الطبيب أبو مروان بن زهر و دوره في تطور الحركة الطبية في بلاد الأندلس


إنسانيات عدد 14-15 | 2001 |  عدد خاص أبحاث أولى | ص 9-26 | النص الكامل


Djaffar YAYOUCHE : Maître assistant, Université de Mostaganem, Département de langue et littérature arabes, Faculté des arts et des beaux-arts, 27 000, Mostaganem, Algérie
Centre de Recherche en Anthropologie Sociale et Culturelle, 31 000, Oran, Algérie


 

إن موضوع البحث المقدم و المعنون بـ "الطبيب أبو مروان عبد الملك بن زهر (557 هـ/1162 م) و دوره في تطور الحركة الطبية في بلاد الأندلس"، يصنف ضمن التاريخ المحلي الدنيوي، و يهتم في جانب منه بتاريخ علم الطب في الأندلس.

لكن لماذا إبن زهر تحديدا؟ و لماذا الأندلس ثانيا؟ اختيارنا لهذا الموضوع يفرضه اتجاهان، أولهما اتجاه الواقع الراهـن الذي نـعـيـش فيه عـصـر الرتـاب و المعلوماتية و من يملك مصادر الخبر، خاصة و أن مجال "الدراسة الـتـراثـيـة" و طيد الصلة بمسألة "الهوية" و "الشخصية" لأية أمة، و ما زال كثير من الغموض و الضبابية بل و التزييف يكتنف موضوع التراث بفعل عوامل الإغـضاء و الإعلاء و التهميش التي مارستها حركة الإستشراق تجاه تراث الحضارة العربية الإسلامية خاصة في عهد الجيل الأول من المستشرقين الذين برزوا مع حركة الاستعمار الحديث امثال أرنست رينان و كاره دوقو وماسنيون و جولد تسـيـهـر و الأب لا مانسن وغيرهم كثير، و في ذات الوقت أي الحركة الإستشراقية مسلطة الأضواء الكاشفة على التاريخ السياسي و العسكري، و أعطته مساحة واسعة على مسرح الكتابات و الدراسات، لتضمن بذلك عوامل تغذية الأحقاد و الخلافات التاريخية بين أفراد الأمة العربية و الإسلامية عبر تعاقب الأجيال ودوران الأزمان. فالحركة الإستشراقية تريد أن تجعل من التاريخ آلية فتاكة لتخريب الذاكرة الجمعية للأمة من خلال تشويه الماضي التاريخي لها، الذي يعد المرجعية الأصيلة "للهوية" الثقافية و الحضارية للأمة العربية الإسلامية، و من ثمة تضمن حركة الاستشراق الخط الثاني في عملية الإستيلاب، إذ بعد تخريب الذاكرة الجمعية و تشويه التاريخ، الذي يصير مرآة غير صالحة لعكس صورة الأمة، تقوم بتنفيذ الهدف الثاني، و هو غزو الفكر العربي بعدما يصير معزولا عن الدعامة التي يستند إليها، و فاقدا للمناعة ضد عملية الإستيلاب هذه.

لكنه يوجد بالمقابل جيل من المستشرقين الذين درسوا تراث الحضارة العربية الإسلامية، دراسة موضوعية و قاموا بنشر الكثير من الوثائق وأمهات المصادر في شتى العلوم و الفنون المختلفة، ومن أمثال هؤلاء، المستشرق سيديو، وغوستاف لوبون، و جابريال كولان، و رينو، ودوزي، وآسين بلاثيوس، و كوديرا، و ليفي بروفنسال، وألدوميلي، و لوسيان لكلرك، و غيرهم ممن اهتموا بالتاريخ الإسلامي وأنصفوه في كثير من القضايا و إليهم يرجع الفضل في تعريف العالم بكمّ هائل من الوثائق و المخطوطات فيها الكثير من الحقائق التاريخية و العلمية التي كانت في طي النسيان.

لذا رأينا أنه لزاما علينا، و أنه صار من الواجب إعادة كتابة التاريخ العربـي و الإسلامي من جديد، بل و من زاوية أخرى كانت مهمشة في السابق، إنها زاوية تعديل صورة هذا "الماضي" الذي يعبر عنه بــ "التراث"، إذ كثيرا ما يرتبط مثل هذا الاصطلاح بـ "المفهومية"، و من ثمة يصير مسألة "مذهبية" غير بريئة في توظيف المادة التاريخية كـ "وثيقة" لتفسير الحركة التاريخية في فترة زمنية ما، حسب منظور موجه سلفا من أجل الوصول إلى غاية لا تتعارض وطبيعة العقل الوضعي العلماني الأوروبي.

هذا أولا، فيما يخص اتجاه الواقع الراهن، أما ثانيا، فهو اتجاه الذات الواعية، إنها علاقة الذات بالموضوع المقدم بالعنوان المذكور آنفا، إذ ترجع أولى نقاط الالتقاء بالطبيب أبي مروان ابن زهر إلى عهد الدراسات العليا، عندما قدمنا بحثا لنيل دبلوم الدراسات المعمقة، و الذي كان بعنوان "الحركة الطبية في الأندلس، النشأة و التطور، المنهج و الموضوع من القرن الثاني الهجري إلى القرن الحادي عشر الهجري"، إذ توصلت من خلال تتبع مسار الحركة الطبية إلى نتيجة مفادها أن التاريخ الإنساني، ليس تاريخ حروب و دماء فقط، أو تاريخ الدسائس السياسية و النزاعات المذهبية فحسب، بل وراء هذا كله، يبقى المجال واسعا للبحث في موضوع ما زال لم ينل حقه كما ينبغي في ميدان الدراسات الأكاديمية بالجامعة الجزائرية و هو تاريخ يتعلق بالجانب العلمي المحض في الحضارة العربية الإسلامية الذي عمل من أجل المجتمع الإنساني بكامله، هذا من جهة، و من جهة ثانية كانت هذه الرسالة محاولة لإعادة كتابة التاريخ الإسلامي بصفة خاصة من خلال إبراز عوامل البناء و العمران في الأرض، و ما هي تلك الأسس الفكرية و الضوابط القيمية و المحددات المعرفية اللازمة لذلك.

و عليه، فإن إشكالية البحث في إطارها العام تريد إبراز دور العلماء كسلطة فاعلة في الحياة العامة للمجتمع الإسلامي آنذاك، و كيف أنّ الحركة العلمية أثرت في توجيه مسار التاريخ الإسلامي، بمعنى آخر دراسة نقدية داخلية لآليات الفعل الحضاري.

كما أن الإطار الخاص لإشكالية البحث، هو الجانب الذي يخص الطبيب أبا مروان ابن زهر الإيادي، كيف ذلك؟

من خلال بحث دبلوم الدراسات المعمقة الذي سبقت الإشارة أليه، تعرفنا على عائلة أندلسية اشتهرت بممارسة أفرادها للطب كعلم و مهنة على مدى ستة أجيال كاملة، و لكن كتب التراجم الخاصة بالعلماء ذكرت هذه العائلة بصورة باهتة، لم تمكنا من وضع تصور واضع حول تراثها الطبي الذي ما زال بعيد المنال، اللهم إلا ما قام به ثلة من العلماء الباحثين أمثال : جابريال كولان، ورينو، وروزاكوني بربانت، و بذلوا في سبيل تتبع آثار هذه العائلة من الجهود المضنية و السنين الطويلة، و من خلال وقوع بعض أعمال هذا الطبيب بين أيدينا و اشتهار بعض آثاره في أوروبا و اعتمادها كمصادر لطالب علم الطب إلى غاية نهاية القرن السابع عشر، واعتباره طبيب التجربة والاختبار، أثار هذا كله فينا الفضول العلمي و التساؤلات التالية : ما هي أسباب اشتهار هذا الطبيب أكثر من بقية أفراد أسرته الأطباء؟ هل هذا راجع إلى اختلاف منهجه في ممارسة الطب؟

أم أن الأمر راجع إلى ما توصل إليه من نتائج في مجال البحث الطبي كانت فاتحة عهد جديد؟ 

أم أنه كان ناقلا أمينا للتراث الطبي اليوناني، أفادت منه فيما بعد حركة النهضة الأوروبية؟

فما هي يا ترى علاقة أبي مروان ابن زهر كشخص و طبيب بالطب موضوعا و منهجا؟ و ما مدى إتباعه أو إبداعه؟ و من ثمة ما مكانته في تاريخ الطب العربي الإسلامي في الأندلس؟ و ما مدى إسهاماته في تطور الحركة الطبية الأندلسية؟

من هذه المنطلقات و التساؤلات، تبلورت فكرة البحث الجوهري، فأردنا أن يكون البحث مخبرا إجرائيا لتراث هذا الطبيب الذي نعتبره نموذجا للتجربة الإنسانية في إحدى مجالات تقدمها العلمي، و من ثمة تكون جميع المخطوطات و الوثائق الخاصة به (وثيقة أو نصا تاريخيا) (لا بد من توظيفها لاستقراء حقيقة) ذلك الواقع التاريخي الأندلس الذي صار ماضيا، و تفسير مجريات أحداثه تفسيرا علميا قائما على الحجة و البرهان، من أجل التوصل إلى تكوين صورة أكثر صدقا وواقعية عن ذلك النمط المعيشي و الفكري للمجتمع العربي الإسلامي الأندلسي، و كشف الكيفية التي تشكل بها ذلك البناء العقلي المنهجي لللأمة الإسلامية حتى غدت ذات حضارة إنسانية قائمة بذاتها، إذ استوعبت الحضارات السابقة واحتوتها في إطارها المرجعي، و إعادة إخراج ذلك التراث الإنساني في توليفة جديدة تضمن التنوع و التمايز.

و هكذا يمكن جعل التراث العلمي (الوثيقة) أو (النص) بعد نقله من مرحلة الجمود إلى مرحلة الحركية العلمية و الكشف العالمي، حقيقة ثابتة مبرهن عليها بمقاييس البحث الموضوعي المحض، ورويدا نبتعد عن الأسلوب السردي للوقائع دون تمحيص في ثنايا الأخبار و المصادر، و هذا بالإنتقاء و تجنب الوقع في التكرار، حتى يكون البحث أصيلا و مميزا، و بذلك يتمكن الباحث المختص من دراستها و مقارنتها بغيرها لمعرفة القيمة العلمية لها في إطارها التاريخي و الزمني الخاص به، و بذلك يتاح السبيل للشروع في وضع تاريخ العلم العربي الإسلامي وإحلاله مكانته الصحيحة ضمن التاريخ الإنساني المشترك، و بذلك نكون قد حققنا الإبتعاد عن التوظيف الإيديولوجي للتراث حسب الرغبات و الحاجات الآنية البعيدة عن آفاق البحث العلمي الحر.

كما يجدر بنا الإشارة إلى من سبقنا في دراسة هذه الشخصية العلمية المتميزة، فأول دراسة حسب علمنا هي تلك التي قدمها الدكتور جابريال كولان (Gabriel Colin) (1923-1860) في مؤلفة الشهير : "Avenzoar, sa vie et ses œuvres et la tadkira d’Abul-ala, texte et traduction française, Paris 1911" ابن زهر، حياته و آثاره و تذكرة أبي العلاء، نص و ترجمة فرنسية "، ثم تلتها دراسة رينو (H.P.J. Renaud) المعنونة بـ "Nouveaux manuscrits d’Avenzoar"  المنشورة في مجلة هيسبريس (Hespreris) عام 1931 م، "مخطوطات جديدة لابن زهر"، و بعد الحرب العالمية الثانية نجد دراسات للباحث ج.ثيودوريدس (J. Theodoridès) بعنوان : "La parasitologie et la zoologie dans l’œuvre d’Avenzaor  في مجلة تاريخ العلوم و تطبيقاتها" (R.H.S.A.) البراسيتولوجيا و الزولوجيا في عمل ابن زهر"، و تمر سنوات إلى غاية 1971 إذ تطالعنا المستعربة الإسبانية روزا كوني بربانت (Rosa Kuhne Brabant) بمخلص عن رسالة الدكتوراه المقدمة حول كتاب "الإقتصاد" لابن زهر وتصدر دائما نفس الباحثة مقالة عنوانها (Avenzoar y la cosmetica) "ابن زهر و الزينة - أي علم التجميل"، عام 1974 م، و تصدر عام 1984م، دراسة عن ابن زهر بعنوان: "Apportationes para esclarecer alguno de los puntos oscurosen la biografia de Avenzoar "، و ذلك خلال المؤتمر الأوروبي للعرب و المسلمين بمدينة مالقة و نشرت فيما بعد عام 1986م تحت عنوان: "معطيات جديدة حول نقاط غامضة في مصادر ببليوغرافية ابن زهر"، و تضيف نفس الباحثة عام 1991م نشر دراسة قدمت للمؤتمر الدولي عام 1989م بتونس تحت عنوان "Abù Marwàn b zuhr un professionnel de la medecine en plein XIIème siècle le patrimoine andalous"  أبو مروان ابن زهر، خبير الطب في القرن الثاني عشر الميلادي". هذه أهم الدراسات التي قدمت من طرف المستشرقين حول هذا الطبيب وآثاره.

أما الباحثون العرب، فأهم دراسة هي تلك التي قدمها الستاذ محمد العربي الخطابي في كتابه "الطب و الأطباء في الأندلس افسلامية" في جزءين، إذ قدم فيه تحقيقا حول الطبيب أبي مروان ابن زهر، وقام بنشر رسالته "التذكرة" و "تفضيل العسل على السكر" و "القانون"، و ذلك عام 1988م، و حقق كـتـابـه الأغـذيـة و نشره ضمن كتابه "الأغذية و الأدوية عند مؤلفي الغرب الإسلامي "الصادر عام 1990م، و كذلك قام الأستاذ عبد العزيز بن عبد الله بنشر دراسة عن أسرة بني زهر بعنوان : "أسرة بني زهر مدرسة رائدة" و ذلك عام 1992م.

فما هي قيمة هذه الدراسات و الكتابات التي تمت حول هذا الطبيب الأندلسي؟ نشير أولا إلى دراسة رينو (Renaud) المنشورة في مجلة هيسبرس عام 1931م، إنها بحث يتميز صاحبه، انه اعتد على كل من هربيلو (Herbelot) و كازيري (casiri) و هامر بورغستال (Hammer-Purgstall) وويستانفيلد (Wùstenfeld) عندما أراد أن يثبت قائمة آثار الطبيب ابن زهر و على أي نسب يرتقي. أما عند دراسته لمضمون المباحث الطبية المحضة عند الطبيب ابن زهر؛ فقد اعتمد على دراسات جابريال كولان، بالإضافة إلى قراءاته الخاصة، كما لا يجب أن ننسى أنهما أي كولان ورينو طبيبان فرنسيان لهما خبرة واسعة و هذا الذي جعل بحوثهما تتميز بنوع من الجدة و الأصالة.

تتميز أصالة البحث عند رينو إذ قام بالتأكد مـمـا قـالـه كـل من غـازيـري، و كوديراة لكلرك بخصوص أماكن تواجد مخطوطات هذا الطبيب، سواء بمكتبة الإسكوريال، واعتمد في هذا على تحقيق كل من ميلشور (R.P Melchor) وأنتونا (M.Antuna)، انه كتاب الاقتصاد في إصلاح الأنفس و الأجساد. كما أنه أزاح الوهم حول النسخة الموجودة في مكتبة باريس المكتوبة باللغة اللاتينية و المحتوية على أربع و ثلاثين فصلا أن تكون نسخة مترجمة عن كتاب الاقتصاد الذي مجموع مقالاته سبعة فقط

كما أنه اكتشف نسخة جديدة من كتاب الاقتصاد في الخزانة العامة بالرباط تحت رقم (D.768) و هو في ثلاث و تسعين ورقة و بخط عبري. ثم قام بدارسة لغوية للمفردات الطبية الواردة في كتاب الأغذية لأبي مروان

كما نجد أن ما قامت به الباحثة روزا كوني بربانت حول الطبيب ابن زهر، ينقسم إلى فرعين، فرع تميز بتحقيق حول نسبة المخطوطات أو الآثار الواردة في مصادر الترجمة لهذه الشخصية، كما قامت بدراسة حول شخصية هذا الطـبيب و تقييم لبعض نتائجه العلمية الطبية. إذ قامت عام 1971م بنشؤ ملخص عن أطروحه الدكتوراه حول كتاب "الاقتصاد"، إذ أوضحت أنه منذ 1931 م أن المخطوط الوحيد المعروف هو ما ورد في فهرس الغزيري برقم 829، واعتبرت أن وصف رين (Renaud) ليس ذا أهمبة.

و أوضحت أن النسخة الجديدة التي عثرت عليها في مـكـتـبة الإسـكـوريـال و المرقمة بـ (834)، مجموع أوراقها 95 ورقة مقاسها (19 x 26 سم) و مؤرخة في 10 أبريل 1252م، و هذا المخطوط مكتوب باللغة العربية و لكن بحروف عبرية و إسبانية، ممزوجة، و الكتابة محصورة ما بين اثنين و عشرين حرفا عـــبــريــــا و ثمانية و عشرين حرفا ترجع إلى أصل عربي.

و عندما قامت بدراسة حول كتاب "الزينة"، أوضحت أنها اطلعت على قائمة الفهارس التي وضعها صلاح الدين المنجد و لكنها لم تجد هذه النسخ في مكتبة العبدلية، واعتبرت أن هذا الكتاب يعتبر في عداد الآثار المفقودة.

أما دراستها حول شخصية هذا الطبيب فقد أبرزت الجوانب الإنسانية في تعامله مع مرضاه وما هي الضوابط الأخلاقية السامية التي كان يتميز بها.

أما الدراسات العربية فقد امتازت في عمومها بالاعتماد على ما ذكره ابن أبي أصيبعة حول أسرة بني زهر من أنها أسرة عربية امتدت على مدى ستة أجيال من الأطباء، و فيما يخص إنجازاته الطبية فقد رددوا ما جاء في دائرة المعارف الإسلامية على لسان ما قاله جابريال كولان، و من الأمثلة على الدراسات العربية؛ دراسة عبد العزيز بنعبد الله المعنونة بـ "طبقات الأطباء بالمغرب الأقصى "المنشورة عام 1965 م، بمجلة اللسان العربي، إذ لم يأت فيها بجديد، وقد وقع في بعض الأخطاء مثل جعل نسبة كتاب التذكرة لوالده أبي العلاء و أورد تعليق جوستاف لوبون الصادر في كتابه حضارة العرب. ثم يصدر دراسة أخرى عام 1992 م في مجلة الأكاديمية بالرباط بعنوان "أسرة بني زهر مدرسة رائـدة" و اعمد فيها على ما ذكره صلاح الدين المنجد من حيث تصنيف قائمة آثار هذه العائلة في ميدان الطب، و من غير أن يذكر أنها موجودة فعلا و بذلك وقع في الوهم أيضا إذ لم يمحص في مسألة مكتبة العبدلية بتونس أو ذكر أماكن تواجدها، بمكتبة الإسكوريال أو المكتبة الوطنية بباريس.

كما قرأنا ما كتبه الدكتور محمد عبد الرحمن مرحبا في كتابه الجامع في تاريخ العلوم عند العرب الصادر ببيروت عام 1988 م، إذ لم يأت بجديد، بل وقع في بعض الوهم إذ ذكر أن ابن زهر ناقش في كتابه التيسير كتاب "القانون" لابن سينا و "الكتاب الملكي" للمجوسي مع أنه عند الاطلاع على محتويات الكتاب المنشور بتحقيق الدكتور ميشيل الخوري الصادر عام 1983 م لا نجد ذاكرا بالمرة لهذين الطبيبين أو الإشارة لكتابيهما.

و يظهر من خلال كلامه أنه لم يطالع الكتاب، بل اعتمد على ما نشر في دائرة المعارف الإسلامية ولم يشر في هومش كتابه إلى المصادر أو المراجع التي اعتمد عليها، و هذا ينقص من قيمة ما كتبه الذي لا يتجاوز الصفحتين و نصف.

و ثالث دراسة تثير الانتباه هي دراسة الأستاذ محمد العربي الخطابي المنشورة عام 1988 م في عمله الضخم "الطب و الأطباء في الأندلس الإسلامية" في جزءين، إذ يذكر في الجزء الأول عند حديثه عن الطبيب أبي مروان ابن زهر، ذكر أن ابن زهر ألف كتابه التيسير بطلب من ابن رشد و هذا وهم وقع فيه كثير إذ عند قراءة مقدمة كتاب التيسير نجد أن أبا مروان يذكر أنه ألفه بطلب من الخليفة الموحدي و ليس من الطبيب ابن رشد، و لكن يشير الأستاذ الخطابي إلى الوهم الذي وقع فيه كولان عندما نسب كتاب التذكرة لأبي العلاء.

كما يرجع الفضل للخطابي في نشره لأول مرة رسالتين لابن زهر هما رسالة القانون، ورسالة تفضيل العسل على السكر، ولكن تحقيق محمد العربي الخطابي و غيره مثل الدكتور ميشيل الخوري بل حتى المستشرقة روزاكوني بربانت، هؤلاء، كلهم أغفلوا جانب مهما و هو الدراسة النقدية للمباحث الطبية عند ابن زهر بل اكتفوا بنشر آثاره فقط، و هذا ما جعلنا نعيد النظر و القراءة لمؤلفاته حتى نرى حقيقة اشتهار أمر هذا الطبيب في أوروبا إلى غاية نهاية القرن السابع عشر واعتماد مؤلفاته كمصادر في الجامعات الأوروبية مثل جامعة مونبلييه.

أما بالنسبة لما قاله هؤلاء جميعا في دراساتهم التي عرجنا عليها في هذا العجالة فيما يخص تواجد مؤلفات ابن زهر في المكتبة الوطنية بباريس مثل "كتاب الاقتصاد" و "الأغذية" و "التيسير"، فلا يوجد منها اليوم إلا نسخة مكتوبة باللاتينية و بالخط الجوتنجي و هي نسخة كتاب "التيسير" و معه كتاب "الكليات" لابن رشد.

و لكن كيف تعاملنا مع مصادرنا ؟ كان لزاما أن نرجع إلى المصادر الطبية لهذا الطبيب الأندلس، أي آثاره و ندرسها دراسة عميقة، و لكن واجهتنا صعوبات بإزاء الحصول عليها.

إذ أن النسخ التي ذكرتها المراجع بأنها ضمن مكتبة العبدلية بتونس و البالغ عددها اثنا عشر مخطوطا، أول من ذكرها هو الدكتور صلاح الدين المنجد في مقالته بعنوان "المصادر الجديدة لتاريخ الطب عند العرب"، و المنشورة في مجلة معهد المخطوطات العربية تحت إشراف جامعة الدول العربية عام 1379 هـ/ 1959 م في الجزء الخامس، واطلعنا على فهارس الخزانة الملكية بالرباط التي صنفها محمد العربي الخطابي في المجلد الثاني المنشـور عام 1402 هـ/1982 م، و ذكرها كذلك الأستاذ عبد العزيز بنعبد الله في دراسته المعنونة بـ "أسرة بني زهر مدرسة رائدة" في مجلة أكاديمية المملكة المغربية عام 1992 م في العدد التاسع، أشار كذلك إلى وجودها بتونس مع ذكر نفس عام 1994 و في شهر أكتوبر، و بعد اطلاعنا على سجل فهارس مكتبة العبدلية و مكتبة الأحمدية بالمكتبة الوطنية بالعاصمة تونس، لم نجد ذاكرا لأي مؤلف من مؤلفات بني زهر، و بعد تقديمنا للبيانات إلى مسؤول قسم المخطوطات بدار الكتب الوطنية التونسية، أعاد معنا فرز فهارس المكتبة، فلم يجد لها أثرا و أفادنا بأن جمع المخطوطات التي كانت بجامع الزيتونة بقسميها الأحمدية و العبدلية، لم يتم إلا بأمر رئاسي عام 1965 م، و بأن الترتيب و إعادة الجرد لم يكن إلا بين 1965 م و 1967 م، و أعاد الإطلاع في سجل قديم بأرقام قديمة، أي تلك التي تحمل أرقام الترتيب القديم، قبل عملية ضم هذه المخطوطات إلى المكتبة الوطنية، فلم يجد لها أثرا أو ذكرا؛ فبقي لنا احتمالان لا ثالث لهما، الأول أن هذه المخطوطات يحتفظ بها أحد الخواص، و إما أنها أتلفت بطريقة ما، كأن تكون سربت إلى جهات أخرى، و هكذا حرمنا من الاطلاع على كافة آثار أسرة بني زهر الطبية، خاصة و أن الطبيب أبا مروان يذكر كثيرا اعتماده على مجربات أبيه أبي العلاء.

كما أنه توجد أرقام تصنيف قديم مثل : 532د، 2650 د، 1762د، بالخزانة العامة بالرباط، و بعد الاطلاع على دراسة رينو المنشورة عام 1931 م بمجلة هسبريس، لم نجد لها ذكرا، فصار عندنا احتمال قوي وهو أن تكون هذه المخطوطات من ضمن ما أخذته الإدارة الإستعمارية معها، و يـوجد عـائـق آخـر و هو تضارب بعض الأرقام لمخطوط مع أرقام مخطوط آخر، مثال ذلك مخطوط كتاب "الإقتصاد في إصلاح الأنفس و الأجساد" لأبي مروان، يذكر رينو دائما في نفس الدراسة السابق ذكرها أنه توجد منه نسخة عبرية تحمل رقم (834) بمكتبة الإسكوريال، ولكن عند اتصالنا بالباحثة روزا كوني بربانت، أكدت لنا ذلك، وذكرت لنا بأنها لم تستطع قراءاتها، فلما طلبنا منها بعث نسخة مصورة عن المخطوط، فإذا بنا نفاجأ بمخطوط هو كتاب "الإقتصاد" لأبي مروان لكن بخط مغربي قديم غير مشكل أو منقط يقع في 141 قطعة، و هي بذلك نسخة مخالفة للنسخة العربية التي ذكرها كل من رينو و العربي الخطابي و التي قالا بأنها تقع في 95 صفحة، زيادة على أن المخطوط الذي تحصلنا عليه أربع و عشرون قطعة الأولى منه ناقصة، فهو مبتور الأول أي ناقص المقالة الأولى و هو أي المخطوط، نسخة منقولة عن المكتبة الوطنية بباريس تحمل رمز 959 ج Arabe R. 15.504، و بذلك تحصلنا على نسخة جديدة تماما لم يذكرها أيا كان من رينو أو العربي الخطابي أو حتى روزا كوني في دراستها التي نشرتها عام 1971 بمدريد عن مخطوط كتاب الاقتصاد الموجود تحت رقم 834 بمكتبة الإسكوريال، و هو ملخص رسالة الدكتوراه.

أما كتاب التيسير فقد اعتمدنا النسخة المحققة و المنشورة من طرف الدكتور ميشيل الخوري عام 1983 م و ترجع أهمية هذا العمل إلى أن صاحبه اعتمد على نسخة دار الكتب الوطنية بباريس الواقعة في مجموع رقم 2960 يحتوي بالإضافة كتاب الأغذية لعبد الملك بن زهر و كتاب التذكرة و المجربات لأبيه أبي العلاء زهر، و يرجع تدوين هذه النسخة إلى عام 561 هـ في برشلونة أي بعد أربع سنوات من وفاة ابن زهر، و هي بذلك أقدم النسخ الموجودة، واعتمد كذلك نسخة الرباط و نسخة المكتبة البودلية بأوكسفورد رقم 628 كتبت في أوائل القرن العاشر الهجري، و الناسخ هو أمير حسن بن سيد علي، سنة 946هـ بقسطنطينة المحمية، و نسخة المتحف البريطاني في لندن رقم 9128 و هي خالية من التاريخ و يرجع أنها كتبت في القرن الثالث عشر أو الرابع عشر للميلاد لتشابهها مع نسخة أو كسفورد.

أما كتاب الأغذية فقد قام بتحقيقه و نشره الأستاذ محمد العربي الخطابي ضمن مؤلفه المنشور "الأدوية و الأغذية عند مؤلفي الغرب الإسلامي، مدخل و نصوص"، عام 1992م. واعتمد في تحقيقه على النسخ الخطية المحفوظة بخزانة الكتب الحسنية في القصر الملكي بالرباط و أرقامها 1598 / مجموع، 2430 / مجموع، 15/13 ز/مجموع.

أما الرسائل و هي ثلاثة فقد قام كذلك الأستاذ محمد العربي الخطابي بنشرها ضمن مجموعه الطب و الأطباء في الأندلس الإسلامية عام 1988م، و هذه الرسائل هي "التذكرة" و قد أزاح بإزاء نسبتها إلى أبي العلاء زهر والد أبي مروان الوهم الذي وقع فيه كولان، ورسالة تفضيل العسل على السكر، الذي يبين فيها أهمية العسل الدوائية، ورسالة "كتاب القانون، اقتضاب الوزير أبي مروان عبد الملك بن زهر".

و عليه قسمنا بحثنا إلى سبعة فصول، فصل تمهيدي وستة فصول تناولنا فيها المادة الطبية لابن زهر.

الفصل التمهيدي : عنوانه "مدخل منهجي لتاريخ الطب في الأندلس" تناولنا فيه المباحث التالية : الطب تاريخا واصطلاحا، ثم مبحث الحركة الطبية في الأندلس النشأة و التطور، ثم مبحث الطب في الأندلس الموضوع و المنهج، و هذا استدعي منا أن نعرج على دراسة الطب من حيث مادته العلمية و من حيث صيرورته التاريخية، أي بأسلوبين مختلفين في آن واحد، الأول تحديد مفهوم الطب على مستوى المظاهر الخارجية ونقصد به ما مكانة الطب في إطار الحركة التاريخية لتطور هذا العلم عند المسلمين، و مستوى المظاهر الداخلية أي البنية الباطنية و نقصد بها ما مدى تأثير المحدد المعرفي و المحدد السياسي في تشكيل مفهوم الطب في الفكر العربي الإسلامي و في توجيه موضوع الطب عند الأطباء.

الفصل الأول : عنوانه أسرة بني زهر الأصل و النشأة، إحتوى على المباحث التالية : الأصل و النشأة، و مبحث آثار بني زهر، و بمحث أهم من درس آثار بني زهر، و هذا الفصل يعتبر امتداد طبيعيا للفصل التمهيدي حتى يمكن فهم ما مدى ارتباط هذا الطبيب الأندلسي بهذا التراث الأندلسي و ما هي خصوصياته المميزة؟

و يأتي بعد ذلك الفصل الثاني المعنون بـ "اسرة بني زهر و الإهتمام بعلوم الطب، تناولنا فيه مبحث : دوافع اهتمام أسرة بني زهر بالعلوم الطبية، ثم مبحث بنو زهر و السلطة كنموذج للعلاقة بين السلطة و العلم، محاولة منا الكشف عن مدى تأثر بني زهر بالمحدد المعرفي و السياسي في توجيه اهتمامهم بالطب، ومن ثمة ما مدى إسهامهم في إثراء الحياة السياسية و العلمية ببلاد الأندلس؟

الفصل الثالث : دراسة نقدية مضمونية لتراث أبي مروان ابن زهر الطبي (القسم النظري

1) تناولنا فيه المباحث التالية : الموضوع، المنهج، فلسفة ابن زهر الطبية؛ محاولين إبراز نوع العلاقة بين الذات و الموضوع

الفصل الرابع : دراسة نقدية لتراث أبي مروان ابن زهر الطبي (القسم النظري 2) تناولنا فيه المباحث التالية :

* الاهتمام بالتأليف الطبي.

* مبادئ عامة في الصحة و المرض.

* التعريف بالمرض.

* النظرية الخواص.

* التجربة.

* الاستدلال.

* العلامات.

* قواعد التعامل مع المريض.

الفصل الخامس : الدراسة التشريحية و العصبية عند ابن زهر و مقارنتها بعلماء عصره و بالعلم المعاصر (القسم العملي 1).

مبحث التشريح عند ابن زهر (الدماغ).

مبحث التشريح عند ابن زهر (الشرايين و الأعصاب).

مبحث التشريح عند ابن زهر (العين).

مبحث التشريح عند ابن زهر (الأنف).

مبحث التشريح عند ابن زهر (القلب).

الفصل السادس : القوانين الطبية و النظريات الجديدة، (القسم العملي 2) تناولنا فيه المباحث التالية : مبحث علم التشخيص المرضي (الباثولوجي) عند الطبيب ابن زهر، المبحث الثاني : الأدوية (القسم العلاجي)، و مبحث : النظريات العلمية عند الطبيب ابن زهر.

هذه هي الخطة العامة لموضوع البحث، حاولنا من خلالها الإلمام بكافة جوانب دراستنا للطبيب ابن زهر، علنا نكون صورة واضحة عن دوره في تطور الحركة الطبية في بلاد الأندلس بصفة خاصة و الطب كعلم إنساني بصفة عامة.

الخاتمة

لقد كانت غايتنا الأساسية من هذا العمل، معالجة موضوع الحركة الطبية في بلاد الأندلس، ممثلة في أحد أبرز روادها ألا و هو الطبيب أبو مروان عبد الملك ابن زهر، محاولين في ذلك كشف الغطاء عن فلسفته الطبية، و ما مدى تجديده في علم الطب على مستوى الموضوع و المنهج، و إلى أي حد كان مجددا و مبدعا أو مقلدا و متبعا!

و موضوع مثل هذا وضعنا أمام ضرورة إجرائية، و هي ممارسة نوع من التأريخ للحركة الطبية في إطار حدود و أبعاد الثقافة العربية و الإسلامية، و في بلاد الأندلس بصورة أخص، حتى نستطيع أن نحدد موقع الطبيب ابن زهر داخل هذا البناء الشامخ و الصرح الواسع؛ فما هي محطة هذا البحث ؟

أولا : إن تحديد مكانة ابن زهر في تاريخ الحركة الطبية الأندلسية، استدعى منا أن نعرج في الفصل التمهيدي على دراسة الطب من حيث مادته العـــــلمية، و من حيث صيرورته التاريخية، إذ كنا توصلنا على مستوى المظاهر الخارجية من خلال محدد "التدوين" للعلوم في الحضارة العربية الإسلامية، أن الطب علم انتقل عبر حركة التاريخ من مجال الحضارات السابقة و هي الهندية و الصينية و الفارسية و اليونانية، بمعنى أن الطب ليس نتاج الفكر العربي الإسلامي، بل هو علم دخيل، وهذا طرح عائقا إبستيمولوجيا و هو كان العلماء المسلمون نقلة أمناء فقط لهذا الإرث الحضاري الموروث عن الأمم السالفة؟

و ثانيا : من حيث صيرورة "علم الطب" التاريخية، فقد وجدنا أن الحركة الطبية في بلاد الأندلس كانت رهينة آلتين مختلفتي المنهج و التصور، ألا و هما آلية الفعل السياسي و آلية الفعل العلمي، فكيف تم ذلك ؟

 إذ رأينا من خلال آلية الفعل السياسي الممثلة في شخص عبد الرحمن الناصر و الحاجب المنصور و المهدي ابن تومرت، كلهم اعتمدوا العلم كأساس لعلمية إعادة موضعة سلم الأسس و المفاهيم و القيم لإعادة تركيب البناء الإجتماعي داخل المجتمع الأندلس الذي كان يعيش حالة من الخلخلة والتمزق لشبكة علاقاته الداخلية، من أجل توطيد الحكم و الخروج من الواقع المفلس الممزق بسبب الثورات الداخلية و الفتن المتكررة، لكن درجة التفاعل بين العلم و السلطة اختلفت، إذ شهد عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر، ازدهار العلوم و تنــــوعها و اختلاف المذاهب، بينما في عهد الحاجب المنصور، فإنه قلص من حيوية الحركة العلمية إذ جعلها حبيسة الجمود و التقليد، لأن السلطة و طبقة الفقهاء كانا مناهضين للمنهجية العلمية ذات الطابع التجديدي أو التحديثي لما تنطوي عليه من قانون ثوري متقدم، و قد كانت التجربة الأندلسية قد حققت النجاحات التي تركت آثارها على صفحات التاريخ راسخة في ذاكرة الإنسان، إن لحظة ولادة المنهجية العلمية تمثلت في الزهراوي مؤسس علم الجراحة و التـشــــريح، و الغافقي وابن البيطار في مجال علم النبات و التحديد القاموسي للمفردات الطبية، أي ما يعرف بالمدرسة الطبية المحض، بالإضافة إلى تحقيق ثورة معرفية خالصة قلبت الأساس المفاهيمي النظري رأسا على عقب، حيث تضمنت نتائج عميقة على صعيد الفلسفة (الأنطولوجيا، الإبستيمولوجيا و المنطق) ممثلة في ابن حزم و مشروعه الظاهري، و ابن تومرت و مشروعه السياسي - العلمي و ابن رشد و مشروعه الكلامي و الطبيعي. وهذا كله من أجل إنهاض المجتمع على أسس قيمية سامية، تعطي للكيان الاجتماعي معنى و للحركة الاجتماعية هدفا يحدد و جهتها، و من ثمة تنخرط في إحدى مراحل التاريخ الجديدة.

بمعنى آخر، كل من السياسة و العلم أراد توجيه حركة المجتمع إلى ما يريد، لكن حسب الباعث المعلل لذلك النشاط، إذ في إمكانه ن يصنع المجتمع أو يقوم بتقويضه، و لكن، حسب المثال المقدم، هو المجتمع الأندلسي، أدى به إلى التفكك و التقويض، لأن مجموع العوامل الداخلية كانت تسير في خط مطابق للعوامل الخارجية التي كانت تسعى إلى القضاء على دولة الإسلام في بلاد الأندلس، و من ثمة لم يكتمل مشروع إعادة تنظيم البنى الثقافية المفككة.

فأين طبيبنا ابن زهر من كل هذا ؟ و ما مدى تأثره بهذا المحيط الفكري المتناقض في كثير من مظاهره، مظاهر التحديث من جهة و مظاهر الإتباع من جهة أخرى!

و ثالثا :بعد إكمالنا لوضع صورة كاملة لموضوع الطب تاريخا و منهجا، عرجنا في الفصل الأول للتعريف بابن زهر الطبيب، الإنسان، من هو إلى أي نسب يرتفع، فرأينا أنه سليل أسرة اشتهرت على مدى ستة أجيال كاملة بأبنائها الأطباء الفقهاء و الوزراء بل و الأدباء، أسرة عربية المعدن، تشربت بروح الثقافة الإسلامية إلى حد النخاع و هذا ما كان ممثلا في شخص أبي مروان زهر الجد الفقيه المشاور، الذي خاض تجربة جدلية العلاقة بين السلطة و العلم.

وعرفنا بآثار أطباء هذه الأسرة الأندلسية و حددنا أماكن تواجدها في المكتبات العالمية، و كذلك أهم من درس آثارها و تراثها، ومن ثمة أمكننا إحصاء ما بقي من هذا التراث الطبي و ما اندثر بفعل عوامل التاريخ و سننه، و هكذا استطعنا توضيح جوانب الثبات و التغير في حقل التراث العلمي للحضارة العربية الإسلامية في مجال الطب، فما بقي فقد أثبت تأثيره، و ما تغير فـقـــد نـسي، و هكذا و ضعنا تراث الطبيب ابن زهر أمام المساءلة و المحاجة لكشف بنيته الداخلية من خلال محدداتها، و إبراز مظاهر الجدة و الابتكار أو التقليد من خلال تجلياتها و آثارها.

و لهذا بدأنا أولا بضبط المحددات و ذلك من خلال مسألة دوافع اهتمام أسرة بني زهر بالعلوم الطبية، و خلصنا إلى دافعين أساسين و هما "الميل الفـــطـري" و "المؤثر البيئ" اللذين حضيت بهما أسرة بني زهر، كما استطعنا استنباط معيار ثالث و هو "قاعدة المنفعة في العلم" حسب ضوابط قيمية هي : قــــيم النـــفـــع و الضرر، و قيم الحسن و القبح و قيم الصلاح و الفساد، و كذلك رجعنا إلى مسألة علاقة بني زهر بالسلطة، باعتبار هذه الأخيرة أداة إشراطية للنشاط العلمي كما بينا ذلك في الفصل التمهيدي، إذ وقفنا على نتيجة مفادها أن أسرة بني زهر كانت مثل غيرها من العلماء الذين عانوا من تناقضات مطامح الساسة، إذ كشفنا عن معاناة أطباء بل أفراد بني زهر كلهم مع السلطة و كيف طالهم الاغتيال السياسي الذي اعتبرناه مؤشرا ذا دلالة واضحة على إقصاء العلم من حلبة الصراع الذي يمس مصلحة السلطة أو المعارضة الشكلانية الممثلة في طبقة الفقهاء التقليديين و المتصوفة الحالمين، ومن ثمة حسب منطق سنن الكون و التاريخ صار من الضروري أن تنقل شعلة العلم و التجديد إلى عالم آخر تهيأت له أسباب النهضة العلمية ألا و هو أوروبا عصر النهضة و الاستعمار الجديد.

ولعل هذه الأسباب و المحددات الإيديولوجية و المعرفية هي التي جعلت الطبيب كلما أبا مروان ابن زهر يفصل علم الطب عن علم الكلام و الفلسفة و التنجيم، و يبرز كلما سنح له مجال الحديث مظاهر ورعه و تشبثه بالشريعة الإسلامية.

ورابعا : و بعد ذلك انتقلنا إلى الفصل الثالث لنبين ما هي الأسس المعرفية التي كونت رؤية الطبيب ابن زهر حول الطب موضوعا و منهجا، أي العلاقة الجدلية بين (الذات) و (الموضوع)، فوجدناه من ناحية ينتظم في إطار المدرسة الجالينوسية الآخذة بالتجربة و القياس معا، و في جانب آخر يعتبر من أنصار الغائية البيولوجية، أما موضوع الطب عنده، فلأول وهلة عندما قرأنا نفوره من التشريح و الجراحة كنا نظن أن ذلك أمرا لا جدال فيه إذ الاعتراف سيد الأدلة و لكن إلى أي مدى كان هذا صحيحا ؟

و خامسا : و هكذا انتقلنا إلى الفصل الرابع و الخامس و السادس للقيام بدراسة نقدية مضمونية لأبحاث هذا الطبيب في علم الطب، فما هي النتائج يا ترى ؟ و ما هي مكانة ابن زهر في تاريخ الحركة الطبية الأندلسية ؟

ففي الفصل الرابع و الذي جعلناه للقسم النظري، و جدنا أن الطبيب ابن زهر يعتمد مبدأ "المذكرة الطبية" التي يمكن للطبيب أو المتعلم الرجوع إليها عند الحاجة، و هذه "المذكرة" هي في حقيقة الأمر خلاصة تجارب الطبيب الخبير، و كأنه كان ينظر إلى زمانه بعين عصرنا الحالي، إذ لا يمكن للطب أن يتقدم من غير بحث و تجريب مستمرين، و يعتمد كذلك مبدأ "القواعد العامة" في الصحة و المرض ليحقق بذلك مبدأ الوقاية و العلاج معا كثقافة اجتماعية، إذ يمكن للعامة مثل الخاصة أن يعلموا ما يضرهم و ما ينفعهم و ما هي الاستعجالات التي يؤخذ بها وقت الضرورة الملحة ريثما يحضر الطبيب المختص.

كما أنه يعتمد مبدأ "التعريف بالمرض" و "المريض"، إذ يحدد أولا ما اسم المرض و ما طبيعته و بأي عضو يختص، ثم يعرف بالمريض بأسمه و مـــــهـنته و سنه و زمن إصابته بالمرض وما هو العلاج الذي اتبعه معه و ما هي نتائج المعاينة الطبية، بل و يذكر في حالات أخرى اسم الطبيب المعالج كذلك، و هو بذلك يعتبر من الأوائل الذين وضعوا أسس الطب المعاصر الذي يعتمد على هذه المبادئ بذاتها.

كما أنه يضع قواعد عامة للتشخيص و هي "الدلائـل" و "العـــــلامـــــات" و "الأعراض" ووجدناها في معظمها توافق ما هو معروف في الطب الحديث مثل معرفة أطوار المرض و علامات كل نوع من الأمراض و ما هي أوجه الاستدلال في ذلك.

كما أنه جعل من التجارب الذاتية مادة علمية تفيد الطبيب و المتعلم في تشخيص الحالات المرضية إذ ذكر كثيرا من تجاربه الخاصة مع الأمراض التي تعرض لها و كيف استفاد منها في استنباط طريقة علاج جديدة أو معرفة نوع جديد من الأمراض.

كما أنه وضع قواعد أخلاقية مهنية للطبيب، مثل الصدق و الأمانة و عدم صناعة السموم لمن يطلبها، لأنه كان يعتبر الطب مهنة شريفة مقدسة مهمتها حفظ حياة الإنسان قدر المستطاع و ليس إتلافها. كما حدد معالم إمكانية استحقاق لقب الطبيب للمتعلم من خلال قراءة الكتب المختصة و حضور حالات المعالجة و المعاينة مع طبيبه الأستاذ و التدرب بين يديه ثم مباشرة العمل لوحده رويدا رويدا بالإضافة إلى حضور المناظرات العلمية التي تعقد بين الأطباء المتمرسين للاستزادة و التحصيل.

أما في الفصل الخامس؛ الذي خصصناه للتشريح، فقد وجدنا أن الطبيب ابن زهر رغم إنكاره المتكرر لمارسته له و كراهيته للجراحة، إلا أن نتائج أبحاثه الطبية تقول بعكس ذلك، فنجد في مبحث تشريح عظام الرأس أنه وافق العلم المعاصر في تحديد عدد أعظم الجمجمة، القسم الأمامي والجبهي،و القسم الأوسط أو الجداري و الصدغي أو القسم المؤخر أو القفوي.

كما أن تحديده للأغشية الخارجية و الداخلية لعظام الجمجمة فهي خمسة عنده و هي نفسها في علم التشريح المعاصر، كما أنه حدد عدد أغشية الدماغ بثلاثة أنواع المعروفة اليوم بــ "السحايا"، واستطاع كذلك معرفة الشبكة الوعائية، كما أنه أول من اكتشف الغشاء الخاص بعظم القحف المعروف اليوم بالسمحاق.

و عند دراستنا لمبحث الشرايين و العروق و الأوردة، نجده يفرق بين العروق الضوارب (الشرايين) و العروق غير الضوارب (الأوردة)، و لكنه لم يذكر أن العروق الضوارب مكونة من طبقات، كما سبقه إلى ذلك الزهراوي و من بعده ابن رشد، هل لأنه لم يعرف ذلك، أم لأنه لم يكن بصدد دراسة تشريحية لجسم الإنسان ؟

كما نجده يفرق بين بنية العروق الضوارب و الأوردة بل و يكتشف ما يسمى اليوم بالأوردة الدقيقة و هو أول من أطلق اصطلاح "أوعية الدم" و هو يقصد بذلك الشرايين و الأوردة و العروق، بل استطاع اكتشاف كذلك الشعيرات الدمــــوية، و هو أول من وصفها بأنها رقيقة كالشعر و هو بذلك سبق مالبيغي بخمسمائة واثنتين و ثلاثين سنة في وضع أول التصورات العلمية حول الشعيرات الدموية، قبل ابتكار المجهر المكبرا !

و عند دراسته للأعصاب يفرق بين أعصاب الحس و أعصاب الحركة و طبيعة كل منها وظيفتها و أماكن تواجدها في الجسم البشري ووضعنا لذلك مخططا تقريبيا و من خلاله استطعنا أن نستنج أنه قارب المفهوم التشريحي المعاصر للأعصاب.

و أنه أول من تحدث عن الخلية العصبية وأول من حدد ما يعرف اليوم بالزوائد الشجرية و كذلك اكتشافه للعصب الراجع في العنق و كذلك ما يعرف بالغدة الصنوبرية و قنطرة فارول و مركز التنفس في الدماغ. و أيضا النخاع المستطيل و البصلة السيسائية.

أما عند دراستنا التشريحية للعين نجده يقارب الطب المعاصر عند تحديده لأجزاء العين و بينتها الداخلية و خاصة في موضوع الأعصاب المجوفة، كما يعتبر أول من تحدث عن القناة الدمعية - الأنفية أو ما يعرف حديثا بـ "المسيل". 

و عند دراسته للأنف كان أول من تحدث عن وجود غشاء مخاطي في الأنف و بخصوص القلب يقول بأن له بطنان، و هو بذلك يقوض دعوى عدم مباشرته للتشريح و عدم معرفته له.

أما في الفصل السادس و الأخير الذي جعلناه خاص بدراسة مواضيع البكتريا و الدم نجده أول من اعتنى بمسألة الاحتراق الداخلي للدم أو ما يسمى بالاحتراق البطيء الذي اكتشفه لافوازييه، و هو أول من تحدث عن التخمر و البكتريا قبل مجيء باستور، وأول من فرق بين التنفس الخارجي للصدر و التنفس الداخلي للرئتين و أن سبب حركة التنفس هو الصدر، كما اعتنى بمسائل الفيروسات الممرضة و الأمراض السرطانية.

وأخيرا، نقول إن ما يميز الطبيب ابن زهر عن غيره حتى عن ابن ســيـنــــا و الزهراوي، أنه توصل إلى نتائج دقيقة لا يمكن أن يتوصل إليها إلا من خلال دراسات و ملاحظات سريرية، و هو بهذا يعتبر بحق طبيبا تجريبيا فتح آفاق البحث الطبي لمن جاء بعده، و خير مثال على ذلك اكتشافه للغذاء الصناعي عن طريق أنبوب يمر إلى المعدة مباشرة، و هو بذلك وضــــع أولى الــتــــصـــــورات و الإرهاصات لما يعرف اليوم بالتغذية الاصطناعية و كذلك التشخيص المجهري الداخلي الذي لم تعرفه أوروبا إلا في الثلاثين سنة الأخيرة من هذا القرن.

في نهاية هذا البحث نقول إن ما قمنا به هو محاولة لإبراز أن الطب في الحضارة العربية الإسلامية لم يكن صورة منسوخة عن الطب اليوناني كما قال بذلك بعض الدارسين المتعصبين للتراث الإغريقي، ولكنه طب وضع نقاط انعطاف جديدة في مسار تطور العلوم الطبية.

يبقى أنه هناك مسائل تتعلق بالديناميكا و الفيزياء الحرارية لم نرد مناقشتها عند الطبيب ابن زهر و كذلك مسائل تتعلق بالاصطلاح الفلسفي و اللغوي لاقتصارنا على المباحث الطبية التي تهم بحثنا، و يبقى ابن زهر مجالا للبحـث و التنقيب المستمرين.


الهوامش

* رسالة ماجستير في التاريخ و الحضارة (تاريخ العلوم)، نوقشت 16، جوان 1999، إشراف الأستاذ د.غازي، جاسم الشمري.

 

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran

95 06 62 41 213+
03 07 62 41 213+
05 07 62 41 213+
11 07 62 41 213+

98 06 62 41 213+
04 07 62 41 213+

Recherche