Sélectionnez votre langue

مسار الخطاب التواصلي عند بشر بن المعتمر

إنسانيات عدد 46 | 2009 | ألسنة وممارسات خطابية | ص39-47 | النص الكامل 


An overall view of Bichr Ibn Mouatamir’s communicative discourse

Abstract: Through this article we have tried to contemplate the general frame work of the relationship between language reality discourse, enabling us to call to mind the relationship existing between language and deliberative discourse focalizing our attention on communicative discourse founded on the linguistic aspect in its relation to syntax contexts, leading us to talk about important cognitive and methodological aspects which create a communicative scientific legitimacy between discourse and language.
Through this thematic choice, we have also tried to show the communicative dimension with its two rational and linguistic aspects which are concerned by linguistic discourse study within society, this is the main concern for linguistics

Keywords: discourse - language - conversational implications - interpretation - communication - linguistique.

Mokhtar LAZAARMaître de conférences, Université de Mostaganem. 27 000, Mostaganem, Algérie.


 

لا شيء أسرع من حركية الدليل في تبيان مبدأ القصود، ليس ذا واقع نصّي حامل لتلكم الحقائق المطلقة، التي تجعل من الدليل يسبح فيها سبحا غير مبرح، وهو إذ ينحو نحو هذا المنحى إلا لعلمه اليقيني بأنّ هناك علاقة وجودية ومعرفية تربطه بواقع النص على اختلاف مستوياته الداخلية والخارجية؛الأمر الذي يؤهل من الذات المتلقية أن تتحلى بلغة شاملة لكي تدرك تلكم الأبعاد التي يحويها الدليل على مختلف تموقعاته السياقية، في الوقت الذي نؤمن فيه إيمانا جازما بأنّ مستويات الفهم والإدراك لا تسير على وتيرة واحدة، وإنّما هي أبعاد يتلقاها المتلقون حسب طبيعة الدلائل التي ترتسم على واقع الأذهان.

ولما كان همّ هذا المقال ينصب أساسا حول طبيعة العلاقة الجامعة بين الاستلزام الحواري التداولي والخطاب الإشهاري بما يحمله من أبعاد معرفية تختلف باختلاف المقامات، استوجب منا منهجيا أن نشير إلى أهم ما ينماز به دليل الإشهار في علاقته بالضابط الحواري الجدلي، لننظر أيصدق هذا الطرح العلمي في واقعنا المعاصر الذي نعيشه لحظة بعد لحظة، وهو يتماشى وطبيعة المفاهيم التي ما فتئت تنعت عند غالبية فلاسفة اللغة-قديما وحديثا-بصلاحية المفهوم لكل زمان ومكان؛بحكم أنّ أغلى سمة أهّلته لأن يحتل هذه الصدارة، هو اتصافه بمبدأ التصور الذي لا يؤمن بالجانب التقعيدي المعياري الذي لا يسمن و لا يغني من جوع.

غير أنّه من باب الإنصاف العلمي الموضوعي نبيّن حقيقة لربّما انطوت تحت إطار المسكوت عنه (Le non dit) في ظل عنوان المقال، والمتمثلة في ما يمكن تسميته بـ: المناسبة؛ على أساس أنّ شرط الخطاب الإشهاري يعطي من الاهتمام البالغ إلى واقع المناسبة ما لا يعطيه لسياق آخر، وذلك لمَ فيه من الأهمية بمكان في تحقيق عملية تواصلية بين مرسل الخطاب ومتلقيه على اختلاف مستوياتهم الفكرية والفلسفية والمعرفية وهلمّ جرّا.

من هذا المنطلق وجدتنا ملزمين منهجيا أن نشير ولو باختصار إلى بُعد أهمية المناسبة المتماشية مع الإشهار وفق ما أشار إليه القدامى في أبحاثهم اللغوية، محاولين إسقاط بعض من الإجراءات الدلائلية القائمة على مبدأ الاستلزام الحواري في علاقته بواقع المتلقي الذي يشكل الحجر الأساس في العملية التواصلية القصدية التي تجعل من دليل الإشهار يؤتي أكله حسب السياقات والمقامات.   

أهمية اللغة في إثارة الجماهير: الثابت الذي لا شكّ فيه، أنّ أغلى ميزة ينماز بها الوجود الإنساني هو ذلكم الاستيعاب الأكمل والأقوم الذي جعله الخالق سرّا من أسراره والمتعلق بسرّ تكليف الإنسان بحمل أمانة عظيمة؛هذه الأمانة التي يجب أن يُوصلها إلى مقامها الذي يليق بها بسلام، فهو من هذا المنطلق يملك الاستعدادات الفطرية والوجودية والنفسية للتخاطب مع الآخرين من أجل تحقيق عملية تواصلية لها صلة وثيقة بالمجتمع الذي يعيش فيه، وعلى هذا الأساس«فمنذ كان الوجود، كان الصوت، كان الإنسان المصدر البشري لهذه الظاهرة، وما كان ذلك إلا لأنّ الصوت هو الحامل المادي للحضارة الإنسانية، نظرا لطبيعته الحسيّة»[1].

إنّ اللغة هي الحامل المادي للتراث البشري وثقافته على الإطلاق مع عطائه في مختلف المجالات؛فلا غرو إذاََ من أن تنصرف جهود العلماء المختصين والباحثين على اختلاف اتجاهاتهم لتدارسها ومعرفة حقيقتها وتبيان كيفيتها، ومن ثم ظل الإنسان-نتيجة احتكاكه بواقع اللغة-«يمتاز بالعلم، وإنّما العلم بالتعلم، والتّعلم باللغة، واللغات تتفاضل في حقيقتها، وجوهرها بالبيان، وهو تأدية المعاني التي تقوم بالنّفس تامة، على وجه يكون أقرب إلى القبول، وأدعى إلى التأثير، وفي صورتها، وأجراس كلمها بعذوبة النطق، وسهولة اللفظ والإلقاء، والخفة على السّمع»[2].

وتجدر الملاحظة إلى أنّ مفهوم اللغة في علاقتها بواقع طبقات البشر فيما بينهم، كان يأخذ بُعدا فكريا وتصورا متميّزا عند القدامى الذين استطاعوا أن يعطوا بُعدا معرفيا، كتب له المسار المعرفي والثقافي البقاء إلى يومنا هذا. وتفاديا لسرد غالبية النصوص التي تحمل هذه الحقيقة المشار إليها آنفا، لا ضير من أن نختار عينة واحدة لا شريك لها، والتي استطاعت-على حدّ زعمنا-أن تصوّر بحق مدى العلاقة التواصلية التي تؤديها الألفاظ فيما بينها داخل السياقات والمقامات المصحوبتين مع عملية الإرسال المتخذة من قبل الباث والمتلقي، والحاوية في باطنها على مجموعة من الدلائل الإشهارية التي جعلت عملية الإرسال تعطي الاهتمام البالغ إلى واقع المتلقي الموجود وجودا عينيا أو تصوريا.

إنّها تلكم الإشارات التي أشار إليها بشر بن المعتمر (ت226ه)  شيخ الجاحظ (ت255ه) وهو يبيّن مدى أهمية الدليل الإشهاري المعتمد من قبل الباث في علاقته بالمتلقي والقادر على تحقيق عملية تواصلية تختلف باختلاف المقامات والأحوال.

يشير بشر بن المعتمر المعتزلي شيخ الجاحظ إلى هذه الحقيقة قائلا «ومن أراغ (قصد) معنى كريما فليلتمس له لفظا كريما، فإنّ حقّ المعنى الشريف هو اللفظ الشريف، ومن حقهما أن تصونهما عما يفسدهما و يهجنهما، وعما تعود من أجله أن تكون أسوأ حالا منك، قبل أن تلتمس إظهارها وترتهن نفسك بملابستهما وقضاء حقهما. فكن في ثلاث منازل، فإنّ أولى الثلاث أن يكون لفظك وثيقا عذبا، وفخما سهلا، ويكون معناك ظاهرا مكشوفا، وقريبا معروفا، إما عند الخاصة إن كنت للخاصة قصدت، وإما عند العامّة إن كنت للعامة أردت»[3].

ويواصل بشر بن المعتمر في بيان قدر اللفظ في علاقته بالمعنى حتى تستطيع اللغة أن تؤدي وظيفتها، التواصلية (الإبانة والوضوح). يقول في هذا المقام ما نصّه:«وينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينها و بين أقدار المستمعين، و بين أقدار الحالات، فيجعل لكل طبقة من ذلك كلاما، ولكل حالة من ذلك مقاما، حتى يقسم أقدار الكلام على أقدار المعاني، وأقدار المعاني على أقدار المقامات، وأقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات»[4].

لا مندوحة لنا من التوقف عند بُعد هذين النصين اللذين استطاعا إلى حدّ بعيد أن يعكسا كثيرا من القضايا المعرفية المتعلقة بالضابط التواصلي بين مرسل الخطاب ومتلقيه على اختلاف مستويات درجة الخطاب؛فنقول في حق النص الأول ما يلي:

  • إنّ قوله:"ومن أراغ (قصد) معنى كريما فليلتمس له لفظا كريما ؛ فإنّ حقّ المعنى الشريف هو اللفظ الشريف"يعكس حقيقة معرفية مفادُها أنّ الفعل الإنجازي للحدث الكلامي على الرغم من تساوي مخرجه في الوجود الإنساني أثناء عملية التلفظ، إلا أنّنا نجد دليل التمايز أو التذايث-على حدّ تعبير الفخر الرازي-في شأن مقصدية اللفظ هو الذي يؤهل من واقع اللفظ أن يكون شريفا، بحكم أنّ طبيعة المعنى الشريف تقتضي من دليل التشاخص أو التذايث القائم بين المعنى المجرد في ذاتية الباث المتلفظ به في علاقته بالمتلقي، يحقق بحق الشحنة الدلالية لمعنى الشريف، ومن ثم يتحقق التواصل في بعده الشمولي الاستغراقي ؛ على أساس أنّ مبدأ التقابل بين الفعل الإنجازي لمعنى الشرف في علاقته بمبدأ التصور يسيران جنبا إلى جنب مع طبيعة المسار الوجودي والمعرفي مع واقع المتلقي.
  • إنّ قوله:"ومن حقهما أن تصونهما عما يفسدهما ويهجنهما، وعما تعود من أجله أن تكون أسوأ حالا منك، قبل أن تلتمس إظهارها وترتهن نفسك بملابستهما وقضاء حقهما" ينم عن بُعد حضاري يتماشى وحُرمة اللفظ العاكس لحقيقة ذاتية الباث؛هذه الحقيقة التي كان منطلقها الأول هو المعنى المجرد الشريف المتماشي مع طبيعة اللفظ الشريف لا يستقيم لها وزن وجودي متميّز إلا بالمحافظة على هذه الحُرمة القائمة بين المعنى واللفظ. غير أنّ بشر بن المعتمر كان حريّا في هذا النوع من الإطلاق في حق معنى الشريف، وذلك أنّه القائل باللفظ في علاقته بالمعنى الشريف هو في حقيقة أمره مسؤولية ينبغي أن تعكس واقع مرسل الخطاب فيتبنى حينها هذه المسؤولية فيراعيها حق الرعاية، من عدم إصابتها بشيء من لوازم الإفساد التهجين، بله تلكم الحالة السّوء التي لا يُعقل من عرف قدر شرف الألفاظ أن يسمح لمثل هذه الصفة أن ترتهن نفسُه بملابسته وقضاء حقّه، وهذا بدون ريب السبب الرئيس العائق لعملية التواصل.
  • إنّ قوله:"فكن في ثلاث منازل، فإنّ أولى الثلاث أن يكون لفظك وثيقا عذبا، وفخما سهلا، ويكون معناك ظاهرا مكشوفا، وقريبا معروفا، "يعكس من وجهة طبيعة المسكوت عنه حقيقة معرفية مفادُها بأنّه من غير المعقول إذا كان المعنى الشريف قد استوفت شروطه المتعلقة بمعنى الشرف في ذهنية الباث، حققا وفق هذه الصفة لنفسه لفظا شريفا ألا يضع نصب عينيه أنّ هذا التلازم التصوري التجسيدي يستلزم جدلا ثلاث مستويات ينبغي أن يولي الاهتمام بها والتي يمكن أن نقسّمها إلى قسمين : أحدهما للفظ، والثاني للمعنى. في حق اللفظ ينبغي لمرسل الخطاب أن يكون لفظه وثيقا عذبا، وفخما سهلا؛ هاتان السمتان تجعلان من عملية التلقي تؤتي أكلها محققة نوعا ما من التواصل يحسن السكوت عنده. لكن من باب الاستلزام الحواري تقتضي من ضرورة اللفظ أن يراعي أحوال المتلقي ؛ فليس كل ما تيقن منه الباث من واقع اللفظ المتحلي بهتين الصفتين يستطيع المتلقي أن يدرك أبعاده، وإنّما يحاول بالقدر الكافي أن يجعل من وثوق اللفظ وفخامته السهلة تتماشى وطبيعة أحوال واقع المتلقي بالقرائن التي يعيها بحق وكذا المستلزمات الحوارية الجدلية التي يدرك أبعادها، ومن هنا وجدنا دليل إشهار اللفظ من قبل الباث ينبغي أن يحقق معنى لدى المتلقي الذي به تتحقق العملية التواصلية. أما في حق المعنى فينبغي أن يكون معناه ظاهرا مكشوفا، وقريبا معروفا، وهي لفتة لطيفة تؤهل من المتلقي يكون في أتم الاستعداد في تقبل الحقائق التي يحتويها اللفظ، وذلك لتوفر هذا الأخير بالظهور والقرب؛على أساس أنّهما من الحجر الأساس في تحقيق مبدأ حواري يصب في عمق التواصل الإشهاري. أبعد من ذلك أنّ في ظهور وكشف وقرب ومعرفة المعنى من الدلالة الضمنية ما يجعل الاستلزام الحواري القائم بين الباث والمتلقي يحقق ضابطا تواصليا من نوع خاص ؛ إذ حاجة إشهار ما يريده الباث تقتضي أن يسلك سلوكا بائنا مكشوفا غير قائم على مبدأ الغموض والإبهام المنافي لدليل الاستلزام.
  • ثم في قوله:"إما عند الخاصة إن كنت للخاصة قصدت، وإما عند العامّة إن كنت للعامة أردت" دليل آخر على مدى تبيان درجة الاستلزام الحواري في علاقته بدليل الإشهار ومفادُه بأنّ طبيعة اللفظ المحقق للغالبية الشروط التي ذكرناها في النقاط السالفة الذكر يجعل من مرسل الخطاب يراعي أغلى شيء في عملية التواصل، وهو مفهوم الطبقة من بني البشر ؛ إذ الناس على صنفين إما الخاصّة أو العامة، فالخاصة لهم لغتهم وشفرتهم المنفردة التي ينبغي أن يُخاطبوا بها، كما لهم من الإجراءات الحوارية ما ينسجم مع طبيعتهم التصورية، فيلجأ حينها الباث أو مرسل الخطاب إلى الاهتمام البالغ إلى هذا النوع من المعاملة لكي يعطي للمتلقي حقّه الوجودي والمعرفي في إدراك قصدية الخطاب الموجّه إليه؛على أن يكون للعامة دليل استلزامي حواري يتماشى وإدراكاتهم العامة التي لا تصل إلى درجة أهل الخواص؛إذ المتلقي فيها يكفيه من عمومية اللفظ ما يدرك قصدية الباث ولو من جانب معين.

غير أنّنا نجد مسار الخطاب التواصلي عند بشر بن المعتمر يتخذ لنفسه بُعدا آخرا في النص الثاني هو أشمل بكثير مما هو عليه في النص الأول، وذلك أنّه ينتقل بعملية البث التي يقوم بها مرسل الخطاب من مستوى التجريد-إن صح هذا الحكم-إلى مستوى فعلي حركي مباشر في حق واقع المتلقي؛على قاعدة شرط الاهتمام والرعاية به بحكم أنّه يمثل الحجر الأساس في عملية التواصل وهو ما نجده بحق من أهم المرتكزات المنهجية الذي يركز عليه دليل الإشهار في علاقته بمبدأ الاستلزام الحواري ؛ فنقول حينها:

  • إنّ قوله:"وينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين ، وبين أقدار الحالات، "يعكس ضمنيا حقيقة معرفية مفادُها بأنّ المتكلم أو مرسل الخطاب ينبغي عليه أن يراعي في فعله الإنجازي مهما كان نوعه أو جنسُه قدر المعنى الذي يحويه، لكي يوازن بينه وبين قدر المستمع، وبين قدر الحالة التي يتعامل معها. لكن ما هو الضابط الاستلزامي الحواري الجدلي الذي يوليه الاهتمام في هذه العملية بالذات؟. المعلوم في الخطاب الإشهاري أنّه يعطي للمتلقي حقّه في الاستمتاع بما هو كائن في ظاهر الإشهار وباطنه؛ الأمر الذي يجعل من الواقع الخارجي للفظ الإشهاري يعكس لدى المتلقي عدة حقائق يكتنفها هذا اللفظ، ولإيصال قصدية دليل الإشهار لدى المتلقي ينبغي لمرسل الخطاب أن يقدم للمتلقي من الألفاظ ما يحقق نوعا من التلازم الحواري ما يجعل لغة الإشهار تصل إلى عمق قصدية المتلقي؛ فيعرف حينها البعد الإشهاري ما يحتويه من معان وأبعاد. إنّه قدر المعنى الذي يجب أن يتماشى مع قدر المتلقي/المستمع، ومنه قدر الحالات ؛ إذ كل حالة هي في حقيقة أمرها تمثل الشرعية المعرفية لدليل الاستلزام الحواري حتى يجعل من دليل الإشهار يستطيع أن يحط رحاله كاملة عبر السياقات التي يتعامل معها.
  • إنّ قوله:" فيجعل لكل طبقة من ذلك كلاما، ولكل حالة من ذلك مقاما، "ما يفي بالغرض المقصود الكائن في لب دليل الإشهار القائم على مبدأ الاحتواء؛الأمر الذي يؤهّل سلفا من الإنجاز الفعلي للحدث الكلامي أنّ هناك طبقة من المتلقين لهم من الكلام ما يليق بواقعهم الإدراكي والاستيعابي، وأنّ هناك حالات تتماشى وما يقتضيه المقام؛ إذ لكل مقام مقال على حد تعبير القدامى. لكن أين يلتقي مفهوم"الطبقة"الوارد على لسان بشر بن المعتمر مع دليل الإشهار في علاقته بالاستلزام الحواري؟. الحقيقة أنّ المقصود بالطبقة يعكس واقع المتلقي بما له القدرة الكافية في عملية الاستيعاب، وهو ما نشاهده في دليل الإشهار حين يكتب مرسل الخطاب أو يصور أو يتلفظ أو يشير بأحد لوازم الإشارة أو غيرها، فإنّه يضع نصب عينيه بأنّ مثل هذا الإنجاز الفعلي لبعد الكلام أن يراعي أنّ هناك طبقات في عملية التلقي؛إذ كل طبقة لها من الأهلية في إدراك المعنى وتقديره حسب القدرة الإدراكية التي تمتلكها وتتمتع بها في هذا الوجود، وعليه كان مبدأ الاستلزام الحواري يعطي اهتماما بالغا إلى هذا النوع من التقدير في عملية التواصل القائمة بيم الباث والمتلقي.
  • ثم إنّ في قوله:"حتى يقسم أقدار الكلام على أقدار المعاني، وأقدار المعاني على أقدار المقامات، وأقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات"ما يحقق بحق لدليل الإشهار شرعيته المعرفية والإجرائية في تحقيق استلزام حواري جدلي بين الباث والمتلقي يختلف بحسب المقامات والأحوال تبعا لحركية السياقات.

   والحديث عن بُعد الخطاب الإشهاري في علاقته بالوظيفة اللغوية لا يتوقف عند هذا الحد فحسب، وإنّما يتوغل ليصل مداه إلى ما يمكن تسميته بوسائل الإعلام؛هذا الأخير الذي يجد متنفسّه الوجودي والمعرفي في ظل علاقة اللغة بمستخدميها في إطار تحقيق تواصل يتماشى ومقصدية المقامات. وعليه لا ضير من الإشارة إلى هذه المعاني باختصار شديد فنقول:

  • ثمة علاقة حميمة يعرفها العام والخاص بين اللغة ووسائل الإعلام بكل صورها وأشكالها الداخلية والخارجية؛على أساس أنّ أنجع الطرق والسّبل في إثارة مشاعر الناس لا يمكن أن يبتعد عن مثل هذه الطريقة الأخيرة، بل أبعد من ذلك كله أنّنا نجد الخطاب السياسي من أهم مميزاته التي يرتكز عليها وهو يريد أن يثير فكرة معينة يريد الوصول إليها، إنّما يستخدم لغة معينة تتماشى إلى حدّ بعيد مع ما تقتضيه الفكرة التي يريد بثّها عند الصالح العام، أو لربّما كان ذلك قصد تجسيد تخطيط استراتيجي معين ومحكم، قصد بلوغ فكرة معينة تكون تبعا لسياق حالي معين.
  • تجسيد ما يمكن تسميته باللغات المكاشفات أو باللغة المخادعة، ومن ثم فأنجع الطرق لتحقيق هذه النية أو المقصد لا يخرج عن سبيلين اثنين:الخطاب الاستهلاكي، ثم الخطاب الذاتي. هذان السبيلان يمكن أن يطلق عليهما عند أهل الاختصاص في المجال اللغوي بـ: ازدواجية اللغة (Bilinguisme)[5].
  • لعل أهمّ ميزة ينماز بها أهل الاختصاص في مجال الحروب هو حسن استخدام واستغلال الكلمات؛على أساس أنّ الجماهير على الإطلاق-إلا من رحم ربّك-يتأثرون بالكلمة أو اللغة المنطوقة Langue parlée أكثر بكثير من الكلمة المكتوبة؛ومن ثم كانت القيادة أو عالم السلطة عبارة عن فن إثارة مشاعر الجماهير، والفضل كل الفضل إنّما يرجع للغة، وما بثّ فيها من أسرار وأبعاد.

إنّه الخطاب الإشهاري بكل شموليته الإطلاقية التي تؤهله لأن يحقق عملية تواصلية بين اللغة كنظام واللغة كاستعمال لدى البشر وهو ما يجعل من الخطاب يأخذ مسارا معرفيا يؤتي أكله كل حين حسب ما تقتضيه ضرورة المجتمع البشري من أخذ وعطاء.


الهوامش                                                                        

[1]- حساني، أحمد، مباحث في اللسانيات، الجزائر، ديوان المطبوعات الجامعية، 1994م، ص.67.

[2] ينظر الجرجاني، عبد القاهر، أسرار البلاغة، تحقيق: محمد رشيد رضا، بيروت، دار المعرفة، ط2، دت (مقدمة الكتاب).

[3] الجاحظ، البيان والتبيين: 1/ 135 . . . .  139.

[4] الجاحظ، المصدر نفسه، 139.  وتجدر الملاحظة إلى أنّ  ما أشار إليه بشر بن المعتمر وغيره من المعتزلة فيما يخصّ الوظيفة التّواصليّة (الإبلاغيّة) نجد ما يبرّره في الثقافة اللسانية المعاصرة وبالضّبط في المدرسة البنيويّة الوظيفية fonctionnel Structuralisme، وهي المدرسة التي راحت تعتني بوظيفة اللغة؛ ذلك ـ على حدّ اعتقاد أهل هذا الاتجاه ـ أنّ اللغة تكتنه في ذاتيّتها تركيبا نسقيّا وظيفيا، إذ إنّ كلّ مكوّن من مكونات بنيتها إنّما يهدف أساسا إلى تحقيق وظيفة ما، تتمحور في قصد المرسل أو الباثّ في العمليّة التّواصليّة (الإبلاغيّة) التي تتمّ بينه و بين المتلقّي المستمع.  

ولمّا كان مسار حركيّة الوظائف بشكل عامّ يتغيّر ويتجدّد من سياق لآخر؛على أساس أنّ هذه الوظائف تحتلّ ركنا كيانيّا ووجوديا في بنية ذاتيّة اللغة بمفهومها الواسع الشّاسع، راحت حلقة براغ اللسانيّة Linguistique de système Prague تعنني بضرورة دراسة اللغة بوصفها نسقا وظيفيّا Système Fonctionnel ونفس الأمر نجده مع جاكوبسون Jakobson  الذي يعدّ بحقّ المؤسّس لتلك الحلقة، حيث راح ينادي هذا الأخير بضرورة دراسة اللغة في تنوّعات واختلاف وظائفها تبعا لتغيّر حركيّة الواقع المتغيّر والمتجدّد، وهو بهذا يلتقي تماما مع ما أشار إليه بن المعتمر المعتزليّ حين كان يقسّم مراتب الحدث الكلامي حسب مراتب المستمع المتلقّي حتّى تتحقّق الوظيفة التّواصلية الإبلاغيّة بين المرسل والمستمع.  يمكن الرجوع في هذا الصدد إلى:

  • Kristeva, Julia, Le Langage cet inconnu, Seuil, p.
  • Jakobson, Essais de linguistique générale, Paris, Minuit, 1963, 213.

[5]- ينصبّ هذا المفهوم أساسا على وظيفة اللغة على أنها أداة تواصل بين أفراد معينين ينتمون إلى مجتمع لغوي متجانس (Communauté linguistique) وتلك حقيقة أقرّها الباحث اللساني قديما وحديثا. ولعل مفهوم الوظيفة التواصلية للغة هو في حدّ ذاته المنطلق الأساسي للتصوّر الاجتماعي للغة على أنها تعكس مجموعة من الأعراف والعادات الاجتماعية التي يتمثلها أفراد المجتمع في تواصلهم نطقا ومكتوبا. وفي هذا الصدد يندرج اهتمام الباحثين في حقل تعليمية اللغات Didactique des langues بالتركيز على الخلفية الاجتماعية بكل خصوصياتها ابتداء من المحيط الثقافي والعادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية.  وفي هذا السياق يتم الفصل في تعليمية اللغات بين اللغة الأم Langue maternelle واللغات الأجنبية Langue étrangère من حيث انتفاء المناهج والطرق الملائمة التي تراعي السياقات الاجتماعية المحيط باللغة موضوع الدراسة، على نحو ما يُعرف بالطرق المباشرة (Méthodes directes) والطرق السّمعية البصرية Méthodes audiovisuels. أما بالنسبة لتعليم اللغات الأجنبية مثلا لغير الناطقين بها ينبغي للباحثين المختصين في هذا الحقل التركيز على مراعاة الإطار الاجتماعي والثقافي لهذه اللغات وإدماجه باعتباره مكوّنا أساسيا في العملية التعليمية Opération didactique وهـو مــا يُــعــرف بـ (Le Bain linguistique) ؛ هذا المفهوم الذي يرتكز على ضرورة اكتساب تجربة لسانية انطلاقا من المحيط الفكري والثقافي للغة المدروسة.

Cf. Galisson, R. et Coste, D., Dictionnaire de didactique des langues, Paris, Librairie Hachette, pp.  69-71.                                                                                   

  وينظر كذلك إلى:

Girard, Denis, Linguistique Appliquée et didactique des langues, Ed. Armand Collins, 1972, pp. 17-18.

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran
+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11
+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Recherche