Sélectionnez votre langue

مروش، لمنور : أبحاث في تاريخ الجزائر العثمانية العملات، الأسعار والمداخيل من 1520 إلى 1830.- باريس، دار النشر بوشن، 2002.- 314 ص

يمثل هذا الكتاب دون تردد منعطفا في الدراسات التاريخية حول الجزائر بصفة عامة، والفترة العثمانية بصفة خاصة. تحت عنوان عام وشامل "أبحاث في تاريخ الجزائر العثمانية" وعنوان فرعي دقيق ومحدّد : " العملات، الأسعار والمداخيل من 1520 إلى 1830" قدم لنا الأستاذ لمنور مروش مقاربة جديدة لتاريخ الجزائر، إذ ركز على جانبه الاقتصادي في شقه الرقمي والحسابي والكمي واهتم بتوضيح أنواع العملات وفك رموزها وقيمها المستقرة والمتحولة عبر ثلاثة قرون.

يبدو من العنوان أنه مركز على جوانب تقنية تهم قطاع الاقتصاد في شقه العددي والرقمي والحسابي... الواقع لا تمثل دراسة الأسعار ومسارها وحركة المداخيل وتفرعاتها سوى مفتاحا لتفسير التراكيب الاجتماعية والتحولات السياسية ولذا آثر المدى الطويل شمل مدة الحكم العثماني في الجزائر.

بدأ بالتعريف بالعملات المتداولة وعلى رأسها الريال الإسباني وبّين قيمها المختلفة و تواجد الزياني السابق عن العثمانيين مع السلطاني وغيره، كما أظهر الفرق بين العملة المعدنية الحقيقية المتداولة وعملة الحساب التي تقدر بها المبادلات والأجور والأسعار في الدفاتر والدواوين. ويفسر بذلك استمرار بعض العملات في التداول الرسمي دون وجودها في الميدان.

مع هذا لازال الخلط ممكنا ما دمنا نفتقد إلى قاموس عربي فرنسي يقابل بين العملات لأنها لا تحمل نفس الأسماء بل وتختلف تماما في بعض الأحيان، فضلا عن تقسيماتها غير العشرية.

قبل دراسة المداخيل ومصادرها وتوزيعها آثر التعامل مع الأسعار، و لهذا الغرض سجل كل ما ذكر حولها بالنسبة لكل أنواع المواد. واختار القمح والزيت من بين المواد الغذائية مقياسا لكونها مواد غذائية أساسية فضلا عن وفرتها وتواجدها في الأسواق الداخلية وفي قائمة الصادرات.

يعد القمح والزيت ضمن المصاريف الاعتيادية للبايلك والأوقاف وهي مذكورة في الحسابات الأسبوعية لتلك المؤسسات التي تركت أرشيفا غزيرا وثريا بالمعلومات. مما يسمح للباحث من متابعة أسعارها وتركيب مجموعات متكاملة نسبيا، ومتسلسلة لتحليل حركتها على مدى عشرات السنين في كل مرة. توجد ثغرات في الوثائق ومن ثم في المعلومات حاول تجاوزها بتقسيم مدة الحكم الإجمالية إلى فترات متكاملة وذات معنى من حيث مميزاتها من جهة وأخضع النتائج للمقارنة بتوظيف الشذرات المتناثرة هنا وهناك حول الأسعار من جهة أخرى. فاتخذ نماذج من كل من وهران وعنابة وقسنطينة والجزائر العاصمة كلما وجد إلى ذلك سبيلا.

كما عمل على التمييز بين المصادر الأوروبية والعثمانية لاختلاف طبيعتها ومن ثم محتواها وطبيعة المعلومات المستقاة منها. تتمثل المصادر الأوروبية أساسا في الوثائق القنصلية وغرف التجارة أو في ملاحظات الرحالة والإخباريين أما الوثائق العثمانية فهي رسمية في مجملها نابعة من إدارات الدولة وتتمثل في عقود التركات وكذا الأوقاف وما شابههما من وثائق بيت المال أو البايلك، فضلا عن بعض القوانين التنظيمية القليلة في واقع الأمر.

وعليه تتداخل في الكتاب الملاحظات المنهجية مع المعطيات المعرفية وهذه طريقة مفيدة للباحثين إذ يقفون في كل آن على مختلف المصادر وما تسمح به وكيف تفيد بإشارات عابرة في توضيح مسالة أو سياق، وكيف يمكن توظيفها بصفة مباشرة وأخرى غير مباشرة.

وتكشف المعطيات التي حللها لمنور مروش عن المجهود الضخم الذي قام به المؤرخ في جمع شتات الأسعار المتناثرة في روايات ورحلات وعقود متنوعة وتركيب سلسلة المداخيل.

فهذا حسن الوزان يصف إحدى أسواق مدينة قسنطينة ويستشهد بوفرة الإنتاج والمعروض وقدم سعر التمر فيها. فقارنها ليس بالتمر لأنه لا يذكر في نفس الفترة إنما لاحظ أسعار مواد أخرى واتخذ هذه الأسعار المنعزلة عن بعضها البعض، رغم قلة دلالتها الإجمالية، معالم للمقارنة مع فترات أخرى وبلدان أخرى كي تبيح عن معناها.

تميزت فترة 1580-1620 باضطرابات نقدية خطيرة تمثلت في انهيار قيمة الريال، العملة القاعدية في تلك الفترة، تزامنت مع ارتفاع كبير للأسعار وخاصة في العقارات والأراضي. لكن هذه الفترة عرفت أيضا ازدهارا خارقا للعادة مرتبطا بالقرصنة.

رغم استقرار العملة في الفترة ما بين 1630-1685 إلا أن الجزائر عرفت مجاعات وأوبئة من أكثرها فتكا وضراوة وقسوة تزامنت مع اضطرابات سياسية وعدم استقرار لا سابق لها.

بالمقابل يمكن أن يصادف الاستقرار التقدي توزنًا في المجال السياسي وازدهارا اقتصاديا طويل المدى. وهذا ما ميز النصف الثاني من القرن الثامن عشر. ثراء وازدهار حقيقيْن، لكن يجب الحذر من التعميم إذ مس الجزائر والمناطق المصدرة من قسنطينة و وهران واستفادت منه المجموعات الحاكمة واتباعهم.

كما يلاحظ فيما بين 1798- 1815 تزامن استقرار العملة مع ارتفاع في أسعار المنتوجات الفلاحية. وقد زادت هذه الأسعار في بعض المناطق نتيجة تدخل السلطة لاستغلال زيادة الصادرات لصالحها. كما حاول الحكام بإجراءات غير ناجعة التحكم في أسعار الحبوب واستقرار العملة خوفا من الثورات الشعبية والعسكرية. إنها فترة رخاء مالي وغنائم بحرية بموازاة توتر وعدم استقرار في الساحة السياسية. كما خصص فصولا لأسعار المواشي وكذا المواد الصناعية وغيرها حسب الفترات.

أما عن حركات الأسعار والمداخيل التي رصد مؤشراتها وتبع تياراتها عبر القرون الثلاثة فيرى في مسارها العام ما يدعم النموذج الذي اقترحه إرنست لابروسErnest Labrousse والذي وجد تطبيقه على أزمات المعاش والتغذية التي عرفتها الجزائر العثمانية. ويستدل مروش على ذلك بنتائج الدراسات التاريخية حول البلاد العربية وتركيا في نفس الفترة والتي تصور أوضاعا مماثلة دون اللجوء إلى نفس النظرية وإن برهنت على فعاليتها في المستوى العالمي من خلال الحالات المبحوثة.

بعد حركة الأسعار تناول بالتركيب والتحليل حركة الأجور والمداخيل وهي أوضح للقارئ إذ صنف الثروات الكبرى والمتوسطة والدنيا بأمثلة ونماذج متنوعة، بجانب هذا توفرت لديه كميات كبيرة من المعلومات حول مواد البناء مثلا فوظفها في دراسة أجور العمال وطريقة العمل والمواد المستعملة ...مما يشكل منجما هائلا يغرف منه كل الباحثين من كل التخصصات.

عند دراسة المداخيل التي توصل إلى تصنيف أصحابها من حيث مستوى الثروة ومن حيث الفئات الاجتماعية المهنية يخلص لمنور مروش إلى أن"أسرع السبل لاكتناز الثروات والاغتناء هي المناصب السياسية والعسكرية ومهما كان وضع المدينة أو الاقتصاد فالحاكم فيها غني وثري...

عرج بطبيعة الحال على رياس البحر والقراصنة لما أشيع عن ثرواتهم. تمثل مصدرها في غنائم البحر ثم وضعيتهم و مكانتهم في البحرية في الريادة والرياسة في مصاف الحكام السياسيين إذ حدث أن نافسوهم سمعة أو سلطة مثلما حدث مع الريس حميدو (1815) أو على نشنين (1645). كما تكشف الدراسة أو تؤكد في الواقع تظافر العلم والتجارة لترسيخ العائلات العلمية الكبرى بين الأعيان وذلك عن طريق المصاهرة، وساق مثل السعيد قدورة والشريف الزهار وغيرهما.

وأما الحرف فهو عالَم متنوع، يوجد به تراتب بين الحرف وداخل الحرفة ذاتها. ولا يعني دائما أن أمين الجماعة هو الأغنى لكن أمين الأمناء وهو منصب تنسيق بين الجماعات الحرفية والسلطة يعود على صاحبه بالمال والجاه وأصبح متوارثا في عائلة الشويهد، وهي عائلة من أصل اندلسي تكونت ثروة مؤسسها من النشاط البحري أولا ثم من التجارة الخارجية.

لا يسعنا إدراج كل الموضوعات التي تناولها ولا كل الشخصيات التي ذكرها في سياقه وإنما يمكن أن نستقي من الخاتمة المسائل التاريخية التي طرحها وأراد توضيحها قدر الإمكان.

لقد توصل في باب العملة أنها ليست المحرك الوحيد والأساسي للحياة الاقتصادية وإنما هي وسيلة بين أخرى يلجأ إليها الرجال في ظروف معينة.

و يستخلص الباحث أن طبيعة "العلاقات مع العالم الخارجي هي التي قَوْلَبَتْ أشكال تلك التبعية المتفردة " التي عرفتها الجزائر العثمانية وهي القوية الضعيفة ثمّ يتساءل "لماذا بقيت عملة الجزائر تابعة لعملة أجنبية لأكثر من نصف قرن خاصة أن الريال الأسباني يرد من بلاد كانت في حرب مستمرة مع دولة الجزائر؟ كيف يمكن تفسير أن هذه العملة نفسها يعاد توظيفها واستعمالها بعد قطع أطرافها وتفصيلها في مرسيليا في أشكال متنوعة باتفاق مع حكام الجزائر؟ فضلا عن أنها منحت لعملة الجزائر الفضية اسمها الرسمي الريال والدورو".

استمرت هذه التبعية النقدية فيما سماه لمنور مروش "قرن القـمح" (1745-1815) ردا على "قرن القرصنة" وهو قرن قصير من حيث عدد السنوات، لكنه تميز بازدهار متصاعد ابتداء من 1765 ويمكن مقاربة نشاطه وانعكاساته بمختلف الطرق. ويعطي مثالا على ذلك فيما "لاحظه العديد من المؤلفين والشهود الأوروبيين من وفرة النقود في الجزائر فجعلوها سببا لارتفاع الأسعار بداية من التسعينيات." وقد شرح لمنور مروش كيف أن تلك النقود كانت تأتي من موارد مزدوجة بين القرصنة والتجارة الخارجية من جهة، ومن القيمة العالية لما دفعته اسبانيا بالريال عند اتفاقيات السلام والتجارة بين البلدين. إن تظافر هذه الموارد فيما يعرف بربع القرن الأغنى من حيث كمية العملات الصعبة التي دخلت البلاد (1792-1815) قد أعطى حسب تقديراتنا أقل من مليون ريالا صعبة سنويا.

لقد أخل هذا المبلغ بالوضع النقدي ومس حركة الأسعار و حسن الظروف الاجتماعية لسكان المدن وأثرى بصفة مذهلة المجموعات الحاكمة. نتجت كل هذه التحولات عن مبالغ في الواقع محدودة مقارنة بقيمة حجم التجارة الخارجية لمدينة مرسيليا دون المقارنة مع إنجلترا أو هولندا في نفس الفترة. هذا حسب مروش ما يثبت محدودية هذه الثروة ونسبيتها.

يلاحظ القارئ كيف يصل لمنور مروش إلى درس في التواضع عندما يفرض الباحث على نفسه قراءة النتائج بعيدا عن الشوفينية الضيقة. ربما كانت الأموال طائلة ولكن في المستوى المحلي فحسب. ويكمل الشرح بتحليل مكانة القطاع التجاري الذي لعب دورا محركا في التحولات الداخلية وإن بقي هامشيا في حجمه. ويفسر هذا الوضع بأن هذه التجارة في شطرها الأكثر نشاطا والأكثر بروزا والموجهة نحو الخارج كانت رهينة عوامل خارجة عن سلطة أهل البلاد. بقدرتها على إثراء المجموعات الحاكمة مؤقتا ورفع مستوى مجموعات أخرى بدت التجارة الخارجية وكأنها عنصر إعادة التراتب الاجتماعي، كما رسخ هذا القطاع التبعية نحو أوروبا. فالتداخل مركب ومتعدد الأشكال. فالثروة تولد حاجات وأذواق جديدة ومن ثمَّ تزداد الطلبات على المواد الكمالية والرفه المنزلي القادمة من أوروبا ... إن مطلب الحداثة فيما له من ضرورة ومشروعية قد يكون في مثل هذه الحالة عامل تبعية أيضا.

لا مناص في الأخير من تحليل الأزمة التي أدت إلى انهيار الحكم العثماني وسقوط الجزائر تحت الاحتلال الاستعماري. يرى أنها أزمة عميقة ضربت المجتمع الجزائري.  قد فسرتها عدة أعمال وأبحاث بأسباب طبيعية. صحيح أن المحاصيل الضعيفة والأوبئة تتابعت في وتيرة فظيعة  :كأن دورة خراب ودمار تبعت دورة حياة وانتعاش. لم تكن مسؤولية الرجال قليلة. كان أصحاب الامتيازات يحمون أنفسهم دون اهتمام بباقي السكان. فضلا عن أن موجات التمرد وعمليات القمع التي تتبعها قد خلخلت النظام الاقتصادي والاجتماعي وساهمت في تعميم الخراب. "ولمن يتابع آخر قرن من حكم العثمانيين في الجزائر، يلاحظ أن للالتقاء بين شمال وجنوب المتوسط آثار مركبة ومتناقضة. لقد لعب دورا في ازدهار القرن 18م وفي الانهيار الذي تبعه. لقد كشف عوائق في التركيبة التي جعلت اقتباسات الحداثة في أشكالها الدخيلة وغير المهضومة لا تعمل كدافع لعجلة التقدم وإنما كعوامل اضطراب واختلال للتوازنات. إن ليل الاستعمار الطويل قد تم التمهيد له مثل الأزمة الاجتماعية التي سبقته بروابط تبعية نسجت في إشراقات القرن الثامن عشر."

يعد هذا الكتاب الثري موسوعة للقارئ الفضولي الذي يبحث عن معلومات تفصيلية حول مختلف المسائل وهو في ذات الوقت درس منهجي في كل فقرة وكل فصل، إذ لا يهمل الإشارات التي من شأنها التوضيح أو التنبيه لطبيعة المصدر أو مميزات الظرف التي قد يضعف المعلومة بوضعها في سياقها أو تزيدها قوة واستدلالا. قد لا يخلو الكتاب من بعض النواقص ولكنه مجهود جبار كرس به لمنور مروش مساره العلمي.

لقد استعمل المصادر في تقاطع وموازاة وتكامل رغم اختلافها وهذا يحتاج إلى قدرة على التركيز كبيرة وصبر طويل لرصد التكامل. و وينم الكتاب عن إلمام موسوعي بكل ما نشر حول الجزائر العثمانية وقراءة دقيقة للمصادر الأرشيفية وظف فيها تحكمه في اللغة العربية والفرنسية على حد سواء. كما ثمن هذه المعرفة الحميمة بالموضوع بموقف منهجي ونقدي صارم.

الكاتب 

فاطمة الزهراء قشي

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran
+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11
+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Recherche