Sélectionnez votre langue

جان كلود غارسين، عن تاريخيّة "اللّيالي": "من أجل قراءة تاريخية لـألف ليلة وليلة، باريس، سندباد-آكت سود، 2013، 816. ص

ص 82-85

يحكى أنّه كان في قديم الزمان امرأة دفعت ملكاً نحو الجنون وإمرأة أخرى أعادته إلى الصواب. من منّا لا يعرف الدافع الذي اختير بدايةً لـ"اللّيالي"؟ يشار إلى هذا الدافع ليلة بعد ليلة إلى أن يبلغ السّرد الليلة الأولى بعد الألف وينجح في الأخير كمين حبّ المرأة الأخرى في تخليص الملك المجنون من دوّامة الكراهية القاتلة التي ما كان ليقع فيها لولا مشهد خيانة زوجته الملكة. إنّها إحدى أشهر وأجمل الأعمال الأدبيّة العربيّة بل و العالميّة أيضاً، وهو يحظى اليوم بدراسة جديدة أنجزها المؤرّخ والمستشرق الفرنسي جان كلود غارسين[2] في كتاب صدر له حديثاً عن دار "سندباد-آكت سود" الفرنسيّة، تحت عنوان "من أجل قراءة تاريخيّة لـ"ألف ليلة وليلة""[3].

توحي كلمات العنوان إلى أنّ الباحث سعى إلى وضع "الليالي" في سياقها التاريخي الخاصّ أي في وسطها وزمنها، وهذا على أيّ حال هو مسعى كلّ عمل تاريخيّ. فماذا إذن لو تعدّدت الأوساط والأزمنة كما هي الحال بالنسبة لـ"الليالي"؟ ما موقف المؤرّخ من موضوع ينتمي إلى المخيال وإلى الثقافة الشعبيّة؟ كيف يتعامل مع موضوع كهذا لأن يلِمّ به؟ بصيغة أخرى، أيّ معنى تاريخيّ يمكن أن يستخرج من حكايات وقصص أوجدها الآخر؟ يقترح جان كلود غارسين ردّاً عن هذه التساؤلات في دراسته هذه تحليلاً تاريخيّاً نادر الجودة والجديّة لا لقصص "ألف ليلة وليلة" جملةً وإنّما لطبعة بولاق للكتاب التي يعود نشرها إلى عام 1835، معتبراً أنّها الطبعة الوحيدة التي يستطيع المؤرّخ أن يستند إليها "كموضوع تاريخيّ ينحدر من الوسط المصريّ" وهذا على الرغم ممّا جاء فيها من "أخطاء مطبعيّة وغيرها من نقائص".

بدءًا، يقودنا غارسين في البداية إلى أجواء مطبعة بولاق في ثلاثينات القرن التاسع عشر حيث كان نشاط المطبعة يدور حول التراجم المكثّفة لكتب مهنيّة نقلت من اللغة الفرنسيّة بصفة خاصّة، بالإضافة إلى كتب مدرسيّة لقواعد اللغة وأخرى دينيّة. لكن يبدو أنّ الفترة تميّزت أيضاً بارتفاع نسبة بيع كتب الحكايات والطرائف وفي مقدّمتها كتاب "ألف ليلة وليلة"، في العام 1835، ثمّ، في سنة 1836، "كتاب كليلة ودمنة".

يحدّثنا غارسين، إلى جانب ذلك، عن ما سمّاه "مؤلّف بولاق" وهو شيخ قاهريّ لا نعرف له إسماً، يكون قد مات حوالي 1781، وقد ورد ذكره في "يوميّات سفر" الرحّالة الألماني سيتزن[4] التي دوّنها سنة 1807. يقتفي غارسين خطى الشيخ المجهول ويخبرنا أنّه هو الذي انتقى الحكايات التي تتألّف منها "الليالي" وضبط تنظيمها ثمّ تسلسلها، فيما يتتبّع القارئ المؤرّخَ في بحثه ويكتشف كيف أنجز "مؤلّف بولاق" هذا العمل وفقاً لأيّ معايير، حوالي خمسين عاماً قبل صدور طبعة 1835.

يقول فلاديمير بروب في كتابه "بنية الحكايات": "لا شكّ أنّنا نستطيع دراسة الظواهر والأشياء التي تحيطنا من حيث تكوينها وبنيتها، وكذلك من حيث أصلها أو عبر المسارات والتحوّلات التي تؤثّر عليها. لكن ثمّة بداهة أخرى تستغني عن كلّ إثبات وهي أنّه لا يمكن الكلام عن أصل ظاهرة، مهما كانت، قبل وصفها"[5]. هكذا إذن يتناول غارسين طبعة بولاق لـ"الليالي" بالوصف والتحليل. من جهة، يتابع مسار الحكايات بصرامة، متّخذاً المسافة اللازمة وكلّ الإشكال يكمن في تأريخ زمن ظهورها. ومن جهة أخرى، ينتقد، لكن بكامل الحياد، أعمال المستشرقين والباحثين العرب الذين اهتمّوا بدراسة "الليالي".

بالموازاة، يؤكّد غارسين على أهميّة وضع "ليالي" بولاق تحت مجهر الاستقراء التاريخيّ ليس فقط لتسليط بعض الأضواء على تطوّر المناخ الثقافي والمناخ الفكري للوسطَين السوري والمصري، ما بين القرن الخامس عشر والقرن الثامن عشر، بل أيضاً لتعميق معرفة تاريخ نصّ معقّد من حيث البنية والدوافع. فحكايات "ألف ليلة وليلة" متشابكة إلى أقصى درجات التشابك، وما قام به غارسين هو تفكيكها انطلاقاً من محاولة فهم نوايا "مؤلّف بولاق" ثمّ ناشِر بولاق سنة 1835، الشيخ عبد الرحمن الصفتي الشرقاوي (توفي سنة 1848).

إنّ هذا الكتاب هو نتيجة مشروع طويل النفس ولقد أراده جان كلود غارسين تكريماً للأستاذ والباحث الرّاحل باتريس كوسوني (1952-1989) الذي كان غارسين قد حفّزه منذ ما يفوق الخمسة وعشرين عاماً على القيام بدراسة تاريخيّة عن "اللّيالي". وفعلاً، بدأ كوسوني آنذاك يحقّق أمنية غارسين فنشر سنة 1985 مقالاً يحمل العنوان نفسه الذي تمّ اختياره اليوم للكتاب الحالي[6]. وفي سنة 1988، نشر كوسوني تقرير بحث نقديّ يتناول طبعة "مخطوطة غالان" لمحسن مهدي[7]. ولذا يشرح غارسين في توطئة كتابه أنّ ما دفعه إلى تشجيع كوسوني على إخضاع قصص "ألف ليلة وليلة" إلى مقاربة تاريخيّة هو بالضبط عدد المخطوطات الكبير جدّاً للكتاب، بل ولكلّ حكاية من حكاياته على حدّة.

بعد وفاة كوسوني، ظلّ المشروع متوقّفاً إلى أن قرّر غارسين، قبل ستّ سنوات، استئنافه ولم يكن يدري حينها إلى أين يقوده إبحاره في "اللّيالي"، إذ لم يكن يتوقّع أنّه يعيد "وضع تأريخ جديد للنصوص" التي استقرأها وقارنها فيما بينها أو أنّه يقدّم "شرحاً مختلفاً للهدف الذي كان يتابعه من تكلّف بجمعها". وهنا، تكمن بلا شكّ، أصالة هذا العمل الفريد من نوعه.

على غرار أستاذه المؤرّخ الفرنسي الشهير، كلود كاهين (1909-1991)، وبعد أن كرّس حياته لتاريخ العالم الإسلامي في العصور الوسطى، يبرهن جان كلود غارسين في كتابه الأخير هذا على معرفته الدقيقة بالمصادر والمراجع وسعة إطلاع عليها. يطرح التساؤلات والإشكاليّات بكامل الموضوعيّة والتواضع لدرجة أنّه يصرّ على الاعتذار من زملائه في علم الأدب ما إن أثارت النتائج التي توصّل إليها، بصفته مؤرّخاً، معارضتهم أو تحفّظهم. ذلك أنّ ما وصل إليه يتناقض حتماً مع الصورة التي وُضِعت لـ"الليالي" منذ النصف الأوّل من القرن العشرين. لكن سرعان ما يقتنع القارئ بأنّ هذا الكتاب لم يسعَ أبداً إلى التقليل من أدبيّة " ألف ليلة وليلة" أو إلى نفيها بقدر ما سعى إلى البحث عن الحقيقة التاريخيّة لموضوع تاريخيّ وإلى إيجاد تسلسل معقول للأحداث التي طبعت سياقه الخاص.

هكذا يعمل كتاب جان كلود غارسين "من أجل قراءة تاريخيّة لـ"ألف ليلة وليلة" على كسر الحدود بين الآداب والتاريخ بهدف إثراء حقل معرفتنا لماضي نصّ يستحقّ، ككلّ النصوص التي تنتمي إلى التراث الإنساني، أن تتّسع آفاقه بدلاً من أن تنحصر داخل فضاء فكريّ واحد.

أسماء هند طنقور


الهوامش

[1] Garcin, J.-C. (2013), Pour une lecture historique des Mille et Une Nuits, Paris, Sindbad Actes-Sud, 816 p.

[2] جان كلود غارسين أستاذ شرفيّ بجامعة "أكس أن بروفانس" الفرنسيّة، حيث كان يدرّس التاريخ الإسلامي وبالأخصّ تاريخ مصر في القرون الوسطى. من ضمن أبحاثه العديدة، نذكر هذين المقالين الذين صدرا مؤخّراً:

Garcin, J.-C. (2009), « Approche ottomane d’un conte des Mille et Une Nuits : ‘‘Ajīb et Gharīb’’ », in Mélanges en l’honneur d’André Raymond, Iremam/ IFAO, p. 315-337 ; « Approche ottomane d’un conte des Mille et Une Nuits : ‘‘Umar al-Nu‘mān’’ », in Annales islamologiques, n° 44, 2010, p. 237-293.

[3] يشمل الكتاب كلمة شكر، فاتحة بقلم المستعرب الفرنسي الشهير، أندريه ميكال (André Miquel)، توطئة، مقدّمة تتكوّن من إحدى عشر جزءً، ثلاثة فصول رئيسيّة واثنتا عشر فصلاً فرعيّاً، خاتمة تضمّ أربعة أجزاء، هوامش، مصادر وبيبليوغرافيا، قائمة رموز للمخطوطات، جدول شرح للوحات، جدول للحكايات حسب طبعتي بولاق وبريسلو (Breslau)، فهرس للحكايات والقصص، وينتهي بإشارة إلى الزملاء والباحثين الذين ساهموا بمساعدتهم في هذا الكتاب.

[4] Seetzen, U.-J. (1767–1811), Reisen (Journal de voyage), Berlin, Kruse and Fleischer, 1854-59.

[5] Propp, V. (1970), Morphologie du conte, Paris, du Seuil, p. 11.

[6] Coussonnet, P. (1985), « Pour une lecture historique des Mille et Une Nuits. Essai d’analyse du conte des deux vizirs égyptiens », in Institut des Belles Lettres Arabes, n° 48, p. 85-115.

[7] Coussonnet, P., « Muhsin Mahdī, The Thousand and One Nights (Alf Layla wa-Layla) from the earliest known sources », in Bulletin critique des Annales islamologiques, n° 5, p. 15-18.

 

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran
+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11
+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Recherche