ضمنية الخطاب في المسرح

إنسانيات عدد 43 | 2009 | الخطاب الأدبي والديني في الفضاء المغاربي  | ص23-36| النص الكامل 

Implied theatrical discourse

 Abstract: Dramatic texts offer an opportunity for interactive discourse, iconomatic images and movement in a shifting space advocating a perfectly harmonious semiotic reading with the context, what is imagined and real in the interpretation of the text/ body through the animated subject read and imagined far from imposed types.
Each dramatic text has its own language and rhythm at its disposal characterizing it and which structures it in an interaction.
The play-wright bases his argument on what is implied, symbolic, and metaphorical to give harmony in a system of connotations which flow in the general sense of the structure, this gives the interpretation an assumed implicit sense.
Thus discourse is not conveyed by one sense, except at the moment it is accomplished by an arranging and breaking down within the frame of its presentation. It is an infinite web of what is not said and undeclared The sentence which comes to the surface and is not fulfilled, remains rooted to a restraint in the arms of silence and the actor’s cowardliness.

Keywords: implicit - explicit - theatrical discourse - interpretation - reading strategies - superficial level - ambiguity


ُEnnouel TAMEUR : Université d'Oran, Faculté des arts, de la traduction et des Arts, Département des Arts Dramatiques, 31 000, Oran, Algérie


 

إن البحث عن معنى مغاير لذاك الذي يبدو جليا، هل هو بحث مؤسس ومنطقي؟ انه أكثر من منطقي، إنه ضروري لإشباع حاجة ولوج العمق.

يمكن إدراج مفهوم الاستعمال الحرفي وغير الحرفي للغة  للوقوف عند التمييز بين ماهو جلي و ماهو ضمني في الخطاب الإبداعي، و هذه المقاربة التي جرت البلاغة التقليدية منذ أرسطو، على التمييز بينهما، كأن نقول׃״السيارة الحمراء في المرأب ״، فان الاستعمال للغة حرفي ولا يحمل إلا تأويلا واحدا لا غير، وهو وجود سيارة بلون أحمر في المرأب، وان لزم التوضيح بعض التحديد لمسار السياق أو ظروف التلفظ وأطرافه.

أما إذا قلنا : ״ ذهنك علبة سردين״ فوجود الاستعارة، و نبرة السخرية، يجعل المعنى يتجاوز الحد الحرفي إلى المجازي، ويفتح الباب على التأويل والمجاوزة.

في كتابه "ميتافيزيقا" Métaphysique يؤسس "أرسطو" الوحدة الموضوعية ״لمعنى״ الكلمات على الجوهر أو الماهية " ousia" أو كما يسميها أيضا "to ti esti".

"أعني بالمعنى الوحيد: إذا كان الإنسان يعني ذاك الشيء وإذا كان شيء من الوجود هو الإنسان، ذاك الشيء هو ماهية الإنسان".[1]

 ومن منطلق هذا التصور الأرسطي ستصبح مسألة المعنى هي مسألة الماهية. ومن ثم لكل شيء ماهية تتميز بالحضور والجوهرية.

الوجود عند ״أرسطو״، يعبر عنه بطرق متباينة، أما المعاني فهي أمثلة أو صور، لتفاعلات نفسية، وهي تلك التي تعرف اليوم بالأيقونة.

أما الرواقيون فقد ميزوا على خطى أرسطو و أفلاطون بين ״العبارة״ و״المضمون״ و ״المرجع״، كما طرحوا الإشــكـال القـائـم بين ״المضمون״ و״القول״، مقسمين ״الأقوال״ إلى ״تامة״ و״غير تامة ״.

״فالمضامين هي إذن عناصر غير مادية يتم البيان عنها بعبارات لغوية تترابط لتنتج أقوالا تعبر عن قضايا .إن ״القول״ التام من حيث هو ״تمثيل للفكر״ هو ״ما يمكن نقله عن طريق الخطاب״.[2]

تجتمع الدلالات الجزئية فيما بينها مشكلة ما يصطلح عليه بالقيمة الكلية للنص، قيمة تحدد وترقى عن الجملة إلى مرتبة أسمى هي الخطاب، وهذا الأخير يتحدد كفعل تام يتحقق من خلال وضعية يحددها مشاركون، مكان وزمان، وهنا تتحقق النقلة النوعية من علم الألسنية إلى الدراسات السيميائية فالدلالية.

يرى "دومنيك مانقينيو" أن كل خطاب يمكن تعريفه كمجموع من الاستراتيجيات لموضوع إنتاجه، باعتباره بناء مميز لعوامل، لأشياء، لملاك  ومن ثم لأحداث يقع عليها.

كما أن ״اللغة ليست إلا عملية يحد منها النظام الطقوسي واستبطانية لما هو ايديلوجي״[3]  والأيديولوجيا في حد ذاتها مرتعا للغموض واللبس إن لم نقل للتمويه والتخفي.

يرمي الخطاب إلى إحداث نشاط أو فعل في إطار نسج علاقة مع أطراف مكونة يلخصها السؤال: "من يقول ماذا و لمن و عبر أية قناة و ما الأثر؟" ويقابل ذلك التدرج التالي: القائل - القول - المقول له – القناة - أثر القول.

الخطاب المسرحي بين الوضوح و الغموض

إن مصطلح"خطاب" غير قار أو مستقر، يحوي الكثير من التغيرات إلى درجة تمنع كل محاولة التوفيق بين مختلف وجهات النظر وتوحيد وجهات النظر حول تعريف يتفق عليه جل الباحثين.        

وما يفسر هذا الاختلاف، هوأن لغوية الخطاب لا تشير فقط إلى كونه نظاما ذا موضوع محدد، وإنما هو عبارة عن مقاربات تتعايش من خلال علاقة خاصة.

ألا يحتكم النص إلى مرحلة مستبقة للفهم، حتى يفتح شهية السؤال ؟ إن تلاحم النص بالمعنى قد يسمح بوضع استراتيجية قراءة قد تبدو غريبة نوعا ما عن مساره، وأن تعذر فكه عن المجال الأيديولوجي للتأويل، قد تتباين حسب خيارات المؤول من وجودي، ماركسي، نفساني، بنيوي أو غيره.

وإن حاول التأويل المواربة ونفي صبغة الخلفية الفكرية فإنه يظل محافظا على أحكامه المسبقة المتوارية وراء النسخ المعيارية لضوابط نقدية تدعي الموضوعية والعلمية.

إن الحد الميتافيزيقي، الذي وقف عنده المفهوم الغربي للغة، بدءا من ״دوسوسير״ مؤسس على مفهوم الدليل المنشطر إلى ثنائي متباعد : "الدال" و"المدلول"، في حين يغطي مفهوم الضمني تلك الحلقات المفقودة من الخطاب    و يجيز استقراؤه من زوايا متعددة ومتباينة، إلا أن للضمني شروطا وأطرا تدير ضمنيته وتحدد مستوياته.

يرافقنا هذا الوعي القائم بوجود معنى أكثر عمقا مما يتيح به الفهم الأولي والسطحي، في إعادة فك كودات الخطابات الأدبية التي تحيلنا إلى مستويات عدة لفك الشفرات وإعادة صياغتها من جديد مثل ماهو عليه الحال في التعابير المجازية، الاستعارة، الأسلوب الهزلي.. الخ. ناهيك عن أفعال الكلام والتضمينات الموجودة في الحوار العادي اليومي، التي تؤسس للعلاقات البراغماتية بين الأفراد.   

أرسى ״أوغست كونت״ ما يسمى بقانون الحالات الثلاث وهي :

- الحالة اللاهوتية أو الخيالية

- الحالة الميتافيزيقية أو المجردة

- الحالة العلمية أو الوضعية.[4]

وذلك لأجل حصر و تفسير مسار واتجاه العقل الإنساني الذي يتجلى عبر جسوره اللسانية واللغوية.

و قد تطور الأمر على يد كل من ״سبربر״ و ״ولسن ״في حقل التداولية وأمست القضية خاصية للقول وليست خاصية لغوية، إذ تتحول كل من الأقوال الحرفية وغير الحرفية في نظرهما إلى أن تكون ״وصفا للكون كما هو أو كما يتمناه المتكلم، أو تمثيلا لفكرة منسوبة إلى شخص آخر أو لفكرة يرغب فيها القائل لهذا السبب أو ذاك. ״[5]

لا يختزل الخطاب في الجملة التي تكونه، كما أنه بالرغم من تمتعه ببنية خاصة فإن ذلك لا يجعل منه كينونة مستقلة عن الواقع والسياق، لا يعتقه نهائيا ولا يجعل المتلفظ حرا في اختيار أية بنية لجملته.

و حينما تحاصر الذات بين الإنكار و الرؤية الذاتية، يتعذر بناء هوية ثقافية ملتحمة، مما يدفعنا إلى ضرورة اعتماد إستراتيجية المؤول التي تميل أكثر إلى ترجيح كفة العقلاني.

و عليه فكل قراءة نقدية للإبداع المسرحي هي معايشة لمعارف و أدوات مفاهيمية، وفي الوقت نفسه، إذ يحاول نص أن يرتقي إلى مستوى الإبداع        و التجديد، دون أن يذوب في آلية مجحفة، جامدة المفاهيم و التصورات النقدية الجاهزة، بلا مشرط جراحة، ولا اختزال ولا تحوير، للخطاب الإبداعي، إنها لذة قراءة نص مسرحي أو مشاهدة عرض فني على الركح.

دأبت الكتابة النقدية المعاصرة على التضحية بالذات، لأجل توخي الحياد في شكل موضوعية ذات منزع علمي، من خلال طرح "غريماسي" رياضي حول عالم البحث عن الدلالة من خلال إمكانية إنتاج معنى، إذ يؤكد״غريماس״ أن إشكالية طريقة ظهور نماذج للنظام هي الوقت نفسه مرتبطة بمستويات ميتالغوية وهي على النحو التالي :  

- المستوى الضمني: كل تجلي أسطوري أو تطبيقي يتطور كخطاب، يحوي ضمنيا نماذجه الخاصة المنظمة.

-المستوى الجلي جزئيا : وهو حال الترجمات الطبيعية، الأيديولوجيات والميتافيزيقي والتي وإن ظهرت بشكل غير مجازي على مستوى الجلاء السيميائي، فإنها تحافظ نوعا ما على الوضوح .

-المستوى الجلي : و يعدّ هدفا للوصف السيمنطيقي للمظهر.[6]

ولأجل استيعاب المسار الشاق الذي فصل مابين جهود ״مونتاني״Montaigne والمنظرين الحاليين، يكفي التأمل في سيميائية ״غريماس״ حول المفهوم العام للصدق .

فمربع الصدق Le carré de la véridiction  يضع الصدق كمحور ربط بين ״الذات״ و״الظاهر״ التي تتحقق على حالة ايجابية للمربع بالمعاكسة مع الخطأ، وهنا يتم الربط بين عدم الظهور non-paraître وعدم الوجود non-être المتواجد على حالة إشارة  سلبية.

و الصدق لا يعكس الضمني من اللغة، ولا ظروفه الأساسية للوجود المتواجدة في موقع متعالي، إنه فقط لأجل علاقة تحقق التماثل.

״ ويعد التماثل أو التشابه معطى بالنسبة إلى سبب الانتقال الاستعاري الذي يستند إلى علاقة تماثلية بين المقارن والمقارن. ״[7]

وقد حرص الباحث "روبير مارتان" على التمييز مابين التضمين واللبس، من خلال رسمين يوضحا الفرق، مركزا على خصوصية التقاطع :

 

״ فالتضمين استقرأ من ناحيته تأويلات جديدة موجودة في التقاطع، لكن يعود التأكيد في التضمين على التقاطع في ذاته، بينما يعود التأكيد في اللبس على هذه أو تلك من التأويلات الممكنة. ״[8]

التأويل في المسرح

و ما يثير التأويل ليس السؤال ״ماذا يقول المخاطب؟״ ولكن السؤال: " كل فعل كلام يحوي ثلاثة أوجه في السياق الحالي، لماذا يقول المتكلم ما يقوله؟

 إن التأويل يحمل استفهاما حول التلفظ وليس حول الملفوظ. إن التقابل بين شكلي الضمنية اللذين هما الافتراضات والأقوال المضمرة يمكن تلخيصه بما يلي: فعل الافتراض آني، سابق غير متفرع، بينما الفعل المحقق عن طريق القول المضمر فعل متفرع.

والمسرح الحديث هو مرتع لإستراتيجية الخطاب الضمني، وإن كان الكلاسيكيون الفرنسيون يلحون على وضوح العبارة وجلائها، فإن "موليير" على سبيل المثال وليس الحصر كان يخرج عن القاعدة بما تقذف به شخصية الخادمة  "دورين" في مسرحية "طرطوف" في تهكمها من السيد "أراغون" أوالمراوغ "طرطوف"، سخرية مطعمة وزاخرة بالتضمينات.

كما أن النظام الإيمائي للتمثيل يفتح الباب على مصراعيه لقراءات زاخرة للخطاب الضمني، وربرتوار مسرح العبث ولاسيما عند بيكيت و يونسكو، زاخرا بالأمثلة، ضف إلى ذلك علامات الصمت و الكثير من الحركات المواقع الجسدية التي تبوح بأكثر ما تبوح به اللفظة.

و تلعب الديدسكالية الأولية في المسرح، دورا مهما في تحديد المكان، الفترة، وحتى الظروف العامة للفعل، كما توضح الخشبة و تموقعها كركح للتلفظ. و هذا الحيز المنشأ اصطناعيا هو مجال للمتخيل ينتمي للإبداع الذي يخضع بدوره لشروط المواضعة التي تبيح وتؤسس لمرجعية الواقع مهما كانت قوة وقدرة الإيهام. ومن هنا نخلص إلى أن الحقيقي على المسرح لا هو صحيح ولا خاطئ، إنه شيء آخر غير هذين المستويين .

ومن ثم يتحقق التغريب في مقابل الواقع وبالمقارنة مع العلاقات المتوقعة والمتفق عليها التي تنشئها اللغة في تعاملاتها العادية مع الواقع.  

ويمكن الاستعانة ببعض التيمات المحددة لأفق الضمني في المشهد المسرحي   و هي كالتالي:

  • المقول وغير المقول، و عليه فإن " خطاب الشخصية لا يقول كل شيء. إنه يتجنب بذلك ذكر ما هو واضح لدى المخاطب. فلا تذكر إلا العناصر التي تبدو وثيقة الصلة بالحوار ولذلك فان أخذ غير الملفوظ بعين الاعتبار تنبثق عنه أسئلة مدهشة."[9] و دون يمسي حوار الشخصيات نوع من الزخم اللغوي، فيه الكثير من التكديس والحشو.
  • الصمت، من ناحيته هو بنية مشكلة للنص "إنه هو الذي يسمح بإنشاء إيقاع للتلفظ وهيكلة القطائع الخالقة للتوتر الدرامي. ويكون تارة معبرا عنه (إرشادات، نقطة التشويق، تعيينات نصية)، وتارة يترك لحدس الممثل والمخرج المسرحي".[10]

 إنه مساحة تقاطع ثلاث رؤى متباينة، أولهم رؤية المبدع الكاتب، ثم الرؤية الركحية الخاصة بالمخرج، فتأويل المتلقي لهذا الزخم من اللامصرح به.

فالصمت في المسرح مساحة لاستقراء المسكوت عنه، إنه حاضر مثله مثل التلفظ، يشار إليه في الإرشادات الركحية، أو بعبارة لأحدى الشخصيات.

أما ״لسبربر״و ״ولسن״ فقد ميزا مرحلتان في تأويل الأقوال:

  • مرحلة ترميزية،
  • مرحلة استدلالية.

باعتبار أن اللغة لديهما هي عبارة عن ״تمثيل المعلومة وتمكين الأفراد بواسطة التواصل الكلامي - وغيره- من تنمية مخزونهم من المعارف (...) يهدف كل نظام معرفي (...) إلى أن ينشئ لنفسه تمثلا للكون يمكن إغناؤه في كل حين.״[11]

ويتحقق ذلك من خلال مفهوم المناسبة الذي يدخل في إطار الجهد الضروري المبذول لبناء السياق.

الفكرة و اللغة المسرحية

و بعكس الفكرة التي تومئ الى أن اللغة تفيد التواصل أي إيصال المعلومات، فإن"أوسوالد ديكرو" Ducrot Oswald يقترح مفهوم "المسلمة" أو" الافتراض" الذي "يعني قبول وضع هذا الأخير كشرط لحوار لاحق (..) باعتباره فعلا كلاميا خاصا لأنه ذو قيمة قانونية، وبالتالي لغوية (..) فعند تحقيقه نغير في الوقت ذاته من إمكانيات الكلام عند المتخاطبين."[12]

و عندما تتحقق علاقة استدلالية يستشف كنهها المتلقي، من خلال توظيف للجملة يسمح بإمكانيات خاصة تدخل وتلتزم بقوانين الخطاب، ومن ثم يتحدد تأويل الأقوال المضمرة على مستوى الحديث(الخطاب) لا الكلام ذاته.

إنه يتجلى داخل اللغة في شكل ترسانة قوية، متشابكة من القوانين والأعراف اللغوية، يعمل على تأطير وتنظيم الحديث لدى الأفراد. وهي حسب "ديكرو" شكل من أشكال الضمني" تسمح بقول شيء وتعمل في نفس الوقت على جعله لم يقال. "[13]

فما يهم الباحث هو ما يتعلق ب"الضمني"، ما نقوله دون التصريح به.

ويمكن تلخيص تصور "ديكرو" من خلال المخطط التالي[14]:

- ميتاقاعديMétarègles - : - إنه يحكم قانون الوجود، ويفصل في مصداقية القول أو خطئه. إذا قلت: "بمحفظتي زرافة"، نعلم أنه يستحيل تواجد الزرافة بحجمها حية أو ميتة  بالمحفظة.

- اشراك  Implication: انطلاقا من واقع الحياة، أقول: "نسيت نقودي "، يقتضي : " ليس بحوزتي دينارا".

-غير المصرح به: أحمد لا يكره التدخين

-المصرح ب:أ حمد يحب التدخين

-الافتراض المسبق: واصل أحمد التدخين

يفترض أن أحمد كان يدخن من قبل.

" تتمثل الحركة الفكرية المنتجة للقول المضمر فيما يلي:

 (إذا كان (س) اعتقد أنه من المستحسن أن يقول (ق) فإنه يفكر في (ل)، فيكون (ل) بالتالي نتيجة حتمية. فإذا قال أن الوضعية سيئة، وقد اعتاد على إعطاء أخبار حسنة، فإن الوضعية حقا سيئة."[15]

و عندما أقول : إني أفعل شيئا، ليس فقط  إخبار الآخر برغبتي في المعرفة، إنني أجبره على الإجابة، نتبادل أدوارا محددة سلفا، عندما آمر، أعد،.. كلها أفعال تدخل في اطار اقامة علاقات بين الافراد، من خلال جهاز من التواضعات والقوانين، منظمة للخطاب.

ويتفق هنا ״ديكرو" مع "أوستين" الذي يسميها "الانجازية" الظاهرة في الملفوظ بصفتي "الاصطلاح" و"التصريح" عكس القيم التأثيرية المتغيرة التي ترتبط بالمستوى الضمني. ״إن التماسك النصي يعتمد على معايير مثل الايزوتوبيا والترداد والاشتراك الافتراضي التي تمارس وظائفها داخل النص نفسه بعيدا عن كل تغيير في الوضع.״[16]

ويعدّ الانجاز المسرحي أي الكلام تحقيقا لمبادئ الخطاب الضمني، فالعملية قائمة على مبدأ البوح والتعبير داخل نسق يحدد المسار العام للأحداث، تتورط فيه الشخصيات من خلال ما يقولون، كما يتورطون من خلال ما يفعلون.

وشروط تجلي الأقوال المضمرة مرتبط بقوانين الخطاب:

"الشمولية"، "الإخبارية"، "الإفادة"، التي تحدد مسار "الحجاج".

و في نفس الإطار، يتوسع "ديكرو" إلى ما يسميه "روابط الحجاج"، مثل: "إذا كان"،"إلا أن"، "أجد أن"، "حتما"، "زد على".. الخ، ضف إلى ذلك "منظمات مكانية" مثل:"يمينا"، "يسارا"، "الأمام"، "في المؤخرة"، "تحت"، "فوق"..الخ.

هذه كلها، تلعب دورا في توضيح كينونة النص المسرحي على المستوى الاستيعابي أو السينوغرافي،  من حيث وضع إشارات توجيهية للممثلين أو لتوضيح التماسك العام للحدث المسرحي.

كما يوظف "ديكرو" من ناحية أخرى، مصطلح"اقتصاد الوصف الدلالي" الذي يحيل إلى تأخير ظهور التباس في المعنى. "إن مفهوم إضمار المعلومات وطيها إذ أخذ كفئة لقضايا مستنتجة(...) أمكن تعميمه انطلاقا من معلومات تصورية إلى معلومات واقعية حتى ولو كان من الصعب جعل الحدود الفاصلة بينها دقيقة الوضوح.(...) و تتأسس هذه الاستنتاجات لا على معرفتنا بالدلالات الوضعية المتفق عليها في اللغة، بل على معرفتنا بالعالم."[17]

كما يتأسس هذا الإدراك لما يحيط بنا على أرضية انطلاق تأويلنا للأمور وتجلية الضامر ووضعه أمام علاقة محددة القواعد والسنن لأجل استثمار علاقة الضمني بالجلي، ولأجل استظهار الدلالات في صورة الواضح والمدرك، كما يتأمل إدراكنا للمحيط مع هذه الأرضية.

و كثيرا ما يوظف "تيرانس" "صفات التفضيل":

ا- تفضيل السمو: بإضافة إلى جذر الصفة: Ior للمذكر، والمؤنث

   المحايد: ius لا مذكر ولا مؤنث.

 أكثر علما، أجمل، أكسل، أشجع  

ب. المقارن بالتساوي أو بالدونية

المقارن بالتساوي: "بمثل"، "نفس"

+الصفة tam

بمثل علمك  Tam docus 

المقارن بالدونية: أقل

+الصفة  minus 

أقل علما   minus doctus 

 ج- المقارن بتوظيف: أكثر-كفاية-أكثر مما ينبغي

أكثر  redibo

كفاية  sum

أكثر مما ينبغي  est

 سأكون أكثر علما doctior redibo  

 أنا عالما كفاية doctior sum

 إنه قاس جدا saevior i"[18]

هذا الشغف "بالمقارنة، محاولة عن قصد أو عن غير قصد، موازاة وضعية الكاتب "الجديدة"[19] بالمحيط الذي يعيش فيه، إنه دائم البحث عن تأكيد هذا "التوازي" إن لم نقل"التفاضل، كلمات عالقة، راسبة في وعي الكاتب مثل"البيع"، "الشراء"، "الأسير" تتكرر مرارا في حوارات الخدم، يقول "بارمينون" لسيده" فيدريا" : Parménon: أي قرار! لا يوجد سوى واحد لأسير مثلك، هو أن تشتري ذاتك بأفضل ثمن، إذا لم تستطع فبثمن مقبول، ولا تترك نفسك تنهك"[20].

كما يتحول الخطاب إلى المستوى الضمني حينما تتوسع الفجوة التي تجمع بين ״التحديد״و״المسخ״ في المشترك بين إطار غياب السياق المرسل والمتلقي.

و لا مجال لانفتاح مداركنا عن العالم إلا باستقبال الإحالات اللاظاهرية      و اللاوصفية للخطاب أو ما يسميه ״ بول ريكور ب״إحالات الأداء الشعري״، إذ يقول: ״(...) إن الأمر يعود إلى ما تحت كل بداية، كل أصل arché: إن "لا قول" الأصل يسمى لا – أصل an-archie (فوضى). إن استذكار الكائن المدعو للحضور يعود كذلك إلى المغالاة، وهو ليس الوجه الآخر لأي نشاط. ״[21]

نقف أمام نص يتمنع، يرتدي زيا فضفاضا يحيلنا إلى لون أو شكل قد نستسيغه لأول مرة، إلا أنه سرعان ما يتراءى لنا زيفه، هل هي تموجات للألوان والظلال، أم رقع يداري ظهورهما و يموههما.

فهوية النص، تتشكل من خلال تأويل للوجود في اللغة وعن طريق اللغة، وفي نفس المستوى، توجد منطقة اللاتحديد، وهو شرط أساسي للتواصل، يتجلى في المضمرات والتضمينات ومظاهر الاستهزاء و وكل ما هو إيحائي، مشكلين المعنى المزدوج أو المتعدد المفتوح.

و في هذا الصدد تقر الباحثة ״ كربات-اوريشيوني״C.Kerbat-Orecchioni ، أنه " اذا كانت الكفاءة اللغوية تسمح باخراج المعلومات حول التلفظ الداخليintra-énonciatives (المتواجدة في النص)، تظهر الكفاءة الموسوعية، كمستودع واسع للمعلومات عن ماهو خارج التلفظ extra-énonciatives الحاملة للسياق، مجموع معرفة و معتقدات، نظام تجسيدات، تأويل وتثمين للعالم المرجعي (...) حيث يجد جزء منها فقط نفسه معبأ من طرف عمليات التشفير."[22]

الخلاصة

إذن شهد الخطاب المسرحي في نهاية القرن العشرين، تحديثا لجملة من المفاهيم الثابتة، التي احتلت الصدارة دهرا من الزمن، مرجحة كفة القراءة العمودية المتسائلة، المتعمقة في أعماق النص، عن القراءة الأفقية المعيارية التي تحتكم إلى خارج النص.

كانت القراءة التحليلية الصرفة، تحمل في طياتها مخاطر التقنية التي لا ترى في النص سوى مساحة للتدريب على آليات التحليل النصية والسردية. وهكذا تحولت القراءة إلى مرتع لخطاب جاهز ملصق للأثر، يحضر الأول في تشكله وتبلوره المسبق ويغيب الثاني، كون أن بلوغ درجة من الاستقراء لنص ما مرحلة الفهم الكامل، هو من باب المستحيل، فهناك دوما قدر من الضياع ونسبة لا متناهية من الغموض والملتوي، تختلج صدر الإبداع وتحيله إلى صومعة تتمنع.

قائمة المصادر والمراجع

قائمة المصادر

مصادر بالعربية

-اوزوالد ديكرو / جان ماري سشايفر، القاموس الموسوعي الجديد لعلوم اللسان (طبعة منقحة)، ترجمة د. منذر عياشي، الدار البيضاء – المغرب، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية، 2007.

مصادر بالفرنسية

Goelzer, Henri, Dictionnaire Français –Latin, Hachette Education, France, Juillet 2002.

Térence, Théâtre complet,  préface de Pierre Grimal, Editions Gallimard, 1971

قائمة المراجع بالعربية

قاري، محمد، سيميائية المعرفة المنطقية-منهج و تطبيقه، القاهرة-مصر، مركز الكتاب للنشر، الطبعة الأولى، 2002.

قائمة المراجع المترجمة

- أمبرتو ايكو، السيميائية وفلسفة اللغة، ترجمة د أحمد الصمعي، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، نوفمبر 2005.

- آن روبول- جاك موشلار، التداولية اليوم – علم جديد في التواصل، ترجمة د. سيف الدين دغفوس- د. محمد الشيباني، لبنان،المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، 2003.

- ريكور، بول، الذات عينها كآخر، ترجمة وتقديم وتعليق د.جورج زيناتي، المنظمة العربية للترجمة، لبنان، توزيع مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، نوفمبر 2005.

الحداوي، طائع، سيميائيات التأويل - الإنتاج ومنطق الدلائل-المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء –المغرب، الطبعة الأولى، 2006.

دايك، فان، النص والسياق-استقصاء البحث في الخطاب الدلالي والتداولي، ترجمة عبد القادر قنيني، أفريقيا الشرق، بيروت-لبنان، 2000.

مارتان، روبير، في سبيل منطق للمعنى، ترجمة وتقديم : الطيب البكوش -صالح الماجري، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، 2006.

قائمة المراجع بالفرنسية

Cousin, Victor, De la métaphysique d’Aristote –Suivi d’un Essai de traduction du premier et du douzième livres –Chapitre Premier, Paris, Ladrange, 2 édition, 1838.

Ducrot, O., Dire et ne pas dire, Hermann, 1997.

Germdhait, Henriette, Article –Département d’études Française de l’université de Toronto 1998/2004 In www .linguiste.com

Greimas, A .J., Sémantique structurale. Langue et Langage, Larousse, 1966.

Kerbat- Orecchioni, C.A., L’implicite, Paris, A. Colin, 1986.

Maingueneau, Dominique, Initiation aux méthodes de l’analyse du discours, Paris, Hachette Université, 1976.

Pruner, Michel, L’Analyse du texte de théâtre, Paris, Nathan, 2001.


الهوامش

[1] Cousin, Victor, De la métaphysique d’Aristote, Suivi d’un Essai de traduction du premier et des douzièmes livres, Chapitre Premier, Paris, Ladrange, 2ème édition, 1838.

[2] امبرتو ايكو ، السيميائية وفلسفة اللغة، ترجمة د احمد الصمعي،  بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية،الطبعة الأولى، نوفمبر، 2005، ص.79

[3] Maingueneau, Dominique, Initiation aux méthodes de l’analyse du discours, Paris, Hachette Université, 1976, p. 147.

[4] ينظر: الحداوي، طائع، سيميائيات التأويل، الإنتاج ومنطق الدلائل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى، 2006، ص. 46.

[5] روبول، آن و موشلار، جاك، التداولية اليوم علم جديد في التواصل، ترجمة د.  سيف الدين دغفوس و د. محمد الشيباني، المنظمة العربية للترجمة، لبنان، الطبعة الأولى، 2003، ص.187.

[6] Greimas, A.j., Sémantique structurale. Langue et Langage, Larousse, 1966, p.137.

[7] ديكرو، اوزوالد و سشايفر، جان ماري، القاموس الموسوعي الجديد لعلوم اللسان (طبعة منقحة)، ترجمة د. منذر عياشي، الدار البيضاء، المغرب، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية، 2007، ص.527.

[8] مارتان، روبير، في سبيل منطق للمعنى، ترجمة وتقديم الطيب البكوش، صالح الماجري، بمساهمة البشير الوهراني،المنظمة العربية، بيروت، لترجمة، توزيع مركز دراسات الوحدة العربية،الطبعة الأولى، 2006، ص.ص. 218-219.

[9] Pruner, Michel, L’Analyse du texte de théâtre, Paris, Nathan, 2001, p.103.

[10] Ibid, p. 104

[11] روبول، آن و موشلار، جاك، التداولية اليوم، علم جديد في التواصل، ترجمة د. سيف الدين دغفوس   و  د. محمد الشيباني، ص.ص. 77-76.

[12] Ducrot, O., Dire et ne pas dire, Hermann, 1997, p. 91.

[13] Ibid, p.23.

[14] Voir Article de, Germdhait, Henriette, Département d’études Française de l’université de Toronto, 1998/2004, (In) www.linguiste.com.

[15] Ducrot, O., Op-cit, p. 132.

[16] مارتان، روبير، في سبيل منطق للمعنى ، ترجمة وتقديم الطيب البكوش و صالح الماجري، ص.300.

[17] دايك، فان، النص والسياق، استقصاء البحث في الخطاب الدلالي والتداولي، ترجمة عبد القادر قنيني، أفريقيا الشرق، بيروت، لبنان، 2000، ص. 160.

[18] Voir, Goelzer, Henri, Dictionnaire Français – Latin, France, Hachette Education, Juillet 2002, p. 332

[19] هذا افتراض يدعمه وضعية "تيرانس" (ولد "تيرانس" في حدود 190 ق.م بقرطاجة، وان بقي بعض التردد في إعطاء تاريخ ثابت لميلاده؛ توفي بروما سنة 159 ق.م، عن عمر لا يتجاوز 25 سنة) كخادم أسير من شمال إفريقيا اعتق في شبابه، وضعية حاول بكل قواه أن يمحو كل اثر لها، ولاسيما انه تربى في بيئة جمعته بأبناء السيناتورات، مما دفعه إلى التثبت بشكل مرضي بطبقة يعترف بفضلها عليه.

[20] Térence, Théâtre complet, préface de Pierre Grimal, Editions Gallimard, 1971, "Eunuque", Acte Premier Scène I, p.81.

[21] ريكور، بول، الذات عينها كآخر، ترجمة وتقديم وتعليق د.جورج زيناتي-المنظمة العربية للترجمة، لبنان، توزيع مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، نوفمبر 2005، ص.ص. 621– 622.

[22] Kerbat-Orecchioni, C., L’implicite, Paris, A. Colin, 1986, chapitre IV, p. 162.

 

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran

95 06 62 41 213+
03 07 62 41 213+
05 07 62 41 213+
11 07 62 41 213+

98 06 62 41 213+
04 07 62 41 213+

Recherche