من الحياة ومغرياتها, لا يجب الوثوق بها, هي ليست الحياة الحقيقية والموت هو الطريق نحو الحياة الحقيقية" (مسلم 38 سنة ألبانيا).

يُصوّر الموت على أنّه حدث غير محدّد ومؤجل للمستقبل ولكنه واقع ممكن فعليا في أي وقت، سيحاسب الأفراد على أساسها، بحيث تبدو الشهادتان وكأنّهما مصدر للطمأنينة لمن ينطق بهما لأنّهما تدلان على تمسك المهاجر المسلم بمنهج حياة سوي، وأيضا لأنّهما تعطيان طابعا دينيا للموت. يفتح التفكير في الموت الأبواب على العالم الأخوي، فتظهر تصوّرات وخطابات المبحوثين ذات التأثر الشديد بالثقافة الإسلامية من خلال الإشارة إلى "عذاب القبر" الذي يحيل لتلك العذابات التي يتلقاها الفرد عندما يُدفن. نماذج الإجابات حول السؤال التالي : "إذا أردنا التحدث عن الموت، ما الذي يخطر ببالك عند سماع هذه الكلمة ؟" تعطي تؤكد الصورة والمكانة التي يتمتع بها هذا الموضوع في خطابات المستجوبين.

تصرّح نعيمة (45 سنة، من المغرب):

"أه رباه أي موضوع ! لا أفكر أبدا فيه، أخاف، أتجنبه أعطل الفكرة وأقول في نفسي يجب أن أعبد الله وأن أبقى في الطريق المستقيم, سوف نتعذب في القبر يجب الاستعداد لأن ملك الموت يمكن أن يأخذنا في أي وقت".

أمّا سعيد (42 سنة، المغرب):

"نؤمن نحن المسلمين بالله وبأن ملك الموت يمكن أن يفاجئنا في أي لحظة, أدعو الله دائما أن يمنحني موتة يسيرة من دون معاناة ولا ألم لي ولمن أحبهم وسيبقون بجانبي".

كما يبدو حدث الموت في راديكاليته وكأنه قد يفتح بعض الأفق في اتجاه إعادة التفكير والنظر فيما تعرضه التعاليم الدينية.

تصرح نبيلة (28 سنة، تونس):

"أفكر في الموت ولكن بحسب الحالات . أتساءل ماذا يحدث بعد ذلك أطرح على نفسي الأسئلة، في النهاية لم يعد أحد من الحياة الأخروية ليحكي لنا ماذا يحصل هناك. يداخلنا الشك في بعض المرات حيال ما يقول الدين في هذا الأمر. لا يحدث لي هذا دائما وسريعا ما أطلب الصفح من الله إذا كنت أذنبت. وحتى وإن فكرت في هذا الأمر فإنني أبقى مؤمنة".

رغم أن مثل هذه الحالات تبقى هامشية وقليلة إلا أنّنا نلحظ في هذا الصدد تناغما بين تضعضع السلطة الدينية وقوة هذا الحدث التي تمثل لحظة من اللحظات ولوج الشك لإحدى يقينيات الدين الكبرى. على كل حال، يمثل هذا الشك مسألة استثنائية، ولكن يمكننا القول أنّ صورة يوم القيامة، مثلما هو معبّر عناه في خطابات المستجوبين، مع مشاهدها المخيفة المرتبط بالموت، تدفع إلى الخوف منها بسبب عدم الاستعداد أو بسبب نظرة عدم التوافق بين معيش وسلوكات الحياة اليومية وبين تعاليم الدين في لحظة اللقاء مع الموت. من هنا يأتي ذلك التأرجح لدى خطابات المستجوبين ما بين الطمأنينة التي يكفلها التزامنا بالدين وما بين التردّد وعدم الاطمئنان بسبب عدم القدرة على توقع القدر. عندما ينتقل تفكير الأشخاص المستجوبين إلى التأمل في النموذج المثالي للمسلم "الصالح" وإلى إمكانية تحقيق هذا النموذج على أرض الواقع في سياق الهجرة، تتجلى لنا ثلاثة اتجاهات، قد تكون متعارضة أحيانا مع الرأي الشخصي للفرد.

يرى الاتجاه الأول أنّ الرخاء الاقتصادي ومنافع حرية الرأي والمعتقد المضمونة في المجتمعات الأوروبية الديمقراطية تمثل الشرط الأكثر توافقا مع الممارسة الإيجابية للدين والتي تجعل الفرد مستعدا للموت وهو أمر جيد بالنسبة للمسلم.  أمّا الاتجاه الثاني فينطلق من قراءة للواقع ترى أنّ المجتمع المستقبِل يمنحهم بعض الميزات ويفرض عليهم بعض القيود، بحيث تلغي بداهة الموت وضرورتها ويجعلهم  ينظمون الحياة وفق نماذج وأشكال وأنماط بعيدة عمّا ما هو مرغوب اتباعه ليكونوا متوافقين مع تعاليم الإسلام. أمّا النزعة الثالثة، فترى وفق قراءتها للمنطلق المعيش استحالة أن يكون الفرد مسلما صالحا في سياق الهجرة يجعل هذا الأمر مستحيلا, بسبب الضرورة القصوى لتبرير تخيلهم عن الحياة الإسلامية المثالية. من هنا تأخذ صورة الوسط الأوروبي وأرض الغربة والموت الروحي كل معانيها.

تصرّح جودة (34 سنة، تونس):

"الإيمان في الغرب ضعيف والموت يتبع الاشخاص ذوي الأيمان الضعيف. نحن لا نتحدث عن الموت لان الموت يخيف من يجهل أنه عامل توازن. ولكن أين هو التوازن هنا. نحن نسعى نجري بلا هدف. يحثنا الإسلام على تذكر الموت, على المحافظة على إيمان قوي والاستعداد للموت".

ويصرّح سعيد (40 سنة المغرب):

"لا يغادر الموت ناظري، وزاد الأمر منذ وجودي في إيطاليا وهذا طبيعي فالمهاجرون هم أكثر من يفكر في الموت, نخاف أن يدركنا الموت من دون توديع العائلة, أن نموت فجأة أثناء العمل, نحن نعمل طوال الوقت, نعمل حتى عندما لا نكون في أماكن العمل كما مثل الجنود. وعليه نخاف أن نموت من دون أن نكون مستعدين و لا يمكن أن نكون مستعدين لهذا في إيطاليا. هنا في إيطاليا لا يفكر الناس, يظنون أنهم سيخلدون في هذه الحياة ولكن بالنسبة لنا نحن المسلمين المتمسكين بديننا وبالمناسبات الدينية مثل شهر رمضان … حتى غير الملتزمين يتذكرون الله ومن ثم الموت. ولكن هنا الالتزام بالدين شبه مستحيل حتى بالنسبة للملتزمين دينيا … ينقصنا هنا كل شيء مناخ الدين غائب نحن نعمل ونأمل أننا بعد العودة الى الوطن نحج ونمارس بعدها ديننا كما هو مطلوب منا".

ويصرّح فتحي (43 سنة، مصر):

"للأسف لا يساعدنا المناخ هنا كثيرا, فالموت لا تؤثر فينا كثيرا كما ينبغي, فعندما يموت أحدهم هنا, فإننا لا نشارك في تشييعه, لا نشارك هذا الحدث, طبعا نعيش الحزن قليلا, ولكن سرعان ما ننسى بعد يوم. أما إذا كنا في الوطن حيث يوجد الأقارب, فإننا نعيش اللحظة, نبكي ونصلي وهذا ما يدفعنا لأن نكون على اتصال بالله".

بناء على هذه الاعتبارات، نجد المجتمع المُستَقبِل يبنى على قاعدة تحييد الموت، بينما يكون الموت في المجتمعات الأصلية أكثر حضورا من خلال الطقوس الجنائزية والمقابر وبشكل أعم من خلال التفاعلات الاجتماعية المتولدة عن السياق الذي تجرى فيه إجراءات الموت والدفن وما يرافقه من طقوس. وفي المحصلة، فإنّ بلد الاستقبال لا يسمح أو لا يتيح "موتة مريحة" لأنّه ينفي ويلغي الموت من فضائه. ومن هنا يأخذ مكان الدفن أهميته المتزايدة إلى أن يبدو الخيار المحدد للمعنى الأساسي لكل حياة المهاجر (عقون 2006).

دعوة الأرض الموعودة

ذكر الموت، وإن كان أول ما يثير في الأشخاص المستجوبين هو التوقّف والتساؤل حول الطبيعة المهولة لهذا الحدث وتذكيرهم بالآخرة، مرتبط وبشكل آلي بسيناريو وقدر دنيوي، بحيث يهيمن عليه عودة الجثث الطبيعية للوطن. وينطبق هذا الأمر حتى على من يؤكدون على الجانب الإيجابي لتجربتهم في الغربة والمثبتين لاندماجهم التام، فهم لا شك لديهم بأنّ حسن الخاتمة لا يكون إلا إذا دفنوا في أرض الوطن.

تصرّح خديجة (38 سنة، المغرب):

"يمكن لإيطاليا أن تكون بلدي الأصلي ولكن … لا أدري على أي حال إذا كان هناك فضاءات وأماكن مناسبة لهذا الأمر … ويوجد أيضا الخطاب… فلنغير الموضوع بالنسبة للمساجد لا يوجد ولا مسجد واحد … أنا لو أرى مسجدا حقيقيا في إيطاليا ماعدا مسجد روما الذي بناه السعوديون, لا يوجد بنايات والدولة غائبة والقانون غير محترم وعليه لا يوجد احترام للدين الإسلامي نعم توجد الحرية, المساواة, ولكن على المستوى التطبيقي غير موجود …".

ويصرّح سعيد (45 سنة، باكستان):

"يذكرني الموت بمعلم حيث تنتهي الحياة عندما يموت شخص مسلم يرسل الى بلده الأصلي وهناك يبنى له قبر إسلامي".

تبدو إعادة الميت إلى بلده بديهية لدرجة أنّه بالمقابل لا توجد حتى إمكانية التفكير في بدائل أخرى، وكل إمكانية لبدائل تثير الدهشة والحيرة. . فغالبية الأشخاص يجهلون وجود مقابر إسلامية في بلاد الغربة، لدرجة تجعلها تبدو بعيدة المنال. ففي الوقت الذي نشاهد فيه صعوبة، بل استحالة بناء وإقامة أماكن للعبادة نظرا لما  تواجهه من ردود أفعال رافضة وسجالات متكررة، لا نستطيع التفكير في الحصول على أماكن لدفن موتانا.

يصرح دانجا (32 سنة، ألبانيا):

"قبر محترم ، عادة عندما يموت أي شخص يحضر عشاء لكي يتذكر الموت، ولكن هنا لا يوجد المناخ المناسب هنا يوجد مناخ آخر… معنى حقيقي لهذا المدفن. ربما لا يسمحون هنا في إيطاليا حتى بهذه الطقوس الجنائزية".

من دون أدنى شك، فإنّ تصوّر المستجوبين للواقع هذا يعود إلى تجربتهم المباشرة أو غير المباشرة بمناسبة وفاة أحد المسلمين. ففي تجربتهم الخاصة تتمثل الممارسات، في حالات الممكنة، في زيارة المدفن، في طلب تمويل لسداد المبالغ الضرورية للعودة بالجثة على البلد الأصلي وفي مساعدة عائلة الميت في حالة ما إذا كانت معوزة. يضاف إليها صلاة الجنازة قبل نقل الميت (إلى غرفة المدفن أو إلى المسجد في حال توفره في مكان مجاور) وتناول طعام الجنازة وهو عادة طعام الكسكس في بيت الفقيد أو في المسجد، وهو ما يدل على أن طقس الجنازة سوف يكون على الطريقة الاسلامية وفقا لتقاليد مكان الدفن وهو المكان المتصوّر كمكان الأصل.

يصرّح محمد إمام مسجد بييمون :

"ثمة تضامن كبير بين الناس يتعاونون, نجمع المال لإرجاع الجثة للوطن, هناك من يذهب للمشرحة, وهناك من يريد أن يحضر صلاة الجنازة ولكن يشارك الجميع في العشاء الذي نقيمه سواء في البيت أو في المسجد. اليوم الأمر أكثر سهولة بفضل شركة أحد المسلمين وهو أمر جيد ومفيد بسبب مشاكل اللغة والبيروقراطية الإيطالية وبيروقراطية بلداننا".

من جهة أخرى، يمكننا رصد مجموعة من التعديلات طرأت على طريقة تنظيم الطقوس الجنائزية وترتبط بالدرجة الأولى بسياق دخول الاحتراف المتمثل في شركات الدفن والتشييع كوسيط يتكفل بجزء كبير من الطقوس التقليدية الموكول عادة للعائلة أو الأصدقاء أو للجالية المحلية، وهو ما يشكل تجديدا حقيقيا، وفي الصدد نفسه، قبول استعمال التابوت المفروض وفق معايير الدولة المستقبِلة رغم اختلافه  قليلا عن التقاليد الدينية مما يجعلنا أمام تقدم في سيرورة التكيف بدون الإخلال بعادة إرجاع الجثث الى أرض الوطن.

يصرّح مصطفى إمام مسجد فينيتي:

"وإن كان هناك من المسلمين من وجد له ملاذا في المقابر الإيطالية إلا أن الأمر لا يتعلق إلا بأشخاص هامشيين بلا تاريخ وغير مندمجين في شبكة العلاقات العائلية والجماعاتية للجالية. "مع ازدياد عدد العائلات المتجذرة هنا حتما ستتغير الأمور في السنوات المقبلة. والقلة القليلة من المسلمين الذي ينتهي بهم الأمر في المقابر الإيطالية يكون لأسباب عملية وهم مسلمون إيطاليون ولكن عددهم قليل جدا. وهم في الغالب المواليد الجدد, المتشردون البعيدون عن العلاقات مع الجالية ومن دون عائلة ولا أصدقاء".

يقول مسؤول اتحاد الجمعيات والمنظمات الإسلامية في إيطاليا، وردا عن سؤال وجه له حول هذا الموضوع، بأنّ نسبة الجثث المرسلة للوطن الأصل تقدر بـ 95 بالمائة وهي الفئة التي ترى أن عودة رفات الموتى من بلدان الاستقبال إلى بلدان الأصل تندرج في إطار مسار مثالي ومادي مشحون بممارسات متأصلة ومؤهّلة بفاعلين منتمين لهويتهم بشكل دائم وثابت. من جهة أخرى، تساهم بعض الدول في تغطية مصاريف نقل الجثث، كما تساهم المنظمات الاقليمية (الجهات والبلديات) الإيطالية في جزء من المصاريف، إلى جانب بعض الشركات التي تضمن النقل مجانيا لجثت الجالية الاسلامية على متن خطوطها الجوية، ولكن من جهة أخرى تزدهر المبادرات الاقتصادية مع عقود التأمين التي تقدمها البنوك ووكالات الجنائز (الحلال) مع كل المهن المرتبطة بذلك، وهنا لسنا أمام خصوصية إسلامية، وهو ما تؤكده الأدبيات المتوفرة. فقد توجد حالة مشابهة لدى جماعات إثنية ودينية مختلفة وقد أشار أحد الأشخاص المستجوين لهذا الأمر..

يصرّح رمزي (26 سنة تونس):

"أجل يبعث غالبية المسلمين رفات أعزائهم لبلدانهم الأصلية وأتصور أن الأمر مرتبط بعلاقة كل شخص بأرض عائلته، ويقوم بهذا كل الأجانب وحتى الإيطاليون أيضا. مثلا هنا ( لا أعتقد) أن المسلمين الإيطاليين سيبعثون ليدفنوا في بلدان إسلامية خارج إيطاليا عائلاتهم توجد هنا وهنا يدفنون والارض كلها لله"

لا يعتري أي شخص من المستجوبين شك حول شرعية هذه الممارسة ولا في أنّ إعادة الرفات تدخل في إطار الواجبات الدينية، لذا من الضروري التوقّف هنا عند كيفية طرح هذه المسألة في الفقه الإسلامي، وإن كان يصعب تلخيصها من الناحية الثيولوجية إلا أنّه يمكن أن نؤكد أنّ الموقف الغالب عند المذاهب الفقهية تؤكد كلها على ضرورة تسريع الدفن وأن إكرام الميت تسريع دفنه وبهذا الأمر تنزل عليه الرحمة. وفي المقابل التأخير في الدفن يعني أنّ خطأ ما قد حدث ويمكن أن يصل الموقف بالبعض إلى حدّ أنّ الدفن يمكن أن يكون في الليل في مكان الوفاة نفسه.

انتشرت مع هجرة المسلمين في القرن الماضي، وظهور ظاهرة إرسال الجثث لأرض الوطن، أطروحة هدفت إعطاء شرعية دينية لهذه الممارسة. وفي شكل محاولة تأويلية للنص الحديثي، ربطت التعجيل بالدفن بالخوف من تعفن الجثة، وعليه ترى هذه الأطروحة أنّ تقنيات حفظ الجثث اليوم وسرعة وسائل النقل تلغي هذا المحظور الباعث على التعجيل في الدفن. يضاف إليه حجة ثانية وهي حجة ظهرت من خلال المقابلات بوصفها سببا حساسا بالنسبة للمهاجرين وهو أنّه في الدول غير الإسلامية من غير الممكن أن يتم الدفن وفق قواعد محترمة، ومن هنا تتحول الوضعية الاستثنائية للعيش في الغرب لخرق للتعاليم الإسلامية في هذا المجال. وجب الالتفات في هذا الصدد أنّ هذا الموقف يشكل استجابة تبحث عن الالتزام بالمعيار وسط مجموعة من الإكراهات العملية الممكن التخلّص منها بشكل مغاير، في حين يتقهقر البعد الرمزي للتعجيل في الدفن إلى مستوى أدنى.

أمّا فيما يخصّ مسألة إرجاع الرفاة إلى أرض الوطن، ترجع غالبية المنظمات الإسلامية في أوروبا إلى الموقف الواضح ولحاسم لإحدى التنظيمات التي تعتبر مرجعية في هذا المجال وهو المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، والذي أصدر فتوى خاصة مؤكدا على مجموعة من النقاط تنزع أي شرعية عن هذه الممارسة. يذكر مجلس الإفتاء الأوروبي أنّ الميت ومن اللحظة التي يتوفى فيها تنقطع صلته بالحياة الدنيوية ويصبح منتميا إلى عالم آخر. وفي ذلك العالم، وحدها أعماله الصالحة يمكنها أن تنفعه، وأيا يكن مكان دفنه فلن يتأثر قربها من قبور المخالفين في الدين بأي أثر سلبي على المتوفي سواء كان في مقبرة مكان مخصّص للمسلمين، أو تعذر وجود هذا الخيار، ومن دون عناء صرف مبالغ طائلة على الطقوس الجنائزية. هذا هو الموقف الذي تتبناه المنظمات الإسلامية الرئيسة، وعليه فإنّها لا تفوت أية فرصة لإدراج مطلب تخصيص مقابر إسلامية على لائحة مطالبها للدول المستقبلة للمهاجرين.

ولكن ورغم هذه التوصيات، فإنّه لا يبدو أن ممارسة إرجاع الجثث قد تأثرت بمثل هذه المواقف، غير أنّنا عندما نأخذ رأي الأشخاص المستجوبين حول هذه المسألة ( باستثناء الأئمة) نجد أنفسنا أمام عادة وممارسة قوية ومتجذرة. وفعلا يبدو أنّ هذه الممارسة لا تحيل على سجل ديني بقدر إحالتها لبعد آخر أكثر ارتباطا بها ارتأينا تحديده على أنّه تقليدي. وهي إحدى الحالات القليلة التي تعطل فيها تعلّق التقاليد بالدين من دون أن تنفي التقاليد شرعية الدين، لأنها تتبنى خطا عمليا يخالف صراحة تعاليم الدين.

تظهر في هذا الصدد ممارسة إرجاع الجثث إلى أرض الوطن كتمفصل ضروري لتقليد tradition يجد شرعيته في هذه الممارسة والاستمرارية ما بين الحاضر والماضي في الاستمرارية التي تحملها التجربة. بتعبير آخر، تمثل ممارسة إرجاع الجثث استجابة من طرف المهاجرين لذلك الالتزام وتمسك بالتقاليد وهو ما تحقّقه طقوس الدفن في الوطن لتعويض ما سلبته الحياة في الغربة.

الخاتمة

تتّضح بشكل جلي في هذه المساهمة أهمية ما يتبلور حول رمزية الموت بالنسبة للتوجه الثقافي والديني لمسلمي أوروبا وموقفهم من هذا الحدث. يمكن رصد ما حاولنا أن نبيّنه من خلال قراءة هذه التمظهرات في وجود أنساق معنى عميقة ومتجذّرة ترى في أرض الاستقبال أمرا فارقا وجوهريا لا يمكن تعويضه فيما يخص المعاني الأساسية والنهائية للوجود التي تنبثق عن هذه الانساق.

نلاحظ أيضا بروز إشكاليات على علاقة بما اعتدنا ربطه بمشاكل التضمين الاجتماعي والتثمين الفعلي للمكوّن الإسلامي في المجتمعات التي استقبلت المهاجرين إلا أنّه لا يمكن اعتبارها مكونا قارا، كما سبق معاينته من خلال سلسلة مقابلاتنا، حيث تتولد لدى المهاجرين قناعة قويّة وراسخة مفادها أنّه، ورغم الميزات التي تتميّز بها المجتمعات المضيفة، إلا أنّها تظل تعاني من عجز رمزي ومن شحّ روحي يكون في مستوى امتحان نهاية الحياة والموت، وهو ما يظهر لنا هنا بالشكل الأكثر بداهة.

المسلمون مدعوون في هذا الصدد لمواجهة سياق يدفعهم في اتجاه إعادة التشكّل الدائمة والمسير في خضم شبكة تفاعلات مع المجتمع الذي ينتمون اليه. تتجسد العودة إلى الموارد الرمزية للإسلام إمّا في شكل نزعة محافظة راسخة، أو في كل ممارسات إبداعية يصعب أن نرصد لها منظومة عقائدية منسجمة. وحتى المنظمات الإسلامية الأوروبية التي تعمل على صياغة فقه يتواءم مع السياق الأوروبي الجديد، تجد تعقيدا وصعوبة في الوساطة ما بين الخطاب الديني والممارسات الاجتماعية وأشكال التوافق والإجماع. وهكذا يتبدى لنا في ذلك الأفق الممتدّ ما بين نهاية الحياة ومرحلة ما بعد الموت مجموعة من الضرورات والمتطلبات المتجذرة، فمن ناحية تحيل هذه الضرورات إلى قوة العلاقة بالخلفية التقليدية ومن جهة أخرى تستجيب بفرادة original لأهداف التجربة المعاشة في الحاضر.

يمكننا في هذا الصدد أن نقرأ ظاهرة إرجاع الجثث كحوصلة لهذه الاشكالية. تدل قوة النزوع نحو الدفن في أرض الوطن على غنى في الخلفية الثقافية التقليدية للمهاجرين التي يستشعرون فقدانها، ومن جانب آخر يستشعرون أيضا محدودية تجربة التضمين الاجتماعي في مجتمع الاستقبال. يبدو من وجهة نظر "المسلمين" ، ومن اللحظة التي تنتهي عندها الحياة، أنّ أمرا مهما مفتقد في تجربة الحياة في أرض الاستقبال وهو ما يحول دون اعتبارها منسجمة ومتوافقة مع عالهم الرمزي الأكثر حميمية.

لا تزال الحالات التي يختار فيها المسلمون دفن موتاهم بمحض إرادتهم من دون دواعي اضطرارية نادرة، إلا أن المؤشرات الدالة على تحوّل محتمل في هذا المجال ليست منعدمة. فالتجذر المطرد للمسلمين في الأرض التي هاجروا إليها، بدأ يجعل من اتخاذ أرض الأصل هي أرض الوطن أمرا غير بديهي. هل سندفن في أرض الأجداد أم في الأرض التي ستصبح وطن ذريتنا؟ هل يمكن لشبكة الرموز القديمة والجديدة في طور التشكل أن تأسس لجماعة حقيقية حول القبور ؟ يمكننا في هذا الصدد أن نلمح في إيطاليا تشكل النزعة نفسها التي رصدتها أدبيات المسلمين في المهجر والتي رأى فيها البعض، إما تكهنا أو استشرافا، خطوة حاسمة في طريق الاندماج الكامل للمسلمين في أوطانهم الجديدة.

يمكن أن يتوقف المسلمون على اعتبار أنفسهم مجرد مهاجرين عندما تصبح أرض الهجرة قابلة للتقديس وعليه صالحة لتوفير خاتمة حسنة. ويمكن بالمقابل أيضا للمجتمع الذي استضافهم أن يعتبرهم ضيوفا دائمين. إنّ المشاركة الفاعلة للمسلمين في سيرورة إعادة تشكيل الواقع الاجتماعي من دون تحفظ لا تعنت خصامي يمكن أن تكون مفيدة في هذا المجال وبهذا الشكل يمكن أن يبرز إسلام قادر على الاستجابة لمتطلبات الحداثة المعاصرة والتي يمكن أن تشكل إحدى الموارد الثقافية للفضاء الأوروبي. وبغض النظر عن تاريخها "المجيد"، يمكن أيضا للحضارة التي ازدهرت في أوروبا أن تحتك بعناصر حضارية وافدة تنتقدها وتعيد النظر في أهدافها. وإذا كان من الخطأ أن تمتنع عن قبول إضافة وإسهام رؤية جوانية على علاقة بواقعها، قادرة على مساءلتها وإعادة النظر فيها من موقع التمايز الثقافي في الوقت نفسه فأنّ تطورا من هذا القبيل قد يتبع بالتأكيد تطورا في سياق السياسات العمومية الإيطالية في مجال التعددية الدينية.

يخضع هذا التغيّر قبل كل شيء للتوسّع في الآفاق الإيديولوجية والأفكار المسبقة الثقافية التي أثّرت في النوعية وساهمت بذلك في خلق شعور لدى كثير من المهاجرين بأنّه، خلف تلك الواجهة لمجتمع غني بإنجازاته، فإنّ أرضهم الجديدة تجعلهم يتحسّسون الفراغ الذي يتركه فقدان معنى الحياة.

Bibliographie

Allievi, S. (2014). L’uomo e la morte in Occidente: verso un nuovo paradigma interpretativo. In Corrado Viafora et Francesca Marin, Morire altrove. La buona morte in un contesto intercultuale, Milan: Franco Angeli.

À propos de la pertinence d’internet dans la communication religieuse actuelle, nous renvoyons le lecteur au numéro monographique. Religion and Internet, sous la direction de Daniel Enstedt, Göran Larsson et Enzo Pace (2015). Revue Annual Review of the Sociology of Religion et en particulier aux considérations contenues dans notre article. Islam online. A net-nography of conversion. Annual Review of the Sociology of Religion. 6, 165-182 (2015).

Cf. Ambrosini, Maurizio, Un’altra globalizzazione. La sfida delle migrazioni transnazionali, Il Mulino. Bologne 2008.

Cfr. Cesari, J. (2015). (sous la direction de). The Oxford Handbook of European Islam, Oxford University Press, Oxford: Saint-Blancat Chantal: Italy, in Cesari, J. (sous la direction de), ibid.

Fall, K. ; Mamadou, N.D., (2011). op.cit.

Goffman, Erving. Frame Analysis, Harper and Row, New York 1974.

En ce qui concerne cette notion, voir: Rhazzali, Khalid. M., L’islam in carcere, FrancoAngeli, Milan 2010.

Fatwa n. 21 (2° Collection, III Session) : http://www.juragentium.org/topics/islam/it/pacini.htm#37

Hervieu, L. (1993). Daniéle, La religion pour mémoire, Paris : Éditions du Cerf.

La proposition de cet élément que nous soulignons est probablement dûe à la condition du chercheur, dans laquelle se croisent l’instance scientifique et l’expérience de musulman pratiquant. Il s’agit d’une circonstance qui, bien qu’elle ne soit pas inédite, est néanmoins peu fréquente et dans laquelle le sujet et l’objet de la recherche communiquent étroitement, et, croyons-nous, efficacement.



Notes

[1] En ce qui concerne cette notion, voir: Rhazzali, Khalid. M., L’islam in carcere, FrancoAngeli, Milan 2010.

[2] اهتمامنا بهذا الموضوع يندرج في إطار بحوث منذ عدة سنوات حول الإسلام في أوربا. وهو بحث كيفي يتطور من خلال مقابلات مكثفة وملاحظات إثنوغرافية تتمحور في وجهين اثنين. البحث الأول الذي اجري بين أكتوبر 2012 وفيفري 2013 ، تمت مقابلة 15 إماما في المراكز الإسلامية و15 من الوسطاء المهتمين بالتداخل الثقافي، إلى جانب دراسة ميدانية لمدة شهر في مستشفى "بادو "الإيطالية. والثانية بدأت من جانفي 2015 ولا زالت قيد الدراسة( 20 مبحوثا صرحو بانهم  مسلمون نصفهم نساء) 08 مغاربة ، 03 تونسيين، 03 البان، 03 بنغاليين، 02 مصريين و01 باكستاني) إلى جانب 05 أءمة من مركز شمال إيطاليا (وكانت المقابلة عن طريق اسكايب) ودراسة إثنوغرافية تمت أثناء عملية دفن
في 19 مارس 2015 إضافة إلى استعمال الأنترنيت لمدة 120 ساعة.  

[3] اقتراح هذا العنصر يعود ربما إلى الشروط التي يعيشها الباحث حيث يلتقي الحياد العلمي مع تجربة المسلم الممارس للتعاليم الدينية، مما يجعلنا أمام تعقيدات الذات والموضوع حيث التعامل عن قرب ما يجعل الفعالية تحتاج لجهد كبير.

 [4]هما مفردتان مستعملتان بكثرة  من طرف دعاة "النات" والرسائل الإلكترونية واليوتوب، وتترك أثرًا على المسلمين المهاجرين في تصورهم للموت و التحضير الجنائزي.

[5] Á propos de la fausseattribution de cettemaximeauprophète, noussignalons l’existence de cetteintéressanteanalyse: http://islamqa.info/ar/130847

 

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran
+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11
+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Recherche