Sélectionnez votre langue

تصوّرات المغاربي لحرمة داره

إنسانيات عدد 37 | 2007 | المعيش، التمثلات والمثاقفة | ص49-66| النص الكامل


Domestic representations in North Africa

Abstract: This contribution concerns symbolic representations of the North African domestic space. This seems to be at the heart of a set of behaviour and customs which watch over and protect the private sphere of “the Horma” (respect) from the indiscrete eyes of strangers. Many conflicting relations are certainly due to this vision that the north African has of “his” space.

Keywords : representation - space - home - “Horma” (respect) - privacy.


Slimane BOUMEDIENE : Maitre de conférence, Doyen de la Faculté de Droit et des Sciences Sociales à l'Université de Skikda.


 

سواء سكن الإنسان في كوخ أو في قصر، على كرسي في حديقة عامة أو على قارعة الطريق، فإن "لمأواه" هذا رمزية خاصة، ذلك أن الإنسان كان دائما و لا يزال يرتبط بالمكان، حتى أنه أصبح بإمكاننا أن نقول "قل لي أين تسكن و كيف تسكن، أقول لك من تكون".

في بداية القرن السابق كان المسكن يعني الوسـط الجغرافي الخاص بنوع حيواني أو نباتي معيـن، و لكن مع بداية القرن العشرين أصبح هذا المصطلح يعنى طريقة تنظيم و إعمار الإنسان للوسط الذي يعيش فيه، و حديثا تطور المصطلح مرة أخرى فأصبح يعني مجمل ظروف المسكن، و الذي يجب أن يستجيب لثلاثة احتياجات و هي خلق وسط ناجع تقنيا و ضمان إطار للنظام الاجتماعي القائم و ترتيب الكون المحيط بنا من خلال نقطة ما و هي المسكن[1] .

تشير الدراسات حول مفهوم المسافة أن هناك قواعد تحكم إقامة العلاقات تعرف بقواعد التجاور (Les règles de proxémie) و هي قواعد ثقافية تحدد المسافة الفيزيائية المناسبة في إقامة العلاقات بين الأفراد، و تبين أن المسافة الفيزيائية ليست في حد ذاتها عاملا حاسما و لكن القواعد التي تحكمها حسب طبيعة العلاقة هي الأهم. فقد أبرزت دراسة سومر (Sommer)1969 أثر المسافات على بناء العلاقات و قاست ردود أفعال الناس أمام غزو الآخرين لحميميتهم، فلقد تبين أن 60% من الناس يغادرون المقاعد العمومية إذا ما جلس إلى جانبهم شخصا لا يعرفونه و كانت المسافة بينهما حوالي 15سم، حيث يغادرون مقعدهم بعد ربع ساعة من وصول "الدخيل"، فالناس لا يدخلون في علاقات إجتماعية إذا ما شعروا أنهم مهددون بانتهاك فضائهم الشخصي. كما بينت دراسة ألتمان و تايلور و ويلر (Altman, Taylor et Wheeler)1971 أن بناء علاقات اجتماعية يرتبط بما يشبه العقد يبين الحدود المتبادلة[2].

بناء على ما سبق ذكره، ما الذي يجعل الرجل العربي أكثر حرصا على فضائه الشخصي، و خاصة بيته؟ و ما هي الخلفيات الثقافية التي تقف وراء سلوكه؟ و ما هي الأساليب التي يلجأ إليها من أجل صيانة حرمة داره؟

يحظى البيت العربي الإسلامي كما هو معروف بقدسية خاصة تعرف أيضا بالـحُرمة و هو مفهوم أساسي في الحياة العائلية.و لمصدر الكلمة حـرم معنيين، المعنى الأول و يشير إلى المقـدس و الشرف و المعنى الثاني يشير إلى الحرام أو الممنوع. و كلمة حرام هي عكس الحلال الذي يعني المباح و المتاح أي عكـس الممنوع و المقدس.و يرتبـط مفهوم الـحُرمة عادة بالمنزل و المـرأة و الحميمية و الكرامة و النزاهة و ما هو جنسي، إنه يرتبط بشرف العائلة.

و قد اعتبرت تيليون(Tillion) الحرمة كنوع من "التقديس الوحشي للفضاء"، و بالنسبة لرابابورت(Rappaport) فإن "المنزل علبة وظيفتها الرئيسية هو إيواء و حماية ساكنيها و محتواها".

و لذلك فإن دخول المنزل العربي- الإسلامي يخضع لشفرة سلوكية معينة، منها الكلام بصوت مرتفع للإعلان عن القدوم، و قد يلجأ الزائر إلى التصفير أو السعال أو إرٍسال طفل صغير، كما يلجأ أحيانا إلى الضرب على الباب مع الانسحاب قليلا و النظر بعيدا إلخ....

أما كلمة (دار) فمن فعل دار أي أحاط، و توحي لأول وهلة بفكرة السياج و تعيين حدود الفضاء، و تعني المسكن أو المنزل.

أما مارسي (Marçais) فيعرف الدار على أنها فضاء تحيطه جدران أو بناءات أو خيم بدو رحل متجاورة الواحدة إلى جانب الأخرى في شكل دائري. و يعرف مجموع هذه الديار بالدوّار في شمال إفريقيا.

و كان أول منزل عرف في الإسلام هو منزل الرسول صلى الله عليه و سلم الذي بناه عند وصوله إلى المدينة، حيث بناه لأهله و ليكون مركزا لاجتماع المؤمنين، و كان من أهم سماته إحاطته بأسوار.

إن المنزل الإسلامي على غناه يعطي انطباعا خارجيا على أنه متواضع و معتدل، فأسواره عارية، بها باب مغلق في الغالب و نوافذ ضيقة و قليلة، و تبدو ساحة المنزل كأهم جزء في المسكن برمته.

إن مخطط المنزل العربي يحتوي غالبا على ساحة داخلية تعرف بأنها مركز المنزل و تحيـط بها غرف و ذلك تبعا لمكانة هرمية محددة.

و يرى بعض الباحثين أن المنزل ذي الساحة المركزية في الوسط هو إرث عتيق يعود إلى العصر اليوناني الروماني و الذي ورثه هو الآخر من حضارة ما بين النهرين، و هذا النمط المعماري يفضل السكن في "ترتيب ضيق" حيث تنتظم الغرف حول فضاء مركزي. و حسب ديفونتان (Desfantaine)، فإن هذا النمط مشتق من الفيلا الرومانية و لا ينتمي حسب رأيه إلى العالم العربي الإسلامي، ولكنه يعطي للحياة الإسلامية إطارها المثالي،إذ أنه يتكيف مع المفهوم الأبوي للأسـرة و يركز على السرية التي يحيط المسلم بها حياته الخاصة. و في هذا الإطار حذر إيبرت (Ibert)من خطورة استعمـال مصطلحات مثل "المدينة الشرقية" أو المدينة الإسلاميـة أو المدينة العربيـة، و الخلفيات الإيديولوجية التي تقف وراءها، فسواء تعلق الأمر بالمدينة أو المنزل فإن من الحيطة التخلص من الأفكار المسبقة و التسميات غير المراقبة، حتى نتمكن من فهم خصوصية كل فضاء في إطاره الاجتماعي و الثقافي[3].

و هذه بعض ملامح البيت المغاربي:

أولا- المنزل فضاء مطمئن

ليس من الصعوبة ملاحظة أن المنازل التقليدية المغاربية لا تتوفر على فتحات خارجية ظاهرة للزائر، ففي الحالات النادرة التي نجد فيها نافذة تطل على الشارع، فإننا نلاحظ أنها محاطة بشبـاك و مغلقة دائما، أي تكاد تكون بدون فائدة. أما الباب فلا يحمل أي معالم زخرفة تنبئ عن الرفاهية الداخلية الموجودة لدى بعض العائلات، و في الحالات القليلة التي نجد الباب فيها منقوشا نجد معلقا عليه "خمسة" أو "حدوة حصان" لحماية المنزل من العين.

فمنذ الانطلاق يلاحظ أن العناية التي تحظى بها الواجهة الخارجية توحي بالتحفظ و التخوف حيال كل ما هو خارجي عن الفضاء المنزلي، فلو انتبهنا قليلا لوجدنا أن ساكني المنزل يتحفظون في الاتصال مع أي كان خارج عتبة بابهم، فمن مدخل المنزل نلاحظ ذلك الإغلاق المحكم للفضاء الداخلي، لذلك يلاحظ اندهاش كثير من الأوروبيين الذين يزورون المنازل المغاربية للفارق الشاسع بين المظهر الخارجي للمنزل و كرم الضيافة التي يتميز بها ساكنوها. و من جهة أخرى فبمجرد فتح الباب فإن ذلك لا يؤدي بنا مباشرة إلى ساحة المنزل إلا في حالات نادرة، بل نجد رواقا داكنا مكوعا (Coudé) في غالب الحالات، يمنع الزائر من انتهاك حرمة المنزل بنظراته الفضولية، هذه الاحتياطات الأولية لا تتوقف هنا، فالساحة و المنزل من الداخل يكونان موضع احتياطات أخرى، فإذا كان الزائر من غير الأهل المقربين، فإن عليه أن ينتظر سواء في الرواق أو عند الباب ريثما تخلي النساء الساحة و تختفين عن الأنظار، و تمارس هذه الطقوس أحيانا مع ذوي القربى إن كانت العائلة شديدة التقليدية، كما تمارس هذه العادات في الأرياف و المدن على حد سواء، فلا أحد يريد أن ينظر الآخرون إلى زوجته.

لهذا السبب أيضا لا يوضع الضيف عند مدخل صالة الاستقبال و هذا لمنعه من أن ينظر و لو لا إراديا نساء الدار، لذلك يطلب منه الجلوس في عمق البيت بدعوى أن المكان هناك أكثر راحة.

احتياطات تبدو لأول وهلة مبالغا فيها و بلا جدوى، و لكن في ذهن المغاربي التقليدي فإن المرأة يجب أن تصان حتى في بيتها و في ذلك علامة على "تملكها"، و مثل هذه الاتجاهات تشعر صاحبها بالطمأنينة، فالمرأة تشعر بالحماية، أي حماية الزوج أو أي ذكر من أسرتها، و هذا الأخير يبرر لنفسه سيطرته عليها و يلعب بالتالي دور "المالك(Le propriétaire) ".

و يمكن أن نلاحظ بسهولة أن مشاعر "الحرمة" و "التملك" تزداد عند الزواج، فالرجل المغاربي قبل زواجه يظهر على أنه حامي الحمى أي حامي إناث المنزل (الأم، الأخوات، العمّات...) فسواء كانوا ريفيين أو حضريين فإن الرجال يبدون "ذكورتهم" عند الزيارات التي يقوم بها الرجال الأجانب لهم، ولكن عند الزواج يكتسب هذا الدور قوة إضافية، حيث يصبح يسمى الرجل "مول الدار" أو سيد المنزل، مع الإشارة أن اللقب مولات الدار الذي يعطى للمرأة المتزوجة لا يعطيها عادة نفس الامتيازات مثل الرجل، كمفهوم الملكية مثلا.

و تجدر الإشارة هنا أن الزواج يعزز خضوع المرأة لزوجها و لأهل زوجها لاحقا و يعزز بالتالي مفهوم "التملك" عند الرجل و بشكل مضاعف، لأن عليه منذ ذلك الحين أن يحكم زوجته من جهة و يحكم التنظيم الفضائي و المادي لذلك المنزل، و هذه الوضعية تتطلب وسائل حماية أخرى للتدليل على حضوره و على عدم قابلية فضاءه المنزلي للانتهاك.

لذلك نلاحظ أن الأيام و الأسابيع الأولى التي تلي الزواج في الأوساط التقليدية تتميز بإجراء بعض التعديلات و التهييئات لحماية المنزل من نظرات المارة. كما نجد في كثير من المنازل التقليدية ما يشبه العلب الخشبية التي تعلو باب الدخول، و هي نوافذ صغيرة بها ثقوب تسمح للنساء من أن ينظرن إلى الخارج دون أن يراهن أحد، أما خروج المرأة إلى سطح المنزل (إن وجد) فيخضع لمراقبة قوية من طرف الزوج أو ذكور المنزل.

و هكذا يتضح أن المغاربي بشكل عام، خاصة إذا كان حديث الزواج يريد أن يضمن أن فضاءه الداخلي المنزلي محمي من النظرات.

 لقد عبرت جرمان تيليون(Germaine Tillion) عن ذلك في كتابها الحريم و أبناء العمومة بقولها «ليس هناك شيء أكثـر كشفا للمجتمـع المغاربي من المظهـر الفيزيقي المادي للقريـة و الـدوار و المنزل العربي الحضري، فحول هذا المنزل نجد أسوارا عالية بلا نوافذ تحفها زجاجات مكسـرة، و حول القرية، نجد كل الدفاعات الطبيعية، من الخنادق إلى الشوك الهندي الذي يحيط الخيم، إلى قطعان من الكلاب المتوحشة، و لكن أكثر من توحش الكلاب نجد ذلك "التقديس(Sacralisation) " للمكان و الذي تقترن حمايته بالشرف أو "الحرمة"».

إن تحليل الوصف الدقيق للباحثة تيليون يكشف عن أهم ما ينم عليه فكر المغاربي و خاصة التقليدي منه، فهو لا يريد الاتصال بما هو خارجـي، و تعتقد الباحثة أن هذا الاتجاه قديم جـدا و يميز دول حوض المتوسط خاصة الجنوبية منها و الذي يتمثل في "الحفاظ كل بنات العائلة لذكور العائلة".

إن هذا الإرث الثقافي هو الذي يفسر لنا ربما تلك الحساسية الزائدة لهذا الرجل المغاربي نحو كل ما يمثل انتهاكا لفضائه الداخلي، فهذا الرجل خاصة المتزوج يريد أن يضع معالما على فضائه المنزلي بختمه الشخصي أو بحضوره.

و تشير الدراسات التاريخية أن هيرودوت Hérodote و هو أقدم إثنوغرافيي المغرب، أنه ذكر في أحد كتاباته عن شعب يغرس عصا أمام المكان الذي سوف يتزوج فيه بامرأة، و مثل هذه الملاحظة لا تتركنا محايدين، إذ يتضح أن هناك علاقة بين الجنس و الزواج و الفضاء، و لذلك فالاعتناء برسم الحدود المنزلية عند زواج المغاربي هي امتداد لممارسات اجتماعية ضاربة في القدم.

إن وضع علامات على المنزل تعطي للرجـل نوع من الكبرياء، كبرياء تملك شيئين و همـا المنزل و الزوجة، فالأول لا يصبح فعلا ملكا إلا بوجود الثاني أي بالزوجة (لذلك نقول لمن لم يتزوج: واكتاش تدير الدار).

و لأن الرجل لا يستطيع أن يضرب رقابة لصيقة على المرأة طول النهار فإنه يحول مجهوده نحو المنزل بوضع الحدود و غلق المفتوح و الحماية المبالغ فيها أحيانا[4].

و لقد عزت تيليون مبالغة المغاربي في حماية فضائه إلى تطور لسلوك قديم ورثه عن حياة البداوة، إذ تقول "أن البدوي الذي اغتنى و أصبح محروما من الحماية التي توفرها له تلك الصحاري الشاسعة وحرم من الدعم اللامشروط للإخوة و أبناء العمومة قد عوض ذلك بسلسلة من أنواع الحماية التي أتاحتها له إمكانياته و خياله و هي القضبان الحديدية على النوافذ، و الأقفال المعقدة، و الكلاب المتوحشة و المخصيين....و الحجاب".

ثانيا- حرمة البيت كحرمة الجسد

هناك تقليد يمارس في مراكش عشية شهر رمضان، حيث يدخل أولاد الحارات المتجاورة في معارك بالحجارة و القضبان و كل يحاول بكل إمكانياته حماية "إقليمه"، و يعتبر منتصرا الفريق الذي يجرح واحدا على الأقل من الفريق الآخر و يدخل حيه و يشرب من "العين" الموجودة عنده.

و يتم ذلك أمام "سكوت مريب" للأولياء فيما يمكن أن نعتبره تشجيعا أو تواطؤا رمزيا لحماية الحـي[5].

و في هذا دليل على امتداد الفضاء المنزلي المادي ليصبح معبّرا رمزيا عن الجسم، و إلا فما معنى اعتبار جرح واحد من الفريق المنافس و سيلان دمه شرطا من شروط الانتصار؟ لذلك فلا غرابة أن نجد تسميـات الفضاء وقد استلهمـت من الجسم كقولنا "صدر البيت"، "فم الباب"، "راس الدار"، و في هذا السياق تشير نظريات علم النفس أن الفرد يقيم أول علاقاته مع العالم الخارجي بواسطة جسمه، و يبدو أن الناس لا يسقطون بعض أجزاء أجسامهم إلا على الفضاءات الضيقة نسبيا مثل (البيت، الدار، الدرب)، و عليه فإن كل من الجسم و الفضاء الخاص غير قابلان للانتهاك، إذ يقال مثلا في الجزائر هل قطعولك صرتك في هذا المكان، و الذي يعني أن الفرد يبقى مرتبطا بالمكان الـذي ولـد فيـه.

و يمكن أن نستنتج من كل العادات و التقاليد المغاربية أن إسقاط صورة الجسم، و حتى و لو كانت مجزئة على الفضاء المنزلي تستجيب لدافعين:

أولا- إن المنزل كثيرا مـا يتم دمجه أو خلطه في أذهـان المغاربيين بالزوجة، و كثير من المثقفيـن و الأميين عندنا يشيرون إلى زوجاتهم بقولهم الدار للإشارة للزوجة، و انتهاك حرمة احدهما تساوي انتهاك حرمة الآخر، بل نجد أن حرمة الدار أحيانا لا تكتمل إلا بالزواج أي بمجيء الحرمة الثانية.

ثانيا- إن المنزل هو الأفق الوحيد (في العائلة التقليدية على الأقل) الذي تستطيع فيه المرأة أن تحصل فيه على استقلاليتها و فرديتها، و تحصل بالتالي على لقب (مولات الدار) و لا ينافسها في ذلك مول الدار، لأن هناك تقسيم ضمني لأماكن السيطرة و التحكم أي أن الفضاء الإجمالي يتم اقتسامه إلى نصفين، المنزل نصف (وزارة الداخلية حسب تعبير البعض) و كل ما هو خارج عنه هو النصف الثاني و خط التماس بينهما هو عتبة الباب، و ما الاحترام و العناية التي تلقاها العتبة من الرجال و النساء على حد سواء سوى دليل على أهميتها الرمزية، و هو ما نلاحظه بسهولة في كثير من طقوس الدخول و الخروج ( كدخول العروس، أو خروج مهاجر...إلخ).

فالرجل يقضي معظم وقته خارج بيته و يكون "راجل مع الرجالة"، حسب التعبير الشائع، والمنزل هو مكان يغادره صباحا و لا يعود إليه إلا لقضاء حاجات ضرورية كالأكل مثلا، فهو مكان النساء، و المكوث به كثيرا قد ينقص من رجولتـه[6].

ثالثا- العتبـة و طقوسهـا

كما أسلفنا فإن كل الفن المعماري العربي- الإسلامي و البربري يدور في مجمله حول فكرة صيانة حرمة الدار، ففي هذا الإطار تشير التقاليد في منطقة زوارة بالجزائر (منطقة القبائل الشرقية) أنه لا يحق لأحد دخول أي منزل إن لم يكن مدعوا إليه، و في إحدى قوانينهم يتعرض الفرد الذي يتجاوز "عتبة" باب منزل دون موافقة صاحبه إلى غرامة، و في نفس هذا القانون فإنه إذا قتل سارق داخل منزل، فإنه لا يحق لأهله أن يأخذوا بثأره، و هو ما يخالف التقاليد المعمول بها بشأن حالات القتل الأخرى، و تشير الدراسات أن كثير من جرائم الشرف بهذه المنطقة ناجمة عن التجاوز غير المسموح به لعتبة الباب[7].

كل أوصاف البيت العربي الإسلامي و حتى البربري تؤكد على أهميـة الفضـاءات الوسيطـة (Les espaces intermédiaires)، فالبيت بلا عتبة كالمرأة العارية يقول المثل البربري. فالمساكن التقليدية الجزائرية تفصل بينها عتبات و أحواش، فمثل هذه المنازل صممت لإيواء أكثر من عائلة واحدة في آن واحد (أي عائلات زواجية و لكل منها كانونها) حتى و لو كان لها مدخلا واحدا، فلمثل هذه الفضاءات وظائف انتقال و توزيع، إذ أنها تعطي مزيدا من "الحميمية" للعائلة، فهي على رأي فيرول(Virolle) مكملة و معززة للفضاء - العتبـة-.

يسمى الحائط الذي يحمي المنزل بالبربرية - أفراق- (من الفعل فرق أو قسم) و يحدث أن تفرق في منطقة القبائل الأزقة التي لا مخرج لها (Les impasses) عن الشارع الرئيسي بباب كما هو الأمر في الدرب الحضري، و يغطى أحيانا "لفراق" في هذه الأزقة بسقف يعطيه شكل منزل صغير يسمى - أسقيف- و هو المكان الذي تنعقد فيه جمعيات أهل القرية.

رابعا- توجيه الأبواب و العتبات

يقول المثل الشعبي الجزائري "البناي يبني و مول الدار يعرف لوين يحل باب دارو" أي أن صاحب الدار يعرف أحسن من أي شخص آخر ما يجب عمله و ما يلائم حرمة منزله، فالبـاب و قد تم تصميمه فإنه لا يمكن تحويله بعد ذلك بسهولة، لذلك يكتسي تحديد مكان الباب أهمية بالغة، و من الأعراف المتداولة تصميم باب واحد يدخل و يخرج منه أصحاب المنزل و حتى مواشيهم، إذ كثيرا ما يشبه الناس الدنيا بمنزل له بابان، حيث يدخل الإنسان من باب و يخرج من الآخر، و لذلك لا يرغب في المنزل ذي البابين لأنه نذير شـؤم.

كما يفضل الناس في الغالب توجيه أبواب منازلهم نحو الشرق أي نحو الكعبة لقدسيتها بالنسبة للمسلمين، كما توجه الأبواب إلى هذه الجهة لتجنب الرياح و الأمطار و بالتالي تلتقي المصلحة بالقدسية في هذا التقليد.

يعتقد الشاوية في الأوراس أن الباب يجب أن يوجه نحو الشرق معتقدين أن كل ما يأتي من الغرب هو نذير شؤم، و نفس هذه الملاحظة قام بها ليبو Libaud عند بني عيسى في الجنوب التونسي حيث يفتح الباب باستمرار على الشرق سواء كان الحوش دائريا أو مربعا.

و دائما في إطار الحفاظ على حميمية المنزل فإنه يوجد ببعضها باب خلفي صغير يفضي إلى ساحة صغيرة خلف المنزل، يعتبره البعض بابا للنساء حيث يستخدم المكان لأنشطة متعددة و كثيرا ما نجد به "بيت الراحة" أو دورة المياه.

كما يرمز الباب عادة إلى الدخول إلى السعادة، ففي كثير من عبارات التمني في ثقافتنا نجد عبارة "الله يفتح عليك" أو عبارة "باب العيشة مفتوح"، "الباب مفتوح و الرزق على ربي"، "يا فتاح كل باب أفتح في وجوهنا الأبواب".

و في نفس هذا السياق تشير الملاحظات الميدانية أن التقاليد تملي خلع الحذاء عند الدخول إلى المنزل، حيث يخلع بالضبط عند عتبة الباب أو بعيدا بعض الشيء داخل المنزل أي في الجزء المخصص للاستقبال، حيث نجد غالبا سجادا (زربية) تقابل مدخل الغرفة. و لقد أشار دوبول(Depaule) أن مثل هذا التقليد يوجد في كل من المسكن التقليدي و حتى الحضري "إن غرف المسكن تشبه غالبا المنزل داخل المنزل، فلكل غرفة عتبتها و التي تميزها عادة أرضية الغرفة، أو نوع الفرش الموضوع بها"، و هذا يعني أننا نجتاز مقاطع(Séquences) في دخولنا إلى المكان، إنه نوع من الهرمية في الفضاءات الداخلية و التي تبدأ بالعتبة الرئيسية و تنتهي فـي - صدر- الغـرفة[8].

و من جهة أخرى يجب الإشارة أن العتبة لا ترمز باستمرار إلى السعادة، بل قد ترمز أحيانا إلى التعاسة، فتغيير العتبة مثلا يرمز إلى تطليق المرأة، كما حدث في قصة إبراهيم عليه السلام مع زوجته.

يشير مصطلح العتبة في بعض الأحيان إلى المنزل بكامله، إذ يقال مثلا "عتبة حرشة" عن المنزل الذي لا يأتي السكن فيه بالخيرات على صاحبه، فهناك اعتقاد شائع يجسده المثل القائل: السعد في النواصي (نواصي الخيل) و العتب و البعض من الذرية".

فعندما تقول المرأة أنها بقيت في عتبة منزل زوجها، فهذا يعني أنها بقيت "برانية" و لم تستول على قلبه، و أنها عرضة للتطليق، أو على الأقل فإنها عرضة لكل أنواع الإهانات فكل من يدخل أو يخرج يمر عليها.

فهذا المكان يرمز إلى الانتقال(Transition) و يرتبط عادة بعدم الاستقرار و التزعزع الاجتماعي و العاطفي، لذلك يقال:"يتيم الأم قاعد في العتبة و يتيم الأب قاعد على الركبة".

و لذلك تدور الكثير من الأفكار التشاؤمية حول الجلوس في العتبة، إذ لا يرغب في الجلوس فيه مساء أو يوم الجمعة أو في الأعياد الدينية، و لا تجلس فيه النساء المرضعات و الأطفال و المتزوجات حديثا و المرضى، و المتمعن في الفئات السابقة يتضح له أنهم جميعا في حالة من الضعف و الهشاشة أو باختصار عرضة لأنواع الخطر المختلفة، أما الأفكار التشاؤمية التي تروج حول هذا المكان فمرتبطة بغسل الموتى به، أو لأنه مكان يتسول به الفقراء، أو أن الجلوس به يمنع دخول الخير.

و هناك اعتقاد آخر مفاده أن أرواح الموتى تكون أيام العيد بهذا المكان و بالتالي يجب تفادي إزعاجها، و هناك حتى من يعتقد أنه مكان سكن الجن.

لذلك نجد كثير من العلامات على أبواب الدخول منها "الخُمسة" و النجمة أو الهلال أو السمكة أو بعض أجزاء خروف عيد الأضحى، كل ذلك من أجل حماية "العتبة" من التأثيرات السلبية، لذلك يضحي أصحاب المنزل الجديد بديك أو خروف على عتبة الباب من أجل إرضاء أو طرد الجن. و لا يزال هذا الطقس الإحيائي (Animiste) سائدا حتى اليـوم و كثيـرا مـا يبـرر بفكـرة البـركة [9].

و يقال أن الميت عندما يحمل لمثواه الأخير يصيح عند مروره على عتبة منزله ثلاث مرات قائلا:

وكري وكري وكري

اللي كليناه ربحناه

واللي لبسناه قطعناه

و اللي خليناه خسرناه

فالموت عند المغاربي يعبر عنه "فضائيا" إذ يقال مثلا: مر إلى الجهة الأخرى... فالموت لا يعني نهاية عمرية، و لكن مرور في الفضاء إلى جهة أخرى.

تعطى العتبة مساحة داخلية إضافية و هذا لا يعني أبدا رفض للأجنبي أو الضيف بقدر ما هو جزء من التقاليد العربية، هذه الفسحة تشبه إلى حد ما " الرواق" في الخيمة البدوية، حي يكون الفضاء المخصص للسكن متصل بالخارج و لكي يحمي داخله من النظرات الخارجية. إن السقيفة و الدريبة في المسكن المغاربي تؤدي وظيفة تمديد للعتبة و بالتالي حماية ساكن الدار من النظرات الخارجية ، فالضيف الجالس في الرواق يجد نفسه في وضع غامض فهو داخل المنزل و لكنه ما زال تقريبا في الخارج.

أما اليوم و قد تغير كثيرا الفضاء التقليدي للدار واستعيض عنه بمنازل حديثة، فإن بعضا من تلك القواعد السلوكية خصصت لها فضاءات جديدة، و استعيض عن أماكن الاستقبال القديمة بأخرى جديدة، فصالة الاستقبال مثلا أصبح فيها جزءا حديثا يسمى (بيت الصالة) و هو مخصص للضيوف الكبار و البرانية، مثل الديوانية بالكويت و المضافة بالأردن و (بيت لقعاد) بالمغرب العربي، و هو أكثر تواضعا و تستعمله العائلة يوميا، مما يوحي أن عملية التدرج نحو الحميمية تتم تدريجيا. و نفس هذا المنطق التدرجي يحكم الجزء الخارجي للمسكن، (فالزنقة) تؤدي إلى عدد محدود من المنازل و تتحول غالبا إلى فضاء يكاد يكون خاصا و يصبـح فعـلا خاصـا إذا كانت الزنقة تؤدي إلى منزل واحد[10].

فالطريق غير النافذ في المدينة يعتبر امتدادا طبيعيا للدريبة أو السقيفة و التي تعتبر هي الأخرى جزءا خاصا بالعائلة، بل نجد أحيانا بابا يمنع الدخول إليها، و لقد منع القانون الفرنسي الصادر فــي 19/12/1932 في تونس "خصخصة" الزنقات.

و حسب برونشفيق (Brunschvig) فإن المدينة الإسلامية تميز بين الطريق المفتوح على جهتيـن، و هو طريق عام يمكن لأي كان المشي فيه، أما الطريق غير النافذ فيقع ضمن ملكية مشتركة بين الجيران.

خامسا- التصـور الديني للفضـاء

هناك أكثر من إشارة في القرآن الكريم إلى أماكن و أوقات مقدسة، فمكّة و الكعبة هي أماكن مقدسة، و هناك أشهر حرم لا يجوز فيها محاربة الناس لبعضهم البعض، و عليه فإن نظرة المسلمين للمكان و الزمان هي نظرة متقطعة و متباينة، أي بمعنى آخر أن الزمان و المكان ليست لهما نفس القيمة دائما.

و يعتقد العرب القدامى مثلهم مثل بعض البدائيين أن بعض الأماكن معبأة بدفق فوق الطبيعة ذو قوة كبيرة، و هذه الأماكن ملك لأرواح شيطانية أو سماوية، لذلك لا يتجرأ على دخولها الفرد إلا بعد ممارسة طقوس دينية "اخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى"[11]. هذه الفضاءات التي تبدت بها القدرة الإلهية تصبح معابد يعبر فيها العبد طواعية عن خضوعه لقوة كبيرة تحكمه.

 و يرى بعض الأنثروبولوجيين أن العرب يعتقدون أن الأرض برمتها تقع تحت هيمنة قوى غير مرئية، أغلب الظن أنها قوى الجن، لذلك كان العرب منذ القديم إذ ما نصبوا خيمة في مكـان قدموا أضحية لأصحاب المحل أي الجن حتى يعيشوا في وئام معهم، و كان البدو إذا ما انعزلوا للوضوء و حتى لا يثيرون غضب الجن يقولون "دَستور يا صاحب المحل". و مثل هذه الممارسات ما زالت قائمة لحد اليوم ونلاحظها عند البدء في تشييد منزل أو يوم الدخول لأول مرة لمنزل جديد،وكأن تملكه للمنزل هو تملك مؤقت (Appropriation temporaire)، و هو ما يجعل من الإنسان و كأنه كائن دخيل لا يمكنه أن يثبت في مكان إلا بعد طقوس عديدة.

بناء على ما سبق يمكن القول أن الفضاء المقدس هو متسع من الأرض المنعزلة لا يمكن للإنسان دخولها لأن قوى غيبية ظهرت بها و جعلت منها مقرا لها. و تختار هذه القوى عادة قمم الجبـال و الواحات كما يمكن أن نجدها في الوديان و الحجارة و الأشجار و منابع المياه.

كما أن المكان المقدس - الحرم- ينقسم هو الآخر إلى أماكن سعد و أماكن شؤم ،فأماكن السعد تقع على اليمين و أماكن الشؤم تقع على اليسار، أي يمين و يسار خط وهمي يقسم الكون إلى نصفين إلى "شرق و غرب"، "ولله المشرق و المغرب فأينما تولوا فثمّ وجه الله إن الله واسع عليـم"[12]، و لذلك يعتقد العرب و المسلمون أن اليمين مفضل على اليسار، و يتفاءلون خيرا بكل ما يأتي منه، و ينصح المسلم بأن لا يأكل و لا يشرب بيده اليسرى لأن ذلك من عادات الشيطان، و لكن يمكن البصاق أو لمس الأعضاء الجنسية باليد اليسرى.

كما نجد في اللغة العربية أفكارا مسبقة إيجابية حول اليمين، فاليمين من الفعل يمّن و يعني الوفـرة و الغنى و الرقي و البركة، و عندما نحلف نرفع اليد اليمنى لذلك هناك غموض لغوي بين يمين (الحلف) و يمين التي تشير إليه اليد و عكسها شمال و هي اليد التي يتشاءم منها العرب، و يسمى صاحبها أعسر و التي تعني حرفيا صعب المراس أو مُتعب.

و بناء على المعتقدات السابقة نفهم أن نصب الخيمة أو بناء منزل أو معبد، و حتى وضع الإنسان في حد ذاته في الفضاء تحكمها تلك المعتقدات.

و تعميما لنفس الفكرة السابقة نفهم لماذا يسمي العرب سوريا - الشام - و الذي بدون شك مرتبط لغويا - بالشؤم - و القرآن يشير بكلمة مشأمة إلى اليسار. و يبدو أن العرب القدامى كانوا يخلطون بين اليسار و الشمال، فالكلمتان تعنيان نفس الشيء عندهم، و يذكر صاحب كتاب تاج العروس أنه لما هبت رياح الشمال على مصر، جهز السكان الأكفان، لأنها رياح جافة و باردة.

في حين سمي اليمن يمنا لأنه ارتبط بفكرة اليُمن أي البركة و الخير، و كان يطلق عليه اسم اليمن السعيد، لا شيء إلا لموقعه الجغرافي بالنسبة للكعبة و ما ارتبط في أذهان الناس من معتقدات.

و تشير المعلومات التاريخية أن عرب الجزيرة كانوا يبنون منازلهم في شكل دائري احتراما للكعبة، و كان أول من بنى منزلا مربعا هو حميد بن زبير، فقالت العرب أن حياته ستكون رغدا أو أنه الموت الأكيد.

لذلك يعتقد أن العرب قد خصصوا البنايات المربعة المستطيلة لآلهتهم. و كمـا آمن العرب بالحرم و هي أماكن مقدسة تجلت فيها القدرة الإلهية فإنهم آمنوا أيضا بالحمى و هي أقاليم تقع تحت حماية رؤساء القبائل عادة باعتبارها أماكن خاصة.

إجمالا يمكن القول أن الإسلام قد قبل الأفكار و المعتقدات العربية المتعلقة بالفضاء المقدس، كما أن الإسلام قد ركز كثيرا على قدسية البيت العتيق الذي أعلنه الله مقدسا، و أن قدسيتها لا تتوقف حدودها عند حدود المعبد، و لكنها تمتد إلى تخوم غير واضحة المعالم. فبعد أن دعا إبراهيم المسلمين إلى الحج تلبية لإرادة إلهية، انبعث نور ساطع من الحجر الأسود لينتشر في كل الفضاء المحيط، و وقفت الشياطين عاجزة على تجاوز الحاجز الضوئي، لذلك فإن حدود الفضاء المقدس لمكة تتوقف عند حدود ذلك النور الذي أحاط بها، غير أن بركتها لا حدود لها.

و قد اتسعت هذه القدسية أو هذا "الحمى" ليشمل مدنا أخـرى مثل المدينة المنوّرة و كربلاء (و هي أماكن محرمة على غير المسلمين).

بالإضافة إلى هذه المدن المقدسة هناك مزارات و رباطات أخرى و تحظى هي الأخرى بقدسية خاصة قريبة من قدسية "الحرم"[13].

و بلا شك فإن لهذا الموروث الثقافي الديني أثارا على سلوكياتنا اليوم في البناء و التشييد و طرق الذود عن الحمى التي تقلصت كثيرا بدون شك عما سبق لتشمل اليوم حدود منازلنا،و على المهندس المعماري أن يأخذ في الحسبان هذه المعتقدات حتى يستجيب المنزل ليس فقط لحاجة تقنية وإنما للنظام الفكري والاجتماعي القائم.

سادسا- الاستيلاء على محيط المنزل: تملك أم حفاظ على الحرمة؟

إن الكلام عن الحرمة الخاصة للمنزل العربي تقودنا إلى الاعتقاد أنها تقف وراء الاستيلاء على الفضاءات المتاخمة للمنازل بما في ذلك الحضرية منها و ذلك لزيادة الفضاء الخاص، فممارسة البستنة أو التذرع بغرس حديقة بمحاذاة المساكن الواقعة في الطابق الأرضي أو سد المنفذ المؤدي إلى سطح العمارة أو منع الشباب من التجمع أمام مدخل العمارة (حتى و لو كان ذلك ضمنيا) تخفي في غالب الأحيان نوايا توسعية، تتمثل في تقويـة و نقل الحدود بين المجال الخـاص و المجال العام.

و لكن ماذا يعني الفضاء العام؟

إنه مفهوم غامض لأسباب عدة، منها جدته، إذ لم يعد متداولا بكثرة في الدول المتطورة إلا منذ الخمسة عشر عاما الأخيرة و ذلك في ميادين مهنية و علميـة محددة كعلم الاجتماع و التاريـخ و التهيئة العمرانية، فقد كانت قديما تتحدد الفضاءات العمومية بوظائفها مثل محطة القطار، السوق...إلخ، فالفضاء العام هو مكان زائدا وظيفة، و لكن هذا المصطلح سرعان ما اقترب من مصطلحات أخرى قريبة و متعلقة بميادين أخرى مثل الطريق العام، الميدان العام، المكان العام...إلخ.

 إن ما يعنينا في كل هذا الأمر هو تصور الساكن في بلادنا لما يعتقد أنه خاص أو امتدادا لمنزله أو محله التجاري و ما يعتقد أنه مكانا عاما يمكن لكل مواطن استعماله كالحديقة العامة أو الطريق العام، و مثل هذا التساؤل يقودنا إلى ضرورة توضيح فكرة الفضاء المتاخم و هو فضاء انتقالي أو فضاء يعتبره البعض امتدادا للسكن العائلي، و البعض الآخر يعتبره جزء من المكان القريب من منزله. و بشكل عام يمكن القول أن الفضاء المتاخم هو أماكن متعددة، مبنية أو غير مبنية تتوفر فيها خاصية القرب، فهي عامة لأنها تنتمي إلى الميدان العام و ذلك وفقا للقانون العام و يمكن أن تستعمل استعمالات عمومية.

يتضح ميدانيا في الجزائر مثلا أن كثيرا من هذه الفضاءات الوسيطة قد حولت عن غير مقصدها، إذ تشير الدراسات الاجتماعية المجراة في العشر سنوات الأخيرة أن السكان لا يفصلون بين الفضاءات الداخلية و الخارجية لمسكنهم، بل أنهم ينظرون إليها ككل متكامل[14].

و يبدو أن ظاهرة التملك أو الاستيلاء تخضع لمنطق مبنى تدريجيا، فالعملية لا تتم في وقت قصير، كما أن علامات التملك تتم هي الأخرى تدريجيا و بشكل مختلف في كل مرة.

  • المرحلة الأولى: يبدأ الساكن في اختبار نوايا الموافقة أو عدم الموافقة و التي تتميز بوضع علامة مادية تعلن سيطرته على الفضاء العام الذي كان من المفتـرض أن يكون مفتوحا للجميـع، و هذا التجسيد الذي يتم على مراحل يمر في البداية بامتحان الآخرين، حتى يضمن استمرار المشروع، فقد يرفض الجار الفكرة أو تمنع تحقيقها السلطات العمومية.
  • المرحلة الثانية: إذا ما قبلت العملية الأولية حتى و لو كان ذلك بطريقة غير نهائية، فإن الحدود التي كانت في البداية مجرد شباك تأخذ شكل سياج بأسوار من الطوب و الحديد.
  • المرحلة الثالثة: إن أمنية المستحوذ على الفضاء من البداية حتى و لو لم تتحقق بعد عدة محاولات مجهضة، فإنها تبقى مع ذلك تتمثل في الحصول على ترخيص قانوني لما قام به، إذ نجد البعض يستفسرون لدى المصالح المعنية عن إمكانية إدماج مساحات معينة في عقود ملكيتهم.

و هكذا يمكن القول أن الفضاء العام المتاخم للمساكن لا يسلم من النظرة الاجتماعية لما يعتقد أنه خاص و ما هو عام.

و هناك أسلوب آخر للاستحواذ دون وضع علامات مادية ظاهرة و يتمثل في استحواذ بصري أو لفظي، حيث يطرد الأطفال و الشباب من مداخل العمارات و من الجهات الخلفية للمنازل، بدعوى الإزعاج أو بدعوى أن وجودهم ينغص عليهم قيلولتهم، أو يحول دون نشرهم لغسيلهم، و هذا التعنيف هو نوع آخر في الاستيلاء على الفضاءات حتى و إن لم يأخذ شكل سياج ظاهر.

سابعا- الاستحـواذ الجماعـي

عكس الاستحواذ الفردي فإن الاستحواذ الجماعي يتبع منهجية قانونية حيث يوجه طلب مسبق إلى مصالح البلدية لتحديد إقليم فضاء ما و الانطلاق في أعمال البناء. حتى و إن كانت المبادرة جماعية، فكثيرا ما نجد منفذها فردا واحدا، حيث نجد أحد الأفراد النافذين من بين الجماعة هو الذي يحمل على عاتقه عملية المتابعة الإدارية للعملية، ليتم توزيع الفضاء المستولى عليه فرديا بعد ذلك لاستعماله مرآبا للسيارة أو غير ذلك. و قد تجرى تعديلات بعد ذلك عن الفضاء الشخصـي[15].

و يجب الإشارة هنا أن ضيق المسكن ليس هو التفسير الوحيد للاستحواذ على محيط المنزل، فهناك من يستولي على محيط منزله لتجميل مدخله خاصة في الأحياء الراقية، ليضع فيه سيارته في بعض ساعات اليوم، ليعلن للآخرين أن المكان صار ملكا له حتى و إن لم يضع علامات توحي بذلك، مما يدفع السكان إلى الاعتقاد أن من يقوم بهكذا أعمال هم غالبا أشخاص متنفذين، و مثل هؤلاء الأشخاص لا يجدون في الغالب الكلمات لوصف ما استولوا عليه من مساحات، فيتذرعون بأنها حوش و إن لم يقومـوا فيها بأي أعمـال منزلية، و يسمونهـا حديقة و إن خلت من الأزهـار و يسمونها أحيانا مرآبا و إن أوقفوا فيها سياراتهم في ساعات قليلة من اليوم. إن عدم إيجاد المصطلحات المناسبة لتسمية الفضاء المستولى عليه يوحي مرة أخرى بأن الفضاء العام المتاخم يبقى مفهوما غامضا في أذهان العامة، و من ثم وجب فهم الخلفية الثقافية لتصورات المغاربيين لما يسمى حرمة المنزل.

Bibliographie

Erny, Pierre,Douze contributions à une ethnologie de la maison, Paris, l’Harmattan, 1999, p. 9.

Fisher Gustave, Nicolas, Les concepts fondamentaux de la psychologie sociale, Paris, les éditions Bordas, 1987, p. 32.

Kajaj, Khalid, «La maison traditionnelle à Tétouan, patrimoine mémoriel et architecture domestique», in douze contributions à une ethnologie de la maison, Erny, Pierre (dir.), Paris, l’Harmattan, 1999, p. 119.

Boughali, Mohamed, La représentation de l’espace chez le Marocain illettré, Paris, les éditions anthropos, 1974, p. 73.

Ibid, p. 107.

Ibid, p. 139.

Virolle, Marie, Rituels Algériens, Paris, éditions Karthala, 2001, p. 72.

Ibid,p. 78.

Ibid,p. 82.

Melliti, Imed,«Seuils, passages et transitions. La liminarité dans la culture Maghrébine», in public et privé en Islam, Kerrou, Med (dir.), Paris, Maisonneuve et Larose, 2002, p. 99.

القرآن الكريم، سورة طه، الآية 12.
القرآن الكريم، سورة البقرة، الآية 115.

Chelhod, Joseph, Les structures du sacré chez les arabes, Paris, éditions Maisonneuve et Larose, 1986, p. 229.

Ghomari, Mohamed, «L’espace limitrophe, pratiques habitantes et représentations territoriales», in public et privé en Islam, Kerrou, Mohamed (dir.), Paris, Maisonneuve et Larose, 2002, p. 210.

15- Ibid,p.217.


الهوامش

[1] Douze contributions à une ethnologie de la maison, Paris, l’Harmattan, 1999, p.09.

[2] Les concepts fondamentaux de la psychologie sociale, Paris, éditions Bordas, 1987, p.32.

[3] La maison traditionnelle à Tétouan, patrimoine mémoriel et architecture domestique in douze contributions à une ethnologie de la maison sous la direction de Pierre Erny, Paris, l’Harmattan, 1999, p.119.

[4] La représentation de l’espace chez le Marocain illettré, Paris, les éditions anthropos, 1974, p.73.

[5] Ibid, p.107.

[6] Ibid,p.139.

[7] Virolle, Marie,Rituels Algériens, Paris, éditions Karthala, 2001, p.72.

[8] Ibid,p. 78.

[9] Ibid, p. 82.

[10] Melliti, Imed,«Seuils, passages et transitions. La liminarité dans la culture Maghrébine», in public et privé en Islam, sous la direction de Med Kerrou, Paris, Maisonneuve et Larose, 2002, p.99.

[11] القرآن الكريم، سورة طه، الآية 12.

[12] القرآن الكريم، سورة البقرة، الآية 115.

[13] Chelhod, Joseph, Les structures du sacré chez les arabes, Paris, éditions Maisonneuve et Larose, 1986, p.229.

[14] Ghomari, Mohamed,« L’espace limitrophe, pratiques habitantes et représentations territoriales», in public et privé en Islam sous la direction de Mohamed Kerrou, Paris, Maisonneuve et Larose, 2002, p.210.

[15] Ibid,p.217.

 

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran
+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11
+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Recherche