العادات والتقاليد الأسرية بقصر "تمرنة" (ولاية الوادي): بين الاستمرارية والتغيّر

إنسانيات عدد 59 | 2013 |  |الأسرة، ممارسات و رهانات مجتمعية  | ص. 33-52 | النص الكامل


Family customs and traditions in the Ksar of “Tamerna" (Wilaya of El Oued, Algeria) : between continuity and change

Abstract: The Castle of Temerna "is viewed as one the most antique cities of the eastern desert of Algeria and has a long history in "the valley of Reegh" (the State of El Oued), as the concept of construction and the engineering model make it one of the most important local memorials. This castle, or in local dialect “Ksar”, was abandoned by its dwellers due to some reasons ; so the late generation inhabits today the modern buildings erected out of it. Because each separate local community has their own customs and traditions that differentiate them from neighboring folks and grant it their own identity, we question in this article for the most outstanding customs and traditions of the family in the Ksar of “Tamerna”. Are these customs and traditions still preserved by the people who live in the new abodes beyond the castle ? Or, have these social practices gone away ? Yet, what are the reasons for the change ?
Keywords: family, customs and traditions, social change, Tamerna, Sahara, Algeria


Meriem LIMAM-MOHAMMEDI : Centre de Recherche en Anthropologie Sociale et Culturelle, 31 000, Oran, Algérie.


مقدمة

استطاع الإنسان الصحراوي منذ القديم، رغم الظروف التي قد تبدو قاسية، التأقلم مع البيئة المحيطة به وذلك بإنشاء مدن ذات طابع مميز يتمثل في العمارة التقليدية الطينية، فالتفاعل مع البيئة الصحراوية لم يحدد نوع السكن فقط بل أيضا طبيعة المجتمع باعتبارها نظاما وإنتاجا فكريا يحمل معه تصورات، معتقدات، طرائق وأساليب للتفكير والعمل الخاصة بالمجموعات والأفراد. ومن هذا المنطلق تعتبر العمارة الصحراوية مدخلا من مداخل تحليل الحياة الاجتماعية بمختلف أبعادها سواء تعلق الأمر بنوعية العلاقات الاجتماعية، الممارسات الثقافية والأنشطة الاقتصادية.

لقد تعددت الدراسات حول مجتمعات صحراء الجزائر من دراسات جغرافية-عمرانية[1]، سكانية[2]، دينية[3] وغطت مناطق مختلفة من هذه الصحراء الشاسعة،  لكن الملاحظ أن الجانب الثقافي-الاجتماعي لم يدرس بالشكل الكافي في المنطقة الشرقية للصحراء الجزائرية، خاصة فيما يتعلق بالعادات والتقاليد الأسرية الممارسة في هذه المجتمعات المحلية.  

سنقدّم في هذا المقال بعض هذه العادات والتقاليد الأسرية في مجتمع محلي صحراوي هو مجتمع قصر "تمرنة" بمنطقة "وادي ريغ" (ولاية الوادي). يتميز هذا القصر بنمط من العمارة التقليدية الصحراوية جعلته يصنف من طرف وزارة الثقافة كمعلم تاريخي سنة 2009. ليس النمط العمراني وحده ما يميز هذا القصر، بل أيضا عادات وتقاليد سكانه التي ورثوها عن الأجيال السابقة. وبما أن الجيل الحالي من هؤلاء السكان هم آخر من خرج من القصر بداية سنوات 1980، فإنه لدينا هنا فرصة نادرة للتعرف عن قرب على الحياة الاجتماعية بقصر من قصور  الصحراء الشرقية الجزائرية وذلك من خلال تقديم إجابات للأسئلة التالية: ما هي أبرز العادات والتقاليد التي مارستها الأسرة بقصر "تمرنة"؟ هل لا يزال سكان القصر يمارسونها في سكناتهم العصرية الجديدة أم هل تغيّرت؟  كيف يمكن تفسير هذا التغيّر وما هي العوامل التي أسهمت فيه؟

منهجية التحقيق الميداني

قمنا بتحقيق ميداني إثنوغرافي، استندنا في جزء منه على الجانب التاريخي حيث اعتمدنا فيه على المراجع المتوفرة حول منطقة "وادي ريغ" وقصر "تمرنة"، كما اعتمدنا على الرواية الشفهية  لكبار السن الذين عاشوا بالقصر  من أجل تتبع تاريخ المنطقة ومسار حياتهم من عدة جوانب (اجتماعية، اقتصادية، دينية...). وبالنسبة للتحقيق الإثنوغرافي، قمنا بمشاركة السكان المحليين حياتهم اليومية وكذا احتفالاتهم وتقاليدهم في مختلف المناسبات المدروسة هنا (الأسرية، الدينية، الزراعية...) منذ 2010. لقد قمنا أيضا بزيارات ميدانية إلى القصر القديم، كما كانت لدينا لقاءات ومقابلات مع أهالي المنطقة (شيوخ، أعيان، ربات بيوت، مسؤولون إداريون، رؤساء جمعيات). لقد جمعنا كذلك معطيات مختلفة عن المنطقة (خرائط، إحصاءات...) إضافة إلى التوثيق الفوتوغرافي كتقنية من تقنيات التحقيق الميداني.

قبل الإجابة على الأسئلة التي طرحناها أعلاه، سنوضح أولا ما الذي نقصده بمفهومي العادات والتقاليد من جهة، والتغيّر الاجتماعي من جهة أخرى، كما سنعطي بعد ذلك لمحة تاريخية عن منطقة "وادي ريغ" وعن قصر "تمرنة". في القسم الأخير من المقال سنعرض وصف مجموعة من العادات والتقاليد الأسرية الخاصة بالمجتمع التمرني ثمّ نقارن الممارسات القديمة مع الحديثة (أيّ بعد هجرة القصر والسكن في بنايات حديثة) لنختم في الأخير بعرض بعض عوامل التغير الاجتماعي والثقافي لهذا المجتمع الصحراوي المحلي.

العادات، التقاليد والتغيّر الاجتماعي

يعرّف معجم الإثنولوجيا والأنثروبولوجيا العادات والتقاليد كما يلي: «العادات والتقاليد الشعبية ظاهرة تاريخية ومعاصرة ، هي من حقائق الوجود الاجتماعي (و) نعني بها الممارسات والسلوكات التي درج الناس على عملها    أو القيام بها وتكرر الفعل بها حتى أصبحت مألوفة، فالتقليد هو عرف يرتكز على الروتين، والواقع أن كل تقليد يميل إلى تمييز بعض التصرفات التي يشرعها ماض غالبا ما يكون عابرا (...)»[4]. فالجيل الحالي يقلد أساليب الجيل الذي سبقه ويسير عليها في مختلف الأعمال والممارسات الاجتماعية، إن كان ذلك في الملبس أو المسكن أو العقيدة أو غير ذلك.

أما السمة الرئيسة لهذه الممارسات الشعبية فهي أنها فعل اجتماعي مرتبط بالجماعة، متوارثة ومرتكزة إلى تراث يدعمها، لها علاقة بظروف المجتمع الذي تُمارس فيه، وهي مرتبطة بالزمن و"المواقيت" (مثلا: عاشوراء، المولد النبوي، رأس السنة الهجرية، موسم الحج، شهر رمضان، الأعياد...)، كما أنها تمتاز بالقوة التي تفرض الامتثال الاجتماعي لها و احترامها.

وقد تستعمل لفظتا العادات والتقاليد بشكل مترادف، إلا أن بعض الباحثين يفرقون بينهما معتبرين التقاليد أقل إلزاما للفرد من العادات وأن الفرد يلتزم بها فقط شكليا من أجل الحفاظ على "التراث الوطني"، بينما يعتبر العادات أكثر أهمية و"جدية". يكتب إدوارد سابير Edward Sapir في هذا الصدد: «نستخدم العادات للدلالة على مجموع الأنماط السلوكية التي يحملها التراث، ويستمر احترامها لدى الجماعة في مقابل النشاط العشوائي للشخص»، ويكتب سبايزر فيليكس Speiser FELIX من جانبه : «يجب ألا يسمى عادة إلا ما كان حيا منبعثا من الوعي الجماعي الموجه للمجتمع » [5].

لكن إذا كان مفهوما العادات والتقاليد يحملان دلالات الاستمرارية في الزمن والمحافظة على الأشكال الثقافية المتوارثة، فكيف يمكن تفسير الظاهرة الأخرى التي لا تخلو منها ثقافة أو مجتمع، نقصد ظاهرة التغيّر الاجتماعي؟

يبدو أن هناك إجماعا قد حصل لدى علماء الاجتماع، الذين حاولوا « (...) تطوير نظريات عامة حول التغيّر الاجتماعي، واضعين النقاط على العوامل الأساسية: علم السكان، قوانين الاقتصاد، التقنيات، العقليات، عمل الدولة، الأزمات الاجتماعية والأفراد المبتكرون، لكن من المقبول الآن (ودون برهان) أن المجتمعات تتغيّر بفعل أسباب متعددة، تتحدد لتعطي أثرا، ومن العبث البحث عن سبب أول أو عن فاعل واحد يكون مسؤولا عن التطورات الاجتماعية».[6]

هذا الطرح يعكس الانتقال الذي حصل من التفسير الأحادي للتغير الاجتماعي إلى التفسير المتعدد، وفي هذا الصدد من المفروض ألا يتم الحديث عن "تغيّر اجتماعي" بالمفرد بل عن "تغيّرات اجتماعية" بالجمع ما دام هناك عدة عوامل تفسر هذه التغيّرات.

كتدعيم لهذا الاتجاه في التفسير، سنعرض هنا نظريتين لعالمين اجتماعيين حول هذا الموضوع: إميل دوركهايم وروجيه باستيد Roger Bastide :

بالنسبة لإميل دوركهايم، وكما يقدمه لنا جورج بالاندييه Georges Balandier ، فإنه لا يوجد تغيّر اجتماعي متجانس، بل تغيّرات خاصة بكل مستوى من المستويات الثلاث للواقع الاجتماعي: المستوى البنيوي (أي الأساس الفيزيائي والمادي للمجتمع: الأقليم، السكان...)، مستوى الاشتغال (أي مستوى المؤسسات، أنظمة المعايير والقواعد) ومستوى التمثلات الجماعية. (القيم، المثاليات، صور المجتمع). كل مستوى من هذه المستويات له سرعته الخاصة في التغيّر ولا يوجد إطلاقا "توافق" أو"تطابق" بينها [7]  .

النظرية نفسها تقريبا نجدها لدى روجيه باستيد عندما يكتب: "إذا انتقلنا (...) من الأفراد إلى الثقافات التي يحملونها، وكمرحلة أولى تحليلية، إذا اعتبرنا هذه الثقافات ليس كـ "كجشطلتيات" منظّمة، ولكن كمجموعة من السمات الثقافية فإنه يمكن إيجاد عدد من الأنماط المتكررة : العناصر غير الرمزية (التقنية والمادية) قابلة للنقل بشكل أسهل من العناصر الرمزية (الدينية، العلمية)، كما أن بساطة سمة ثقافية يسهّل نقلها، بينما تعقيدها يؤخر ذلك (الأدوات مثلا تنتشر أسرع من الآلات التي يعتبر استعمالها أكثر تعقيدا ويتطلب وقتا أطول للتعلّم (...)"[8].

نرى هنا أيضا تفاوتا في سرعة الانتقال الثقافي حسب نوع العناصر الثقافية ودرجة تعقيدها، أي أن التغيّر في ثقافة معينة ليس متجانسا ولا يتم بالسرعة نفسها حسب العناصر المشكلة لها مادية كانت أو رمزية. بعبارة أدق تنتقل العناصر المادية بسرعة وبسهولة أكثر من العناصر الرمزية.

ما نستخلصه من هذا العرض المفاهيمي هو أن هناك جدلية بين العادات والتقاليد من جهة وبين التغيّرات الاجتماعية من جهة أخرى، فالعادات والتقاليد تمثل العنصر الساكن، نسبيا، في هذه الجدلية بينما تمثل التغيّرات الاجتماعية العنصر المتحرك. لكن هذه التغيّرات ليست جذرية بالكامل، بل هي متفاوتة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار نظريتي إ. دوركهايم و ر.باستيد، فعلى المستوى الإثنوغرافي، أو المستوى الأمبريقي، نلاحظ تغيّرات متفاوتة في العناصر الثقافية المدروسة: فبعضها في طريق الزوال، والبعض الآخر تغيّر جزئيا والبعض الثالث لا زال مستمرا. هذا ما سنراه عندما سنعرض بعض العادات والتقاليد الأسرية الخاصة بقصر "تمرنة" بإقليم "وادي ريغ"، لكن قبل ذلك سنقدم عرضا لمنهجية تحقيقنا الميداني بهذه المنطقة.

سنتعرف أولا على منطقة "وادي ريغ" وقصر "تمرنة" قبل تقديم معطيات هذا التحقيق الميداني الخاصة ببعض العادات والتقاليد الأسرية التمرنية.

إقليم "وادي ريغ" وقصر "تمرنة"

منطقة "وادي ريغ" من المناطق الغنية بالآثار، إذ بها مواقع تعود إلى فترات ما قبل التاريخ[9].كلمة "ريغ" أو "أريغ" مصطلح يطلق على المنطقة المنخفضة الواقعة في الجنوب الشرقي الجزائري وتبعد عن الجزائر العاصمة بحوالي 600 كلم وعلى مسافة تقدر بحوالي 130 كلم جنوب "تقرت" (بلدة عمر) إلى "شط مروان (قرب "أورير" ) شمالا، وقد تضاربت الآراء حول اشتقاق هذه الكلمة، فياقوت الحموي مثلا يرى بأنها كلمة بربرية ومعناها السبخة ومن يكون منها يقال له "ريغي"[10].

ويرى ابن خلدون أنها نسبة إلى القبيلة الزناتية "بنوريغة" حيث يقول في هذا الشأن: «وأما بنوريغة فكانوا أحياء متعددة، ولما افترق أمر زناتة تحيز منهم إلى جبل عياض... ونزل أيضا الكثير منهم ما بين قصور الزاب و واركلا. فاختطوا قرى كثيرة في عدوة واد ينحدر من الغرب إلى الشرق ويشتمل على المصر الكبير والقرية المتوسطة، والأطم قد رف عليها الشجر، ونضدت حفافيها النخيل، وانساحت خلالها المياه وزهت ينابعها الصحراء وكثر في قصورها العمران من ريغة هؤلاء، وبهم تعرف لهذا العهد، وهم أكثرها ومن بني سنجاس وبني يفرن وغيرهم من قبائل زناتة. »[11]

تشتهر منطقة "وادي ريغ" بوفرة المياه والنخيل ومن أهم قصورها: قصر "مستاوة" بتقرت ، قصر "برنوبة" بجنوب بلدة "سيدي عمران" ، قصر "أسيفاو" الذي يقع شمال قرية "تمرنة الجديدة"، وكل هذه القصور تلاشت واضمحلت بسبب العوامل الطبيعية والبشرية ولم يبق منها سوى قصر "تمرنة القديمة".  

لقد شيّد هذا القصر على نمط القصور الصحراوية، حيث بني فوق ربوة (مكان مرتفع) تحيط به واحات النخيل (أو "غابات" بالتعبير المحلي) والأشجار المثمرة، وهو قصر ضارب في عمق

التاريخ كما تدل على ذلك هندسته المعمارية المبنية من الطوب وجريد النخيل، ومواده كلها محلية. تداخل البيوت، المسارات، الالتواءات والمضايق في الطرقات، كلها هندسة جعلت الكثيرين يهتمون بهذا العمران الصحراوي لما له من قيمة أثرية وحتى سياحية.

صورة 01 : قصـر "تمرنة" 

Source: Google Earth, 2011.

لم تثبت الأدلة التاريخية سنة تأسيس محددة لهذا القصر، فحسب ما ترويه المصادر الشفوية تأسس قصر "تمرنة القديمة" قبل "حي القصبة" بالجزائر العاصمة بـ 11 سنة[12]، أما المصادر المكتوبة فإنها ترجع تأسيسه إلى أوائل القرن التاسع ميلادي، أي خلال حكم الدولة الرستمية، ولقد ورد إسمه في بعض المصادر خاصة الإباضية منها. يذكر "الدرجاني" (القرن 13 م) أن أبا إسماعيل البصري (القرن 11 م) عندما رأى أهل الدعوة فاجتاز على بلاد ريغ وعلى كدية بني غمرة وهم قوم ظلمة فتجاوزهم ونزل بـ "تمرنيت". كما عرفت باسم "تين تمرنة" ويرى "العدواني" أنها نسبة إلى رجل يقال له باهوت بن شملخ بن كعب بن غاوية، ومن ولد أندلس بن يافث بن نوح، ويقول في هذا الصدد: « أخبرونا أن مدينتهم يقال لها تمرن كان وليها من تونس»[13].

كما تطرق إليها من الأجانب الألماني "هانريش فون مالتيسان" في رحلته إذ يكتب: «تقع تمرنة بعد مسافة من الوادي، وهي قرية مبنية من الطوب، غير ذات أهمية وقد استقبل فيها سيدي عمر من طرف أعيانها، وفيها شاهدنا البئر الارتوائية، الذي يعود الفضل في وجودها إلى نصائح مهندس فرنسي، ويصب كمية مهمة من المياه تقدر ب ثلاثة آلاف لتر في الدقيقة. »  [14]

حاليا القصر غير مسكون ويحوي على عدد كبير من البنايات (مساجد، مساكن، دروب وأزقة) بعضها في حال متوسط والأغلبية تعرضت للتصدع والانهيار، كما تمّ ترميم أجزاء منه كبيت الضيافة ومسجد "جمعة" ومسجد "سيدي علي بن عثمان"، ولعل صمود هذه العمارة هوما جعلها مقصدا للسياح.   

صورة 02 : القصـر قبل الترميم

المصدر: مريم لمـام-محمدي، 2011.

صورة 03 : القصـر بعد الترميم

  المصدر: مريم لمـام-محمدي، 2011.

لكن ما يهمنا في دراستنا لهذا القصر هو أن السكان المحليين، أو على الأقل فئة منهم، عاشوا بالقصر ولا زالوا على قيد الحياة، فكيف كانوا يعيشون؟ وبالأحرى كيف كانت عاداتهم  وتقاليدهم؟ 

بعض العادات والتقاليد الأسرية في مجتمع " تمرنة"

هناك العديد من العادات والتقاليد بمجتمع قصر "تمرنة" منها ما هو باق يمارس بصفة اعتيادية، ومنها ما تغير ومنها ما اضمحل أوفي طريق الزوال دون الاهتمام به. يمكن أن نذكر أمثلة توضح كل حالة من هذه الحالات الثلاث[15]:

1. عادات عاشوراء بين الأمس واليوم

معروف عن "عاشوراء" أنها مناسبة دينية تقام كل سنة في اليوم العاشر من شهر محرم، وفي قصر تمرنة يبدأ الاحتفال في اليوم التاسع ويسمى (تاسوعاء) حيث يغتسل السكان بماء العين بالواحة في الصباح الباكر وفي جميع المواسم ويقولون : «رايحين نتزمزمو»، إذ حسب اعتقادهم أن ماء العين فيه "بركة" لأنه آت من ماء زمزم بمكة المكرمة، ويرشون به أمكنة البهائم والدواجن وغيرها. كما يقومون في عاشوراء كذلك بـ "التاملغيغ"[16] وهي حنّاء مبللة بالماء "مدلدلة" والعائلة كلها تستعملها، من الذقن حتى أسفل الرأس ويقولون: «تاملغيغ ....تاملغيغ.... العقوبة لعام الجاي» والإعادة بالعكس أي من أسفل الرأس حتى الذقن. كذلك يضعون الحناء للماعز، الضأن، الدجاج، الحمام، التيس، القط، الكلاب وغيرها من الحيوانات الأليفة الموجودة بالمنطقة. كذلك قبل يوم عاشوراء يتركون "طابق" أو قطعة من لحم أضحية العيد وهو الرجل الخلفية اليمنى للأضحية التي تملّح وتعرض لأشعة الشمس لتصبح" قدّيدا" وتطبخ في يوم عاشوراء، هذا لاعتقاد منهم أن "لالة عاشورا" شهدت على هذا ويقولون : «لالة عاشورا راني ضحيت والطابق راني دسيتو، ودرنا البخور»[17]، ثم تزغرد النسوة. كذلك يستعملون البخور في "البخّارة" بعد إشعال النار والجمر وهذا اعتقادا منهم لمطاردة الأرواح الشريرة والشياطين والمس من الجن.

وفي الليل يلعب السكان لعبة "الشايب عاشورا" إذ يُلبس لشخص لباس كبير الحجم ويغيّر من شكله ويلّون وجهه بالفحم ليخيف أصدقاءه، أما الكبار فيلعبون لعبتهم بعد صلاة العشاء، تلك الألعاب تتمثل في أعمالهم اليومية: مثلا التاجر يأتي بقفة بها سلع ويجول في الرحبة مرددا: «أيا الماعين ماعين»[18]، والمزارع يأتي بنخلة يحفر لها حفرة ثم يسقيها، وكل شخص لديه حرفة أو مهنة يتمثل بها.

من الألعاب أيضا لعبة "البعير" وهو هيكل كبير مصنوع من جريد النخيل بطول 2 متر وعرض 1 متر ويأتون بغطاء يسمى بالمنطقة "الّزاورة "، لونها أسود أو بني بلون البعير يوضع فوق الهيكل ويحرّكون الرأس بواسطة دبوّز طويل يتحرك بذلك الهيكل ويخيفون به الأطفال.

ومن الألعاب كذلك لعبة العقرب إذ يأتي شخص بعقرب و"يعّزم عليها"  بمعنى يتلو عليها القرآن، ثم يصاحبه رفيقه للبيوت بـ "الدشرة" وأمام عتبة البيت تبدأ اللعبة: توضع العقرب بإناء واسع وتحت نور القمر يعرض على صاحب البيت خطبة بنته أو أخته قائلا: «أتيت أخطبك في ابنتك» ويرد عليه أب البنت: «أزوّجك ابنتي لكن إذا استطعت على شرطها، يلزمها "مسّاك" (أي سوار من ذهب) والدراهم»، فتقول الجماعة له: «راه كاين اللي راك حابو»[19]، وعندما يكشف لأب البنت ما بالإناء لا بدّ له بقبول الشرط وإلا لدغته العقرب، ويقول له: «الأسبوع القادم نجهز للعرس»، وهكذا يتوجهون إلى بيت آخر وعند بزوغ الفجر تنتهي اللعبة لتبدأ عند التوقيت نفسه في ليلة اليوم الموالي.

وهناك ألعاب نسوية أخرى كلعبة المرأة "الستّوتة" التي تلبس ألبسة ممزقة وتدق بـ "المهراز" وتقابلها امرأة تدّعي الحمل، تتلوى على الأرض بدافع أوجاع الحمل والولادة وكلها أهازيج وتمثيليات للضحك والفكاهة بمناسبة عاشوراء.

هذه مجموعة من الطقوس الخاصة باحتفالية مناسبة عاشوراء، مع العلم أن هذه الاحتفالية يمتاز بها المجتمع المغاربي بإحياء أهازيج وتمثيليات فكاهية وألعاب مسرحية كـ "بوجلود" بالمغرب و"كرنفال أيراد" ببني سنوس- تلمسان، وبقصر تمرنة فقد عرفت هذه العادة منذ قرون ماضية وتمسك بها أفرادها لتصبح ممارسات خاصة بهم.

حاليا، وبالخروج من القصر والتوجه نحو السكنات الحديثة البعيدة عن النمط التقليدي الصحراوي، اندثرت واضمحلت هذه الممارسات الأسرية، بالخصوص لعبة "التجّار" نظرا لتغيّر نشاطات السكّان المحليين إذ لم يعودوا يعتمدون على المقايضة، كما لا يعتمدون على المنتوج الفلاحي في معيشتهم (باستثناء التمر)، بل يعتمدون على السوق وأعمال أخرى (الصناعة، الادارة والنقل....إلخ).

ومن بين العادات أيضا في "الدشرة" إعداد طبق "الفول" الذي ينقّع في الماء لمدة يومين ليوزّع بعد طبخه بنيّة الصّدقة، ويقولون: « راهي دارت الفول صدقة على والديها»، كما يصومون يومي التاسع والعاشر من محرّم أو يوم العاشر والحادي عشر لمخالفة اليهود حسب الشريعة الاسلامية. وهناك إطعام جماعي في المسجد يشترك فيه الجميع يسمى "المعروف"، يعد صدقة ويقوم على ذبح تَيْسٍ أو شاة بضريح الولي سيدي علي بن عثمان بالدشرة، ويشترك بهذه المناسبة جميع السكان حسب استطاعتهم إذ تقوم النسوة بـ "فتل البركوكش" وطبخه بالولي  ويأكل من هذه الوليمة المسكين والمحتاج. أما حاليا فالقيام بالمعروف بالولي سيدي علي بن عثمان لم يعد موجودا نظرا لـ "تحريمه" من طرف "الجماعة السلفية"، لكن الأسر "التمرنية" لا زالت متمسكة بهذه العادة ولا زالت تمارسها داخل بيوتها نلاحظ هنا أنّ بعض التغيرات تفرض فرضا على الجماعة، لكن رسوخ وأهمية الممارسة تجعل أصحابها يحافظون عليها بشتى الوسائل.

من العادات أيضا بالدشرة أغنية الفتيات " ﭭوَا ﭭوَا ". هذه العادة معروفة جدا بمنطقة وادي ريغ وفي قصر تمرنة، إذ يلبسون البنت الصغيرة لباسا تقليدا للعروسة ويرافقها موكب من الفتيات الّلاتي يغنين، يرقصن ويطبّلن ويزرن البيوت بيتا بيتا  لتقدم لهنّ الحلويات، المأكولات، الفاكهة الجافة، الدقيق وحتى النقود، وهنّ يرددن الأغنية التالية:

هَايْ ﭭوَا ﭭوَاﭭوَا………..مَا كي طَايْقَة

طَايْقَة عْلَى سيدي السُلْطَانْ

ﭭوَا صًلي و تْوَضي………بَاْش يَغْفَرْلَكْ رَبي

صَابّةْ صَبيَّةْ..................هَايْ لاَلَّة

صورة 04 : فتيات يغنين "ﭭوا وا"  

  المصدر: مريم لمـام-محمدي، 2011

لعبة " ﭭوَا ﭭوَا " مازالت ممارسة حاليا، وهي ما تبقى من الذاكرة الجماعية للطفولة ورمز بوصفة تقليد للباس العروسة، وبوصفة تقليد لموكب عرسي تمثيلي تغني فيه الفتيات ويرقصن فرحات لينقلن تعابير البراءة عبر البيوت.

2. الإعداد للزواج والاحتفال به

«إن لطقوس الزواج وظائف متعددة فهي لا تعتبر فقط علامات بارزة على تأسيس واستقرار وتكوين وحدة أسرية زواجية جديدة ، واستقرار علاقات في الجانبين المعنيين، ولكنها أيضا شعيرة مرور ذات دلالة هامة في نسق الفئات العمرية»[20].

الزواج مرحلة انتقالية هامة في حياة الفرد حيث ينتقل من مكانة اجتماعية إلى أخرى، ولكل بيئة محلية عادات وطقوس ابتداء من الاستعداد للزواج إلى غاية التهيئة لليلة "الدخلة" وما بعدها.

يبدأ الاعداد للعرس في "تمرنة" بالخطبة التي تتم بواسطة الوالدين، فالأم هي التي تختار العروسة التي تراها مناسبة لابنها وتكون في أغلب الأحيان من الأقارب، قد تكون من عائلة الأخوال أو من عائلة الأعمام، وتحدد الشروط حسب الألبسة والحلي: "ففي القديم كانت المرأة لا يزيد مهرها عن ثلاثين     أو خمسين "دورو" (سنتيم) ومفروشاتها تنجزها بأنامل يدها كنسيج "الحولي" والأفرشة، وتجهيز صندوق لوضع جهاز العروسة مصنوع بمادة الخشب يكون مزيّنا بالألوان من الخارج".

بعد الاتفاق على شروط المهر ورضا الطرفين، يتم الاعداد لحفل الزفاف بمشاركة أهل "الدشرة" حيث يحضر الجميع، وتتزين العروسة وتلبس "الباخمار"[21] بضريح الولي "سيدي علي بن عثمان" حيث يوجد الجامع وبه غرفة خاصة للعروسة وأهلها يتم فيها الإلباس. ففي تقاليد لبس "الباخمار" لا تكشف العروسة وجهها حتى ليلة الدخلة وهذا ليبقى "مستنيرا". لكن قبل هذا يتم تحضير "الطبـڨ" وفيه الكحل، العطور، البخور، اللبان، حبة رمان أو برتقال مع الحناء (حناء مطحونة). كما يتم تحضير "قرعة" (أويقطينة) بها عشبة "الدرور"، قشور البرتقال، حناء (عشب) والقليل من الماء والكل يوضع في قطعة قماش داخل هذه القرعة حتى يتم الحصول على مادة عطرة يرش بها العروسة ومن بصحبتها وكذا الولي.

صورة 05 : عروس ترتدي لباس "الباخمار"

 

 المصدر: مريم لمـام-محمدي، 2011.

أما إلباس العروسة فتقوم به امرأة مسّنة، إذ تضع في فمها خاتما أو حديدة   أو خلخالا من الفضة وهذا حتى لا تتكلم، ثم تضع للعروسة الحناء، تُجملها، تظفر لها شعرها وعند الانتهاء تفتح العروسة حبة الرمان وتوزعها على البنات الحاضرات، هذا من أجل "الفال" حتى يتزوجن، ثم تزف إلى بيت زوجها، حينئذ يكشف الزوج عن وجهها ويقدم لها النقود عرفانا على تعرية الوجه.

وكما هو الأمر في الكثير من المناطق، فإن فض البكارة رمز للعفة والطهارة بمنطقة "تمرنة"، فعند خروج العريس من عند عروسه تتقدم أم العروسة وتأخذ من عندها الـ "قمجَة" أو قطعة قماش بيضاء التي بها دم البكارة وتسمى "قمجّة صبحية العروس" تريها للجميع وترقص بها وسط النسوة وكأن العرس يعاد من جديد ويسمع البارود، لتوزع الحلويات والمشروبات.

وفي صبيحة الغد تحضر النسوة من أهل العروس طبق "التاخبوشت" وهو "الشخشوخة" التي يوضع فوقها اللحم وتقوم العروس بنزع قطعة من الطبق وتضعه فوق يدها اليمنى لتقدمه لأعز البنات تأكله من يدها، وهذا فأل للزواج. كما يرمين فوق رأس العروسة  القليل من الحلوى، "الكوكاو" ويرمون كذلك نبات "الفصّة" على رأسها وهذا كي تكون حياتها الزوجية الجديدة خضراء وحلوة، أما العريس فيحضّر له طبق فيه اللباس، "مكيحلة" (قارورة يوضع بها كحل العينين)، سواك، لبان، البخور، العطور، "مَحَرْمَة" حمراء تغطي السيف، "البخَارة" (أو المبخرة)، ويحضر طبق "الرفيس"، كما يحضر رفقة العريس مجموعة من الأصدقاء المقربين يسمونهم بـ"المزاوير" (من كلمة "وزير") وكأنّه السلطان وهم وزراء له. يتم قراءة "المولد" ويتم "العقد الاجتماعي" كما يلي: بعدما يتم إلباس العريس اللباس التقليدي من طرف شخص مكلف بإلباس العرسان في القصر، يقرأ "المولد"[22] من طرف إمام أو رجل مسن ختم القرآن وممثل للمنطقة، يردد معه الحضور ما يقول، ثم يحضر شاهد العروس والعريس والوليّ (الأب أو الأخ)، ويكون العريس مقابل والد العروس وكأنه يعاهده على ثلاث:

  • الحفاظ على المرأة وهي بمثابة الأمانة؛
  • الحفاظ على الصلاة وهي بمثابة الدين؛
  • الحفاظ على الجماعة بتقدير آراءها واحترام تقاريرها وهي عماد "الدشرة".

ثم تُحن يد العريس من طرف "الشاوش" أو المسؤول عن الطُلبة، ثم يتم الاعلان عن نهاية "القصعة" التي تعني إعانات مالية تقدم علنا بذكر المبلغ وصاحبه وتجمع على جزئين: الجزء الأصغر يأخذه الابن والجزء الأكبر للأب. يتم الاحتفال في النهاية بذكر قصائد لفرقة "لخوان"[23] ولا يتم إلباس العريس إلا بحضور الفرقة وأهل "الدشرة". 

هذه بعض العادات الخاصة بالزواج في قصر "تمرنة" في القديم، أما حاليا فالاحتفال بالزواج والاعداد له يعرف ممارسات منها ما لا زال مستمرا، منها ما تغير بشكل جزئي  ومنها ما اضمحل تماما:

فمثلا لباس "الباخمار" بألوانه لا تزال العروسة تلبسه وكل فتاة تحلم بارتدائه بوصفه رمزًا للأناقة والجمال، وما تبقى أيضا هو العقد الاجتماعي وقراءة "المولد"، الاحتفال الخاص لـفرقة "لخوان"، وكذا تلبيس العريس بعيدا عن منزله برفقة "المزاوير" مع تحضير الطبق وما يحويه.

أما ما تغيّر جزئيا من العادات، فيتمثل في إخفاء "القمجّة" (لباس أبيض داخلي ترتديه العروس ليلة الدّخلة) بوصفه رمزًا للعفة والطهارة عكس ما كان يتم سابقا في الدشرة من عرضها على الملأ. ما ينبغي الإشارة إليه هو التخلّي عن مواد التجميل التقليدية من طرف العرائس  لصالح مواد "عصرية" نظرا لرواجها  بالأسواق وفي وسائل الإعلام.   

أخيرا ما اضمحل حاليا هو تلبيس العروسة بالولي "سيدي علي بن عثمان" من طرف المرأة العجوز، و" التاخبوشت" التي تعني الأكل من يد العروسة للبركة بنية الزواج، وكذلك الرقص الجماعي المختلط في حفل الزفاف، والذي كان في القديم فرصة لشباب القصر من أجل اختيار شريكة الحياة المستقبلية، فهو لم يعد موجودا وهذا يرجع لدخول جماعات أخرى إلى المنطقة كأولاد نايل وغيرهم وبالتالي لم تعد عشائر القصر تعيش حياتها واحتفالاتها كما في السابق.

3. "التويزة"

"التويزة" نظام قديم للتعاون بواسطة العمل[24]. فقد يكون الفرد بحاجة للمساعدة من ناحية الغذاء أو المال، لكنه قد يكون بحاجة ماسة للمساعدة بواسطة العمل من أجل إنجاز شيء ما أو مصلحة ما. لكن هنا لا تكفي أسرته الصغيرة وحتى الكبيرة، لذا فهو بحاجة لكل الجماعة التي ينتمي إليها من أجل إنجاز العمل[25]. تتم "التويزة" بقصر "تمرنة" باشتراك أهل الحي في بناء السكنات: «عندما يريد أحد بناء مسكن يقول للعامة: "يا جماعة راني حابْ نبني"، الكل يعاونوا ويبدأ الشغل غْدا من ذاك لاطاش، من الصباح حتى المغرب، هذا يرفد هذا يحط حتى يخلاص البيت»[26]، حسب تعبير أحد سكان القصر.

تتم "التويزة" أيضا في تحضير مستلزمات الاحتفال بالزفاف عند العروسة كتقديم كمية من القمح للنسوة لطحنها وغربلتها ومن ثمّ جعلها كسكسا، كما نجدها أيضا في صناعة "الحولي" أي الزرابي وكذا الملابس الصوفية كالبرنوس والقشابية بداية من غسل الصوف، "قردشتها" وغزلها  ومن ثم حياكتها.

وكما لـ "التويزة" حضور في الأفراح فإن لها حضورا آخر في الأتراح والمآتم، وكذا في الشؤون الفلاحية كالحرث، الحصاد، جني التمر والغلال في الواحة أو"الغابة" بالتعبير المحلي.

"التويزة" من النظم القديمة التي كانت لها مكانتها الاجتماعية بين أهالي قصر "تمرنة"، أما حاليا فقد تغيرت في البعض من المجالات كالبناء إذ لم يعد يتم ذلك كما في السابق باستعمال المواد التقليدية كالطين والحجارة وجذوع النخيل، بل بمواد حديثة وبمواصفات عصرية وخاصة أنه يتم بدعم من الدولة في إطار البرامج السكنية، كل هذه العوامل أدت إلى تراجع "التويزة" كممارسة ذات وظيفة اقتصادية واجتماعية لدى أهالي "تمرنة"  الذين يقطنون في سكنات حديثة منجزة من طرف مقاولين محترفين... ليصبح القصر مجرد "ذكرى"... 

خاتمة

قدمنا في هذا المقال عيّنة من الممارسات الأسرية التي تشمل عادات  وتقاليد مجتمع محليّ صحراوي، مجتمع قصر "تمرنة"، وكيف أن البعض من هذه العادات مستمر، ومنها ما تعرض للتغيّر الجزئي، وجزء آخر تعرض  للاضمحلال. نرى هنا أن الحالة الإمبريقية ملموسة تدعم نظريتي "إميل دوركهايم" و" روجيه  باستيد" المعروضتين سابقا حول التغيّرات الاجتماعية والثقافية، أي أنها غير متجانسة وذات زمانيات متفاوتة. أما أسباب هذه التغيّرات في مجتمع قصر "تمرنة"، فيمكن إرجاعها إلى عوامل متعددة  نذكر منها:

  • تغيّر الفضاء السكني وأثره على البنية الأسرية: فالسكن في القصر كان جماعيا تحت سلطة كبير العائلة، وكان الجميع يشتركون في الأفراح ويحتفلون بإحياء المناسبات المختلفة، كما يتضامنون في الأتراح والمآتم وفي مختلف الأعمال كالفلاحة والبناء بـ "التويزة". أما حاليا فالسكنات متفرقة ولا تحوي عددا كبيرا من الأفراد، فكل من يتزوج يستقل لوحده بسكنه الخاص به (موفّر عموما من طرف الدولة) واضمحلت بالتالي "التويزة" تدريجيا بسبب هذه التغيرات العمرانية والديموغرافية.
  • تغيّر المهن: في الماضي كانت الكثير من نشاطات السكان المحليين تعتمد على المقايضة وعلى المنتوج الفلاحي في معيشتهم، أما اليوم فهم يعتمدون على السوق وعلى أعمال أخرى كالصناعة والإدارة وغيرهما من المهن "العصرية". وهذه التغيّرات كان لها أثر كما رأينا على بعض العادات والتقاليد كعادة "الشايب عاشور" في احتفالات عاشوراء.
  • الأشكال الجديدة للتدين: تقول أحد المبحوثات من سكان القصر: «في (قرية) "الزوالية" راهم يحتفلوا بـ " ﭭوَا ﭭوَا " لاخاطر ما عندهومش بزاف السلفيين اللي يحرّموا ويحللوا، أما في (قرية) "الشمرة" راحت بالتقريب هاذي العادة لا خاطر السلفية راهم كلاونا بالحلال والحرام»[27]. نرى هنا تدخل الجماعة السلفية فيما يخص لعبة الأطفال " ﭭوَا ﭭوَا " ولكن أيضا فيما يخص عادة "المعروف" إذ تضيف المبحوثة : «حنا بكري كنا نديرو "المعروف" نذبحو ونوَّكلو المحتاج واللي ما عندوش ودوركا هاوراهم يقولو ماعادش راه "المعروف" حرام»[28]. نرى هنا أيضا مدى تشتّت الشمل وتدمير التضامن والرّحمة والشفقة داخل الجماعة بين الضعيف والقويّ وبين الفقير والغنيّ. منع "الصدقة" لا يحرم الضعيف والفقير فحسب، بل يمكنه أن يمحي روابط الاحترام والوفاء للآباء سواء كانوا أحياء أوموتى.
  • أثر وسائل الإعلام والاتصال: يمكننا القول أن لوسائل الإعلام دورا في تغيّر الأسرة فقد أدت إلى اضمحلال الجماعة و"اللّمة" العائلية. ففي القديم كانت الأمهات والجدات يجمعن الأبناء والأحفاد من أجل سرد الحكايات والروايات الشعبية، أما حاليا فكل فرد منشغل لوحده أمام عدد هائل من القنوات الفضائية، لكن يمكن أن يكون لذلك نتيجة جماعية كما رأينا ذلك من خلال تخلي الشابات عن مواد التجميل التقليدية لصالح مواد أخرى أكثر "عصرية" في حفلات الزفاف.

نرى أنّ قصر "تمرنة" هو حالة من حالات الثقافات المحلية التي تتعرض لعوامل التغيّر الثقافي، المادي واللامادي، كما أنه حالة من حالات التحدي لهذا التغيّر والمقاومة لعوامل الاندثار.

 وإذا اعتبرنا منذ البداية أن الممارسات الأسرية، بما فيها العادات والتقاليد، مكوّن أساسي من التراث الثقافي لمجتمع محلي معيّن، وبالتالي مكوّن أساسي لهويته المحلية، لا يمكننا إلا أن نتساءل في الأخير عن مستقبل هذه الهوية في ظل تحولات عمرانية واجتماعية وسياسية ودينية عميقة تشهدها هذه المجتمعات الصحراوية العريقة.

المـراجع

أ. بالعربية

ابن خلدون، عبد الرحمان (1959)، كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر وعاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، المجلد 07، بيروت، دار الكتاب اللبناني.

الحموي، ياقوت (1977)، معجم البلدان، المجلد 03، بيروت، دار صادر.

العدواني، محمد بن عمر (1996)، تاريخ العدواني، تحقيق وتقديم أبو القاسم سعد الله، بيروت، دار الغرب الإسلامي.

فاروق، أحمد مصطفى وآخرون (2008)، دراسات في التراث الشعبي، الاسكندرية، دار المعرفة الجامعية.

مالتسان، هاينريش فون (1976)، ثلاثة سنوات في شمال غربي إفريقيا، ج3، ترجمة أبو العيد دودو، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر.

بيار، بونت وميتشال، إيزار (2006)، معجم الاثنولوجيا والانتروبولوجيا، ترجمة واشراف مصباح الصمد ط 1، بيروت، المؤسسة الجمعية للدراسات والتوزيع (مجد).

بريبش، عبد اللطيف وآخرون (2008)، العادات والتقاليد في المجتمع المغربي، الرباط، مطبعة المعارف الجديدة.

دورتيه، جان فرانسوا (اشراف)، (2009)، معجم العلوم الانسانية، ترجمة جورج كتورة، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات(كلمة ومجد) ط1.

ب. بالفرنسية

Balandier, G. (1986), Sens et puissance, Paris, PUF, 3 éd.

Bastide, R. (1971), Anthropologie appliquée, Paris, Payot.

Bellil, R. (2003), Ksour et saints du Gourara, Alger, CNRPAH.

Chaouche-Bencherif, M. (2006), La micro –urbanisation et la ville-oasis, une alternative à l’équilibre des zones arides pour une ville saharienne durable cas de bas-Sahara, thèse de doctorat en urbanisme, Département d’architecture et d’urbanisme, Université Mentouri, Constantine.

Fontaine, J., Flitti, M. (2010), «  L’évolution de la population du Sahara algérien de 1954 à 1998 », in Abed Bendjelid (dir.), Villes d’Algérie – Formation, vie urbaine et aménagement, Oran, éditions du Crasc.

Foufa, A., A. Projet de réhabilitation de monuments historiques "ksar Tamerna al quadima"- 2ème phase: genèse historique et relèves, Direction de l'environnement de Wilaya d'El-Oued. (Document non publié).

Insaniyat : Le Sahara et ses marges, nos 51-52, janvier-juin 2011.

Kouzmin, Y. (2007), Dynamiques et mutations territoriales du Sahara Algérien vers de nouvelles approches fondé es sur l’observation, thèse de doctorat en géographie, Université Franche-Comté.

Maunier, R. (1935), Coutumes algériennes, Paris, ed. Domat-Montchristien.

Mimouni, M. (2003),  »La touiza : entraide d’hier et d’aujourd’hui«, art. in site de l’association ‘Parole sans frontières’, Strasbourg, http://www.p-s-f.com/psf/spip.php?article108

Moussaoui, A. (2002), Espace et sacré au Sahara, Paris, CNRS éditions.


الهوامش

[1] Chaouche-Bencherif, M. (2006), La micro –urbanisation et la ville-oasis, une alternative à l’équilibre des zones arides pour une ville saharienne durable cas de bas-Sahara, Thèse de Doctorat en urbanisme, Département d’architecture et d’urbanisme, Université Mentouri – Constantine; Kouzmin Yaël (2007), Dynamiques et mutations territoriales du Sahara Algérien vers de nouvelles approches fondées sur l’observation, thèse de Doctorat en géographie, Université Franche-Comté. Voir également le numéro d’Insanyat consacrée au Sahara : Le Sahara et ses marges, nos 51-52, janvier-juin 2011.

[2] Fontaine, J., Flitti, M. (2010), « L’évolution de la population du Sahara algérien de 1954 à 1998 », in Abed Bendjelid (dir.), Villes d’Algérie – Formation, vie urbaine et aménagement, Oran, éditions du Crasc.

[3] Moussaoui, A. (2002), Espace et sacré au Sahara, Paris, CNRS éditions ; Bellil Rachid (2003), Ksour et saints du Gourara, Alger, CNRPAH.

[4] بونت، بيار، وإيزار، ميتشال. (2006)، معجم الإثنولوجيا والأنثروبولوجيا، ترجمة وإشراف مصباح الصمد، ط1، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع "مجد"، ص. 386.

[5] بيربش، عبد اللطيف وآخرون. (2008)، العادات والتقاليد في المجتمع المغربي، الرباط، مطبعة المعارف الجديدة، ص. 31 -32 .

[6] دورتيه، جان فرانسوا (إشراف). (2009)، معجم العلوم الانسانية، ترجمة جورج كتورة، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات (كلمة ومجد) ط1، ص. 243.

[7] Balandier, G. (1986), Sens et puissance, Paris, Ed. PUF, 3éd, p. 54-55.

[8] Bastide, R. (1971), Anthropologie appliquée, Paris, Payot, p. 51.

[9] Fontaine, J., Flitti, M. (2010), «  L’évolution de la population du Sahara algérien de 1954 à 1998 », in Abed Bendjelid (dir.), Villes d’Algérie – Formation, vie urbaine et aménagement, Oran, éditions du Crasc,  p. 6.

[10] الحموي، ياقوت. (1977)، معجم البلدان، المجلد 03، بيروت، دار صادر، ص. 113.

[11] عبد الرحمان، ابن خلدون. (1959)، كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر وعاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، المجلد 07، بيروت، دار الكتاب اللبناني، ص. 98.

[12] روايات متداولة عند شيوخ المنطقة، فالبعض يقول تأسست بــ 11 سنة قبل تأسيس حي القصبة بالجزائر العاصمة ومنهم من يقول تكبرها بــ 11 سنة، ورواية أخرى تقول بــ 40 سنة.

[13] محمد بن عمر، العدواني. (1996)، تاريخ العدواني، تحقيق وتقديم أبوالقاسم سعد الله، بيروت، دار الغرب الإسلامي، ص. 138.

[14] هاينريش فون، مالتسان. (1976)، ثلاثة سنوات في شمال غربي إفريقيا، ج3، ترجمة أبو العيد دودو، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، ص. 142.

[15] هذه الأمثلة من العادات والتقاليد جمعتها من خلال التحقيقات الميدانية التي أجريتها مع أهالي المنطقة  والذين  عاشوا في "الدشرة" أي في "قصر تمرنة".

[16] كلمة بربرية تعني أسفل الرأس.

[17] بمعنى يُشهِدون يوم عاشوراء بقيامهم بالأضحية، وذلك بترك الجانب الأيمن من أضحية كبش العيد إلى يوم الاحتفال بيوم عاشوراء وكذا استعمال البخور و زغردة النسوة فرحا بهذا اليوم.

[18] أي بيع الأواني المنزلية.

[19] أي كل ما تطلبه موجود.

[20] فاروق، أحمد مصطفى وآخرون. (2008)، دراسات في التراث الشعبي، الإسكندرية، دار المعرفة الجامعية، ص. 96.

[21] لباس تقليدي للعروسة ، يحوي ثلاث قطع قماش ملونة:  القطعة الأولى من اللون الأحمر تحجب الوجه حتى لا يظهر، القطعة الثانية من اللون الأخضر وتوضع على الكتفين، القطعة الثالثة وهي لباس باللون الأسود ترتديه العروسة  كمرحلة أولى، إضافة إلى حزام باللون الأبيض، كما تتزين العروسة  بالحلّي المصنوعة من الفضة. أنظر الصورة رقم 05.

[22] نص شفهي محفوظ يقرأ في الزواج والمناسبات الدينية الأخرى.

[23] فرقة تنشد القصائد والمدائح الدينية لا تزال حاضرة في جميع المناسبات والاحتفالات بالمجتمع التمرني.

[24] Mimouni, M. (2003), » La touiza : entraide d’hier et d’aujourd’hui«, art. in site de l’association « Parole sans frontières », Strasbourg, http://www.p-s-f.com/psf/spip.php?article108 .

[25] Maunier, R. (1935), Coutumes algériennes, Paris, Ed. Domat-Montchristien, p. 68.

[26] إذا ما أراد أحد البناء بقول للعامة : يا جماعة أريد أن أبني ، فالكل يساعده بإشراكهم العمل وبسرعة حتى ينتهي منه في فترة قصيرة.

[27] «إنهم يحتفلون في قرية "الزوالية"  بـ " ﭭوَا ﭭوَا " لأنه ليس لديهم الكثير من السلفيين الذين يحللون ويحرمون، أما في قرية "الشمرة" فلقد زالت بالتقريب هذه العادة لأن السلفية قد أكلونا بالحلال والحرام».

[28] «في القديم كنا نقوم بـ "المعروف"، نذبح ونطعم المحتاج والمسكين واليوم إنهم يقولون "المعروف" حرام». 

 

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran

95 06 62 41 213+
03 07 62 41 213+
05 07 62 41 213+
11 07 62 41 213+

98 06 62 41 213+
04 07 62 41 213+

Recherche