تـقـديـم

الأقاليم الحضرية بالبلدان المغاربية

قد يقول قائل، هذا عدد آخر مخصص للمدينة. طبعا، هذه حقيقة، بحكم أن المدينة المغاربية هي اليوم مكان تجري فيه الأحداث و تتكون الثروات و تنشأ النزاعات بين مختلف الفاعلين العموميين و الخواص، و بين "صانعي المدينة" الذين يرغبون في الإمساك بسلطة القرار بشكل مستمر و الآخرين، و حيث تجد هذه النزاعات حلولا لها، هذا من جهة،  و من جهة أخرى، فالموضوع قد فرض نفسه بسبب أهمية التوجهات الحالية للبحث التي تعكس المكانة المركزية التي يحتلها تمدين أقاليمنا، هذا على الرغم من المشاكل اليومية التي تواجهها المجتمعات المغاربية.  

تخضع المدينة في تحولاتها السائرة ضمن هذا العدد، إلى دراسات و بحوث لتشمل تونس، الجزائر و المغرب الأقصى و قد تناولها باحثون متعددو الاختصاص (جغرافيون، مؤرخون، مهندسون و معماريون،...). إن هذه المقاربات قد تتضـارب و تختلف حول بعض القضايا، و لكن الجانب الأنثروبولوجي الذي تتضمنه يجعل انبعاث الثقافات المحلية المترسبة في مخيالنا، و مهاراتنا و ممارساتنا الاجتماعية التي توارثناها من جيل لآخر أمرا ممكنا، و بخاصة في كيفية شغل و إعداد أقاليمنا، المحافظة - من عدمها - على تراثنا، و بإعادة تأهيل سكننا و تثبيت التمدن الحتمي.

تمّ التطرق ضمن الجزء الأول من الموضوع (في دراستين)، إلى مسألة التراث التي يبدوا أنها تطرح إشكالا للسلطات السياسية بالبلدان المغاربية، بسبب الطبيعة الهوياتية للمباني الموجودة و بسبب الرؤية الغامضة التي تكتنف كيفية استعمالها. و على الرغم من الخطاب الرسمي الذي يؤكد على الاهتمام بهذه المباني، فإن النقاش الذي يدور حول التراث لا يزال إلى حد الآن غير واضح المعالم في الجزائر مثلا، أمّا عن الأضرار التي لحقت به، فإنها تبدو غير قابلة للمعالجة، و هو الأمر الذي يعطي الانطباع على أن هذا التراث العمراني هو في طريقه إلى الانقراض. مما يفرض التفكير في ضرورة المحافظة عليه و في كيفية جرده؟ و إعادة الاعتبار لمعالمه؟ و تسييره من أجل وضعه تحت تصرف المجتمع؟ و أيضا كيف يمكن استيعاب التراث بمختلف روافده التي تشكلت عبر الصيرورة، الطويلة أو القصيرة، للتاريخ؟

و ضمن هذا السياق الفكري، يتساءل محمّد بنعتو عن نوعية النقاش المفاهيمي و المنهجي الدائر في المغرب الأقصى، حول تراث المدن القديمة بالإشارة إلى النقص الكبير الذي يعتري هذا الموضوع سواء في الدراسات التاريخية الرسمية أو في التاريخ الكولونيالي الرسمي، هذا من جهة، و من جهة أخرى، يبرز صاحب المقال، اللامبالاة التي تميّز الفاعلين المحليين في تعاملهم مع هذه المدن القديمة، مما يشوّه الإستراتيجية التي من الممكن أن تجعل من هذه المدن موارد تجب المحافظـة عـلـيـهـا و العناية بها و تسييرها لينتفع بها المجتمع. مما يدفعه إلى طرح السؤال التالي:"لماذا، لا ندرك أهمية تراثنا و نحترمه مثلما يفعل الآخرون؟" أي المحتل الإسباني الذي أعاد إنتاج الفن المعماري الأندلسي لدى قيامه ببناء مقر القيادة بالعرائش...، و هي طريقة يعترف من خلالها "بالقيمة النفسية، الرمزية و الهوياتية التي يملكها المعمار، بغض النظر عن كونه قيمة مادية".

إنّ الفن المعماري المعتمد من قبل فرناند بويون في مقاربته لبناء المدينة، قد طبع المجال و الزمن سواء في الجزائر العاصمة أو في الهياكل الفندقية الموزعة في مختلف المدن الجزائرية. وقد قامت مريم معاشي-معيزة بالتعرض إلى سيرة حياة هذه الشخصية العملاقة التي "قدمت عملا يتميز "بالمرجعيات" العمرانية المتعددة الثقافات، و أيضا بثراء كبير من الناحية البنيوية حيث أن النموذج هنا هو المدينة المتوسطية بشوارعها و زقاقها، و طرقها الـمـسـدودة، و أبـواب مـدنـهـا   و ساحاتها الصغيرة... و لهذا نجد بها أشكال التمدن. و هو الأمر الذي يبرر الدعوة الصادرة عن هذا المهندس المعماري، الموجهة إلى أصحاب الحرف المختلفة و الصناع من نحاتي حجارة البناء، و منتجي الخزف و النقاشين... و عليه يمكننا التأكيد على أن المنجزات الراهنة التي قامت تلك الشخصية الموهوبة و الفاتنة المتمثلة في فرناند بويون، تودع بعدئذ ضمن التراث المادي الجزائري. و خلافا عن تلك البناءات السكنية و الفندقية التي أبدع التفكير فيها هذا المهندس المعماري و مولتها السلطة العمومية باعتبارها صاحبة العمل، فإن مركب الياسمين بالحمامات هو الترجمة لحلم منشئ عقارات تونسي. تتميز هذه البناية التي أقيمت بالمنطقة السياحية الكبرى، أي الحمامات، بكونها "مجالا جديدا لتنشيط و إيواء السياح، يختلف جذريا عن سلسلة الفنادق الرتيبة في جنوب الحمامات".إن بناء مدينة قديمة، على مستوى موقع بكر، يرمي حسب محمد هلاّل إلى "بعث ثلاث آلاف سنة من التاريخ و جعل الميراث المتعدد لمختلف الحضارات ( اليونانية، الرومانية، و العربية الإسلامية...) التي تعاقبت على هذا الإقـلـيـم و أسهمت في تشكيل التراث الثقافي و التاريخي للبلاد، مرئيا في مكان واحد"، إلا أن رؤية هذا "التراث الجديد" تواجه تقديرا متنوعا من قبل السكان الأصليين و السياح الأجانب، إذ نجدهم ينتقدون بشدة تلك الممارسة العمرانية، لكونهم يبحثون عن الأصالة لا عن تقليد لمدينة قديمة. و مع ذلك يشير صاحب الدراسة إلى "فشل التوفيق أو المصالحة، بين الثقافي و التجاري لأن التراث هو "تركيب جماعي"... و ليس فرديا" بحكم أن تصور هذا التراث الجديد لم يخضع "للمناقشة" بين مختلف الفاعلين الحاليين. هذا بالإضافة إلى أن إزاء هذا التراث المادي الذي أصبحت صيرورته ذات بعد إشكالي، تطرح مرة أخرى لأصحاب القرار و السلطة العمومية و بشكل حقيقي الرؤية السياسية         و الثقافية في كل أبعادها.

أمّا عائشة التّايب، فإنها تفضل الاهتمام بالقطاع المنجمي الموجود في الجنوب التونسي و بالتحديد في التجمعات السكنية ( المتلوي، الرديف، أم العـرائـس، و المظيلة) التي أنشئت من أجل استغلال الفوسفات من قبل مؤسسة كولونيالية متخصصة في المناجم. يبرز مخطط تنظيم هذه القرى في الواقع، بوصفة كلاسيكيا، إذ نجده يتكون من القرية الاستعمارية ذات التنظيم المحكم، و المجهزة تجهيزا جيدا يسكنها الإطارات الأوربية، هذا في ناحية، و في الناحية الأخرى، نجد النوى المبنية غير الصحية إن قليلا أو كثيرا يقطنها الوافدون من الهجرة الريفية الذين تحوّلوا بحكم الظروف إلى عمّال منجميين. و قد أسهمت الدولة التونسية بعد حصولها على الاستقلال في تغيير الأمور شيئا ما من خلال التنظيم العمراني لهذه القرى، إذ أن "التنظيم التمييزي للبناء ذاته تمّ الإبقاء عليه"، كما ظلت هذه المناطق المنجمية المحرومة، غير مرتبطة بالمجالات الاقتصادية الساحلية، الصناعية منها و السياحية، إلا قليلا. مما يطرح بحدة مسألة مركزية لها علاقة بتهيئة الإقليم و يطرح أيضا مسألة التراث المادي الجديد و كيفية المحافظة عليه.

و من جهتها تحاول فاطمة بلهواري، و على مستوى آخر و في دراسة موجهة نحو التاريخ المغاربي (القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي)، رسم صورة متعلقة بإقامة الطرق و الممرّات البرية و النهرية و البحرية التي كانت تدعم التبادلات التجارية بين مختلف الأسواق و مدن إفريقيا الشمالية (طرابلس، تونس، القيروان، بونا، تيهرت، فاس، سجلماسة...) و قد اعتمدت على مؤلفات الجغرافيين العرب (البكري، ابن حوقل، اليعقوبي...). لم تسلم هذه التبادلات المتنوعة (منتوجات زراعية، توابل، أغنام...) من سطوة قطّاع الطرق. كان بإمكان النص أن يكون واضحا لو تمّ اعتماد الخرائط و الرسوم البسيطة التي تعوض الوصف الطويل لطرق المواصلات، مع التركيز على السياق الذي ميّز ممالك تلك الفترة و العلاقات التي كانت قائمة بينهم.

يرتبط الجزء الثاني من الموضوع بحركية الناس و ببحثهم عن صيغ الاندماج في المدينة، إذ أن تطور العمران بالمغرب العربي يزيح نوعا ما عالم الأرياف، بسبب أن الأقاليم الحضرية هي التي أصبحت بعدئذ أماكن للتقدم الاقتصادي في البداية ثم الاجتماعي الثقافي في نهاية المطاف. ينطبق ذلك على تبلبة، تلك المدينة المتوسطة في الساحل التونسي، و التي تقع بين مونستير و مهدية. إن هذه المنطقة التي تتميز بتوسع اقتصادي أكيد تسمح "بتسديد أجور مرتفعة نسبيا بالمقارنة مع معدل الدخل في الدولة التونسية". و بطبيعة الحال، فإن التحوّل المجالي، المدروس من قبل نزار بن تقية، أعطى جاذبية كبيرة لهذه المدينة و سهّل الهجرة إليها لما تتميز به من مزايا عمرانية و لمحة اجتماعية ريفية كثيفة نوعا ما. تتم إقامة هؤلاء المهاجرين على الطريقة الكلاسيكية من حيث اشتغال شبكات التضامن التي تمكّن المهاجرين الجدد من التمتع بإستقبال أكيد، لكن إسكانهم يتم في غالب الأحيان في سكنات مضرة صحيا، إذ كثيرا ما تنشب عن هذه الظروف السكنية نزاعات اجتماعية مختلفة بين أصحابها و بين المستأجرين، بين البرانيين و التبلبيين، هذا بالإضافة إلى رفض أصحاب السكنات الاستئجار للفتيات... و في نهاية المطاف، نجد أن أقلية من أولئك المهاجرين الذين يعرفون تغييرا اجتماعيا حقيقيا، قد توصلوا إلى الحصول على ملكية عقارية في ضاحية المدينـة، و بالتالي، تمكّنوا من الاندماج في مدينة مرغوب فيها بقوة.

و على مستوى آخر، أي فيما يتعلق بحاضرة جهوية متمثلة في مدينة وهران، حيث تطرح إشكالية الاندماج الاجتماعي ذاتها، إذ يقوم عابد بن جليد بمعالجتها لكن في سياق و ظروف مختلفة جدا، أي تلك التي نتجت عن اقتحام لأرض تمّ في وضع سياسي صعب "تعرضت خلاله مساحات هامة تابعة لأملاك الدولة للاحتلال غير الشرعي". إذ يبرز تجمع السكان ذوي أصل جغرافي واحد بوصفه "مسعى كلاسيكيا لإعادة التركيب الاجتماعي... حيث يعاد إنتاج سلسلة من القرى داخل المدينـة "و يرافق ذلك ظهور تصرفات أنثروبولوجية خفية".

و من المنطقي أن تعتمد استراتيجيات جماعية من قبل هـؤلاء الـمحـتـلـيـن، و على رأسها يأتي بناء مسجد و هو رمز لا يمكن للسلطة السياسية المساس بـه و هذا بالإضافة إلى الضغط من أجل بناء المدارس الابتدائية، و هي طريقة ماكرة للحصول على عنوان "رسمي" يبرر الإقامة بهذه الأراضي. و مثلما يقع في مختلف الجهات، فإن المساحات الحضرية تخضع لحركية سكنية كبيرة، أما بالنسبة للسكان، فإنهم يسخّرون النضالات الاجتماعية لتحقيق هدف بسيط: التمكن من الحصول على الاعتراف بالنواة غير الشرعية من قبل السلطات الرسمية. و يتم ذلك بواسطة "تسوية المجال العقاري" المشغول من قبل المحتلين غير الشرعيين، كما يسعى الشباب من جهتهم، وهم الفئة الأكثر احتجاجا و الأكثر مطالبة، إلى اللجوء إلى الشارع لإيجاد حل لمشكل ما. "إن تلك الاستراتيجيات و النضالات قد أسهمت في ابتكار شروط التأهيل الاجتماعي لفئات تعرف الحرمان و التجاهل الكبيرين..."، لكن هذا الأمر يتعلق بضرورة "الاعتراف بهذه التجزئات غير القانونية باعتبارها جزءا من المدينة الأم"، أي المدينة القانونية.

سمح هذا العدد المخصص لـ "الأقاليم الحضرية في البلدان المغاربية"، من خلال أفكاره و منهجياته المعتمدة، بالتطرق إلى زاوية نظر من بين الزوايا المختلفة التي تعالج مسألة المدن المغاربية، منطلقة إلى ما بعد التوسع المجالي خلال الأزمنة الطويلة أو القصيرة في التاريخ، أو إلى الوصف الممل لتتوصل إلى القياس النوعي لها. يمكن القول أن الدراسات التي قدمت في هذا العدد، كان لها الفضل في تسليط الضوء على ذلك الواقع المتحرك للمدن، إذ سجلت مختلف التحولات البارزة في هذه الكيانات الحضرية من خلال تركيب قديم ومعاصر للتراث المادي، و لاحظت التمدن البطيء و الصعب لهذه المناطق المحرومة، كما قاربت كيفيات التسوية الحضرية و اندماج الفئات المحرومة الباحثة عن تمدن لم يثبت بعد، لكنه آت لا محالة.

 

عابد بن جليد

ترجمة: محمد داود

 


 

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran

95 06 62 41 213+
03 07 62 41 213+
05 07 62 41 213+
11 07 62 41 213+

98 06 62 41 213+
04 07 62 41 213+

Recherche