النظام السياسي من خلال معطى الشرعية: استمرارية التطور أم تقطعات؟

إنسانيات عدد 14-15 | 2001 |  عدد خاص أبحاث أولى | ص 35-48 | النص الكامل


Mohamed KEDDOUSSI  : Maître assistant, Université d'Oran, Département de sociologie, Faculté des sciences sociales, 31 000, Oran, Algérie


 

مقدمة

إن كل بحث سوسيولوجي ينطلق من ظاهرة اجتماعية لها وجودها داخل الواقع الإنساني الملموس، و إن كل حدث أو تصرف اجتماعي يخضع إلى محددات سوسيولوجية.

و بالتالي فإن التطرق إلى إشكالية الشرعية بصفة عامة، يدفع بطرح السؤال الذي بتطلب جواباً، و يتعلق الأمر بما يلي: لماذا شكل من أشكال السلطة، أي تجمع سياسي أو طبقة سياسية مسيطرة في مجتمع ما، تبقى في الحكم و لمدة طويلة دون أن تغير كثيرا من مناهجها في الحكم؟

و للتطرق إلى مسألة الشرعية في الجزائر، يجب الانطلاق من ملاحظتين أساسيتين في نظرنا:

أ)- إن أغلب دول العالم الثالث عانت و لو لفترة قصيرة من تاريخها من نتائج الاستعمار، الذي عمل على استغلالها. و بالتالي عملت أغلب هذه الدول بعد إحرازها على استقلالها السياسي، على انتهاج خطة ثورية في سياستها التنموية، سواء على المستوى السياسي، الاقتصادي، الاجتماعي أو الثقافي.

ب)- بعد الاستقلال محاولة تكوين هذه الدولة لم يكن نتيجة تناقضات داخلية في المجتمع، كما هو الشأن بالنسبة للدول الحديثة (les états moderne)، بل كان نتيجة تناقضات خارجة عنه، مرتبطة بالسوق العالمية و بالتقسيم العالمي للشغل...

و بالتالي فكل هذه الدول عانت و لا زالت تعاني سياسيا من مشكلة الشرعية، شرعية حكامها بصفة أو بأخرى، على اختلاف أنظمتها السياسية (ملكي، جمهوري)، و ظروفها التاريخية. باعتبار أن هؤلاء الحكام، نتيجة لظروف سوسيوتاريخية(Socio-historiques)  لم يتسلموا السلطة مباشرة من الشعب (شرعية ديمقراطية) بل استلموها بفعل فترة تاريخية هي فترة الحرب (شرعية تقليدية).

و في هذا الصدد فإن جبهة التحرير الوطني، باعتبارها صانعة الحرب ضد الاستعمار الفرنسي، لقت في ذلك بعد الاستقلال شرعية تحولها إلى حزب طلائعي (Parti d’avant-garde) يقود البلاد و يوجه سياستها، و من أهدافه بناء الدولة الجزائرية المستقلة.

و قد شكلت الوطنية (Nationalisme) في الدولة الجزائرية المستقلة الإيديولوجية السائدة لأكثر من نصف قرن، و التي مثلت الأمل الوحيد خلال ما يسمى بالليل الاستعماري الطويل، و التي أدت كذلك إلى تشكيل الدولة التنموية الطموحة خاصة في فترة الستينات و السبعينات.

الإشكالية

إن الواقع السياسي لأي جماعة بشرية عبر التاريخ يتحقق بقيام علاقة الأمر و الطاعة (Obéissance-Commandement)، هذه العلاقة لا تكون فقط ذات صفة مادية، باعتبار أن السلطة السياسية قوة تحتكر جميع أدوات القمع في المجتمع، بل تكون فكرة مرتبطة بقيم، عادات و تقاليد المجتمع. فهي تعتبر فكرة إذ تمثل ما في ضمير و تصور الجماعة (Représentation collectives) عن حياة معينة تحدد غاياتها بقدر التطابق مع هذا التصور.

فالقوة المادية لا يمكن ان تأتي إلا في أعقاب قوة معنوية[1]، و هي بذلك تتجاوز القانون الوضعي لأي بلد.

هذه الفكرة أو القيمة (La norme) تعرف في علم الاجتماع السياسي بمصطلح الشرعية (La légitimé)، و التي يجب أن يبني عليها كل حكم مستقر. و التي، بدونها، كما يقول المؤرخ و العالم الإجتماعي ماكس فيبر (Max Weber) ، فإنه يصعب على أي حكم أو نظام امتلاك القدرة الضرورية على إدارة الصراع بالدرجة اللازمة لكي يستقر لفترة طويلة[2].

تختلف قدرة و كفاءة أي حكم، في محاولة امتلاكه زمام الأمور و في مواجهة المشاكل و التحديات، اختلافا كبيرا حسب الحالات التي يكون المحكومون معه أو ضده، و قد تتجلى تلك المعارضة، بالاعتراض و الرفض و المقاومة، أو بالسلبية و الإهمال و عدم التفاعل.

و قد يتمكن أي حكم من تحقيق استمرار وضع ما عن طريق القوة، و الأمثلة على ذلك كثيرة، لكن العلاقة بين الحاكم و المحكوم تظل قلقة إن كان مصدر ذلك ضعف السلطة و الوطن معا، إلى أن يقتنع المحكوم بجدارة الحاكم، و أحقيته في أن يحكم و يدير الأمور نيابة عنه.

و تطرح هذه الشرعية كعائق حضاري في دول العالم الثالث و الدولة العربية عموما في الجزائر منذ الاستقلال إلى يومنا هذا خاصة، و لها تعاريف عديدة و متعددة يجب أن نشير الآن إلى بعضها. فهي حسب موريس دوفرجيس وضعية و نوعية الحكم و التي نراها توافق تصورات المجتمع في فترة زمنية معينة[3]، و التي هي بذلك تطابق السلطة أو الحكم مع أصله و منبعه أو مع المجتمع في أشكال تنظيماته و وظيفته. و التي تشكل بذلك عامل أساسي في الرضا بالحكم (le consentement du pouvoir)، لأن مصطلح الشرعية حسب بيردو G.Burdeau يعني تأسيس السلطة عن طريق تبرير الخضوع لها[4]، و يقول دافيد انستون  D.Eanston في هذا المعنى : "...قد يقبل المواطن سلطة الحكم عليه لألف سبب و سبب، و لكن الشرعية هي أن يجد المحكوم أنه من المقبول عنده، و المناسب له أن يطيع متطلبات النظام السياسي القائم إذا وجد أنها تتسق مع قيمة و مبادئه و أخلاقياته و أمانيه. لذلك ليس لمنفعة شخصية مباشرة له، و لكن بمعنى المنفعة العامة و على المدى الطويل[5].

هاته الشرعية تكون خاضعة لنسق من الأفكار و التمثلات و الاعتقادات (Système de croyance)، هذا النسق، يكون بدوره خاضع لعدة عوامل منها ثقل التاريخ (Degré d’évolution de mentalité) شخصية الحكام، الثقافة السياسية... الخ.[6].

إن الشرعية تختلف عن الإجماع (Le consensus)، فالإجماع ينتج عن المصلحة العامة، التي تأتي جراء فعالية المؤسسات و الحكام[7]، فبينما الشرعية هي الإيمان بالقيمة الاجتماعية للمؤسسات و فعالية النظام في حل المشاكل الكبرى للمجتمع، أما الإجماع حسب جاك لاكروي J. Lacroye يغدي الشرعية و لكنه ليس هو الشرعية.

و كذلك إن الشرعية هي لا تتعلق بالوصف السياسي لنظام الحكم كان ملكيا أو جمهوريا، موروثا أو جديدا. فالملكية و الجمهورية و غيرها هي نظم للحكم، لا ترتبط للحكم بالضرورة بالشرعية، لأن الشرعية كما هو واضح مما سبق ذكره هي معيار (norme) مستمد من نظرة المجتمع إلى السلطة، و ليست مستمدة من طريق وجود السلطة وجود السلطة أو الأسلوب الذي سلكته للوصول إلى الحكم.

في بحثنا لموضوع الشرعية التي نريد دراستها فإننا لا نقصد بالضرورة ذلك النسق من الأفكار و التمثلات التي توافق قيم المجتمع، و الموجودة في مخيلته و التي تبنى من خلال علاقته بالسلطة الحاكمة، بل الشرعية الفوقية كما يسميها برهان غليون، و المصطنعة من طرف الحكام، و التي تعتمد عليها الطبقة الحاكمة انطلاقا من القمة لتبرير سلطتها. فإن هذا النوع من الشرعية يمكن معرفته من خلال تحليل النصوص الرسمية من مواثيق و دساتير، بداية من ميثاق طرابلس إلى دستور 1989 و تعديلاته خطب الرؤساء و السياسيين.

نحاول معرفة ما هي أنواع الشرعيات التي اعتمد عليها النظام السياسي الجزائري مند الاستقلال إلى يومنا. و التي سمحت له و تسمح له دائما بالتعايش مع الوقائع و الأحداث.

و من هنا نحاول معرفة، هل كانت فيه استمرارية لشرعية نشأت أثناء الحرب، أم أن النظام السياسي إرتكز على عدة شرعيات بعد الاستقلال؟ و هل كان هناك تغيير لأنواع الشرعيات مع تعاقب رؤساء الجمهورية، بداية من الرئيس ابن بلة حتى الآن، أم أن النظام ارتكز على نوع معين من الشرعية لم تتغير بتغير الرؤساء و كانت سمة استمراره، و عدم إنقطاعه، بل الذي كان يحدث هو أولوية شرعية على أخرى في فترة زمنية معينة فقط؟ باعتبار أن مصطلح الاستمرارية يعني الاعتماد على نفس الطرق و الأساليب في الحكم، دون تغيير، بينما القطيعة تعني التغيير  الكلي أو الجذري و الانتقال مع الواقع إلى آخر مخالفا تماما[8].

و من هنا يمكن طرح الفرضية التالية:

- أن النظام السياسي الجزائري شهد عدة قطائع، من خلال أنواع الشرعيات، و ذلك مع تعاقب رؤساء الجمهورية من جهة، و كما شهد قطيعة مع أحداث أكتوبر من جهة ثانية.

هذا ما نحاول معالجته، و بالتالي تأكيده أو نفيه، من خلال تطرقنا إلى أنواع الشرعيات التي اعتمد عليها النظام مند حرب التحرير إلى الآن. و من هنا يمكن

طرح السؤال التالي: فما هو المنبع أو المصدر الذي ترتكز عليه شرعية السلطة في الجزائر و هذا لمدة جيل من الزمن؟ أهو مصدر أنتروبولوجيا، اجتماعي تاريخي أم حضاري؟ و خاصة إذا علمنا بأن شرعية السلطة في الدولة الحديثة، إضافة إلى أنها شرعية اجتماعية، يتم التوصل إليها عن طريق الانتخابات، فهي تستمد من ثلاثة عناصر أساسية هي: الفعالية، الرضا و الديمومة (Consentement l’efficacité et la durée) [9]، و من هنا تكون فرضيتنا الثانية:

  • إن مصدر شرعية النظام السياسي الجزائري هو تاريخي الثقافي، يعود إلى مرحلة حرب التحرير من جهة و إلى طبيعة الأمة الجزائرية الثقافية من جهة أخرى.

إذا ما هو الهدف المتوخى من طرف السلطة بارتكازها على هذه الأنواع من الشرعيات و في مختلف الحقب؟

و إذا علمنا بأن وظيفة أي نظام سياسي في الدولة المتقدمة، بإعتبارها مرجعا تاريخيا، هو كيفية تجميع و توظيف و استغلال كل الطاقات المادية و البشرية من أجل خدمة أغلبية المجتمع، و بالتالي الحفاظ على السلطة لمدة أطول.

فهل الهدف من هذه الشرعيات في الجزائر هو إعطاء عمر طويل للسلطة بمختلف الطرق و الوسائل فقط، و عدم زعزعة النظام القائم، و ذلك من خلال خدمة أغلبية المجتمع و دفعه نحو التقدم؟

و عليه يمكن طرح الفرضية التالية:

- كل الشرعيات التي اعتمد عليها النظام السياسي الجزائري هي للحفاظ على سلطته فقط بشتى الوسائل، هذا ما يفسر تزعزع الشرعية في كل منعرج تاريخي.

أجزاء البحث

من خلال التطرق إلى إشكاليتنا، و من أجل محاولة الإجابة على مختلف الأسئلة التي طرحناها و الفرضيات، ثم تقسيم البحث إلى ثلاثة أجزاء.

 (I الجزء الأول التقديمي: عنونا هذا الجزء بالمعطيات التاريخية لتكوين الدولة الجزائرية المستقلة.

حاولنا تبيان و حسب نمط ميكروسوسيولوجي: كيف أن بعض العوامل و الميكانيزمات التي شرعية النظام و تتحكم فيه، وجدت جذورها في ظروف طبعت حرب التحرير، مثل أولوية الشرعية التاريخية على الشرعية الديمقراطية، عدم وجود تقسيم فعلي بين السلطات، درجة ثقل القوة العسكرية على النظام السياسي...الخ.

  • II - الجزء الثاني : هذا الجزء هو نظري حاولنا من خلاله معرفة و حسب نمط ميكروسوسيولوجي ظاهرة الشرعية، و تفكيك طبيعتها، أهي ذات طبيعة تاريخية، ثورية، تنموية، دينية كما جاء في بعض الكتابات؟ و محاولة معرفة ما هي الأسس التي تعتمد عليها؟ و ما هي المنابع السياسية التي تنطلق منها؟ و من هنا قسمنا هذا الجزء إلى فصلين:

الفصل الأول: أسس الشرعية (Les principes de la légitimité)

يجب على لأي نظام سياسي، و في كل الحقب التاريخية، و مهما كانت طبيعته و بمجتمعه و بالمجتمع الدولي، أن يعطي أو يخلق شرعية لحكمه مهما كان نوعها، تاريخية، دينية أو ديمقراطية، و هو مجبر في ذلك على خلق مجموعة من المعايير و القيم، و بالتالي خلق هيكل من التصورات، التي لا تكون متناقضة تماما مع طبيعة مجتمعه[10]، و يمكنه من خلالها التطرق إلى المشاكل السياسية و إلى معالجتها.

و بعد تحليل بعض النصوص الرسمية السياسية، و بعض خطب الرؤساء و رجال السياسة لمدة أربعين سنة تقريبا، و في ظل غياب الشعب كمصدر أساسي لشرعية السلطة و في غياب الفعالية و الديمومة، بعد الاستقلال اعتمدت هاته الأخيرة (أي شرعية السلطة) على عدة أسس (Principes) باعتبار أن الأساس هو عامل يدخل في تركيب و تكوين الشيء، و لهاته الأسس كلها جذور تاريخية، تعود إلى فترة الحركة الوطنية و خصوصا إلى فترة الحرب. و هي التاريخ (L’histoire) كأساس لشرعية السلطة، و الثورة (La révolution)، الحكم الجماعي (Pouvoir collègial)، الرضا (Consentement) و القوة العسكرية (La force militaire)، حيث يمكن من خلالها معرفة طبيعة و نوعية الشرعية التي ارتكز عليها النظام الجزائري منذ الاستقلال.

الفصل الثاني: المنابع السياسية (Les ressources politiques)

إن النظام السياسي الجزائري، الذي أصبح يفقد يوما بعد يوم من شرعيته، بسبب عدم ارتباط هذه الشرعية بعنصر الديمومة و ارتباطها بظرف تاريخي (فترة الحرب) فقد بريقه، و بخاصة في مواجهة مشاكل جديدة و عويصة، سواءا  على المستوى الداخلي أثر التغيرات التي حدثت في المجتمع كما و نوعا أو على المستوى الخارجي خاصة بعد حرب 1967 و انتكاسة العرب... و ما انجز على ذلك من مشاكل انعكست سلبا على كل الدول العربية[11].

و بالتالي كان يجب على هذا النظام أن يجد سندا آخرا و مصدرا آخرا يرتكز عليه من أجل بقائه و استمراره، هذه المصادر هي المنابع السياسية، التي لا تمثلها هنا رموز الثورة و لا الإيديولوجية الوطنية.

هذه المنابع تعني حسب لوكا و كلود فاتان: "هي المنابع المفقودة أو القليلة (سواء اقتصادية أو ثقافية) و المستعملة من طرف بعض القطاعات و كذا من طرف النظام من أجل الاستمرار في احتكارها و الاستفادة منها في مجتمع ما، و التي تعني بذلك عدم منح الاستفادة منها لمنظمات و جمعيات أخرى سياسية أو غير سياسية من أحزاب، مجموعات نقابية، جمعيات... "[12].

قام النظام في الجزائر الأستقلال بإحتكار كل المنابع السياسية المختلفة لصالحه و لصالح تركيز و إنتاج شرعيته، و هذا في ظل غياب و منع إيه منافسة سياسية أو مجتمع مدني مؤسس.

هذه المنابع تنقسم حسبنا إلى نوعين:

  • منابع سياسية رمزية ذات طابع ثقافيRessources politiques symboliques à caractère culturel
  • و منابع سياسية ذات طابع اقتصادي Ressources politiques matérielles à caractère économique

المنابع الأولى حسبنا تتكون من:

  • الإسلام منبع سياسي L’Islam comme ressource
  • الاندماج السياسي L’intégration politique
  • السياسية الخارجيةLa politique extérieure

أما المنابع المادية فهي تتكون من:

- عائدات الريع الطاقوي La rente énergétique

نحاول من خلال التطرق إلى هاته المنابع الجواب على الأسئلة التالية:

  • لماذا اعتمد النظام السياسي و خاصة في شرعيته على المنابع السياسية؟
  • كيف تم الاعتماد عليها، و كيف استعملها في إعطاء شرعية لحكمه؟
  • لماذا قسمناها نحن إلى نوعين، منابع أو مصادر معنوية و أخرى مادية.
  • ما هي النتائج التي انجزت بعد الاعتماد على هذه المنابع؟

III الجزء الثالث : هو عبارة عن بحث ميداني، بما أننا في علم الاجتماع السياسي، الذي يعتمد أساسا على البحوث الميدانية، و حتى يكون لبحثنا صبغة سوسيولوجية تحليلية، لا تاريخية وصفية. و حتى يساير بحثنا الواقع، و بخاصة مع كل هذه الاحداث، ارتأينا أن تقوم ببحث ميداني من ورائه تحقيق هدفين أساسيين:

أ)-  التحقق من العمل النظري الذي تطرقنا إليه في الجزء الأول.

ب)- محاولة الجواب على السؤال التالي: هل هناك إستمرارية لشرعية السلطة من خلال تصورات المستوجوبين أم هناك قطيعة؟

و اقتصرنا هنا على محاولة التوصل إلى معرفة ما يحمله تصور المستوجبين من اختلاف أو من طرح جديد للتمثيل السياسي، يعارض التصور التقليدي القائم على الشرعية التاريخية التي تحوي الإطار الرمزي للمواطن (Son cadre de (symbole و لتمثلاته.

منهجية البحث

المنهجية التي اعتمدنا عليها في بحثنا تنقسم إلى إثنين حسب طبيعة موضوعنا و طبيعة أجزائه.

  • الجزء النظري اعتمدنا على المنهجية الإثنية L’ethno-méthodologie و ذلك لمعرفة و بشكل دقيق إفرازات هذا النظام، تركيبته الاجتماعية و طريقة تعامله مع جميع الأطراف. فهذه المنهجية هي نقدية، تنطلق من الأصل (القانون و النصوص الرسمية)، و تقوم بتحليل أنشطة الحياة اليومية تحليلا يكشف المعنى الكامن خلف هذه الأنشطة، و كذلك على محاولة تسجيل هاته الأنشطة  و جعلها مرئية و منطقية و صالحة لكل الأغراض العلمية حيث نستطيع بواسطتها معاينة الفرق بين القول و الفعل، النظري و التطبيقي، و محاولة معرفة الفرق بالنسبة لمشكل الشرعية كما هو مطروح نظريا في النصوص الرسمية  و الخطابات و كما هو مجسد في الواقع المعاش فعلا.
  • أما في الجزء التطبيقي، فقمنا بإعتماد دليل المقابلة التكميلي (Entretien (complémentaire، و بتحليل مضمون الخطب التي تحصلنا عليها (L’analyse (du contenu، من خلال العينات التي أجرينا معها المقابلات و قمنا باستجوابها و هي متكونة من 30 مواطن، 19 رجل و 11 امرأة، منقسمين حسب المستوى التعليمي و حسب السن (L’âge et le niveau solaire)، و اعتمدنا على هاذين المتغيرين لأنه حسب رأينا تكمن نقطة الاختلاف بين المواطنين في الرأي، بين الذين عايشوا فترة الحرب و الآخرين الذين لم يعايشوها و هم من الشباب، مختلفون في النظرة إلى الماضي و إلى المستقبل، و بين المواطنين ذوي مستوى تعليمي يسطيعون تحليل و فهم الواقع السياسي بطريقة تختلف عن الذين يفتقرون إلى هذا المستوى (L’intériorisation du politique).

النتائج المتوصل إليها

بعد الدراسة و بعد محاولة الكشف و بشكل دقيق عن شرعية النظام السياسي، و ذلك بطريقة ميكروسوسيولوجية، من خلال مكونات هاته الشرعية  و الأسس التي ارتكزت عليها، و المنابع السياسية التي أعطتها استمرارية و ديمومة كبيرة،  توصلنا إلى نتيجتين منهجيتين:

أ)- النتيجة الأولى: تخص العمل النظري: فإذا كان النظام السياسي للدول المتقدمة هو منتوج اجتماعي و هو رد فعل على تصارع الفئات الاجتماعية فيما بينها[13] و تنتج هذه الأخيرة، عن طريق الانتخابات، نظام سياسي يطابق تصوراتها و أهدافها، أو كما يسميها إميل دوركايم يطابق الضمير الجماعي(Conscience collective) [14] و يكون هذا النظام يتماشي مع عادات و ثقافة هذه الفئة في نهاية المطاف.

نجد في الجزائر أن النظام السياسي تكون نتيجة ازمة تاريخية، هي رد فعل على نظام استعماري، و هو لم يتكون نتيجة تناقضات اجتماعية داخلية بين الجزائريين، بل كان نتيجة تناقض خارجي على المجتمع، أي بين الأمة الجزائرية الموحدة حول هدف واحد و الاستعمار الفرنسي، الشيء الذي جعل هذا النظام مبني على الإجماع الفوقي و ليس على مؤسسات انتخابية، و ارتكز بعد الاستقلال هذا النظام على أسس سياسية لبناء شرعيته، و ذلك من الفترة الممتدة منذ الاستقلال إلى يومنا هذا.

و من خلال هذه الأسس و المنابع نستنتج بان الإيديولوجحية الشعبوية Le populisme و الزبونية Le clientélisme، كانتا ظاهرتين طبعتا النظام السياسي الجزائري لمدة ثلاثين سنة تقريبا كما هو مبين في الشكلين 1 و 2.

فالإيديولوجية الشعوبية، و التي تهدف إلى عدم الاعتراف بالتناقضات السياسية داخل المجتمع، تغير محتواها، فقد كان محتواها أثناء الحرب إيديولوجي يهدف إلى وحدة الصف لمواجهة المستعمر و تحقيق الاستقلال، و بعد ذلك أصبح محتواها سياسي، يهدف إلى تبرير الاحتفاظ بالسلطة عن طريق تجاوز الخلافات و التناقضات الاجتماعية و منع بلورتها سياسيا، و بالتالي منع أي معارضة عن طريق محاولة إنشاء وحدة شعبية ذات طبيعة وهمية أكثر مما تعبر عن الحقيقة، و ما أحداث أكتوبر و ما تلاها من وقائع إلا دليل على ذلك.

و لا يمكن تصور محاولة تكوين وحدة وطنية و اندماج اجتماعي يلعب فيهما الدين الرسمي دورا كبيرا دون أي سند مادي بإمكانه تأخير عملية الإحتجاج الاجتماعي عن طريق الإشباع و ليس عن طريق الإقناع  (Pouvoire militaro-(pétrolien [15].

يتمثل هذا السند المادي في عائدات الربع الطاقوي، التي كانت توزع على أفراد المجتمع بطريقة غير متوازنة، حيث أفرزت لنا منهجيا ظاهرة الزبونية[16].

و هذه الظاهرة، التي تعني في علم الاجتماع السياسي، العلاقة الموجودة بين المركز و الهامش (Le centre et la péripherie) أو بين السلطة و المجتمع هي علاقة زبونية، حيث يظهر أفراد المجتمع زبائنا (clients) يقومون بمساندة السلطة التي تظهر كمالك le patron، مقابل الاستفادة المادية من الريع و التي تؤخد على شكل أجور سياسية و مواد غدائية...

هتان الظاهرتان الإيديولوجية الشعبوية و الزبونية نتج عنهما منهجا، يسمى في علم الاجتماع السياسي بظاهرة الباتريمونيالية الجديدة (Le néo-(patrimonialisme كما هو مبين في الشكلين 1، 2.

فالنظام السياسي النيوباتريمونيالي هو مصطلح لإزنستاد (E.I Senstadt) يمثل استمرارية النموذج الفيبيري (Modèle weberien) للسيطرة الباتريمونيالية. و هي النموذج التقليدي لبناء سلطة الأمير (pouvoir du prince) [17] الذي كان يسيطر على كل شيء من أجل تقوية سلطته.

هذا النموذج في الجزائر الذي تسببت فيه فئة أخذت الحكم عن طريق مهمتهما التاريخية و التي وظفت كل شيء من أجل الاحتفاظ بمركزها السياسي و نتج عنه عوامل ميزت النظام منها: السلطة الفردية، انتشار العلاقات الشخصية في الوظائف العامة، النظام الوارثي بإعتبار ان السياسة و الإدارية، يصبحون منبع الامتيازات الفردية، الإفراط في تطبيق السلطات.

و استنتجنا من خلال العمل النظري ما يلي أنه منذ الاستقلال إلى يومنا هذا  و النظام السياسي يعتمد على نفس الشرعية في تطبيق سلطة، على الرغم من تعاقب عدة رؤساء و عدة فترات تاريخية مختلفة، و الشيء الذي ينبغي لنا الإشارة إليه في فرضيتنا الأولى التي تنص على أن هناك قطائع في شرعية النظام بل بالعكس هناك إستمرارية، هاته الشرعية نابعة من فترة تاريخية هي فترة الحرب مثل التاريخ، الثورة، القوة العسكرية، الشيء الذي يؤكد لنا فرضيتنا الثانية، مصدر الشرعية هو تاريخي انثريولوجي يعود إلى فترة الحرب و إلى طبيعة الأمة الجزائرية المسلمة، مما جعل هذا النظام لا يستمد شرعيته مباشرة من الشعب و هو الشيء الذي يؤكد لنا فرضيتنا الثالثة أي أنه بعد الاعتماد على الشرعية التاريخية، كان النظام يريد الحفاظ على سلطته فقط بشتى الطرق.

ب- النتيجة الثانية التي تحضر العمل الميداني:

إن النتائج الذي توصلنا إليها بعد إجراءنا للبحث الميداني، تؤكد لنا من جهة نتائج للفرضيات الثلاثة للعمل النظري، إذ تعتبر عيناتنا أنه ما زال هناك استمرارية في نوعية الشرعية التاريخية، و من جهة ثانية تؤكد لنا رفض المستوجبين لهاته الشرعية التاريخية و خاصة في جانبها الإيديولوجي الذي يرتكز على الشعبوية Le populisme.

 الخاتمة

إن الدولة الجزائرية الحالية هي دولة تحكمها علاقات زبونية (Relations clientélistes) دائما من جراء عائدات الريع الطاقوي، أكثر مما هي دولة نيوباتريمونالية (Etat Néo-Patrimonial) عكس ما أشرنا إليه في العمل النظري  و هذا نتيجة فشل مفعول الإيدولوجية الشعبوية. و هذا نظرا لعاملين أساسيين:

عامل خارجي يتمثل في انهيار الإتحاد السوفياتي، و بالتالي نقل الصراع من اطاره العالمي إلى المجال المحلي لكل دولة.

و بالتالي بروز المشاكل على الساحة، داخليا هذا متمثل في بروز فئة شبانية (أكثر من 75%) لم تعش فترة الحرب و التي لا تؤمن إلا بالملموس و لا تعترف بالخطب الجوفاء.

و لذلك أصبحت الجزائر حلبة تتصارع فيها المصالح الإجتماعية المختلفة و المتطورة عبر الزبائن. مما يجعل كل طرف فيها يستعمل نفوذه من أجل التأثير على شكل توزيع الفائض، و ما المشاكل التي تعيشها الجزائر اليوم إلا نتيجة لذلك.

و بالتالي بعد مرور مدة أربعين سنة على الحرب التحريرية، و عدة سنوات على حوادث أكتوبر، هل حان الوقت إلى قيام بقطيعة مع الماضي السياسي الجزائري، و خاصة في شرعية حكمه، و إن لم يحن فإلى متى يكون ذلك... ؟


الهوامش

* ملخص لرسالة ماجستير في علم الاجتماع السياسي، نوقشت في 02-10-1995 بمعهد علم الاجتماع، جامعة وهران.

[1] Leca, J. ; Vatin, J.C. : L’Algérie politique – Ed. Presse de la Fondation nationale des sciences politiques, année 1975 – p.5.

[2]  بهاء الدين، أحمد: شرعة السلطة في العالم العربي – دار الشروق – ص 11.

[3] Duvergers, M. : Droit constitutionnel et institutions politiques.- Ed.Themis.- P. 73

[4] Burdeau, G. : La légitimité.- Encyclopédie Universalis, Volume 9.- p.870.

[5] Grawitz , M. ; Leca, J. : Traité de science politique.- Tome I, Ed. Aim.- p.400.

[6] Grawitz, M. ; Leca, J. : Op.cité.-p.333.

[7] Grawitz, M. ; Leca, J. : Op.cité.-p.399.

[8] Dahl, R. : L’analyse politique contemporaine.- New Haven, 1969.- p.275.

[9] Buffalon, J. : Introduction à la sociologie politique.- Ed Masson et CIO, 1969.- p.18.

[10] لكل نظام له حدود لا يمكن له اختراقها

[11]  Addi, L. : L’impasse du populisme.- Alger, Ed ENAL, 1990.

[12] Leca, J. ; Vtin, J. C..-Op. cite.- p. 14.

[13] Leca, J. ; Vtin, J. C..-Op. cite.- p. 13.

[14] Habermas, J.: Raison et l”gitimité.- Paris, Ed. Payot, 1978.- P.60.

[15]  هذا يعني أن النظام السياسي كان يرتكز على القوة العسكرية من جهة و من جهة ثانية على عائدات البترول و الغاز.

[16] Addi, L. : L’impasse du populisme.- Op. cité.-p. 78.

[17] Addi, L. : Néo-patrimonialisme et économie en Algérie.- In Annuaire de l’Afrique du Nord, Paris, Ed. CRNS, 1989.

 

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran

95 06 62 41 213+
03 07 62 41 213+
05 07 62 41 213+
11 07 62 41 213+

98 06 62 41 213+
04 07 62 41 213+

Recherche