Sélectionnez votre langue

الوعدة التمثل والممارسة دراسة أنثروبولوجية بمنطقة أولاد نهار

إنسانيات عدد 39-40 | 2008 | رؤى حول الماضي ورهانات الذاكرة في الحاضر | ص 83-101 | النص الكامل


El Hadi BOUOUCHMA : Sociologue, Centre de Recherche en Anthropologie Sociale et Culturelle, 31 000, Oran, Algérie

 

تمهيد  

الظاهرة الاحتفالية عموما، ومنها ما يعرف اليوم بالوعدة خصوصا – عند مجتمعات المغرب - تكون جنينيا أول إنشائه كتعبير بشري رافق السيرورة الإنسانية الإكتشافية والتكييفية أو الترويضية، التقربية والتعبدية للطبيعة، ومن ثمة الطوطم الذي رافق التشكل البشري الأول في معالمه وخص جانبه الروحي.

فلحظة التوحد والفرح والإنتصار والصيد الوفير واستعطاف الطوطم ومن ثمة المقدس بعمومه، نشأت هكذا والمعنى هذا جعل الطقس عموما يوصف كحالة لإستجابة تكييفية وتوافقية بين الإنسان وبيئته الإجتماعية والطبيعية، ويبرز هذا الربط الذي أقامه أنتروبولوجيون على رأسهم رواد المدرسة الإنجليزية  Frizer E. Taylor وبعض المستهلكين لأطروحاتهم مثل Doutte J. Chelhod بين مثل هذه الطقوس والطبيعة، حيث ربطوا بينهما، ومعهم أصبحت الإحتفاليات والمواسم (الوعدات) في شكلها الأولي كشكل من أشكال التعامل الأسطوري مع الطبيعة الهادف للحفاظ على الخصوبة التي تشكل أساس التواجد والإستمرار الطبيعي والإنساني، أكثر من ذلك فالطبيعة كانت موضوعا أولا للعبادات الطوطمية والتقديس[1]، ليتحول الولي والمرابط في الإسلام الطرقي محورا لهذه العبادات، وتصبح معه طقوسيات الوعدة اليوم كلحظة مهمة للقاء والإحتفال والتقديس بمجاله الضريحي.

ومع بلوغ الإنسان لحظات متقدمة من التطور في مجالاته البشرية والعقائدية والثقافية، بدأت تتأصل الكثير من عاداته وطقوسياته المتوارثة بين أجياله، ضمن كيانه الممارساتي المعبر بقدر ما عن هويته ورباطه بمعالم الأجداد، ومن ثمة غدت طقوسيات وإحتفاليات الوعدة واحدة من الطقوس الصوفية والطرقية التي ميزت علاقة الإنسان الشعبي بفضاء الأولياء والمرابطين، وعبرت بصفة أو بأخرى عن ولادة لإسلام معيش كما يقول P. Bourdieu أو الطرقي والإسلام الشعبي كما يقول آخرون في أشكال ممارساتية يومية أو أسبوعية أو سنوية أو حتى موسمية، وإن كنا نقصد في مقامنا البحثي هذا، طقس الوعدة كطقس دوري سنوي تقيمه العديد من العشائر والقبائل المغاربية حول أضرحة الصلحاء والمرابطين خصوصا المؤسسين لها.

إننا نخص من خلال هذه الظاهرة لحظة عميقة من تاريخ التطور الإسلامي خصوصا في مجال التدين والإعتقاد، الذي طبع بتوجه شعبي أصبغ فيه الإنسان العربي والبربري بجزء من طقوسيات أجداده مع معالم وممارسات الدين الجديد، في ظل تطور حساس أصاب الإسلام بعمومه، فأمام تطوره وإنتشاره شرقا وغربا، صاحبت الكثير من الأمم دخولها الإسلام بمعتقدات الأجداد وممارساتهم، ونخص بالذكر الإسلام المغاربي أو الشعبي كما سبق الذكر، ذلك أن التطور المذهبي والطرقي الذي عرفه الإسلام بالمنطقة ومن خلالها منطقة الدراسة خصوصا فترة القرنين 15م و16م، يضاف لها الظروف التي كانت تشوب المنطقة المغاربية عموما، أرخ سريعا لتجذر الكثير من الممارسات ضمن كيان الكثير من الطرق الصوفية، التي إتخذت من ايديولوجية الشريف والمرابط عنوان وقاعدة للإنتشار والتوسع في الفكر والتمثل الشعبيين، الذين كانا يفتقرا لكثير من أساسيات الفهم، إن لم نقل قد إستغل الكثير من رجال الطرق هذه السذاجة الشعبية ليبسطوا سلطاتهم ويلحقونها كجزء من قدرات الإله حتى وإن كان هذا الكلام إستثنائيا، ذلك أن الكثير من الطرق رسخت وساهمت في نشر الإسلام في أقطار صعب على رجال الإسلام الأولون الوصول إليها، يلخص Alfred Bel هذه المرحلة بقوله "أصبحت الكثير من مناطق المغرب العربي...بؤرة لصوفية الأشراف، تصدر وتزود قبائل البربر كلها بأشراف وأولياء حاملين للبركة.."[2] 

وإستمرت حركية التنظيم الطرقي أكثر من خلال التنظم تحت أمرة المشايخ أو الأقطاب، ونسبت الكثير من الطرق الصوفية نفسها لمرابط أو ولي، وسنت لنفسها طقوسيات وممارسات وإحتفاليات دورية يمارسها أتباعها ويتوارثون عليها كدستور للطريقة وكتميز لها.

ومن كل هذا برزت إحتفالية الوعدة كمعلم مميز للشعوب المغاربية خصوصا، هذه الظاهرة التي وجدناها متعددة الإصطلاح في الأقطار العربية والمغاربية وحتى داخل القطر الواحد، فقد يسميها البعض بالزردة وآخرون بالطعم أو الركب أو المعروف أو الموسم وغير ذلك من الأسماء، والتي وإن تعددت بين جميع هذه الإصطلاحات فإن معناها يبقى في الكثير من محموله ذات بعد وهدف واحد كما يعرفها مثلا Dermenghem .E، كطقس يقام على شرف الولي الصالح، لأجل إبعاد الشر وتحقيق الأماني والشفاء والنـجاح...[3]، مـثـلـمـا تـعـرفـها Anddezian Sossie "كعادة طقوسية احتفالية تقام حول قبور الأولياء تقدم فيها الأضاحي لتحقيق الأماني المرجوة "[4].

فهذين التعريفين يجتمعان في اعتبار الوعدة كظاهرة طقسية واحتفالية تتخذ من الضريح وقبور الأولياء مكان للإقامة  والأضاحي(الدم) كقربان حيواني في مقابل القبول وتحقيق المرجوات، التي يهدف إليها المحتفلون، هؤلاء الذين أوصلوا نسابيتهم في الكثير من الأحيان بهؤلاء الأولياء، وأصبغوا على الكثير من ذلك صفة الشرف، ونسجوا لها في ذاكرة الأجيال أسطورية تواصلهم مع السلالة النبوية، وأرخوا لذلك في صورة حكايا متواترة شفويا وكتابيا تتناول سيرة أوليائهم وشيوخهم، وترسم لهم بكرماتهم وبركاتهم عبر المخيال الشعبي الطابع الفوق الطبيعي لهؤلاء، مثلما تنسب لهم الكثير من الخوارق والقدرات.

وإن نعود بالذكر لهذه الإحتفالية، فإنها إرتبطت أول ظهورها بشخصية الولي سيدي يحي بن صفية، هذا الذي كان له الفضل النسبي والتأسيسي في تشكل هذا العرش خلال القرنين 15م و16م، بعد أن أنشأ ما يعرف بزاوية عرب سبدو، وبالتالي رسم لأولاده وأحفاده وأتباعه معالم تشكل هوية جديدة إنبثقت من عرش بقي في جبال عمور، وبذلك أصبح لهذا العرش مركزه في الإستقرار في هذا المجال الجغرافي ممثلا في زاوية هذا الولي، حتى وإن كان الحراك المستمر نتيجة لظروف ميزت هذه الفترة من تاريخ الأقطار المغاربية ومن خلالها الإسلام السبب الأول في سن هذه الوعدة من طرف سيدي يحي لأتباعه وأولاده وأحفاده خلال القرن 16م.

لقد نشأ طقس الوعدة كعادة طقسية فرضتها ظروف جمعية مشتركة وتواصل ذلك إلى اليوم بين أبناء ومريدي هذا الولي عندما كان في حياته، ومارسها عدد كبير من أتباعه وأحفاده، وأصبحت مع الزمن عادة جماعية ثقافية ودينية تميز هذه القبيلة بجملة من الأفعال والأعمال والطقوس والممارسات وألوان السلوك الذي يعكس في الأساس إستراتيجيا هذا العرش في مواجهة أوضاع علنية أو خفية ومعها أصبح هذا الطقس بقدر محموله الصوفي الديني، فإنه يشكل اليوم ضرورة إجتماعية وثقافية، يستمد من خلالها هذا العرش قوته وتماسكه وهويته في الوجود عن طريق تقليد الخلف للسلف في هذا التعبير الشعبي بشكل من الإنتقال التواتري لقيم هذه الإحتفالية التي تستمر اليوم بهذه المنطقة للقرن الرابع على التوالي، يقول في ذلك Hobhouse " إن تقليد السلف هو غريزة المجتمع أو القاعدة التي تسير بموجبها مجريات الأمور"[5].

الإشكالية

التأريخ للذاكرة حسب هؤلاء ينطلق من إحتفاليتهم هذه، العاكسة لهم نوع من البحث عن الحماية لمجموعتهم والدفاع عنها معنويا وثقافيا ومجاليا، وتواتريتها (الوعدة) بين أجيال هذا العرش يجعل من المعنى هذا مختصرا في البحث الدائم لمطلب الهوية، ويصبح كل باحث بالمقابل لهذا أمام عديد الأسئلة، الباحثة في أسرار إستمرارية مثل هذه الطقوسيات اليوم.

ولعل هذا ما حفزنا لإخراج هذا البحث للوجود إنطلاقا من إشكال نظري تكون لنا من ملاحظات ومعايشة طويلة لميدان الظاهرة وللمجتمع الفاعل لها، وبعد الإطلاع على العديد من الأعمال الميدانية للعديد من الباحثين، كان إشكال البحث كما يلي:

إنه برغم التحولات والتغيرات العنيفة التي أصابت الجماعات القبلية اليوم ومنها مجتمع بحثنا، تبقى الكثير منها تحافظ على نفسها وتواصلها من خلال لجوئها إلى إحياء طقوس دورية ومنتظمة تعيد من خلالها معالم هويتها وترسم أفاق  إستمراريتها، ومن هذه الطقوس طقس الوعدة، الذي مثل عبر تاريخ هذه القبيلة المحطة التي يشحن خلالها نفس البقاء والتواصل والإرتباط بعالم الأجداد،  فكل "مؤسسة (قبيلة) تحتاج  إلى طقوس للمحافظة على تكرار نفسها"[6] كما تقول الدكتورة رحمة بورقية، وهو الكلام الذي يجد تطبيقه في هذه الإحتفالية المحلية بمنطقة الدراسة.

فالتساؤل الممكن إذا للطرح يجب أن يكون عن دافعية هذه المجتمعات المحلية اليوم في ممارسة هذه الطقوسيات، أو بتساءل آخر ما فائدة المجتمعات المحلية من حفاظها على طقوسياتها ورمزياتها الثقافية وبنياتها الإجتماعية في ظل ظروف تدفع لتغيير ذلك ؟.

بالمختصر المفيد، وبالرجوع لميدان التغيرات الحداثية المتسارعة، التي عرفتها البلاد بعد الإستقلال ومن خلالها منطقة الدراسة ونقصد بذلك عددا من المؤشرات لعصرنة وتحديث المجتمع منها إنتشار التمدرس وارتقاء المستوى الثقافي، تحسن الخدمات الطبية إنتشار العمل الصناعي، سياسات التوظيف المأجور، التوطين السكاني، تفكيك القبيلة وتفتت الكثير من الأسر الموسعة، برغم كل هذه المؤشرات المؤدية إلى تغيير على الأقل في بعض القيم والموجهة نحو دور الفرد، وإنحصار القرابية  إلا أنه بالعكس من ذلك لا تزال اليوم العديد من القرابات والقبائل مشدودة لرموزها الثقافية والدينية الأصيلة ولم يزدها التغيير الحاصل غير إصرار في التشبث بذلك وبالتالي هل يعني هذا أن قيم الحداثة والتمدن وكل ما ذكر عاجز اليوم عن ممارسة فعل التغيير لهذه المجتمعات المحلية على مستوى محمولها القيمي الثقافي والديني والطقوسي؟؟؟؟.

فمن المفروض أنه كما يقال نفس الأسباب تؤدي لنفس النتائج، أي بعد هذا التغيير من المفروض أن يكون نكوص لمثل هذه المظاهر لكن بالمقابل الكثير منها عرفت تعزيزها بعد محاولات التغيير القيمي والبنيوي الذي عرفه المجتمع بعد الإستقلال خصوصا ـ وإن كان أننا نقر في إنحصار بعضها وفناء أخرى ببعض من مناطق البلاد لأسباب وظروف تحتاج بحثهاـ لكننا عندما طرحنا هذا الإشكال فنحن نحاول أن نخص به منطقة الدراسة على الأقل.

الفرضيات

هذا الإشكال بمختلف تساؤلاته الممكنة للطرح إفترضنا له جوابا فرضي رئيسي، يتماشى والإشكالية وفق ميدان دراسة الظاهرة، وكان محتوى الإفتراض مختصرا كما يلي:

استمرارية ظاهرة الوعدة هو ضامن ثقافي لفاعل إجتماعي(القبيلة) في وجوده وإستمراره وفي إرتباطه بهويته المقاومة للتغيرات وكجزء من الممارسات التي تطبع تدين هذا المجتمع المحلي (العرش).

هذا الإفتراض الرئيسي بدوره نراه يشمل جملة افتراضات فرعية، حاولنا تحديدها من خلال ملاحظات الميدان، وبعد الدراسة الاستطلاعية الأولى له وذلك كما يلي:

أ- استمرارية الوعدة اليوم هو طقس يراد من خلاله إعادة تشكيل للمفكك إجتماعيا وثقافيا وتجديد اللحمة القرابية من خلال استمرارية القبيلة ككيان وفاعل إجتماعي وثقافي لم ينتهي، وبالتالي توظيف القبيلة للوعدة كطقس دوري ومجدد للحمتها، وكشكل من التنظيم الرقابي الضبطي الذي يحمي العرش في بعده الإجتماعي والثقافي والمجالي.

ب- استمرارية ظاهرة الوعدة اليوم، يعبر بشكل أو بآخر عن قوة هذا الطقس في المقاومة كمظهر شبه ديني في مقابل الدين الرسمي وبالتالي قوة المعتقد الشعبي لهؤلاء في مقابل المعتقد الديني الخالص، ومعه أصبحت الظاهرة كجزء مهم في الخريطة الدينية لهؤلاء الفاعلين بشكل من التعايش بين تقاليدهم الدينية المحلية والرسمية.

ج- استمرارية الوعدة يلقى دعمه اليوم من اغتراب الطبقات الشعبية، وبحثها بالمقابل في طقوسيات الوعدة والأضرحة عموما، كملجأ وملاذ روحي ونفسي وسياحي، محقق للطمأنينة والفرجة والفرح...إلخ.

هذه الفرضية بأجوبتها الجزئية حاولنا قراءتها من خلال الميدان انطلاقا من محتواها الطقوسي الإجتماعي ـ الثقافي والرمزي مع إتخاذ مجموعة متغيرات كمفاتيح للإجابة عنها وتحقيقها وذلك من خلال دراسة الظاهرة في تفاعلاتها بين العرش والولي، مع قراءة ذلك في طرائق التنشئة الإجتماعية، ثم طرحها من منظور التراث الشعبي المحلي كمحمول ثقافي متداول في تجليات غنائية وفلكلورية عموما.

وقد حاولنا من خلال هذه الأبعاد والمتغيرات البحثية مسائلة الميدان والوصول إلى بعض الحقائق التي تؤكد أو يكذب لنا هذا الإفتراض الرئيسي وأجوبته الفرعية، والذي نعتبر خلاله الوعدة كلحظة زمنية والضريح كمحطة مكانية مقدسة في فضاء ترابي جغرافي ثقافي محلي يريد تأكيد هويته وأصوله وتميزه.

المقاربة المنهجية

لبحث ذلك إعتمدنا المنهج الأنتروبولوجي التقليدي، محاولين من خلاله مقاربة الظاهرة لتحقيق نوع من الفهم والتحليل والتفسير، بعد معايشة ميدانية طويلة لمجتمع البحث، وظفنا خلالها تقنية الملاحظة بالمعايشة، والمشاركة معه في هذه الإحتفاليات ومختلف طقوسياتها مع توظيف فئة المخبرين وإعتماد المقابلة نصف الموجهة كأدوات وتقنيات لتحقيق البحث.

   في نفس التوجه العام لهذا البحث، فقد إعتمدنا على بعض المداخيل النظرية منها المدخل التاريخي، الذي رأيناه ضروري في فهم تمفصلات وتطورات سواء مجتمع البحث أو الظاهرة، فالأمر يتعلق بتركيبة إجتماعية ممثلة في القبيلة، وفي ظاهرة كالوعدة التي طبعت الإسلام عموما والطرقي والمغاربي خصوصا في فترة من تطوراته، ولدعم ذلك أكثر فقد إعتمدنا من جهة أخرى على المدخل الإثنوغرافي لوصف الظاهرة وطقوسياتها، ومن ثمة جميع التفاعلات بين مختلف القرابات المشكلة لمجتمع البحث في أثناء إقامة الظاهرة.

مثلما ركزنا البحث ومن خلاله الظاهرة في مدخل آخر خص الجانب الوظيفي للظاهرة لفهم حاجات ودوافع وممارسات هؤلاء، كما إعتمدنا في جانب آخر على بعض من التحليل السميولوجي خصصنا به جزء من دراسة الظاهرة لفهم محمولها الرمزي والدلالي.

لتحقيق ذلك إعتمدنا على عينة شملت العديد من شرائح هذا المجتمع تراوحت بين متغيرات السن والجنس والمهنة.

وكان أن إنطلقنا في بحث هذا الموضوع على دراسة استطلاعية خلال موسم 2004م، ثم الدراسة المفصلة خلال 2005م/2006م إلى غاية وضع التقرير النهائي للبحث شهر أكتوبر 2006م، وبالتالي فقد إمتدت الدراسة لتشمل ثلاث مواسم متتالية  وإن نرجع في طول هذه المدة لعدد من الظروف والأسباب الشخصية، فإنه من الناحية الأنتروبولوجية تبقى هذه المدة عادية في فهم هذه الظواهر والمجتمعات الفاعلة لها، وتبقى متعة البحث دوما في عوائقه وصعوباته. 

 خطوات البحث

 الفصل الأول

حاولنا خلال هذا الفصل تحديد ماهية هؤلاء الفاعلين لهذا الطقس، والتعريف بأصولهم وتسميتهم، مع محاولة الإلمام النظري في تحديد الظاهرة الإحتفالية (الوعدة) بالمنطقة، فكانت بذلك الوعدة،أولاد نهار، الولي سيدي يحي الثلاثية البحثية في هذا الفصل.

 الفصل الثاني

 تطرقنا فيه بالدراسة للمخيال الشعبي المحلي في تفاعلاته مع الولي كسلطة وقدرات روحية، تجد مكانها ضمن مكونات المنظومة الشعبية لهؤلاء، وتنجلي من خلال الهالات القدسية الملاحظة خلال ممارسة طقس الوعدة والزيارة

الفصل الثالث

خصصناه لدراسة الظاهرة في بعدها الطقوسي والرمزي ومحاولات فهم دلالات ذلك.

الفصل الرابع

وخص بدراسة الظاهرة في بعدها والوظيفي، والبحث في دوافع وميكانيزمات إستمراريتها.

الفصل الخامس

خصصناه لقراءة العلاقة التفاعلية بين ظاهرة الوعدة والولي والعرش الممارس لها، وذلك بإستقراء ميداني لتراثيات ورمزيات وقيم هؤلاء، في جملة أبعاد وعناصر حاولنا طرحها من منظور ميكروسوسيولوجي يخص القبيلة محل الدراسة وكان هذا الفصل خاتمة لمقاربة الظاهرة وفهم علاقتها من خلال البعد الجيوثقافي لهذا العرش.

ميدان البحث

 عرش أولاد نهار

 تعريف تاريخي وجغرافي

تحتل قبيلة أولاد نهار فضاءا جغرافي يمتد على مساحة 213000 هكتار، أي ربع مساحة تلمسان كلها، ولها حدود مع المغرب ومع دوائر بني سنوس وبني بوسعيد وولايتي سيدي بلعباس والنعامة.

إن رقم المساحة هذه، يعكس تاريخ هذه القبيلة في شغلها للفضاء جغرافي كبير منذ تأسيسها لليوم، وهو الشيء الذي أعادنا بدوره للبحث والتنقيب في المنطة وعن أصولها وتاريخها مع الإنسان والحضارة .

تاريخيا لا يعرف الكثير حول السكان الأصليين للمنطقة، إلا أن بعض دراسات ما قبل التاريخ لمنطقة الغرب الجزائري، ومن ذلك بعض أبحاث النقيب NOEL الذي حاول كشف النقاب عن بعض الآثار التاريخية التي وجدت بالمنطقة من صوان والمنحوت، وحدد مناطق تواجدها بالعريشة والعابد وسيدي الجيلالي، وغيرها من القرى المنطقة[7]

بشريا إعتبر بعض الإثنوغرافين الذين إستند عليهم النقيب NOEL في مراسلاته أن السكان الأوائل في المنطقة كانوا يتميزون باللون القرفي، طردهم البربر إلى السنغال والسودان (الغربي) حين وفدوا من المشرق، وإستوطنوا مكانهم في المنطقة حوالي القرن 22 ق.م.

وتشهد الكثير من الأمكنة والأسماء والآثار على تعمير الجنس البربري (الزناتيين) للمنطقة موزعة بين جبال "تونزايت وتنوشفي وخليل، ودشرة اليهودي، وعين تادالت  والمحجوب والمشاميش وميسون وسيدي المخفي، والصيادة وجبل سيدي العابد، ويرجح أن فترة تعميرهم إستمرت إلى ما قبل الاسلام، وبالإضافة  إلى هذه الشواهد المادية، هناك شواهد رمزية ولغوية في المنطقة، من ذلك تسمية العديد من المناطق ، كتادارت، وبويلفان و تيفرتيت[8]....الخ.

وعلى ما يبدو فان صلابة البرر الذين كانوا يوجدون بالمنطقة حال دون تمكن الرومان من السيطرة عليها ، وضمها لبوماريا تلمسان[9].

وفي تاريخ لاحق وخلال مسار حكم الدويلات للمغرب الأوسط، تم إنشاء العديد من الحصون والقلاع والمحلات العسكرية بهذه المنطقة، من ذلك حصن تامزدكت بجبل المحصر إلى الجنوب من وجدة، وقلعة جبل تنوشفي، وحصن سبدو الواقع في السفوح الجنوبية وحصن القور وهي الأثار التي يبقى منها العديد إلى اليوم كشواهد تاريخية على التحولات والمخاض الذي عرفته المنطقة أثناء تعاقب حكم الدول واحتلالها أيضا[10].

فيما يخص مجال التحرك أو الحيز الجغرافي الذي شغلته هذه القبيلة بين الأمس واليوم فإنما تم تسجيله من خلال بعض الحوارات مع مخبرينا، واعتمادا على أبحاث النقيب NOEL الإثنوغرافية، فقد شمل تواجدهم قديما لمجال تحرك مضاعف عما هو عليه القبيلة اليوم.

إذ وصلت تحركات عشائرها إلى الجنوب للجزائر خصوصا جبال عمور، التي كانت تضم جزءا هاما من قبيلة أولادنهار أنذاك ويرجع سبب هذا التحرك وشغل كل هذه المساحة إلى عاملي التجارة، واعتبار المنطقة قديما كمعبر هام لها، يضاف لها عامل القرابة التي كانت تعيش في إقطاع هام من هذا الفضاء بالإضافة إلى عوامل بيئية ساهمت في تطبع هؤلاء مع حياة الترحال بين هذه المناطق.

ب ـ أصوله

تعتبر بعض الإثنوغرافيات التي حصلنا عليها، أن قبيلة أولاد نهار أول ما نشئت من العرب المهاجرين لبلاد المغرب والاندلس وتنحدر نسبيا من الإمام إدريس الأصغر بن إدريس الأكبر إلى غاية فاطمة الزهراء بنت سيدنا محمد صلعم[11]، وبالضبط من أسرة إدريسية هاجرت إلى جبال عمور بالأطلس بعد سقوط عاصمة الدولة الإدريسية فاس عام 935م، وقد إحتضنها الأمازيغ الذين كانوا يعمرون بالمنطقة.

وفي أواخر القرن 13م ظهر حفيد من أحفاد هذه الأسرة الإدريسية يسمى محمد بن أبي العطاء - حسب أغلب الرويات المتواترة أو المكتوبة – هذا الأخير الذي خلف ثلاثة أولاد، منهم الابن الثالث والمسمى "زيد" والذي كنى "بنهار" هذا الذي سيكون الأب الحقيقي لأولادنهار، والذين استستلهموا منه اسمهم، هذا العرش الذي عرف في مرحلة لاحقة من تاريخه التشتت لفروعه وعشائره بين عدد من البلدان المغاربية والمشرقية وذلك خلال القرنين 14م وبداية القرن 15م، ومن هذا التشتت بقي فرع من العرش قابعا بمنطقة جبال عمور وهو الذي تشكلت منه القبيلة في مرحلة ثانية بين القرنين 15م و16م وعمت منطقة الصفيصيفة خلال القرن 15م وضمت أحفاد زيد بن محمد بن أبي العطاء وذريتهم اللاحقة لسيدي عبد الرحمن وأبنائه أحمد وموسى ويحي، هذا الأخير الذي سيشكل من أبنائه وأحفاده وأتباعه عرش أولادنهار الجديد بناحية سبدو – وهم أولادنهار الحاليين بالمنطقة- وبذلك أصبحت قبيلة أولاد نهار إلى اليوم، تتخذ من سيدي يحي الجد والمؤسس والضريح  الذي تحج إليه كل موسم فهو ملاذها الروحي، وشيخها القومي دليل هويتها وإرتباطها الجنيالوجي بسلالة الأشراف وجدهم رسول الاسلام محمد بن عبد الله صلعم.

ج- تسميته

سبب تسمية القبيلة أسال الكثير من الحبر، وتداولت الروايات الشفوية الكثير من الأراء والإختلافات، منها ميلاد أربعين ولدا في يوم واحد لمحمد بن أبي العطاء تشكلت منهم القبيلة وسميت بذلك، وهذا حسب أحد المخبرين (78 سنة).

أما بعض المراجع الإثنوغرافية التي درست المنطقة فتتفق حول رواية واحدة وهي المتداولة بالمنطقة، والتي ترى أن السبب الرئيسي للتسمية ينطلق من الحادثة التي وقعت لمحمد بن العطاء، والذي كان عائدا من الحج في بعض الروايات، أو صيد في بعض أخرى فسمع بخبره واصل بن وانزمار السويدي، الذي كان ينشط ضمن كبار قطاع الطرق أنذاك بالمنطقة الممتدة عبر السهوب، فأغار على محلة محمد بن أبي العطاء في غيابه  وبعد عودته أخبه الرعاة بما جرى فتتبع أثار واصل بن وانزمار وتبارز معه بواد يسمى " واد اللوز" واقع شرق مدينة تيهرت  الحالية، فقتله خلال يومه ذاك، وبشأن وانزمار يقول Berque Jacques "واصل بن ونزمارالسويدي قائد بدوي من قبيلة سويد، التي عرفت خلال قرن 14م بفضل ابن خلدون والتي كانت تنتقل بين جبال الظهرة شمالا والصحراء جنوبا، إذ كانت تسيطر على هذه المنطقة من الجزائر "، ويذكرمن ذلك تلمسان وفاس وتونس[12].

والمهم أن منطقة المعركة إلى اليوم تسمى وادي نهار واصل وأحيانا أخرى نهر واصل وهو ما يجعل الروايات متضاربة بين كون القبيلة سميت بنهار ذاك اليوم كبعد زمني يؤرخ لها، أو لنهر واد اللوز كبعد جغرافي، أو لنهار كبعد بشري وهو الإبن القادم لمحمد بن أبي العطاء.

والحكاية معروفة ونقلتها عدة صيغ لنسابية العشماوي، نسجل للمثال نفس الحكاية بثلاث صيغ مختلفة للنسابيات، (مخطوط فاس مترجم من طرف" ل.ش فيرو"حول الشرفة بالمغرب سنة 1877م، ومخطوط الجنوب الشرقي الجزائري، الذي ترجمه "جياكوبيتي" حول الانساب سنة 1906م ومخطوط القطاع الوهراني الذي استعمله "بلهاشمي بن بكار"، والممثل في الياقوتة الذي نشره سنة 1961م).

والأصح حسب هذه الروايات المكتوبة والبعض من الشفوية المتداولة بمنطقة البحث، هي أن محمد بن أبي العطاء قتل واصل الزمري أو ابن وانزمار السويدي في واد أو نهر اللوز، الذي أخذ منذ ذلك اليوم كما سبق الذكر اسم " نهر واصل " يضيف النقيب Noel قائلا " نفس يوم المعركة ولد لمحمد بن أبي العطاء ولدا سماه زيدا لكنه لقبه بنهار إحتفاءا وتيمنا باليوم المشهود الذي إنتصر فيه على عدوه[13]، وبهذا يبقى اصطلاح أولاد نهار هو السائد اليوم بالمنطقة، ومع مرور الزمن زال من القاموس المتداول اصطلاح عبارة أولاد نهر[14].

الولي سيدي يحي بن صفية

الكلام عن ظهور الولي سيدي يحي يقودنا قبل التعريف بشخصه إلى تلخيص مسيرة أسرته التي اجتمع شملها في زواج سيدي عبد الرحمن الطالب الشاب من لالا صفية بنت سيدي سليمان بن أبي سماحة البوبكري الصديقي[15] وكان ذلك حوالي سنة 1527م، كما ذكرت ذلك بعض المراجع والأبحاث، وكان من نتائج هذا الزواج ميلاد سيدي يحي سنة 1529م/935ه وبعده أخويه أحمد وموسى، ونكتفي بأولهم – سيدي يحي-، هذا الذي عاش يتيم الأب منذ سن العشر سنوات، وهو الشيء الذي حتم عليه وأخويه وأمه للعيش مع أخوالهم لمدة طويلة من الزمن، هذا الذي عزاه بعضا من الباحثيين في تكنية أولاد سيدي عبد الرحمن بإسم أمهم لالا صفية بدل اسم أبيهم يقول في ذلك الباحث خليفة بن عمارة " إننا أمام حالة نادرة لإلحاق سلالة إمرأة، رغم كونها متزوجة من رجل شريف، وكرد فعلي وعكسي بقبيلة البوبكرية"[16]

وفي مقابل هذه التسمية الكنية بأبناء صفية، برزت وإنبعث من جديد الإستعمال المتزايد لعبارة أولادنهار، عبارةعمرها أنذاك أكثر من قرنين (زمن زيد بن محمد بن أبي العطاء) أعادها المعنيون للواجهة، مع كثيرمن الدعاية لإبراز اختلافهم عن البوبكرية".

   وقد اتخذ سيدي يحي من منطقة سبدو مكان لإنشاء زاويته ومن خلالها القبيلة التي بدأت تتشكل من حول هذا الولي خلال القرن 16م، وقد أخذ العلوم عن بعض الشيوخ والأقطاب ومن بينهم سيدي عبد الرحمن السهلي، وجده سيدي سليمان بن سماحة كما يذكر ذلك [J Berque.[17.

وبذلك عرفت المنطقة نوع من التعمير بعد الفراغ والفوضى التي عاشتها من قبل، وكثر عدد الأتباع والمرديين، وتشكل بذلك عرش أولادنهار من خلال بعض هؤلاء ومن خلال أبناء وأحفاد هذا الولي، الذي وفته المنية حوالي سنة 1610م حسب بعض المراجع[18] ودفن كما يذكر الجيلالي بن عبد الحاكم "بواد بوغدو"[19] في جبل محمد السنوسي على بعد أربعة عشر ميلا من سبدو.

وعليه قبة عظيمة يقصدها الناس للزيارة والتبرك[20]، بحيث تعقد عليه القبيلة إحتفالا سنويا يسمى بوعدة سيدي يحي بن صفية من كل خريف، يجتمع خلاله أولاد نهار وغيرهم ويضربون ماخف من بيوتهم قرب ضريحه لمدة ثلاثة أيام يكرمون فيها الضيوف ويقدمون الولائم والذبائح، ويطعمون الطعام توحد فيه الآراء وتحل الخلافات، وتستعرض فيها القبيلة فلكلورها، وتبرز محليتها ومميزاتها عبر لعبة العلاوي والبارود والفروسية، وتلتقي جموع الذكر والمذاكرة فيعاد أحياء مناقب الصالحين والجد سيدي يحي بفضاله ومحامده وستذكر القبيلة ماضيها وحاضرها وتحدد أفاق مستقبلها وتوحد جهدها لخدمة أفرادها ووطنها.

وتتفرق جموعهم من حول ضريح سيدي يحي، بمثلما أفتتح به من دعاء وذكر، محددين لنفسهم موعدا السنة المقبلة، وبذلك يعيد العرش تجديد وشحن هويته وهندستها كل سنة حينما يلتقي زمنه الأسطوري وحاضره الدينوي، وتحدد ملامح وجوده وإستمراريته عبر الأجيال المتعاقبة، أملا في تواصل لا ينقطع ما دامت تنشئة إجتماعية تلقن للأجيال الحالية  فلا تجد فرقا بين مثقف وأمي، لا شيخ ولا صغير، لا إمرأة ولا رجل، كلهم تجدهم بالموسم وكل له آماله ومرجواته، وكل له طريقته في التضرع لله عبر وليه سيدي يحي، وكل له مخياله وتصوراته، وتمثلاته إتجاه الولي الجد وإتجاه قبيلته عبر عمر زمني لموسم إحتفالي عمره اليوم يحسب بالقرون.

نتائج البحث

ما يمكن أن يقال في ختام ملخص هذه الرسالة ومن خلال البحث عموما اشتماله على ثلاث محاور أساسية نعتبرها شاملة وجامعة لمجمل أبعاد ومؤشرات هذا العمل، ونختصرها في جملة النتائج البحثية التالية:

المحور الأول

 البعد السوسيو ثقافي لظاهرة الوعدة

 تعد من خلاله الظاهرة ومن منظور فاعليها، ومن ملاحظاتنا لسلوكياتهم وممارساتهم مصدرا أساسيا للرقابة الإجتماعية والثقافية على أفرادهم، فالرغبة في التعاقد والتلاحم الإجتماعي بين فرق العرش  ومقاومة التشتت الذي تعرض لهذا الأخير، هي من أساسيات إنعقاد وإستمرارية هذه الظاهرة (الوعدة).      

إن إستمرارية الظاهرة اليوم يطرح كضرورة لفرض هذا العرش لرقابته على مجاله الترابي ومميزاته الثقافية الخاصة به وبالمختصر المفيد فإن الظاهرة اليوم هي دافع طقوسي لفعل التواصل والإستمرار لهذا العرش ككيان وكفاعل إجتماعي موجود لم ينتهي، يعبر عن نفسه من خلال هذه المظاهر الإحتفالية الشعبية التي تذكره بخوفه عن ضياع قيمه بين المتناقضات المادية والإقتصادية الضاغطة اليوم كما يقول بذلك الدكتور رجب النجار[21].

في إستمرارية القيام بالإحتفالية هذه والتشبث بها وجد أفراد هذا العرش النظام الضبطي الرقابي المتوارث بينهم، الذي يمتثلون له ويضبط  سلوكياتهم وممارساتهم بشكل ينتظمون من خلاله وتوحد جهودهم، ويعزز تضامنهم وتحل العديد من مشاكلهم بقوانينهم العرفية بعيدا عن السلط القانونية للدولة في كثير من الأحيان.      

إن تضافر عامل اللحمة الجماعية من جهة أخرى من خلال إجتماع العرش بجميع مشاربه حول ضريح وليه المؤسس له، يحيل هؤلاء إلى العودة والتذكر في أصل البدأ والتكون، ومن ثمة تصبح الوعدة ذات زمن أصلي-قدسي يجمع هؤلاء في وحدة متناهية متجانسة أمام المتغيرة القدسية المسيطرة على مخيالهم الشعبي.   

إن الوعدة اليوم أضحت مرتبطة بزمن إجتماعي تضبط من خلاله القبيلة تفاعلات أفرادها فهي تتوسط لحظات الخصب سواء من خلال حصاد المحصول أو من خلال بدأ عملية الحرث وبالتالي فإن اجتماع هؤلاء فيه نوع من الدعوة للتضامن في كلتا الحالتين، في المقابل فإن إستعراضات الفلكلور بإختلافه، يفرض نوع من الرقابة الثقافية في المخيال الجمعي لهؤلاء سواء في تميزهم وإختلافهم أو حتى في تفاخرهم، وبالتالي في ذلك نوع من التذكير للأجيال بخصال الأجداد والقبيلة ككل، وبالتالي تسهم هذه الأخيرة من خلال الوعدة وطقوسياتها في تحقيق نوع من الرقابة الإجتماعية والثقافية التي تربط الذاكرة بماضي الجداد ومعاني لقائهم وإستعراضهم لفلكلورياتهم سواء في الإجتماع أو في نكران الذات الفردية لفائدة صالح الجماعة.

المحور الثاني

 البعد الديني لظاهرة الوعدة

الملاحظ من خلاله لممارسات وسلوكيات هؤلاء التي عكست فعل الإعتقاد الشعبي لهؤلاء ومن خلاله تدينهم الشعبي، في مقابل التدين الرسمي المبني على النص.

المخيال الشعبي المحلي لا يفصل بين ما هو ديني رسمي، وما هو متعلق بالتدين الشعبي فالواحد يحتوي الآخر، فلا يوجد في تمثلاته أصلا لحدود بينما هو ديني وشبه ديني، بل ليس هناك بدعة ولا حرام، وممارساته من خلال طقس الوعدة هي من الإسلام، وبالتالي فاستمرارية الظاهرة هذه بأهدافها ووظائفها ودوافعها من صميم التوجه الديني العام والصحيح.

الولي من المنظور الشعبي لهؤلاء هو رمز مقدس وجزء لا يتجزء من قداسة الله ورسوله وشرفه، وبالتالي فطاعته واجبة كبقية الفروض الدينية، وإحتفاليته أمر ضروري في كمال تدين هؤلاء، أكثر من ذلك فقد أصبح الولي وإحتفاليته من الدين الإسلامي والإدعاء بغير ذلك من المنظور الشعبي لهؤلاء هو خروج عن الملة وجادة الصواب، فالولي في التمثلات الشعبية لهؤلاء من لحم ودم النبي (ص) وسلالته الشريفة، وغايته في الدنيا دوما تكون الإسلام.

يقول الدكتور حليم بركات في ذلك :" الإنسان الشعبي خلال تدينه وجد الإختيار الروحي والتدرج في علاقة المؤمن بالله سبيلا للتعبد بالأولياء والمزارات والاحتفال بها"[22].

 ويقول أيضا " إن المؤمن توصل إلى ضرورة إقامة واسطة بينه وبين الله، وهذه الواسطة هي الولي، بعد أن ابتعد الله عن صورة الأب، وأصبح ظاهرة بالغة التجريد وبعيدة الحضور"[23].

إن هذه الوعدة اليوم بتعبير هذا المجتمع المحلي الفاعل لها بمنطقة أولاد نهار هي لحظة تجديدية لعلاقتهم بحقل القداسة (الولي) ومن ثمة بين جميع الفئات الإجتماعية المختلفة المشكلة لهذا العرش، والتي وجدت في هذا التجمع السنوي نوع من الأمر العفوي لتساكنهم الإجتماعي لبعضهم، وفي تذكر خصال شرفائهم وإختبار حجم تدينهم، وفي ذلك محطة مقدسة لشحن الذات المؤمنة بتعبير المبحوثين.

المحور الثالث

البعد السوسيونفسي لظاهرة الوعدة

توصلنا في جزئه هذا إلى إعتبار أن استمرارية ظاهرة الوعدة اليوم بمثلما تحمل معاني الكلام السابق الذكر، ففي ممارسة طقوسياتها نوع من الإشباع لحاجات روحية وسيكولوجية ومادية وغيرها، فإبراء المرض من خلال طقس الزيارة، والتخلص من سوء الطالع والسياحة الدينية والترفيهية عوامل معبرة عن هذا التواصل بين المضروح وأتباعه من خلال طقس الوعدة، والمحاولين من خلاله تجاوز إغترابات الوضع الإجتماعي والإقتصادي، إلى البحث عن بديله في ثنايا الأضرحة وإحتفالياتها لأجل تحقيق نوع من الطمأنينة والراحة والفرج، ولو ظرفيا.  

فمجمل الرؤى الشعبية بالمنطقة تتفق إلى حد بعيد في إعتبار هذا الولي كرمز مقدس وضريحه كنقطة مركزية في حلقات تواصلها وفي تدينها الشعبي، وبالتالي تصبح الحاجة للوسيط، والبحث عن الطمأنينة والراحة والفرجة والهوية ذات معنى واحد في لحظة تواجد هؤلاء خلال طقس الوعدة بهذا الضريح.  

وبالتالي فمسألة إستمرارية الوعدة هي اليوم فعلا، ومن خلال ميدان هؤلاء يراد منها في مقام أول تحقيق نوع من الإرتباط بعوالم الأجداد ومن ثمة التشبث بهوية مميزة لهؤلاء، وجمع قدر المستطاع هذا العرش الذي فككه الحراك الإجتماعي وسياسات التحديث والإجتثاث التي مورست في حقه.

بصفة عامة ومن خلال هذه المحاور بصفة خاصة تدرك الظاهرة في محتواها الوظيفي والقيمي والرمزي، وأدوارها في حياة هؤلاء الروحية منها والمادية، وتبين لنا في ذلك جزء من سرها الإجتماعي والثقافي والديني والنفسي والإقتصادي والسياسي لأهل المنطقة ولعموم المجتمع والسلطة السياسية المسيرة للبلد، فالكل يبحث عن ذاته، عن هويته، عن إثبات وجوده وتميزه، ولكل في ذلك طرقه الخاصة، ومن كل هذا يبقى الإعتقاد الشعبي مستمرا في تقديسه للمزارات وللحظات اللقاء بها، وتبقى معه جميع الشرائب مشدودة إلى ذلك برغم الحداثة التقنية والمعرفية.

 المراجع المعتمدة

1)- ابن عبد الحاكم، الجيلالي، المرآة الجلية في ضبط ما تفرق من أولاد سيدي يحي بن صفية، تلمسان، مطبعة بن خلدون، 1961، ط1   

2)- بال، ألفرد، الفرق الإسلامية في الشمال الإفريقي، ت.بدي ع.الرحمن، بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1981، ط1.

3)- د. بركات، حلبم، المجتمع العربي المعاصر، بحث إستطلاعي جماعي، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2001، ط7.

4)- الشيخ بن بكار، بلهاشمي، "السلسلة الوافية والياقوتة الصافية"، من كتاب مجموع النسب والحسب و الفضائل والتاريخ والأدب في أربعة كتب، تلمسان، مطبعة ابن  خلدون، 1961م / 1381.

5)- بورقية، رحمة، الدولة والسلطة والمجتمع "دراسة في الثابت والمتحول في علاقة الدولة بالقبائل في المغرب"، بيروت، دار الطليعة للطباعة والنشر، 1991، ط1.

6)- بن عمارة، خليفة، مسيرة البوبكرية، اجداد أولاد سيدي الشيخ، ت، محمد قندوسي، وهران، مكتبة جودي مسعود، 2002.

7)-  الزاهي، نور الدين، المقدس الإسلامي، الدار البيضاء- المغرب، دار توقبال للنشر، 2005، ط1.

8)- عبد الغني، عماد، سوسيولوجيا الثقافة، المفاهيم والإشكاليات،....من الحداثة إلى العولمة، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2006، ط1.

9)- النجار، محمد رجب، " القيم والعادات والتقاليد العربية "، من كتاب دراسات في المجتمع العربي، عمان، إتحاد الجامعة العربية، 1985، ط1.

10)- Andezian, Sossie, Expériences du divin dans l’Algérie contemporaine, Adeptes dans Saints dans La région de Tlemcen, Paris, CNRS Editions, 2001.

11)- Berque Jacques, L’Intérieur du Maghreb 15-17 Siècle, Paris, Edition Gallimard, 1978

12)- Berque Jacques, Ulémas, Fondateurs, Insurges de Maghreb (17 Siècle), Paris, Sindbad, 1981

13)- Capitaine Noel, BSGO, Document Historiques les Tribus de l’ennexe d’ElAricha, SEP –DEC 1917.

14)- Dermenghem, Emile, Le Culte des Saints dans l’Islam Maghrébin, Paris, Gallimard, 1954.     


الهوامش

[1] الزاهي، نور الدين، المقدس الإسلامي، الدار البيضاء- المغرب، دار توبقال للنشر، 2005، ط1،  ص.51.

[2] بال، ألفرد، الفرق الإسلامية في الشمال الإفريقي، ت.بدي ع.الرحمن، بيروت، دار الغرب الإسلامي 1981، ط1، ص.433.

[3] Dermenghem, Emile, le Culte des Saints dans l’Islam Maghrébin, Paris, Gallimard, 1954, pp. 152-153.

[4] Andezian, Sossie, Expériences du divin dans l’Algérie contemporaine, Adeptes dans Saints dans la région de Tlemcen, Paris, CNRS Editions, 2001, p. 122.

[5] عبد الغني، عماد، سوسيولوجيا الثقافة، المفاهيم والإشكاليات،.... من الحداثة إلى العولمة، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2006، ط1، ص.158.

[6] بورقية، رحمة، الدولة والسلطة والمجتمع " دراسة في الثابت والمتحول في علاقة الدولة بالقبائل في المغرب"، بيروت، دار الطليعة للطباعة والنشر، 1991، ط1، ص.169.

[7]  Capitaine Noel, BSGO, Document Historiques les Tribus de l’Annexe d’ElAricha, SEP –DEC, 1917, pp. 233-236

[8] تادرات، قرية أو مجموعة من الديار، وادي بويلفان تعني واد الخنازير، وكلمة يلفان، الخنازير ومفردها يلف أي خنزير أما كلمة تيفرتين فتعني الكهف أو المغارة الصغيرة

[9] Ibid, pp. 237-238.

[10] Ibid, pp. 237-239.

[11] ابن عبد الحاكم، الجيلالي، المرآة الجلية في ضبط ما تفرق من أولاد سيدي يحي بن صفية، تلمسان، مطبعة بن خلدون، 1961، ط1، ص.26.

[12] Berque, Jacques, L’Intérieur du Maghreb 15-17 Siècle, Paris, Edition Gallimard, 1978, p.337.                                            

[13] ابن عبد الحاكم، الجيلالي، مرجع سابق، ص.ص. 38-39.

[14] بن عمارة، خليفة، مسيرة البوبكرية (1)، اجداد أولاد سيدي الشيخ، ت، محمد قندوسي، وهران، مكتبة جودي مسعود، 2002.، ص 92.

[15] الشيخ بن بكار، بلهاشمي، "السلسلة الوافية والياقوتة الصافية"، من كتاب  مجموع النسب والحسب و الفضائل والتاريخ والأدب في أربعة كتب، مطبعة ابن  خلدون، 1961م / 1381ه، ص.ص. 265- 266.

[16] ابن عمارة، خليفة، نفس المرجع، ص. 95.

[17] Berque  Jacques, Ulémas, Fondateurs, Insurges de Maghreb (17 Siècle), Paris, Sindbad, 1981, p.57.

[18]  ابن عمارة خليفة، نفس المرجع ، ص 97.

[19] ابن عبد الحاكم، نفس المرجع، ص 42.

[20] نفس المرجع السابق، ص 42.

[21] النجار، محمد رجب، " القيم والعادات والتقاليد العربية "، من كتاب دراسات في المجتمع العربي، عمان، إتحاد الجامعة العربية، 1985، ط1، ص.316.  

[22] بركات، حليم، المجتمع العربي المعاصر، بحث استطلاعي جماعي، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2001، ط7، ص.ص. 258-259.

[23] نفس المرجع، ص.233.

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran
+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11
+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Recherche