خطاب الهوامش في سيرة جبرا إبراهيم جبرا الذاتية (البئر الأولى – شارع الأميرات)

إنسانيات عدد 43 | 2009 | الخطاب الأدبي والديني في الفضاء المغاربي  | ص13-22 | النص الكامل


Jabra Ibrahim Jabra’s autobiographic accounts

Abstract: This approach tries to study the way the narrator has structured his functions, which are first of all informative, expressive and coordinative, and that in both his works mentioned “The first well” and “Princesses’ street” which make up an affirmed autobiography.
We notice  that in both texts the narrator is not satisfied at mentioning facts throughout his work, but that he uses margins in such a way that they stand out in so much as an additional space for multiple discourse. This is what has brought us to consider this question.

Keywords: Jabra Ibrahim Jabra - approach - narrator’s functions - autobiography - marginal discourse.


Khadidja ZATER : Université d'Oran, Département de langue et littérature arabe, Faculté des Lettres, Langues et Arts, 31 000, Oran, Algérie


 

يعدّ الراوي فنية أساسية يستخدمها الكاتب في سرد قصته. هو إذا أداة تستخدم لإدراك العالم القصصي المزمع تصويره. وكل تفصيلات هذا العالم تصوّر إذاً من خلال زاوية رؤية هذا الراوي.

ونظرا لأهمية الراوي في النسيج القصصي، فإن العكوف على دراسته أمر لا مناص منه في أثناء استنطاق النصوص.يقول جيرار جنيت في هذا المضمار:

« je ne puis à aucun instant négliger la présence du narrateur dans l’histoire qu’il raconte »[1].

و للراوي وظائف عديدة في الخطاب السردي ومنها: الحكي أو وظيفة الإخبارfonction narrative (أي توصيل الحكاية)، و وظيفة التنسيق fonction de régie  أو الوظيفة الجمالية[2] ، وظيفة التعبيرfonction émotive(أي التعبير عما يجول في خاطره) و الوظيفة التوثيقية fonction testimoniale ou d’attestation  (أي جعل المتلقي أكثر ثقة في صدق القصة)، و أخيرا و ليس آخراً  الوظيفة الإيديولوجية fonction idéologique (أي الاتجاه الفكري الذي يدعو له).

نحاول من خلال هذه المقاربة، النظر في كيفية تأدية الراوي لوظائفه، و ذلك في نصي جبرا إبراهيم جبرا: "البئر الأولى" و"شارع الأميرات"، النصين اللذين يمثلان سيرة جبرا الذاتية المعلنة (autobiographie déclarée). و الملاحظ في النصين هو أن الراوي لم يكتف بما أورد من أخبار في المتن، بل راح يستغل الهوامش بشكل لافت، إذ جعل منها فضاء إضافيا لخطاب مـتـنـوع الأشـكـال و الأساليب، الأمر الذي استدعى منّا هذه الوقفة الخاصة.

1. البئر الأولى

لقد أخذ راوي "البئر الأولى" وظيفة التنسيق على عاتقه، فرتّب النص وقسمه فبلغ عدد فصوله الواحد والعشرين فصلا. كما هيمن الترتيب التتابعي عليه وإن كان لا يخلو من بعض المفارقات الزمنية، لأن فن السيرة الذاتية في حد ذاته ميدان خصب لها، نظراً لارتكازه على عملية التذكر التي تقرب المسافة بين الأزمنة الكامنة في الذاكرة .

وإذا كانت الفصول قد اقتصرت على تقديم حادثة واحدة كما هو الأمر في الفصول الأربعة الأولى (ف.1 حادثة الهيطلية - ف.2 حادثة الدفتر – ف.3 ذكريات مع الطبيب و حماره-ف.4 حادثة صندوق الدنيا)، فإن الفصول الأخرى قد تضمنت ذكريات و وقائع متعددة جمعتها و رتبتها أواصر ظاهرة (المكان أو الشخصية)، و أخرى خفية يقيمها السياق النفسي في ذهن الراوي (مثلما تبين في الفصل العاشر). و بوجه عام اتخذ الراوي المؤشرات المكانية و الزمانية معالم واضحة ارتكز عليها في تقسيم نصه وترتيبه. الأمر الذي وفّر التسلسل الكرونولوجي للأحداث و أوحى بنمو الطفل وبتدرج سنه في خط تصاعدي من حوالي سن الخامسة إلى مستهل الثالثة عشرة .

خطاب الهوامش في "البئر الأولى"

أورد الراوي معلومات و شروح و تعليقات في ثنايا المتن أو النص الأساس، ثم تجاوزه إلى الهوامش للإدلاء بمزيد من المعلومات الهامة. وذلك حين طغت عليه الذكريات وتداعياتها.

ولا شك في أن وظيفته التنسيقية، المتعلّقة بإحكام البناء العام للنص هي ما دعاه إلى هذا الإجراء الإضافي (الهوامش). لكن هذا الخطاب الذي يبدو للوهلة الأولى موازيا للمتن هو في حقيقة أمره متقاطع معه في أكثر من موضع.

إنّ ما ورد في هامش الصفحتين 61 و 164، لا يعدو أن يكون مجرّد توضيحات لغوية قصيرة تستهدف إبراز الخصوصية الفلسطينية من حيث اللهجة المحلية و النطق بها، ثم من حيث تسميات التلاميذ وارتباطها بالقرى الفلسطينية التي ينتمون إليها.

غير أنّ بعض الهوامش الأخرى تشكّل بنيات حكائية صغرى، لو امتدّت نصّياً لتمخّضت عن محكي فرعي داخل المحكي الأصلي؛ و نخصّ بالذكر من هذه الهوامش ما جاء في الصفحات 108 و256 و263 وكان متعلّقاً بشخصيات ورد ذكرها في ثنايا المتن الأصلي.        

لقد ارتأى الراوي أن يقدم معلومات إضافية عنها نظراً لاهتمامه بمصائرها غير العادية: سليم العشي – الذي تحوّل إلى أسطورة- و المعلم بشارة السبّاك – الذي تحوّل إلى شحّاذ يقال إنه مات سكراناً- والراهب بطرس صومي الذي توفي سنة 1948 دفاعاً عن القدس-.

تميّزت البنية المتعلقة ببشارة بطولها و بطبيعتها و بصياغتها الخاصة؛ وتجلّت من خلالها وظيفة الراوي التعبيرية إذ لم يلجأ إلى الأسلوب التقريري كما فعل في الهوامش الأخرى و إنما اعتمد أسلوب العرض المباشر المعتمد على الحوار بجمله الحوارية الانفعالية القصيرة، الأمر الذي عمّق حيوية الموقف و دراميتـه . و يبرّر الراوي إدراجه لهذه البنية بقوله : "أراني هنا مدفوعاً إلى ذكر ما جرى لبشارة بعد ذلك بسنوات قلائل "[3]  فالمصير المحزن لبشارة هو الذي فرض نفسه على الراوي لذا خصّص له حيزاً كبيراً في الهامش.

و تعود بعض هذه البنيات الهامشية إلى أحداث شخصية و أخرى عامة:

و تتمثل الشخصية منها في استباق وقائع من حياة جبرا اللاحقة التي لا يتسع المتن لاحتوائها. و ينطبق هذا بخاصة على ما ورد في الصفحة 166. و أمّا ما جاء في الصفحة 191، فهو عبارة عن ملخص لأوّل قصة كتبها – وعمره لا يتجاوز الثانية عشرة- و قد استلهم فيها أجواء ألف ليلة و ليلة.

أمّا عن الحدث العام فيتعلّق بالزلزال الذي وقع في فلسطين سنة 1927، ولعلّ الرغبة في تفادي التكرار بخاصة والوظيفة التنسيقية بعامة هما اللتان فرضتا على الراوي عدم التعرض لوصف هذا الزلزال في المتن، لذا اكتفى بالتنبيه إلى أنه سبق للكاتب وصف بعض آثاره في الفصل السادس من روايته" البحث عن وليد مسعود".

و نجد الأمر نفسه تقريباً في هامش آخر[4]، إذ ينبه الراوي القارئ إلى أنّ قصته "الغراموفون" المنشورة في مجموعته القصصية "عرق… و بدايات من حرف الياء" تشتمل على الكثير من التفصيلات الخاصة بالمرحلة الحياتية التي هو بصدد عرضها في متن البئر الأولى، لذا يستغني عن إعادة الكلام عنها و يدعو إلى القراءة التناصية بين البئر الأولى وقصة "الغراموفون" بقوله الصريح : " يجد القارئ في قصتي … من التفاصيل الدقيقة التي لن أكرّرها هنا…"و بهذه العبارة تتجسّد الوظيفة التواصلية للراوي و يتجلّى توجيهه للمتلقي.

صرّح جبرا قائلاً في حوار أجراه معه ماجد السامرائي:"[...] خذ إحدى قصص "عرق": قصة"الغراموفون".. إنها جزء من تجربتي حين كان عمري ما بين الثالثة عشرة والرابعة عشرة. أوقصة عنوانها"المغنون في الظلال". أعتقد لو أنني لم أكتب هذا الشيء لكان هناك نقص دائم.. جرح نازف في كياني.."[5].

لقد أحالنا الكاتب صراحة، في نص"البئر الأولى"، على مواطن تقاطع المادة الحكائية  لهذا النص مع معطيات سبق له استثمارها في قصصه و رواياته. غير أنّ هناك معطيات أخرى ترتبط بتجاربه الذاتية تجلّت في قصصه ولم يعلن عن تقاطعها مع مادة البئر الأولى ومع تفصيلات حياته؛ من ذلك مثلاً قصة "الحذاء" وقصة "الجرح في الخدّ" و "الرحلة" و "البحر"*... وغيرها من العناصر التي وجدت لها صدى في إبداعاته الفنية، فكانت القصص والروايات عندئذ مجالاً للبوح والكشف عن هذه الهواجس والتفصيلات الشخصية ولو بشكل موارب. لكن المهم ههنا هو أن راوي "البئر الأولى" استطاع أن يخلص لقراره الوارد في افتتاحية الكتاب والمتمثل في عدم تكرار ما سبق أن صاغه قصصاً ومقالات. و لعل قراءة الكتابات الأخرى لجبرا ستمكّن من اكتناه أعماق رؤيته للعالم، تلك الرؤية التي عمل على تجسيدها في سيرته الذاتية و في مختلف نصوصه الأخرى. و هذا يعني أيضاً استحالة انكتاب حياة الشخصية و رؤيتها في كتاب واحد، أو هو رفض قاطع لاختزال الكاتب في مصدر واحد فقط.

 عدّد راوي "البئر الأولى" الهوامش للتأكيد على صحّة المعلومات و واقعية الأحداث و ما لجوؤه إلى الخطاب الموازي إلاّ أكبر دليل على سعيه إلى درء كل إخلال قد ينتج عن تضخّم الوظيفتين الإخبارية والتفسيرية في ثنايا المتن. كما يدل على شدة حرصه على إحكام بناء قصة الطفولة هذه إذ لم تهيمن رؤيته ولم يطغ صوته على رؤية وصوت الطفل الشخصية المحورية في القصة.

وبهذا قلّت تدخلات الراوي الراشد المباشرة في المتن فاستطاع في نهاية المطاف، واعتماداً على إجراء الهوامش، تفادى تعطيل عملية السرد القصصي.

2."شارع الأميرات"

المقطع

الموضوعات الأساسية

الأوّل

- نشاطات الراوي الثقافية و الفنية.

- تجاربه العاطفية (لميعة و التلميذة).

- معلومات عامّة.

الثاني

- الأصدقاء الأدباء (عدنان رؤف، بلند الحيدري، حسين مردان).

- الصديق الإنجليزي: دنيس جونسون ديفيز.

الثالث

- ذكريات تتصل باهتمامه بالفن التشكيلي. لوحة "المرأة التي حلمت أنّها البحر".

- قرار السفر إلى باريس لقضاء عطلة الصيف.

الرابع

- إشارة إلى ذكريات مع صديق معماري (اهتمام بالفن المعماري).

- زيارة باريس، العودة إلى بيت لحم، مشاعره تجاه لميعة.

الخامس

- بعض الأصدقاء المقرّبين (علي كمال، حسين هدّاوي، بلقيس شرارة).

- مشاعره تجاه لميعة.

السادس

- نشاطه في مجال الفن التشكيلي (السعي مع الأصدقاء لتأسيس جمعية الفنانين).

- نشاطه الإذاعي في الإذاعة البريطانية ببغداد (الصديق علي حيدر المسؤول عنها).

- حلقة لميعة و أصدقائها آل العمري.

السابع

- الأصدقاء النحّاتون و الموسيقيون (خالد الرحّال، منير الله وردي، فؤاد رضا..

الثامن

- تأسيسه جمعية الموسيقى الكلاسيكية للطلاب، و أمسياتها.

- قرار إلغاء عقود المدرّسين الفلسطينيين. طلب الزمالة الدراسية-الأصدقاء في فلسطين.

- تفسيره لنتاجه الفني (قصة السيول و العنقاء).

التاسع

-لميعة.

-تلقي نبأ إلغاء عقد التدريس، خلفياته و نتائجه.

العاشر

- لميعة.

- الصديق الإنجليزي، المخرج السينمائي.(أوّل تجربة في مجال السينما).

الحادي عشر

- حيثيات عقد القران مع لميعة.

- الاستعدادات الأخيرة للسفر إلى أمريكا.

الثاني عشر

- رحلاته البحرية (الخامسة و الأخيرة برفقة لميعة).

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

جاءت هذه الموضوعات الأساسية، في نسيج محكم الحبك، وبعيد عن كل تفكّك أو حشو، على الرغم من صعوبة معالجتها فنياً.

وقد كان الراوي حريصاً جدا على تنظيم نصّه و ترتيب مادّته لذا سعى إلى تقسيمه بذكاء فجعل عدد المقاطع بعدد شهور السنة التي سيركز على عرض وقائعها في نصه.

لكنه لم يكتف بالسبل التي انتهجها، بل تدخّل أحياناً، تدخّلاً مباشراً في المتن، وبخاصة في المقاطع الأولى، حين كانت تحاصره الذكريات، ليصرّح كما في المقطعين الأوّل ثمّ الرابع.

"غير أنّني هنا سأركّز على خيط رئيسي واحد من خيوط كثيرة تواشجت في نسيج تلك السنة، يستحق كل منها، لو أتيح للمرء زمن لا ينتهي، متابعة خاصة لإبراز جمال النسيج الكلي وتعقيده. وهذا الخيط هو التقائي بالمرأة الأروع في حياتي، تلك التي جعلت لكل ما حدث لكلينا آنئذ، وفي السنين اللاحقة، سحراً تتمحور فيه معاني الحياة، ليس فقط كأناس وعلاقات يُغني بعضها بعضاً، وليس فقط كتجارب متواترة تعاش بكل لذّاتها وعذاباتها وتناقضاتها، بل كإبداعات أيضاً تعطي التجربة كل مرّة قيمتها العميقة، وتفرّدها الدائم."[6]

أو قوله كذلك:

" لن أتحدّث عن تفاصيل سفرتي البحرية، لأنّ لها حديثاً طويلاً آخر: فهي خيط متلألئ في نسيج تجاربي تلك السنة، و لا بدّ من تركه جانباً، ولو إلى حين لكي لا أبتعد عن متابعة الخيط الأجمل و الأشدّ بريقاً في هذا النسيج "[7].

نرى في مثل هذا التدخّل المباشر المتكرّر، إعلاناً صريحاً عن الصعوبة التي واجهت الراوي ونلمس منه شبه"استعطاف" المتلقي، كي لا يكون قاسياً في حكمه على النص و بنائه الفني.

وقد يستحقّ كل خيط من نسيج تلك السنة متابعة خاصة، لكن الراوي على علم بخطورة "التشتّت" على مشروعه الفني. و هذا ما دعاه إلى التعبير الصريح عن الصعوبة في المضي قدماً في الكتابة الفنية، دون أن "تشوّش" عليه الذاكرة بتعرّجاتها وتداعياتها.

و هنا أيضا، اتخذ راوي "شارع الأميرات" من خطاب الهوامش فضاء إضافياً للإدلاء بالمعلومات الهامّة، متفادياً بذلك تضخّم وظيفتي الإخبار و التفسير في ثنايا المتن، كما سعى إلى تحقيق وظيفته التنسيقية، المتعلّقة بإحكام البناء العام النص.

خطاب الهوامش في "شارع الأميرات"

 ورد هذا الخطاب "الموازي" في هذا الفصل السادس بخاصة (ولم يرد في الفصول الخمسة الأولى سوى مرّة، كانت في الفصل الرابع، و تعلّقت بدزموند ستيورت، الصديق الإنجليزي الذي اهتم بالقضية الفلسطينية والقضايا العربية بعامة، و ناصرها بحرارة في كل ما كتب بعد التحاقه ببغداد ص70).  

و الهوامش هي على التوالي :

- الهامش الأوّل:

يقول فيه الراوي: "من يرجع إلى قصيدتي "بيت من حجر" (في مجموعتي "تمّوز في المدينة" يجد بعضاً من هذا الجوّ، و بعضاً من الحالة النفسية التي حاولت يومئذ الإيحاء بها في هذه القصيدة و قصائد أخرى زامنتها."، (ص.114).

تكفّل الراوي بوظيفة توجيهية، فكان الهامش بمثابة دعوة ضمنية لمزاولة قراءة موازية، حتّى تتّضح الأحوال النفسية أكثر.

- الهامش الثاني:

و يقول فيه : "للتفاصيل حول الدور الذي قام به جواد سليم و "جماعة بغداد للفن الحديث"، راجع كتابي"جواد سليم و نصب الحرّية"، من منشورات وزارة الثقافة و الإعلام ببغداد، 1975"، (ص.130).

و هذه إشارة أخرى، إلى المرجع الكفيل بإعطاء المعلومات الإضافية حول الموضوع المثار في المتن.

- الهامش الثالث:

ويقول فيه: "هكذا يفضّل عدنان كتابة اسمه، رغم شيوع الصيغة الأخرى "رؤوف". وكلتا الصيغتين صحيحة."، (ص.135).

أي أنّه يفضل كتابتها كما يلي: "رؤف"، و هذا توضيح تفصيل بسيط، قد يفيد في التعريف بطبيعة شخصية عدنان .

- الهامش الرابع:

يقول فيه: "هذه الرسوم أهداني إياها، ثمّ استعارها منّي بعد سنوات لعرضها في أحد معارضه، ولم يعدها إليّ"، ص ص.144-145.

الحديث هنا عن نزار سليم، وربما قاله الراوي لمعاتبة الصديق الذي لم يعدها إليه، أو لتبرئة ذمّته! المهمّ هو أن الذكرى فرضت نفسها فأدرجت في الهامش.

- الهامش الخامس:

يقول فيه: "لكي نصدم التقليديين"، وهي ترجمة للعبارة الواردة في المتن باللّغة الفرنسية :« pour épater les bourgeois .. »  ، ص.154.

جاءت هذه العبارة على لسان الراوي و هو يخاطب السيّدة كزين، التي استدعه لحضور حفلة أقامتها في نادي العلوية الأرستقراطي. و إذا كان الراوي قد أدرجها بالفرنسية، فذلك لغايات تدليلية و فنية تحقق له الإيهام بالواقعية. لكنّه لم يغفل توضيحها للمتلقي العربي، تحقيقا لوظيفته التواصلية.

- الهامش السادس:

يقول فيه: " تحدّثت عن هذا الأمر بشيء من الإسهاب في كتابي "الاكتشاف والدهشة"، ص. 190.

يحيلنا هذا الهامش على الكتاب الذي عالج مسألة ضرورة التجديد في أساليب التعبير العربي، وحماسة الكاتب له. و هذه الإحالة دعوة أخرى للاستزادة من المعلومات حول ما لمّح إليه في المتن.

      اتضح لنا أنّ عدد الهوامش في هذا الجزء من سيرة جبرا الذاتية قليل، بالمقارنة مع ما ورد منها في الجزء الأوّل "البئر الأولى"، و نفسّر هذا الأمر كما يلي:

- "البئر الأولى" نص يشتمل على "حكايات"، وقوامه الأساسي سرد "القصص". استعار راويه بعض فنيات الرواية، كإحكام الحبكة، و التزام الترتيب الكرونولوجي، و الأساليب السردية التي أشاعتها الرواية (سرد مباشر، ومشاهد والوصف المبأر الذي لا يقطع سيرورة الأحداث و لا يعطّـل حـركـتـهـا) و لهذا اضطر إلى استخدام الهوامش، كي لا يخلّ بحبكة المتن.

- أمّا نص "شارع الأميرات"، فقد هيمن فيه الأسلوب الإخباري التقريري الحامل للمعرفة بالقياس مع نص" البئر الأولى". ولم يكن الراوي فيه ملزماً بإحكام الحبكة أو باتباع التسلسل الكرونولوجي الصارم، ممّا وسّع نسبياً، من هامش الحرية أمامه، ليدرج في المتن التفصيلات التي يريد، فقلّت عندئذ، الحاجة إلى الهوامش. 

نستخلص في الأخير أنّ نسبة الهوامش خضعت لطبيعة الأسلوب الذي اختاره الراوي لمعالجة المادة الحدثية. فحين انفتح على فن الرواية، كثرت الهوامش درءاً لكل إخلال ببناء المتن. و هذا ما لمسناه من نص "البئر الأولى".

 و حين هيمنت وظيفة الإخبار، لا القصّ، توسّل الراوي بالأسلوب التقريري، و أعطى لنفسه هامشاً أكبر من الحرية في التعبير في المتن مباشرة، دون اللجوء إلى الهوامش. لذا قلّ عددها في "شارع الأميرات".

المصادر و المراجع

1- جبرا إبراهيم، جبرا، "البئر الأولى"، بيـروت، المـؤسـسـة الـعـربـيـة للـدراسـات و النشر، ط2، 1993.

2- جبرا إبراهيم، جبرا، "شارع الأميرات"، بيروت، المؤسسة الـعـربيـة للـدراسـات و النشر، ط.2، 1999.

3- "حوار في دوافع الإبداع"، سوسة-تونـس، مـنـشـورات دار الـمـعـارف للـطـبـاعـة و النشر. 1996 (أجرى الحوارات ماجد السامرائي).

4- مجموعة من المؤلفين، "القلق وتمجيد الحياة" كتاب تكريم جبرا إبراهيم، جبرا .بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط.1، 1995.

5- Genette, Gérard, Figures III, Ed. du Seuil, 1972.


الهوامش

[1] Genette, Gérard, Figures III, ed. Seuil, 1972, p.225.

[2] لمزيد من المعلومات الرجوع إلىfonctions du narrateur.  في كتاب جرار جينيت : figures III .pp.261-264

[3] جبرا إبراهيم، جبرا، البئر الأولى، ص.256.

[4] جبرا، البئر الأولى، ص.254.

[5] جبرا إبراهيم، جبرا، حوار في دوافع الإبداع، ص.83.

* انظر دراسة خليل، محمد الشيخ، "سيرة جبرا إبراهيم جبرا الذاتية و تجلـيـاتـهـا فـي أعـمـالـه الـروائـيـة و القصصية.القلق و تمجيد الحياة.كتاب تكريم جبرا، إبراهـيـم، جـبـرا، بيروت، الـمـؤسـسـة العربـيـة للـدراسـات و النشر، ط.1، 1995،  ص.ص. 71-95.

[6] م.س، ص. 116.

[7] م.س، ص.ص. 161-162.

 

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran

95 06 62 41 213+
03 07 62 41 213+
05 07 62 41 213+
11 07 62 41 213+

98 06 62 41 213+
04 07 62 41 213+

Recherche