الجامعة و التنمية :طالبات و مشاريع مستقبلية

إنسانيات عدد 28 | 2005 | أبحاث أولى 2 (أنثروبولوجيا، علم الاجتماع، جغرافيا، علم النفس، أدب) | ص 73-94 | النص الكامل


L’université et le développement : étudiantes et projets d’avenir

Abstract: La problématique du développement de l’enseignement supérieur ne peut être dissociée de la question du genre ; en effet, l’évolution des effectifs qu’a connue le secteur depuis l’indépendance est due essentiellement à la croissance de la population féminine.
Pour cela la présente recherche prend en ligne de compte la dimension du genre pour comprendre le mécanisme par lequel les jeunes filles universitaires élaborent leurs choix : scolaire, professionnel et matrimonial et tente de mesurer le rôle de l’université dans la formalisation de leur aspiration à l’autonomie vis-à-vis des modèles traditionnels à partir de la conscience individualiste. Par conséquent, peut-on considérer les institutions de l’enseignement supérieur comme étant un facteur de changement et de développement ou bien confortent-elles la reproduction ‘des schèmes de pensée’ dominants et assurent-elles la continuité du système traditionnel ?
L’étude des projets d’avenir permet d’identifier les éléments du changement et du conservatisme dans la socialisation des jeunes filles universitaires. Dans un contexte qui connaît une dévalorisation du diplôme, les étudiantes sont confrontées à la difficulté de gérer la distance entre la culture scolaire (universitaire) et la culture sociale. En l’occurrence, la stratégie adoptée vise à donner un sens utilitariste aux études ; l’investissement dans le projet de formation répond, dans ce cas, à la règle du  coût, risque et profit.
La contribution de l’université dans la construction de nouveaux modèles sociaux est conçue à travers une tendance à l’autonomie par rapport aux modèles traditionnels. Cependant, le mariage, la famille et la parenté conservent leur place et leur rôle traditionnel, notamment le mariage qui représente un facteur d’insertion sociale, mais aussi une forme d’épanouissement individuel.

Mots clés : développement - université - genre - autonomie - individu - individualisme - structure sociale - projet.

 

Imane MERABET : Centre de Recherche en Anthropologie Sociale et Culturelle, Oran, 31 000, Algérie.


يعتبر كل من التعليم العالي و النوع مدخلان هامان لموضوع التنمية و صيرورة تطور المجتمعات بحيث توصلت لجنة التنمية لهيئة الأمم المتحدة بمؤتمر ريو Rio للمؤشرات الاجتماعية للتنمية من بينها تلك التي تعلّقت بمسائل التعليم، العمل و النوع و ذلك من خلال : اختلاف نسبة التسجيل المدرسي بين الذكور  و الإناث، و عدد الإناث من بين 100 رجل في مواقع عمالة مكثفة[1]. بسبب أن تربية و عمل الإناث من المؤشرات الدولية لقياس تنمية أي بلد.

فارتفاع حجم التعليم العالي عندنا أتى أساسا تلبية لتزايد أعداد الإناث فيه، على الرغم من ارتفاع نسب الذكور فيما يتعلّق بالأرقام الشاملة، بحيث أصبحت نسبتهن بالمقارنة مع نسبة الذكور تفوق 50,5% في معدّلها سنة 1998 و وصلت في 2002 (وهي فترة البحث) إلى 54 % بينما لم يكن عددهن يتعدّى 22 طالبة في 1954 و21,13 % في بداية الستينات و 27,38% في بداية الثمانينات (80/81)[2].

و في الواقع، و على الرغم من النزعة المتجهة نحو النجاح المتواصل للإناث، إلا أن الأمر ليس مطلقا و يغطي تناقضات عديدة، فتواجد و تفوّق الذكور لا زالا طاغيين في الشعب العلمية و التقنية و في مجالات العمل و المجالات السياسية و القيادية. [3] بحيث تبقى قليلات في الشعب الأكثر اعتبارا في المجتمع: كالشعب العلمية و أيضا في التعليم الانتقائي للتحضير إلى المدارس الكبرى خصوصا الهندسة[4].

إضافة إلى ذلك فهن شبه غائبات عن مجالات العمل، إذ ما زالت هناك عوائق اجتماعية تمنعهن من الوصول إلى المواقع المهنية خاصّة المتقدّمة و القيادية منها. إذ بينت إحصائيات[5] 2001 التي نشرها الديوان الوطني للإحصاء أن النساء النشطات في الجزائر لا تمثل إلاّ 15,03 % من مجموع المجتمع النشط مقابل 84,97 % من الرجال و 14,18 % من مجموع المجتمع العامل.

كما توضح الإحصائيات أن 82,71 % من واضعي طلبات عمل هم رجال في حين تمثل النساء 17,29 % فقط من مجموع الطالبين و أنّ نسبة كبيرة من النساء يتوقفن عن العمل عند الزواج أو الإنجاب[6].

فهل يرجع ذلك إلى البيئة الاجتماعية و ما تفرضه من تحديدات طبقية ونوعية و استمرارية النموذج الأبوي بصفة عامّة الذي يعمل على إضفاء القيمة على المرأة المربية الماكثة في البيت، أو أننا أمام اختيارات فردية واعية و عقلانية. و هل تساهم الجامعة كتجربة تنشئوية في بناء المرأة الفرد لتكون قادرة على القيام باختيارات مسؤولة و مستقلّة عن "النماذج التقليدية"؟

و بصيغة أخرى ما هي المشاريع المستقبلية للجامعيات ؟ هل المرور بالجامعة يجعل مشاريع الطالبات أكثر استقلالية عن نماذج النجاح التقليدية أم يبقى المشروع الزواجي في قلب تطلعات الإناث و تصبح الدراسة أو العمل أداة لتحقيقه؟

إن تحديد مساهمة التنشئة الجامعية في تفعيل التطوّر التدريجي لإدراك الأنماط الجديدة و قياس صيرورة الاستقلالية لدى الجامعيات، يكون من خلال نضج مشاريعهن و ارتباطها بالنماذج التقليدية أو الحديثة. لذا سوف يتمثل عملنا في القيام بقراءة تفكيكية لمشاريع الجامعيات كمؤشرات لفهم تنشئة الأفراد، حيث تمكننا هرمية المشاريع و تمفصلاتها الدراسية، المهنية و الزواجية من معرفة ما إذا كانت التنشئة الجامعية في قطيعة أو استمرار مع التنشئة العائلية.

نفترض أنّ الانغماس في المؤسسة التعليمية لفترة تقل عن ستّة عشر سنة يؤدّي بالضرورة إلى بروز استقلالية تجاه المشاريع التقليدية و يمثل تأخر سنّ الزواج نتيجة امتداد الدراسة بوصفه مؤشرا على ذلك، هذا من جهة.

و من جهة أخرى يكون الشكل الذي تتآلف فيه عناصر (مشاريع) الهرمية هو محصّلة تفاوض مستمرّ بين الفاعل و النّظام.

كما نعتقد بأنّ هناك تفعيل اختلافي للملكات الاجتماعية و المدرسية المكتسبة لدى الفاعلات الاجتماعيات حسب الأصل السوسيوثقافي.

تمّ تقسيم المادّة المتراكمة عن سيرورة البحث إلى ثلاثة فصول: حاولنا في الفصل الأوّل تحديد طبيعة العلاقة بين الثلاثية: التنمية، الجامعة و النوع بمحاولة الكشف عن مكانة الإناث في التعليم العالي و الفوارق الموجودة بين الجنسين في استغلال الفرص و الموارد المادية و المعنوية و ذلك عبر الإصلاحات و من تمّ التحوّلات التي عرفها القطاع خاصّة فيما يتعلق بالنمو في الهياكل و التطور المعتبر و المستمرّ لأعداد الطلبة.

قادنا اكتشاف هذه التمايزات النوعية خاصّة في اختيار المستقبل السوسيومهني في الفصل الثاني إلى تحليل رأي الدراسات النوعية في أصل الاختلاف و البحث في التغيّرات التي عرفتها الأسرة الجزائرية و نمط التنشئة التي تتبناها.

فمن خلال منظور الهيمنة، تجمع تلك التحاليل[7] على أنّ الأدوار الذكورية و الأنثوية تجد قواعدها في التنشئة الإختلافية أساسا، بينما تعتبر الأسرة المسؤول الرئيسي عن هذه التنشئة و أول من يضمن إعادة إنتاج الاختلافات النوعية، و لو أنّ المدرسة لا تنفد من تأثير النماذج الاجتماعية المقولبة و ذلك رغم مبدأ المساواة في التربية.

حاولنا في الأخير (الفصل الثالث) تحليل خطاب الجامعيات و تمثلاتهن حول الدراسة العمل و الزواج. و يبيّن السؤال المتعلّق بالمشاريع المستقبلية أنّ جلّ طموحات الطالبات بفئاتها المختلفة تتعلّق بثلاث مشاريع تصاغ على شكل تمنيات: الحصول على عمل مستقرّ، تكوين جيّد و حياة عائلية مستقرّة، إضافة إلى تعبيرهن عن الرغبة في الهجرة.

و التساؤل الذي يتبادر إلى ذهننا هو: هل عبّرت الفتيات فعلا عن اختيارات تعكس اهتماماتهن الحقيقية أو أنهن فقط تعيدن إنتاج و لو بطريقة غير واعية لقيم تهيمن في المجتمع؟

منهجية البحث

تطلّب منّا دراسة المشاريع المستقبلية للجامعيات و ارتباطها بالتنشئة الجامعية مقاربة تتواجد في تقاطع عدّة تخصّصات: علم اجتماع المدرسة، علم اجتماع التنمية، علم اجتماع الأسرة و علم النفس الاجتماعي.

و من أجل معرفة نمط التنشئة الاجتماعية، مرجعياتها و مكانزمات بنائها مكننا منهج تبادل لفعل الاقتراب من الطالبات على أنهنّ فاعلات عقلانيات تملكن مجالا واسعا للحركة و الفعل و واعيات بالمخاطر الاجتماعية المحيطة بهن و تحاولن باستراتيجيات متعدّدة تسيير تلك المخاطر، دون أن يعني ذلك أنهن نفعيات على الإطلاق أو تتحركن فقط وفق مصالح خاصّة و باستراتيجيات دقيقة، ذلك كونه علينا الاعتراف في نفس الوقت بخصوصية النسق الاجتماعي وخصوصية مكانة النساء فيه ممّا يجعلنا نجزم أنّ اختياراتهن و حركتهن فيه أكثر تعقيدا.

و قد ساعدنا استعمال تقنية المقابلة من فهم التكوين التدريجي لنماذج التصرفات و إدراك العلاقات و فهم عقد الوضعيات حيث تبرز التناقضات التي تميّز العلاقة الاجتماعية الناشئة بين نظام المعايير و تصرّفات الفاعلات التي بدت لنا في كثير من الأحيان مشحونة بالتناقضات بسبب تعدّد المرجعيات لديهن و سلم القيم و ذلك بدلالة الأصل الاجتماعي، الاختصاص و السنة الدراسية.

قمنا بإجراء 20 مقابلة مع طالبات جامعيات من اختصاصي علم الاجتماع والعلوم الطبية و من وسطين اجتماعيين متباينين : أحدهما ميسور و الآخر محروم، ليتسنّى لنا التحكم في عامل الانتماء الاجتماعي و تثبيته قصد قياس أثر عامل النوع، و لنتمكن أيضا من استنتاج مقارنات بين الوسطين. ثمّ قمنا بتقسيم كل وسط إلى مجموعتين: طالبات في بداية المسار الجامعي و أخريات في نهايته من أجل قياس أثر المرور بالجامعة كتجربة تنشئوية في بلورة مشاريع الفتيات.

إن اختيار طالبات من شعبتين مختلفتين له خصوصيته لعدّة أسباب : تموضع الشعبتين في القطبين المتناظرين لسلم اختيارات الطلبة، تباين مدّة التكوين بينهما و أثرها في بلورة المشاريع المستقبلية، الوضع الخاصّ لكلّ تكوين في مجتمعنا[8] (أحدهما ذو وضع مرموق و الثاني لم يحظ بعد بالاعتراف الاجتماعي) و الخطابات التي يفرزها هذا الوضع.

كما لاحظنا أيضا التباين الواضح بين مجتمعي الشعبتين :إذ نجد في الأولى انحدار العديد من الطلبة من أصول اجتماعية ميسورة و في الثانية من أصول متواضعة، إضافة إلى تأثير نوع التكوين المحصّل عليه على نظرة الطلبة للحياة و إدراكهم للمواضيع إمّا بشكل تقني و ذاتي أو بشكل نظري و شمولي باعتبار أن التكوين الأوّل المدعو بالعلوم البحتة يعتمد على المادّي المرئي و المحسوس حيث يكون موضوع التكوين فيه هو جسد الكائن البشري.

بينما تعنى العلوم المسماّة بالإنسانية بما هو غير محسوس في علاقات الفرد بالمحيط بمفهومه الواسع و بالتالي المسافة الزمنية و المكانية التي تفصل بين الفرد و موضوع تكوينه التي من المفروض أن تجعل التكوين في العلوم الإنسانية بمثابة منهج فهم و إدراك الحياة له أثره على نمط تفكير الطلبة.

كلّ ذلك جعل تحاليل المجموعتين للمواضيع المطروحة للنقاش مختلفة باختلاف نوع التكوين. و يسمح لنا ذلك بالمقارنة التحليلية و يفتح في اعتقادنا مجالا خصبا للبحث.

كما تجلّى ذلك من خلال استعمالنا للمنهج الكمّي و في اعتمادنا على تقنية الاستمارة و لعل مشاركتنا في مشروع بحث وطني[9] في إطار مخبر بحث بمركز البحث في الأنثروبولوجية الاجتماعية و الثقافية قد أسعفتنا في ذلك.

يهتمّ المشروع بدور الجامعة في التنشئة الاجتماعية، بالثقافة الطلابية و بعلاقة الطلبة بالدراسة، العائلة و المجتمع.

و قد تمّ التحقيق الميداني في ماي ـ جوان 2001 بالتوجه نحو 545 طالبا في بداية و نهاية المسار الجامعي منهم 269 طالبة بنسبة49,4 % و 276 طالبا بنسبة 50,6 % من مجموع العينة موزعين على التخصّصات التالية :87 طالبا من علم الاجتماع بنسبة 16 %، 190 طالبا من التكنولوجيا (34,8 %)، 125 من الحقوق (23 %) و 143 طالبا من الطبّ (26,3 %).

نتائج البحث

بين النظرة النفعية و القوالب الاجتماعية

وجدنا في محاولتنا لمعرفة تمثلات الطالبات للدراسة و المعنى الذي تعطينه للنجاح، أن الحصول على الشهادة الجامعية أوّلا ثمّ تلقي تكوين جيد ثانيا كانتا من أهمّ معاني النجاح الدراسي لديهن و بالتالي تقدم الطالبات الجانب العملي للمعرفة بما أنهن تعطين الأولوية للتحكم في مهنة ما عند تعبيرهن عن الإنتظارات الدراسية[10].

الجدول1:توزيع نسب الإجابات المتعلّقة بالفرق بين الطالب و من لم يزاول الدراسة الجامعية حسب الجنس.

 

إناث %

ذكور %

 

18,6

21

في تفكير الطالب

17,6

18

في طريقة الكلام

16,8

17,4

في ثقافة الطالب

12,6

10.5

لا إجابة

11,5

9.7

للطالب مكانة أفضل في المجتمع

8

9

الطالب أكثر انفتاحا

8

9

في طريقة العيش

6,5

5

للطالب رأي مسموع في العائلة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تعتبر الإناث الشهادة الجامعية عربون استقلاليتها إذ تمكنها من تغيير وضعها في العائلة و المجتمع: بحيث أوضحت نتائج البحث أنهن مقارنة بالذكور تولين أهمية أكبر لدور الدراسة في تغيير الوضع الاجتماعي. (الجدول 1)

تعتبر الدراسة بالنسبة لهن رهان أحسن استثمار في السوق الزواجي إذ يسمح المستوى التعليمي و بالتالي الوضع الاجتماعي الذي تكتسبه الفتاة إثر ذلك التفاوض في إطار علاقة قوّة متّزنة. فإذا كانت الطالبات تعبرن أكثر عن الصعوبات الدراسية ذلك كون إحساسهن بالرغبة و الحاجة إلى النجاح دراسيا أكبر من إحساس الذكور بذلك[11].

إضافة إلى هذه النتائج العامّة لاحظنا فوارق بين الطالبات عندما تتغير الشعبة و المستوى الدراسي إذ تعطي طالبات علم الاجتماع أهمية أكبر للحصول على الشهادة بنسبة 24 % من مجموع الإجابات بينما فضّلت طالبات العلوم الطبية تلقي التكوين الجيد (28 %) مقابل15,4 % من إجابات مثيلاتهن من علم الاجتماع.

 و يرتبط تفسير ذلك بعوامل متعلّقة بمميزات المجتمع الطلابي لكلّ شعبة و طبيعة التوجيه المدرسي بحيث غالبا ما يوجه إلى العلوم الطبية من يملكون معدّلات عالية أي التلاميذ النجباء، بينما يوجه من يملك رصيد مدرسي ضعيف إلى الشعب المعروفة بالأدبية[12].

المنحنى1: توزيع نسب الإجابات عن دوافع اختيار الشعبة عند طالبات العلوم الطبية.

المنحنى2: توزيع نسب الإجابات عن دوافع اختيار الشعبة عند طالبات علم الاجتماع.

كما تبين لنا أنّ أسباب اختيار الشعبة تختلف أساسا، إذ تمثل بعض المواقف مثل: "جلبني مضمون الاختصاص" بـ 26 % و "استمرار للدراسة الثانوية" و "الفرص المهنية التي يفتحها الاختصاص" على الترتيب بـ21,7 % و21 % أهمّ إجابات طالبات العلوم الطبية (المنحنى 1) مـثلت "فشل الاخـتيار الأوّل" بـ 30,5 % و "لم يكن عندي خيار آخر" بـ 22 % و أهمّ الإجابات المقدّمة من قبل طالبات علم الاجتماع (المنحنى 2) و بالتالي تقلّ الطموحات الدراسية عند تلك بينما تولي هاته اهتمام أكبر بنوعية التكوين.

و ما يدعم هذه المعطيات هو ارتفاع النسبة في الإجابة، الانتقال دون عناء كبير عند طالبات علم الاجتماع (14 %) بينما كنّا نتوقع أن يكون ذلك في إجابات طالبات الطب (9 %) و ذلك لتعبيرهن عن المجهود الكبير الذي تبدلنه و الصعوبات المرتبطة بكثافة البرنامج الدراسي أكثر من زميلاتهن في علم الاجتماع.

من جهة أخرى اختلاف التمثلات المرتبطة بالشعبة و بالتالي المهن التي توصل إليها و وضعها الاجتماعي يقحم الإدراك الاختلافي للنجاح بين مجتمع بحث الشعبتين. إذ تتصور طالبات معهد الطب أن شعبتهن تقود إلى مهنة تتطلب الدقة و التكوين الجيد لأنّ الخطأ أو عدم الإلمام بها يعرض حياة الأفراد إلى خطر الموت و بالتالي تعبر الطالبات في هذا السياق عن إحساسهن بثقل المسؤولية الملقاة على عاتقهن، بينما غياب هذا الإحساس عند طالبات علم الاجتماع يجعلهن تهتمن أقلّ من مثيلاتهن بنوعية التكوين.

إضافة إلى ذلك إن اختلاف الأصول الاجتماعية لطالبات كلّ شعبة له تأثيره على التمثلات و بالتالي انتظارات الطالبات الدراسية و المهنية: حيث أنّ انتماء طالبات علم الاجتماع إلى الفئات السوسيو- مهنية المتواضعة يجعلهن ترين في نيل الشهادة الجامعية في أقصر مدّة ممكنة النجاح الفعلي و طريق نحو العمل و بالتالي تحسين المستوى المعيشي. في هذا الإطار تصبح المنافسة الدراسية و الرغبة في تكوين أفضل أمورا ثانوية.

بينما لا يتبلور هذا الانشغال بالعمل بنفس الحدّة عند طالبات معهد الطب اللواتي تتميزن بانتمائهن إلى الفئات الميسورة و الوسطى. عكس ذلك الجو التنافسي بين طالبات علوم الطب يجعلهن تطمحن، كاستراتيجيه للتمايز إلى أحسن تكوين و مقياس النجاح لديهن المهارة في الممارسة الطبية و الشهرة التي تجتنينها من ذلك.

و من جهة أخرى تبين لنا أن الوعي بضرورة تحسين نوعية التكوين يكتسب في السنوات الأخيرة من المسار، و أنّ 28% من مجموع إجابات الطالبات في نهاية التكوين الجامعي كانت حول الخاصية "التكوين الجيد" عند التعبير عن النجاح الدراسي مقابل 20,4 % من اللواتي كن في بدايته.

إذ يبدو أنّ الطالبة تتمكن عند اقتراب انتهاء تواجدها بالجامعة من تقويم مكتسباتها من التكوين و استعداداتها و هي تتأهب للاندماج في الحياة العملية، فكثيرا ما عبرت الطالبات في السنة الأخيرة عن عدم رضاهن بتحصيلهن الدراسي أكثر من طالبات السنة أولى جامعي.

كما تسود النظرة النفعية خصوصا عند الطالبات في بداية المسار الجامعي حيث يمثل نيل الشهادة أوّل مؤشر نجاح لديهن بنسبة 23 % من مجموع الإجابات.

أما فيما يتعلّق بطموحاتهن المهنية أظهرت نتائج البحث أنّ نسبة عالية من المبحوثات ليس لديهن معرفة كافية بالشروط التي ينبغي توفيرها من أجل تحقيق اختياراتهن، من ذلك لا يمكن اعتبار هذه الاختيارات مشاريع ناضجة و إنّما عبارة عن رغبات آنية.

و فيما يخص المعلومات التي تهمّ الطالبات كالدخل الجيد (29 %) و المهن التي يعترف لها بوضع اجتماعي مرموق و تسمح بالارتقاء (23 %) هي تلك التي تسمح برؤية اجتماعية[1]. (المنحنى3)

المنحنى3: توزيع إجابات الطالبات حول الإنتظارات من العمل الذي ترغبن ممارسته مستقبلا

كما أظهرت النتائج أنّ الاختيارات المهنية لمختلف فئات الطالبات محدودة و تسيطر عليها الاتجاهات النمطية السائدة في المجتمع، بحيث تبين لنا أنّ القوالب الاجتماعية المتعلقة بأدوار الجنسين مرسّخة و لا يعاد النظر فيها بصفة واعية بحيث تعتقد جلهن أنّ هناك وظائف و أدوار اجتماعية لا تناسب المرأة و عليه عبرت 27 % من مجموع الإجابات عن اختيار عمل "يناسبني كامرأة" (المنحنى3) و غالبا ما كانت تغذي هذه التمثلات اعتقادات دينية.

كما يبين أيضا عدم إعطاء الفتيات أهمية كافية لمعطى محتوى نشاط أو عمل ما و ابتعادهن عن عالم الشغل و غياب تصوّر حول ما يمكن أن يسمّى بوضعية عمل une situation de travail، الصعوبة في تصوّرها ترجع إلى غياب أيّ تجربة في هذا المجال، قلّة المعلومات لديهن عن عالم العمل ما عدا العامّة منها، غياب فعل تربوي و تنشئوي واعي عند الإناث بينما تعطى أهمية أكبر للذكور في هذا المجال، ممّا أدّى في رأينا إلى قلّة طموحاتهن المهنية و بالتالي قلّة الاهتمام بهذه التفاصيل إلى جانب الخطاب السائد حول عدم قدرة التكوين اليوم على إعداد الأفراد لمواجهة صعوبات عالم العمل.

فإذا غاب لدى الإناث تصوّر ما يسمّى بوضعية عمل فإنّ تصوّرهن لوضعية زواج مستقبلا لم يغب، إذ تتعرضن للوضعيات الممكنة في الحلقة العائلية أو عند دخول المؤسسة الزواجية و تفكرن في ردّ الفعل الملائم و المواقف المحتملة.

و يرجع تفسير ذلك في رأينا إلى المعرفة المتراكمة عن التجربة الأبوية و الاحتكاك المباشر بالعائلة الأصلية كمثال حي إضافة إلى الفعل التنشئوي الواعي و المستمرّ في المجتمع الذي يعدّ الفتاة إلى الحياة العائلية.

الهجرة كمشروع

أصبحت الهجرة إلى الخارج طموح الكثير من طلبتنا (المنحنى4) و الملاحظ أيضا هو ارتفاع عدد الإناث اللواتي تطمحن إلى ذلك في حين لم تكن لوقت قريب الرغبة في الهجرة

أمر يخصّهن.

المنحنى 4: توزيع نسب الإجابات عن سؤال "هل تريد الهجرة" حسب الجنس.

سجلنا في هذه الحالة فوارق بين الجنسين فيما يتعلق بمدّة الإقامة فبينما ارتفعت النسبة في الإجابة البقاء مدّة طويلة بنسبة 37,7 % ثمّ البقاء باستمرار بـ 26 % عند الذكور مثلت الإجابة بالبقاء مدّة محدودة أعلى نسبة بـ 30,5 % و البقاء باستمرار13 % أصغر نسبة عند الإناث.

غير أنّ هذه الإثباتات قد تغطي تناقضات أخرى فالملفت للانتباه في هذا السؤال هو النسبة العالية لعدم الإجابة خاصّة عند الإناث بحيث بلغت 28,3 % و 19,2 % عند الذكور من مجموع الإجابات .

و قد يخفي ذلك الغموض و الآنية اللذان يميّزان المرحلة الراهنة و من تمّ حيرة الطلبة و خاصّة الطالبات أمام مستقبل لم توضح خطوطه عند غالبيتهم.

بينما مثل البحث عن العمل بـ 23,7 % و متابعة الدراسة 20,2 % أهمّ انتظارات الطالبات من الهجرة و يبرز ذلك الاستياء من الوضعية العامّة و البحث عن فرص و منافذ جديدة.

و كما يبدو إن تعبير الطالبات عن الرغبة في الهجرة لم تعطي كلهن لذلك معنى الإقامة في الخارج و إنّما قصد الكثيرات مجرّد فرصة سفـر للاكتشـاف بـ 23 %.

و عندما تساءلنا عن الأسباب التي تجعل الطالبات تفكرن في الهجرة لمحاولة فهم ما إذا كانت هذه الأخيرة تتأسس كمشروع توصلنا إلى النتائج التالية:

مثل الاستياء من التكوين في جامعتنا و الرغبة في تكوين أفضل (22,66 %) اكتشاف العالم ( 20,7%) واعتبار المجتمع الجزائري مجتمعا منغلقا (% 18,22) أهمّ أسباب الرغبة في الهجرة التي عبّرت عنها الطالبات.

ترتيب هذه الأسباب اختلف حسب الشعبة و المستوى الدراسي: بحيث أخذ التعبير عن تكوين أفضل أعلى حصّة (25,4 %) من إجابات طالبات شعبة الطب تليها على الترتيب الرغبة في اكتشاف العالم (21 %) و انغلاق المجتمع (17 %).

في حين كانت أعلى نسبة عند طالبات علم الاجتماع في الإجابة مجتمعنا منغلق (20,3 %) ثمّ تتبعها التكوين أحسن و اكتشاف الـعـالم في نـفس الرتبة (19 %).

أما الأسباب المتعلقة بتحسين الوضعية المالية فقد ميّزت إجابات طالبات علم الاجتماع خاصّة.

أظهرت المقارنة بين طالبات في بداية المسار الجامعي و طالبات في نهايته بعض الاختلافات: بحيث يبدو أنّ سنوات الدراسة كفيلة بإكساب الطالبة نظرة تقويمية و نقدية للأوضاع المجتمعية العامّة بحيث ارتفعت نسبة الإجابات في الأسباب: انغلاق المجتمع (20,4 %) و الهروب من وضعية البلاد (12 %) عند الطالبات في آخر سنوات التكوين مقارنة بإجابات التي كانت في أوّلها و التي تمثل لديهن على نفس الإجابات النسب المرتبة كالتالي: 17,5 % و 10,4 %.

الزواج قبل أيّ شيء مسألة مكتوب

إذا كان جلّ الجامعيين ذكورا و إناثا يرون أنفسهم في حياة مهنية فإنّ الإناث تستحضرن دوما الحياة العائلية المستقبلية بينما لا يميّز ذلك كلّ الذكور[1].

و مهما كانت مستوياتهن التعليمية تضفي الطالبات شيئا من المثالية و القداسة على المشروع الزواجي الذي يرتبط بالنسبة إليهن باكتساب وضع امرأة متزوجة   و خاصّة وضع أمّ.

و عند محاولتنا لمعرفة الشروط و الصفات التي تضعها الطالبات في شريك الحياة وصلنا إلى النتائج التالية: (المنحنى5)

المنحنى5: نسب الإجابات عن الصفات المتوفرة في الزوج و التي ترغب فيها الطالبات.

تعلقت معظم الإجابات بالجانب العاطفي حيث سجلنا أعلى نسبة في الصفتين : شخص تحبه بـ 30,7 % و متفهم بـ 29 % ثمّ تليها صفة متعلّم بـ 19.7% و أخيرا الصفة الجمالية و الوضع المالي بالنسب 11 % و 7,44 % على الترتيب.

كانت الاختلافات بين أفراد عينة الشعبتين في ترتيب هذه الشروط إذ أعطت الطالبات من شعبة علم الاجتماع أهمية أكبر لصفة التفهّم 34 % ثمّ الاختيار العاطفي بنسبة 31 % بينما قدّمت طالبات العلوم الطبية الاختيـار العاطـفي بـ 30 % عن صفة التفهم 26 % كما سجلنا فارقا يقدر بـ 4,4 % بين إجابات الشعبتين في الصفات الجمالية لصالح طالبات الطب، في حين تقاربت بينهما النسب في الصفتين متعلّم و وسيم.

كما أثبتت نتائج البحث أنّ 44 % من مجموع المجيبين يصرّحون أنّه لديهم علاقة عاطفية، بحيث تمثل نسبة الذكور 53,8 % و نسبة الإناث 46,3 %.

و حول انتظارات الطلبة من العلاقة كانت الإجابات كالتالي:

مثّل الزواج أهمّ الإنتظارات من هذه العلاقة عند الإناث بنسبة54,8 % ثمّ تليها معرفة الآخر و السرور الذاتي الذي تمنحه العلاقة بنسبة52,5 %، بينما مثلت العلاقة الجنسية بنسبة 69,2 % أهمّ الإنتظارات عند الذكور.[1]

دون أن يعني ذلك أن تكون الجامعة المكان المفضل لربط هذه العلاقة، عكس ذلك فقد تكون مكانا غير مناسب لها و ذلك لعدّة أسباب أهمّها : رفض ربط علاقة تؤدي إلى زواج مع طالب جامعي.

الأسباب الموضوعية لرفض الطالب الجامعي كشريك حياة مرتبطة في رأيهن بالوضع المادي المتواضع للطالب وعدم استقلاليته.

أما العامل الآخر فهو متعلّق بالقوالب الاجتماعية و ما تنتجه من تمثلات حول سنّ الزواج بحيث ترى أنه يجب أن يكون هناك فارق في السن بين الشريكين و العادة أن تكون الإناث عند الزواج أصغر سنا من الذكور[2]، بينما فئات الأعمار متقاربة بين الطلبة، و الاستعداد للزواج يتطلّب من الذكور وقت أطول .

لذلك و بقياسها للمخاطر الممكنة، ترفض الفتاة انتظار الطالب من أجل بناء مستقبله المهني و التحسين من وضعه المادّي: أمّا الاستثناء فقد سجلناه في حالة وضع اجتماعي ميسور و دعم عائلي للطالب، أي أن الطلبة يميلون إلى الزواج فيما بينهم عندما ينتمي كلاهما (أو الشاب خاصّة) إلى وسط اجتماعي ميسور[3].

من خلال ما سبق، لا تمثل الجامعة بالضرورة الفضاء الّذي يبنى فيه مشروع الزواج بل تعتبر فضاء أداتي entalnstrumi يستخدم لربط علاقات عاطفية يحكمها مبدأ المتعية l’hédonisme أي تحقيق السعادة الآنية و الاستمتاع بالحياة، هنا من جهة و من جهة أخرى يمثل الزهر، المكتوب، القدر معاني مرتبطة ارتباطا وثيقا بمسألة الزواج حيث ترددت بصفة متكرّرة لدى كلّ الحالات و هي تؤدّي هدف واحد : التبرير و المواساة الذاتية لوضع بسيكو-اجتماعي غير مرغوب فيه ألا و هو العنوسة.ما تمّ تسجيله حين التطرق لهذا الموضوع مع الطالبات هو تأثير الموروث الثقافي الديني على مستوى الخطاب خاصّة.

و لاحظنا قلّة تداول هذا المفهوم عندما يتعلّق الأمر بمشاريع الدراسة و العمل بينما تستعمله الفتيات بمجرّد الحديث عن الزواج بصورة أوتوماتيكية، حتى و إن لم يكن يؤدي معناه في كلّ الحالات.

إذ يأخذ معنى خاصّا في كل نموذج أين تختلف درجة ارتباطه بالغيبيات حسب المعنى الذي يعطيه الأفراد لهذا المفهوم و حسب الانتماءات السوسيو-ثقافية. إذ يأخذ هذا المعطى الديني معناه حينما تستنفذ كلّ الاستراتيجيات الكفيلة بتحقيق المشاريع الفردية خاصّة في مجال الزواج.

بحيث تقوم كلمة المكتوب بوظيفتين : الأولى التعبير عن رغبة الاندماج في مجتمع يأخذ فيه الزواج دور المدمج، أمام ذلك يصبح استعمال المفهوم هو تبني لخطاب تبريري يعبّر عن مقاسمة نفس رغبة الآخرين في الانتماء و الاندماج[4].

و الثانية هي الإقناع الذاتي: فتبرير اختياراتنا بمسائل غيبية تفوق إرادتنا و قدرتنا هو بمثابة مواساة و استعداد نفسي لمواجهة عواقب اختياراتنا.

نماذج طالبات

  1. الطالبة النخبوية : الدراسة مشروع نخبوي

نجد هذه الفئة خاصّة في نهاية المسار الجامعي. و يكمن المشروع النخبوي للطالبة في تركيزها على أهمية التكوين المختار و مضمون الدراسة ورفضها الحياة العملية كغاية لمسارها الدراسي.

و يبنى هذا المشروع طوال المسار التعليمي لكنّه يبرز و يتجسّد في السنوات الأخيرة من التكوين، بحيث يصبح لهذه الفئة من الطالبات مشروعا ثقافيا و مهنيا مرتبطا ارتباطا وثيقا بمحتوى دراستهن و هنّ أقلية في عينتنا، و غالبيتهن من شعبة الطب التي يعتبر وجودهن فيها مشروع بني منذ مدة طويلة، إذ لا ينفصل فيها المشروع المهني عن المشروع الدراسي.

تلك خصوصية لم نلحظها عند طالبات باقي التخصصات[5] إلاّ إذا اجتمعت عدّة عوامل أخرى: كأن تكون في نهاية سنوات التكوين، تنحدر من وسط سوسيو-ثقافي ميسور و أن يكون الاختصاص عن اختيار أي أن يكون التحضير للبكالوريا جزءا أو بداية لهذا المشروع .

و يمثل الوضع المرموق للتكوينle prestige de la formation بالنسبة للطالبات المورد الأساسي بحيث لا تعمل من أجل مهنة محدّدة و إنّما من أجل المؤهلات الدراسية الّتي يضمنها التكوين و ذلك كونهن تتصورن أن يفتح ذلك التكوين لهن عدّة فرص مهنية مستقبلا. فمشروع العمل في هذا النموذج مرتبط بالمشروع الدراسي والثقافي.

و يكون الأمثل بالنسبة لطالبات التكوين الطبي خاصّة هو أن تكنّ بارعات و ناجحات في اختصاصهن، لكنهن تعتقد بأنّ الاكتفاء بما يعطيه لهن هذا التكوين يجعلهن منغلقات على اختصاصهن و بعيدات عن المجتمع. لذا تبدين الرغبة في الإلمام بالعلوم المرتبطة بفهم الفرد و المجتمع.

هذا التمييز لم نلحظه عند التي تنتمي إلى نفس النموذج، بينما المشروع الثقافي النخبوي بالنسبة لطالبات علم الاجتماع يستدعي الاهتمام بكلّ العلوم لكنّه يستدعي خاصّة الاختصاص في مجال معيّن من أجل التحكّم فيه: فالمشروع الدراسي و النخبوي هو مشروع تخصّص بالنسبة إليهن.

و خلافا لما لاحظناه في النماذج الأخرى، يمثل الزواج أيضا جزءا من المشروع النخبوي و الثقافي في هذا النموذج، فهو لا يعني فقط بالنسبة لهن الاندماج في البنية و إنّما ينبغي أن يكون في خدمة المشروع الثقافي أو مكمّلا له، لذا فالارتباط مع فرد لا يحمل نفس المشروع أو على الأقلّ لا يدعمه و لا يساعد على إنجازه أمر مستبعد، هذا من جهة و من جهة أخرى و على الرغم من أنّ الإناث أقلّ رغبة من الذكور في السفر إلى الخارج إلاّ أنّ مشروع السفر هامّ بالنسبة إليهن من أجل بناء المشروع النخبوي و ذلك للتفتح على الآخر و تحسين التكوين المتلقّى إذ عبّرن عن الرغبة في استدراك نقائص التكوين رغم اعترافهن ببذل جهد فردي كبير و عدم الاعتماد على ما كن تحصلن عليه في الجامعة.

يكون مشروع السفر في هذه الحالة مؤقّتا أيّ بغرض التكوين فقط لأنّ النخبة في رأيهنّ ينبغي أن ترتبط بمجتمعها الأصليّ و لا يمكن للمشروع النخبوي أن يتحقق خارجه و الأهمّ على حدّ تعبيرهن، أن تكنّ ناجحات في المجتمع الذي تنتمين إليه.

تبدي الطالبات في هذا النموذج اهتماما بالنقاشات التي تشدّ المثقفين و السياسيين في المجتمع بينما يظهر الاختلاف الملاحظ بين أفراد الشعبتين في نمط الإجابات و نظرتهم للأشياء خصوصا عندما يتعلّق الأمر بمفاهيم مثل الاستقلالية و الهويّة و وضع النساء في المجتمع.

و كثيرا ما حملت إجابات طالبات الطب خاصّة تلك التي تنتمي إلى أوساط سوسيو-ثقافية متواضعة أحكاما قيمة، بحيث وجدناهن أكثر مثالية و أقلّ انتقادا للأوضاع بصفة عامّة و لوضع النساء بصفة خاصّة فلم يكن يأخذ النقد عندهن شكل تعبير صريح و إن برز في بعض المواقف بصفة ضمنية، غير مقصودة و غير واعية في عديد من الحالات. كما أنهن لا يطرحن إشكاليات حريّة الفكر و القناعات و المراقبة الاجتماعية و ضغط النماذج التقليدية.

بينما تعرض الطالبات" النخبويات" في علم الاجتماع أفكارهن بطريقة جدلية نقدية كما أنهن تحاولن ربط المسائل بالنسق الاجتماعي العام و تجتنب إعطاء أحكام قيمة، بحيث عكست إجابتهن الخطاب السوسيولوجي محاولة استغلال و توظيف مناهج الفهم و التحليل السوسيولوجي.

تمثل المؤسسة التعليمية بالنسبة للطالبات التي تحملن مشروعا نخبويا و التي هن في آخر مسارهن الدراسي المكان الفريد الذي نكتسب فيه روح النقد و التفكير والمكانة المرموقة و الاعتراف الاجتماعي.

كما أنّ الإجماع عندهن مفاده هو اكتساب تجارب، نمط حياة و ثقافة جديدة و لا يمكن أن يدركه المرء الذي لا يملك حظ المرور بالجامعة، وبالتالي تعترفن بالبعد المعرفي و التحديثي للمؤسسة مع وعيهن بالصعوبات و النقائص إلاّ أنهن تعطين أهمية أكبر للفعل الفردي.

2. الطالبة المحافظة: الدراسة و العمل في انتظار الزواج

يكون الزواج في هذا النموذج إمّا وسيلة للارتقاء الاجتماعي، بحيث يصبح إستراتيجية لتجاوز وضعية اجتماعية معيّنة و إمّا نجاح في حّد ذاته و ذلك بتأثير التنشئة الاجتماعية الخاصّة للإناث.

يجمع هذا النموذج خصوصا طالبات من أوساط محافظة و متواضعة، إذ سجلنا مستوى تعليميا منخفضا لدى الوالدين، و أمّ ماكثة في البيت عند أغلبية الحالات، أغلبيتهن من شعبة علم الاجتماع و في نهاية المسار بينما كنّا نتصوّر أن يكون النموذج منتشرا في بداية المسار الجامعي.

تنتمي إلى هذا النموذج طالبات يمثل توجههن للشعب التي تدرسن بها اليوم مسار طبيعي، بحيث تسجّل الدراسة الجامعية في استمرارية الدراسة الثانوية أو حتى لدى طالبات وجدن في هذه الشعب صدفة دون اختيار و لا مشروع مبني سابقا و إنّما تعشن في الغموض ، إضافة إلى أنّ عدم التأكد l’incertitude من إمكانية مواصلة الدراسة وضع معاش من طرف العديدات منهن و شكل من التنبؤ السلبي حول حظوظ النفاذ الذي يعطي الشرعية لاستراتيجيات تبّرر الفعل[6] .

و ليست في هذه الحالة الدراسة بالضرورة طريقا نحو العمل و إن كان ذلك واردا بالنسبة لبعضهن إلاّ أنّ النزعة غير قويّة لأنهن تصرحن أنّه إن وجدن عملا لما دخلن الجامعة، كما تبدين استعدادهن للتوقف عن الدراسة في حالة إيجاد عمل.

كما تعتبر الدراسة لديهن مرحلة ما قبل الزواج، أو بعبارة أخرى في انتظار الزواج.

و يبدو من السذاجة الاعتقاد أنّ الهدف من الدراسة هو فقط مضيعة للوقت أو لتجنّب البقاء في البيت. ففي الواقع تحمل تلك التصريحات دلالات أعمق لا تستطيع الفتيات التعبير عنها كونها لا تعينها بوضوح.

فرفض بقاء الفتيات اليوم في البيت هو في الحقيقة رفض إعادة إنتاج نموذج تقليدي و أنماط إدراك تقليدية لدور المرأة لأنّ الخروج من البيت بالنسبة إليهن استقلالية، تجديد و تحرّر.

و لا يمكننا بالتالي تصنيف هذا النموذج ببساطة على أنّه تقليدي و ذلك لمجرّد الارتباط الكبير لأفراده بالمشروع الزواجي المؤهل بالمشروع التقليدي، لأنّه بدا لنا في كثير من الأحوال على أنّه ارتباط يدرك في أشكال جديدة تغذيها قيم الفردنة و البحث عن السعادة و الإرضاء الذاتي و ليس فقط بحث عن الاندماج في البنية.

3. الطالبة النفعية: مخاطرة، ثمن و ربح

تسيطر على التمثلات الدراسية لهذه الفئة من الطالبات و هنّ الأغلبية، النهاية المهنية المادية و بالتالي فالمظهر النفعي للشهادة هو السائد فتصبح الدراسة مجرّد تأشيرة للعمل.

و لكن ذلك لا يعني وجود لديهّن مشروع مهني محدّد واضح الملامح بل كثيرا ما كانت إجابتهن تدل على أنّهن لا تعرفن نوع العمل الذي تردن ممارسته بالضبط.

في نفس الوقت و بصفة تبدو متناقضة يشكل العمل بالنسبة لفتيات هذا النموذج تابعا لمشروع الزواج أو مرتبطا به : بحيث يدفع تحقيق هذا الأخير إلى تعليق مشروع العمل سواء كان ذلك بطلب الطرف الثاني أو كان اختيارا شخصيا بسبب التخوّف من صعوبات التوفيق و خاصّة إذا كان المتقدّم للزواج ميسورا ماديا.

و في هذه الحالة لا تعتبر الفتاة ذلك خسارة كونها تدرك العمل على أنّه تأمين أمام احتمال تعرّضها لمخاطر مستقبلية كالطلاق و مرض الزوج أو موته. لم ترد الفتاة باستثمارها في المشروع الدراسي و المهني إلاّ أن تضمن أحسن عرض في سوق الزواج أين تتزايد المنافسة و أيضا من أجل تحسين المكانة داخل العائلة عن طريق اكتساب استقلالية تسمح بمفاوضة وضعها[7].

و إذا كان شعار الفتيات أثناء مسارهنّ الدراسي » الدراسة قبل كلّ شيء« فإنهنّ تعتقدن في هذا النموذج أنّ الشعار الذي ينبغي أن يسود بعد الزواج هو: » عائلتي قبل كلّ شيء« لذلك ترى أنّه عليهن أن تقدّم تنازلات و تضحيات من أجل استمرار المؤسسة الزواجية و العائلية، من بين هذه التنازلات المشروع الدراسي و المهني.

و غالبا ما يكون مشروع الاختصاص أو مواصلة الدراسة غير مستقرّ و غير مبني منذ بداية المسار الدراسي أو حتّى مند بداية الدراسة الجامعية، كما أنّه غالبا ما يرتبط بالمشروع الزواجي : فكثيرا ما لا تهتمّ الفتاة الجامعية بمواصلة الدراسة إن تزوجت مباشرة بعد حصولها على الشهادة الجامعية.

يبدو الاختيار المثالي في الحياة بالنسبة للطالبات "النفعيات" هو محاولة التوفيق بين كلّ المشاريع دون أن يكون ذلك على حساب الزواج و الأسرة، و لتحقيق التوفيق بين الدراسة و العمل من جهة و الزواج من جهة أخرى توظف استراتيجيات خاصّة.

و من هذه الاستراتيجيات الحرص على اختيار شخص متفهّم و مساعد يمكن الاعتماد عليه في مسائل عديدة في البيت و يعمل على تكريس التقسيم العادل للأدوار.

و من أجل جعل عملية التوفيق أكثر مرونة تلجأ الطالبة في العلوم الطبية إلى إستراتيجية اجتناب "التخصصات الصعبة"، الّتي تتطلب مجهودا أكبر و تضحية أكبر كالجراحة مثلا، لأنّها تؤدّي في رأيهن إلى التقصير في الاهتمام بالعائلة. يوفّر في الأخير فتح عيادة خاصة استقلالية أكبر واجتناب الحراسة الليلية الّتي قد تؤثر في رأيهن على استقرار الأسرة.

و ما يجعل هذه الفئة من الطالبات تفكرن في الدخول في المشروعين في نفس الوقت دون تردّد هو امتلاكها موارد مهمّة كالإمكانيات المادية و الحضور العائلي المادي و المعنوي و اعتقادهن أنّه لا ينبغي التفريط في الفرص إذا كان المرشح للزواج يحمل كلّ الصّفات المرغوب فيها : نفس الوضع الاجتماعي، الثقافة الكبيرة، و من الأحسن أن يكون من نفس الاختصاص أيضا، و ذلك خاصّة بالنسبة لطالبات العلوم الطبية.

خلاصة

يساهم عامل سنوات الدراسة في بلورة و نضج المشاريع عند الطالبة لكن بتدخّل عوامل أخرى تتعلق بالوسط السوسيو- ثقافي للفرد. إذ التمسنا فعلا النزعة نحو الاستقلالية و وجود ثقافة المشروع و إدراك لمفاهيم الفرد و النجاح الاجتماعي عند إناث في نهاية المسار الجامعي أكثر من تلك التي تكون في بدايته، لكنهن في الغالب من أوساط تملك رأسمال ثقافي يحفزهن لإدراك كلّ ذلك و غالبا ما يكون المستوى التعليمي العالي لأحد الآباء عامل أساسي في نضج المشروع الدراسي و الثقافي عند الطالبة، و منه نجد أن العامل المحدّد هو خارجيّ عن المؤسسة الجامعية و مرتبط أساسا بالعائلة. و على الرغم من أنّ التعلّم و الدراسة مطلب كل الفئات الاجتماعية اليوم إلا أن النموذج النخبوي يضم خاصّة طالبات من أصول اجتماعية ميسورة ماديا و ثقافيا.

وعليه يكمن دور الجامعة في مواصلة ما تبدأه العائلة لتساهم في تفعيل مشاريع الأفراد. و بالتالي تحدّد التنشئة الجامعية في استمرارية التنشئة العائلية. فالجامعة بقيمها الكونية تساهم في غرس بوادر الفردنة و استقلالية مشاريع الأفراد ذكورا و إناثا و لكنّها في قبضة المجتمع و لا تستطيع تخطي الحدود التي يرسمها لها.

و على الرغم من تعبيرها عن استقلالية نسبية تجاه نماذج اجتماعية تقليدية: العائلة، الزواج و القرابة تبقى هذه الأخيرة محتفظة بمكانتها و دورها التقليدي و خاصّة الزواج كوسيط للحياة العائلية و كونه يعبّر في نفس الوقت عن مطلب حياة شخصية و انفتاح جنسي لا يعترف بهما إلاّ من خلاله (الزواج)، و تحقيق مظهر من مظاهر الفردنة (الاستقلالية و الانفتاح الفردي) في مجتمعاتنا يستدعي المرور بالمؤسّسة الزواجية التي تأخذ شكل عامل إدماج شمولي. و عليه يبقى مشروع الزواج المحور الذي تتجاذب حوله المشاريع الأخرى التي تصبح في هذه الحالة موارد تستثمر في السوق الزواجي.

و يمكّن هذا الرأسمال الفتاة، من الدخول إلى المؤسسة الزواجية كشريك أقوى من السابق، تضمن من خلاله حدّا أدنى من الاستقلالية و تخوّل لها سلطة معنوية عند التفاوض و تصبح الإستراتيجية مزدوجة[8] : محاولة التوازن بين النزعة إلى الاستقلالية الفردية و الاستجابة إلى تأثيرات التنشئة الاجتماعية و محاولة التوفيق بين الرغبات و متطلّبات الواقع، و بالتالي ضمان بقاء و استمرارية هذه المؤسسة التي تمثل في الأخير الهدف الأسمى بالنسبة إليها.

و لكنّه لا ينبغي أن ننسى أنه على الرغم من كلّ ما قيل عن دور الجامعة في التنمية، بأنّ تطوّر وضع النساء جاء أساسا عن طريق تعميم التعليم و تعيينهن فاعلات و مواضيع التطوّر الاجتماعي. إضافة إلى ذلك تحاول الأسر اليوم التكيف باستمرار مع التحوّلات الاقتصادية و الثقافية المتسارعة و بالتالي تنقل لأبنائها ذكورا و إناثا قيما جديدة كالاستقلالية و أخذ المبادرة و المشاريع الفردية[9] من أجل التكيف مع وضع جديد يتميّز بعدم الاستقرار و صعوبة البقاء في نفس الوضع و إن كان مريحا.

و في الأخير لا يفوتنا أن نذكر بأنّ تحاليلنا تعتمد على خطاب الطالبات الّذي يناقض في أحيان كثيرة ما يحدث فعليا و لا يطابق الواقع و إنّما يتبنّى الأفراد الخطاب العامّ و المتداول في المجتمع بصفة واعية أو غير واعية ليأتي الفعل الصادر عن الوضعية المعبّر عنها مختلفا تماما.

وبالتالي تكمن مساهمة هذا البحث في مجال تحليل سوسيولوجيا التطلّعات[10] و التمثلات الاجتماعية.


الهوامش

* ماجستير في علم اجتماع التنمية و التغيير الاجتماعي، تحت إشراف العلاوي أحمد، جامعة وهران، جوان 2003.

[1]منظمة الأمم المتحدة، العولمة و التنمية المستديمة أيّ هيئات للضبط؟ 12 بطاقة للفهم، للتوقع، للنقاش، ترجمة CRASC، طبع AGP وهران.

[2] لحولية الإحصائية رقم 28 للسنة الجامعية 1998/1999، وزارة التعليم العالي و البحث العلمي-المديرية الفرعية للدراسات الإحصائية و التخطيط.

[3] Baudelot, C. et Establet, R. op.cit, p.5.

[4] IMED, les algériennes citoyennes en devenir, Editions CMM-Oran, 1999, T.F. El Mernissi, d’Algérie et des femmes, Ed association Aîcha, ENAG, Alger, 1993; Bekkar Rabiaa, «femmes, filles et villes», in Ignasse Gérard et Wallon Emmanuel, Demain l’Algérie, Syros, Paris, 1995.

[5] Statistiques emploi et chômage (au 07/09/2001) ONS, 2001.

[6] Femmes et développement, comité national préparatoire de la quatrième conférence mondiale sur les femmes, CRASC, 1995; Aït Amara, «stratégies matrimoniales des femmes diplômées du supérieur en Algérie», in Insaniyat, n°4, 1998; Rétrospective statistique 1970-1996, ONS, 1999; A.Lakjaa, op. Cit. p. 73.

[7] أنظر أعمال بورديو، بودلو و إستابلي، ماري ديري بلا،إيرفين كوفمان، فاطمة المرنيسي، أوقيستان باربارا.

[8] Siari-Tengour, Ounassa, «Sciences sociales et marginalisation», in l’université aujourd’hui, op. Cit., p. 81.

[9] Projet National de Recherche «Savoir, culture et environnement:les étudiants de première année», chef de projet Remaoun Nouria, CRASC, juin 2001.

[10] Terrail, J-P. op. Cit.

[11] Hassini, Mohamed, l’école une chance pour les filles de parents maghrébins, Paris, l’Harmattan, 1997.

[12] Remaoun, H., Université, savoir et société, op. cit, p.56.

[13] Boussena, Cherifati-Merabtine, Zahi, op. cit, p. 70.

[14] Forquain, op. cit, p. 96.

[15] ينبغي الإشارة إلى ارتفاع نسبة لا إجابات في السؤال المتعلّق بالانتظارات من العلاقة العاطفية.

[16] Aït-Amara, «stratégies matrimoniales des femmes diplômées du supérieur en Algérie», in Insaniyat, n° 4, 1998, p.48.

[17] Aït-Amara, op. cit.

[18] Adel, F., «La crise du mariage en Algérie», in Insaniyat, n°4, janvier-avril, 1998.

[19] Remaoun, N., (DIR.), PNR, op. cit.

[20] De Gaulejac et Taboada Lionétti, op. cit; Dubet, F., Les jeunes de la galère, Fayard, 1987.

[21] Voir C.Dib-Marouf, op. cit.

[22] يستعمل محمود بوسنة عبارة الصيرورة المزدوجة في مقال:التوجيه المدرسي و المهني: الخلفية النظرية لمفهوم المشروع في مجلّة جامعة قسنطينة للعلوم الإنسانية،العدد السابع، الجزائر 1996، ص.ص. 170-176.

[23] نتائج البحث، الجامعة و التنمية، ذكر سابقا.

[24] Orfali, Brigitta, «Les représentations sociales un concept essentiel et une théorie fondamentale en sciences humaines et sociales», in L'année sociologique, n°1, 2000.

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran

95 06 62 41 213+
03 07 62 41 213+
05 07 62 41 213+
11 07 62 41 213+

98 06 62 41 213+
04 07 62 41 213+

Recherche