المسرحية الواقعية في الجزائر. "الهارب" نموذجا

إنسانيات عدد 46 | 2009 | ألسنة وممارسات خطابية | ص83-100 | النص الكامل 


Realistic theatre in Algeria. The “El Hareb” example

Abstract:  El Hareb” is one of the famous Algerian writer Tahar Ouettar’s plays which marks a psychic philosophical turning belonging to realism.
This play aims at showing the hierarchical conflicts experienced in Algerian society at the early independence period of its contemporary history. This text shows that the author was an intellectual before his time, having the gift of foreseeing this hierarchical conflict which Algeria experienced after independence, knowing that Algeria adopted a socialist regime following independence, declaring war on the bourgeoisie and capitalism.

Keywords: drama - play - conflict - characters - time - space.

Laïd MIRAT : Maitre de Conférences, Faculté des Lettres, Langues et Arts - Université d'Oran


 مقدمة

تلجأ المسرحيات الاجتماعية إلى توظيف بعض الشعارات والمفاهيم التقدمية للحث على تغيير المجتمع. كما أن هذه الشعارات تسهم بشكل أو بآخر في تشكيل البناء الدرامي للعمل المسرحي. ومن المسرحيات التي سارت في هذا النحو: "الهارب" للطاهر وطار، و "في انتظار نوفمبر جديد" للجنيدي خليفة، و"الانتهازية" لمحمد مرتاض، و"اللعبة المقلوبة" و"السر" لأحمد بشوشة. وبالرغم من أن هذه المسرحيات تشترك في عدة معالم، في كونها تطمح إلى التعبير عن مضمون اجتماعي واحد مستوحى من الواقع، غير أنها لا تكتفي بالنقد من خلال عرض المشكلة الاجتماعية، بل تتعدي ذلك إلى الغوص في جذور المشكلة واقتراح الحلول والدعوة إلى ضرورة التغيير الثوري لتصفية المشكلات التي تعوق مسيرة المجتمع نحو التطور.

الحدث في مسرحية " الهارب "[1]

تقع مسرحية "الهارب" في أربعة فصول، ألفها صاحبها سنة 1961، أيام إقامته بتونس، وتعتبر التجربة الثانية في مجال التأليف المسرحي بالنسبة للمؤلف[2]. يبدأ الحدث في هذه المسرحية، داخل زنزانة السجن مباشرة حيث نشاهد السجينين "الصادق" و"إسماعيل"، ويبدو هذا الأخير متوتر الأعصاب. ومن خلال ما يجري بينهما من حوار نتبين الأسباب التي سجن من أجلها "الصادق".

أنه قتل خطأ، لقد كان يرمي إلى هدف إنساني على حد تعبيره. لم يستطع مقاومة تلك الحاجة الماسة إلى المال ليخفف على نفسه وطأة الحياة القاسية، والرغبة الملحة في أن يرى نفسه لابسا، ممتلئ البطن، يركب سيارة، ويملك  مسكنا كغيره. غير أنه وجد الأبواب مسدودة في وجهه وفرص السباق حالت دون طموحاته ولم يجد مسلكا إلى ذلك سوى السرقة والقتل.

كل ذلك يجري، وإسماعيل غارق في التفكير. لقد حير "الصادق" بصمته الرهيب وهذيانه، الذي لا يفقه منه شيئا. وبينما هو يسأل "إسماعيل" عن قصته إذ بالساجن يدخله ومعه شلة من السجانين، يقودون "الصادق" إلى غرفة التعذيب لإضرابه عن العمل. ويبقى "إسماعيل" بمفرده يتحدث إلى نفسه في منولوج طويل، تتكشف من خلاله معاناته، وما هو قادم عليه، لقد حسم ذلك الصراع الذي بات يؤرق مضجعه. وقرر أن يختصر الطريق إلى الموت وفضل الانتحار عن الخروج من السجن. لكن يكتشف أحد السجانين تلك المحاولة قبل فوات الأوان، ويحضر المدير الذي يبدي استغرابه من هذا الأمر. ويدفعه فضول جارف لمعرفة قصة هذا الشخص الذي يسير بنفسه إلى حتفه في اليوم الذي سيحصل فيه على حريته ويفرج عنه. فيأخذه إلى مكتبه، حيث إبنته "راضية" وزوجها، ليستمع الجميع إلى قصة "إسماعيل".

ويبدو "إسماعيل" في الفصل الثاني، وهو يروي قصته، في حوار مع "الأنا" وهو شبح يخيل إليه ويحاوره. ويحاول الشبح صد "إسماعيل" عن الانتحار عندما أراد أن يطلق الرصاص على رأسه بعد أن سئم الحياة واكتشف تفاهة وجوده وعدم جدوى بقائه، فراح يبحث عن أسهل السبل ليخلص نفسه من العذاب. ويتدخل الشبح مرة أخرى ليتهمه بالجبن والمرض، عندما يعجز "إسماعيل" عن تنفيذ ما اعتزمه. إنه شخصية مترددة لا موقف لها... ترفض كل شيء سوى الغبطة والركض وراء المادة وقد توفرت له كل أسباب الراحة، الفيلا والسيارة، والمال... وبالرغم من ذلك فهو لا يشعر بالسعادة ولا بالانسجام مع المجتمع.

ويثبت "إسماعيل" عجزه عن اتخاذ القرار وتردده مرة أخرى عندما يواجه خيانة صديقته التي كان ينوي الزواج منها. لقد شاهدها بنفسه مع "توفيق" في المقبرة وهما يتعانقان. و"توفيق" مناضل شيوعي انقطع عن الدراسة في الجامعة حيث تعرفت عليه "صفية" في قسم التاريخ، ليتفرغ للنضال السري. كان يحقد على "إسماعيل" ويستهدفه، لأنه ينظر إليه على أنه رواسب متعفنة، تسمم المجتمع الذي يجب النضال لتحطيمه، فيقول لصفية "أنه دودة عمياء، يستهلك تركة أبيه، ويدفعه الفزع من نفاذها إلى القلق والاضطراب، برجوازي حقير لا تهمه سوى اللذة والراحة...إن لم يختبل، فسيوظف ما تبقى بين يديه من المال لاستغلال عرق الآخرين...هذا هو...صورة مصغرة لطبقة لعينة"[3]  و هدف "توفيق" من مغازلة "صفية" وتقبيلها هو إقناعها بالانضمام إلى الحركة لتنخرط في النضال والقيام ببعض المهام التي قد يعجز عنها الرجال. هذا ما تفهمه "صفية" وينطلق بها خيالها حالمة بذلك الجو النضالي الذي صوره لها "توفيق" وجعل منها بطلة مثالا للفتاة المثقفة التي امتزجت أحلامها بالنضال الثوري. ومن هنا تعده مبتهجة بالانضمام.

ويقف "إسماعيل"عاجزا عن مواجهة ذلك الاضطراب والتردد المتسلط عليه، فلا هو بمقدوره أن ينتقم من "توفيق" و"صفية"، لاسيما وأنه سمع ما دار بينهما من حوار بشأنه، ولا هو يملك الشجاعة كي ينتحر. ومن هنا يجد الشبح ثغرة ليقنع "إسماعيل" بتأجيل الانتحار بعد انتقامه من "صفية"، وينصحه بالسير والتكيف مع التيار الذي يدفعه، في حياة المتعة واللذة ما يجعل الإنسان ينسى نفسه. ومن ثم يصمم "إسماعيل" على البحث عن فتاة أخرى تنسيه "صفية"، فيولي الأمر إلى الخادمة العجوزة.

تدور أحداث الفصل الثالث في المكان نفسه –غرفة إسماعيل-حيث تحضر الخادمة برفقة الطلب، وتستأذنه بإدخال الفتاة، ويفاجأ "إسماعيل" بأنها "صفية". لكن تلك الصدفة لا تستدعي استغرابا ذا بال، إذ سرعان ما تتحول التساؤلات إلى عناق وعتاب واعترافات...وتصرح له إذاك أنها حامل منه فلا يصدقها.

وننتقل إلى الفصل الرابع حيث نشاهد إسماعيل في المحكمة بعد أن اشتكاه والد "صفية"، فحكمت عليه بالزواج منها. لكن المحامي ينصحه بالاستئناف ورفض الزواج. فيما يظل هو شاردا بفكره، لا يعرف ما يلوي عليه، فتقبل عليه "صفية" بعد فراغ المحاكمة. ويتبين مما دار بينهما من حوار أنهما لا يزالان متمسكين ببعضهما. فيأخذها إلى مسكنه وشبح الانتحار يلاحقه، فيطلع حينئذ "صفية" على ما هو قادم عليه، ولا يجد ثمة صعوبة في إقناعها بضرورة انتحارها وقد تسرب اليأس إلى نفسها أيضا، ولم تعد ترى مبررا لوجودها. تقول مستسلمة "لم يبق للحياة طعم ...أتمنى لو أنني غير موجودة".

فيجيبها "إسماعيل" اتفقنا إذن !! هيا ! ينبغي أن نريح أنفسنا من الحياة حالا...ها هي الطريقة التي سنستعملها...نتعانق وخلال ذلك تطلقين النار على نفسك ثم أفعل ذلك بدوري"[4]. ولما تعجز "صفية" عن ذلك يتناول المسدس ويقتلها. ولكنه لا يستطيع أن ينتحر بعدها. وتنتابه ثورة جنونية ويصيح: يجب أن أموت! ويقضي بذلك مدة عشرين سنة في السجن لارتكابه جريمة قتل.

يغمى على "إسماعيل"، وهو يحكي قصته، نتيجة تأثره، ويفيقه من إغمائه دوي انفجار تعقبه أصوات تهتف من الخارج تهتف: "تحيا الاشتراكية...تحيا الثورة" معلنة بذلك انتصار القوى الشعبية. ويدخل "توفيق" مع بعض الرفاق من بينهم الصادق - زميل إسماعيل في الزنزانة سابقا – وقد تحول إلى مناضل، ليقودوا العملاء الثلاثة إلى الساحة الشعبية لمحاكمتهم. ويتضح من كلام توفيق أن "راضية" في الحقيقة كانت رئيسة المخابرات الأمريكية. وكان والدها مدير السجن وزوجها يساعدانها بمدها بالجواسيس من المساجين، أما "إسماعيل" فيرجع إلى مثواه الأول، إلى الزنزانة، حتى تصنع مدارس إصلاح الأخلاق البورجوازية على حد تعبير توفيق.

إن المسرحية تسخر بحدة مرة وقاسية من الطبقة البورجوازية التي يمثلها "إسماعيل" أحسن تمثيل. وتبدو هذه الطبقة غارقة، في متعة الحياة واللذة. وهي بذلك تقترب من نهايتها، لأن الأسباب الموضوعية والمعنوية التي كانت تستمد منها مبررات وجودها، وتمدها بالطاقة والحيوية أصبحت منعدمة. ولم يعد هناك أمل في الحياة، وكابوس الثورة، وانتشار الوعي الاجتماعي والسياسي ما انفكا يهددان كيانها وقد غدت محاصرة من جميع الجوانب، بتلك الجماهير الشعبية التي هبت للنضال لاسترجاع حريتها وتخليص الفئات الكادحة من الاستغلال، ضد البورجوازية التي باتت تشكل خطرا على مصلحة البلاد ومستقبلها.

إن المضمون الرئيسي الذي تطمح المسرحية إلى تحقيقه يتسم بالطابع الاجتماعي والسياسي، يقوم على تصوير تفسخ الطبقة البورجوازية، وانهيار نظامها المتعفن، من خلال صراعه مع القوي الشعبية. لقد أصبحت عاجزة عن تحقيق الانسجام مع الحياة ومواكبة الظروف التاريخية المستجدة في المجتمع وما يزخر به من تحولات وتغيرات تهدف إلى تحرير الفرد من الهيمنة والاستغلال. وتفسر المسرحية عدم انسجام تلك الطبقة وتدهورها بتسرب جرثومة الفساد إلى جسدها فتعفنت أعضاؤها وتعطلت وظائفها، وبالتالي، أضحى زوال نظامها نتيجة مؤكدة وحتمية.

هكذا وجدنا إسماعيل المثقف البورجوازي متفرغا للهو والمجون وتبذير تركة أبيه، عاجزا عن الدخول في الحياة مدخلا سليما. وهو إلى ذلك فاشل في عمل أي شيء. ليس بمقدوره أن يتخذ أي قرار أو أن يلتزم بأي موقف. بينما يبدو "توفيق" المناضل الاشتراكي، قوي الإرادة، قادر على أن يعيش الحياة بمرها وحلوها. انقطع عن الجامعة لينخرط في التنظيم السري. وتوصل إلى استدراج فتاة أحلام إسماعيل وإقناعها بالانضمام إلى التنظيم.

وموقف المؤلف من هذا الواقع، وما يجري فيه من صراع واضح لا سيما عندما تقترن أزمة البورجوازية وقرب أجلها بمسألة الاستقلال لأنه ثمة علاقة وطيدة بين هذه الطبقة والوجود الاستعماري. فهو الباعث على نشوئها وتبلورها حيث أنه كان في حاجة إلى عملاء يسخرهم لخدمة مصالحه، فكان لزاما عليه أن يجعل منهم طبقة متميزة بمستواها المادي. و لما كانت الثورة لا تضع تحرير الوطن هدفا نهائيا، وإنما تتجاوز ذلك إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة باتخاذ الاشتراكية كنظام اجتماعي سياسي، فإن ذلك يعني أن مصالح تلك الطبقة، هي الأخرى، آيلة إلى الاندثار.

طبيعة الصراع الدرامي في المسرحية

إن المسرحية ترتبط بالواقع ارتباطا وثيقا، و تمثل المرحلة التاريخية التي كان يجتازها المجتمع تمثيلا صادقا. و تجلى ما يعج به المضمون من قضايا تمس الواقع مباشرة، كما أنها تكشف عن العلاقات المتناقضة القائمة على الصراع الطبقي. وقد عبر عنه المؤلف بتوظيف بعض المفاهيم والشعارات التي كان يعلنها الأفراد بوصفه أسلوب لحياتهم، داعيا بذلك إلى التغيير الثوري وفسح المجال أمام الطبقات الكادحة لتقود مسيرة النضال والبناء.

يقوم موضوع المسرحية على تصوير الصراع القائم بين أفراد المجتمع، وهؤلاء الأفراد ينقسمون إلى قسمين، ينتمي كل منهما بما حدد له المؤلف من أبعاد فكرية واجتماعية، إلى طبقة معينة. وبذلك يصبح الصراع طبقيا. يتجلى في الصدام القائم بين "توفيق" الاشتراكي و"إسماعيل" البورجوازي. و يحاول الأول التصدي له والانتقام منه لأنه يرى فيه إنسانا مستغلا ظالما، ينبغي القضاء عليه.

وإلى جانب هذا الصراع، ثمة صراع آخر داخلي يتمثل في صراع "إسماعيل" ضد الشبح الذي يتخيله ويحاوره، ويكاد يكون هذا الشبح مسؤولا على كل تصرفات الشخصية وسلوكها.

إن جوهر الصراع في هذه المسرحية، هو الصراع الداخلي الذي يستكن في أعماق عقل "إسماعيل"، وهو قائم بين الموت والحياة، أي بين إصرار الشخصية المحورية على الانتحار والتخلص من معاناتها عن طريق الموت، وبين تمسكه بالحياة لما فيها من لذة ومتعة وسعادة. و يتجلى ذلك في سلوك "إسماعيل"، إذ تصوره المسرحية رجلا غريبا في تفكيره مضطربا في مواقفه، متهورا في تصرفاته، وهي تذهب إلى أبعد من ذلك، لتجعل منه شخصية سلبية لا تستطيع أن تنجز شيئا. و حتى قتله لصفية لم يكن من باب الانتقام وإنما كان أمرا قد اتفقا عليه.

و يتم الحدث في الفصل الأول داخل الزنزانة، قبل أن تحدث التفرقة بين السجينين "الصادق" و"إسماعيل"، وقد انتهت مدة هذا الأخير. و ندرك من الحوار الجاري بينهما أن "إسماعيل" يرفض الخروج من السجن. لقد فضله على الانتحار ووجد فيه – مؤقتا – مهربا من الحياة التي يأبى العودة إليها. ويحاول "الصادق"، عبثا، إقناع زميله بعدم صواب رأيه، لكن "إسماعيل" يتشبث بموقفه قائلا: "و أنا أرفض أن تحرق الأشياء من طبيعتها، إن القرار الذي اتخذته بعد تجارب واضح لا غبار عليه، ويجب أن ينفذ كما أردته ...و ألا يخرج عما رسمته له من طريق وإن كانت المحكمة حسمته وحددته فإنه بوسعي أن أقول لها: أنت مخطئة لم تفهميني قط"[5].

البعد الواقعي للشخصية الدرامية

ويهيئ المؤلف الشخصية للتطور، عندما ينتقل الصراع من الخارج إلى داخل إسماعيل، لما يخلو إلى نفسه، إنه غير راض عن قرار خروجه من السجن ويتحدى المحكمة التي أصدرت الحكم والمجتمع الذي تمثله. إن ذلك الحكم الصادر ما هو سوى تشويه لحكم أصدره على نفسه منذ أمد بعيد. حكم أبدي لا رجوع فيه. لكنه لم يجرؤ على تنفيذه وقد حانت الفرصة لذلك. هذا ما كشف عنه المنولوج في المسرحية.

و يضاعف من هذه المعاناة ذلك الحس المأساوي المترتب على تفكير إسماعيل في اختيار أسهل سبيل لخلاصه، بعد أن أصبحت خدعة السجن التي كلفته سنين طويلة من الآلام والعذاب دون جدوى، فالهروب إلى السجن ليس حلا. والمسألة إذن لا زالت تحتاج إلى موقف ينهي تلك المهزلة. على أن الرأي يقتضي اختصار الطريق ومن ثم لا مناص سوى الانتحار.

وقد استثمر المؤلف التقابل بين مواقف الشخصيات ليثري الفعل الدرامي والجانب الفكري. وجلى ذلك من موقف "الصادق" اتجاه "إسماعيل" أولا، ثم موقف المدير بعد ذلك، وهما يسعيان إلى إقناعه بالخروج، بينما يرفض "إسماعيل" ذلك، ويحاول بدوره شرح موقفه، راجيا من المدير، الإفراج عن الصادق بدلا منه.

والحركة الفكرية تكاد تكون سمة سائدة على الحوار في المسرحية، غير أن الصراع يمضي داخليا ويتسم بالعمق ولا يرتد إلى خارجها لما يبدو من توتر وتمزق نفسي للشخصية بين أطراف الصراع.

و يمتزج الصراع الداخلي في هذا العمل بالصراع الخارجي، ويسير معه جنبا إلى جنب مشتركين كلاهما في جوهر المسرحية، إلا أن الصراع الداخلي يبدو أكثر غلبة وأعظم شأنا على الحدث الدرامي. و هذا النمط من الصراع الذي يتميز بالعمق والداخلية هو القوة الملهمة في تطور النزال القائم في أعماق عقل البطل، حيث أنه لم يعد نزالا بين البطل وقوة خارجة عنه، أو بين الواجب والحب ولكن بين عاطفة وعاطفة أو بين فكرة وفكرة. ولا يخضع البطل في تصرفاته إلى سلطان العقل. على أن العمق والداخلية هما خاصيتان من خصائص المسرحية الرومانسية[6].

إن هذا النمط من الصراع الداخلي يمثل مرحلة متطورة من تاريخ الفن الدرامي، ويتجلى في أعظم صورة في مسرحيات عصر "إليزابيث" التي كانت أول مسرحيات ظهرت فيها صورة الصراع الداخلي إلى جانب الصراع الخارجي، على أن النمط الأول هو الذي يمثل جوهر المسرحية ويقوم عليها الحدث.ونذكر على سبيل المثال مسرحية هاملت لشكسبير. فالصراع يقوم بين "هاملت" والشبح، ثم بين هاملت وكلوديوس، إلا أن جوهر  الصراع في المأساة يرتكز في أعماق عقل هاملت نفسه وليس خارجه[7].

و يرتبط "إسماعيل" فيما يخوضه من صراع خارجي بالشبح، الذي يتخيله، وهو وسيلة درامية يوظفها المؤلف لغرضين، أولهما رسم الشخصية من الداخل وتحديد أبعادها النفسية. وأما الثاني، فيقوم بتعميق الصراع الداخلي والكشف عما يضطرم بداخلها من توتر. ويتجلى هذا عندما تحاول الشخصية الانتحار، فيتدخل الشبح ليصدها عن ذلك، يقوم ثمة نقاش طويل بينهما، نتوصل من خلاله إلى إقناعه بالعدول عنه الانتحار، أو تأجيله على الأقل، حتى ينتقم من "صفية"، كما أن الشبح يبدو متفائلا في إقناع "إسماعيل" بذلك، لأنه يدرك تمام الإدراك بأنه لن ينتحر، ولن يجرؤ على ذلك. لقد تعودت نفسه على التخاذل حتى عدمت المقدرة على المجابهة لديه. فهو لم يستطع أن يجابه الحياة،      و بالتالي لن يستطيع أيضا أن يجابه الموت.

هكذا وجدنا إسماعيل وقد جعل لذلك الصراع، وحسم الموقف الذي إتخده منذ عشرين سنة، وهو يخاطب مدير السجن  »تحدثني يا سيدي كما لو كنت "أنا"، لكن "أنا" مات...قتلته...أبعدته عن الحياة« . و يعني هذا إن ذلك التزاوج في الشخصية قد اختفى باندماج الوجهين حيث لم يعد "للأنا" سلطان أو مجال لمزاحمة عقل إسماعيل في إتخاذ قراراته، لذلك يقدم على الانتحار في الزنزانة قبيل الإفراج عنه، مجابها الموت دون أي خوف أو تردد، ويكاد يلقى حتفه لولا تدخل السجان.

و بما إن إسماعيل شخصية محورية في هذا العمل، فإن المؤلف قد أولاها عناية كبيرة في الرسم والتصوير، باعتبارها تمثل جانب البطولة فيه، ومركز الثقل الذي تدور حوله الأحداث وتقوم عليه. هذا إلى جانب بعض الشخصيات الأخرى مثل "صفية" و"توفيق" اللتين تأتيان في المرتبة الثانية. و مع ذلك فهما شخصيتان أساسيتان تشاطران المحورية في البطولة، أما باقي الشخصيات فهن ثانوية ينحصر دورها في تقديم الأبطال، والكشف عنهم/ وفي الربط بين الأحداث خلال الفعل الدرامي.

وإذا كان البناء الدرامي لهذه المسرحية الاجتماعية يسير في الاتجاه الرومانتيكي، فقد حاول المؤلف أن يستوفى له عناصره الأخرى، من حيث بناء الشخصية وإدارة الحوار.

إن المسرحية تقدم لنا بطلا من الناس العاديين يناضل في مجال له أبعاده ودلالته، ولا شك أن هذا يرتبط بما نادى به الرومانتيكيون حين أعلنوا ثورتهم على القواعد التقليدية لفن المسرحية. فلقد عنيت الدراما الرومانتيكية بالشخصيات على اختلاف طبقاتها؛ على أن تكون كل طبقة محددة في بعدها الاجتماعي. وكان أغلب الأبطال في مسرحيات هذا الاتجاه من البورجوازيين ومن الطبقة الوسطى. كما اهتمت أيضا بتخصيص الحدث بما يسمى باللون المحلي، السياسي والبيئي للأحداث ليمثل بصورة واضحة معالم المجتمع المتناول في المسرحية[8].

و قد قدم المؤلف من معالم الشخصية العديد من الصفات التي تحدد أبعادها وتكشف عن دوافع تصرفاتها، فلا يكاد ينتهي من الفصل الأول حتى ندرك سبب إصرار "إسماعيل" على الانتحار وموقفه وطبيعة كفاحه ضد المبادئ الحياتية المعادية له.

 لقد أصبح بإمكاننا فرز وضع الأبطال من بداية الحدث، وتحديد طبيعة الصراع القائم بينهم، والتعرف على الشخصيات التي تحمل قيما اجتماعية متعارضة، ولا يمضي الحدث في المسرحية صعدا في شكل أحداث خارجية متسلسلة، بقدر ما يمضي غالبا في شكل صراع نفسي وشعوري ينضج في داخل "إسماعيل" كاشفا عن أبعاده النفسية. وما يلاحظ على الصراع أنه يبدأ من الخارج، عندما تدرك الشخصية تناقضا خارج الذات المتصل بالمجتمع، وما تؤمن به وهو "الحرية الفردية" في الحياة. إن اصطدام الشخصية بالمجتمع الناتج عن تعارض الموقفين أحدث لها انتكاسة. وأصبحت عاجزة عن مواجهة الواقع أو الاندماج في التيار الجديد. و يمثل هذا الجانب، خاصية من خصائص الشخصية قد كشف عنها ذلك التردد والاضطراب في سلوك  »إسماعيل« .

و إذا كان الصراع وسيلة درامية، تعمل على تصاعد الحدث إلى نهايته فقد شكل النهاية المأساوية للمسرحية حيث كان رد فعل قويا عند "إسماعيل" في هذه المرة، و يبرز ذلك، لاسيما حين نقارن بين خارج الذات وداخلها. و من هنا كان اعتزامه على الانتحار بدافع اختصار الطريق بعد أن اكتشف أن الهروب إلى السجن خدعة ضحك بها على نفسه.

و نخلص بعد ذلك إلى أهم أبعاد الشخصية، فالمسرحية تصور"إسماعيل" شابا وسيما، مثقفا، له من المزايا ما تجعله يستهوي قلوب الفتيات.

و علاوة على ذلك فإنه وريث الغنى والجاه. وبهذه الصورة يتحدد لنا الانتماء الطبقي للشخصية وإطارها الاجتماعي. إذ هو إنسان بورجوازي يمثل طبقته بكل أبعادها ودلالتها.

أما البعد النفسي للشخصية، فينعكس من خلال سلوكها وتصرفاتها، وما يمكن أن تتخذه من دلالات تكشف عن طبيعة الشخصية وتكوينها الفيزيولوجي والفكري. ذلك أن هذا البعد هو حصيلة للبعدين السابقين (الفيزيولوجي، والاجتماعي)، وهذه الأبعاد "لا قيمة لها إلا في إطار القدرة الفنية التي يربطها رباطا وثيقا بنمو الحدث والشخصية لتحقق وحدة العمل الأدبي أو وحدة الموقف وتوتره وغزارة معناه، وفي تجسيم هذه المعاني في نتائج حتى لا يخرج من دائرة الاحتمال، ولا استغلال لبعد عن البعدين الآخرين في المسرحية"[9].

و إذا كان تركيز المسرحية يقتضي أن يكون تصوير الشخصيات واضحا لا يكتنفه غموض، فإن ذلك معناه أن المؤلف الدرامي مضطر عند خلق شخصياته إلى مراعاة التبسيط كي يكسب عمله قدرا من الجودة، إذ هناك العديد من المسرحيين الذين تجاوزوا هذه القاعدة وقدموا لنا شخصيات مسرحية على درجة كبيرة من التعقيد. و مع ذلك فهي من أشد الشخصيات سحرا وجاذبية بما تثيره من تفسيرات مختلفة في أذهان القراء والمشاهدين[10].

ونشير في هذا الصدد إلى أن شخصية "إسماعيل" على الرغم من وضوحها، تظل شخصية معقدة مركبة من حيث البناء، لا يتأتى فهمها إلا بتحليل سلوكها من خلال علاقاتها بالمجتمع ونظرتها للعالم، وإجلاء جوانبها الخفية المستحكمة في تلك العلاقات. على أن بناء تلك الشخصية يطابق في الأسلوب، بناء الشخصية في الاتجاه الرومانتيكي، "فالبطل في البناء الرومانتيكي نفسه يفهم حاجته إلى التأمل على إنها شيء ما محدد مسبقا من قبل قوة ما مسيطرة وموجودة خارجه"[11]. هكذا كان "إسماعيل" يشعر بتميزه في أية علاقة لكونه بورجوازيا ينتمي إلى طبقة تمثل الصفوة في المجتمع. وهو إلى ذلك ينظر إلى المسألة على أنها أشبه ما تكون بلعنة حكم عليه بتحمل آلامها، لا يملك الآخرون عنها أي تصور، فينتابه عدم الشعور بالرضا والجزع، ولا سيما إذا اقترن يقينه بقرب إفلاسه نتيجة استهتاره وعبثه.

إن التردد والاضطراب النفسي اللذين يترائيان على سلوك الشخصية ناتجان عن عجزها على المجابهة، ويأسها من وجودها. لذلك صمم "إسماعيل" على الهروب إلى الموت عن طريق الانتحار... و ما هذا في الواقع إلا نوع من التمرد على المجتمع، ورفضه لمفاهيمه وعلاقاته المستجدة، بعد أن أصبح الانسجام مع العالم الخارجي أمرا مستبعدا ومستحيلا، مما أضفى على الحدث جوا تراجيديا من خلال نضال الشخصية المفجع وهي تسير إلى مصيرها المؤلم[12].

و قد ضاعف من ذلك، الصراع الداخلي الذي أفرزته العلاقة القائمة على التناقض بين العالم الداخلي للبطل، ونظرته للعالم الخارجي. فهذه العلاقة هي التي تشكل جو ما  هو تراجيدي في الدراما الرومانتيكية، وتحقق بالتالي، للبطل ملامحه الرومانتيكية. ويسعى المؤلف إلى الكشف عن جوهر المأساة الحقيقي من خلال تجسيد "هوة العداء المستحكم التي تفصل بين البطل والواقع الذي يحيط به، والتي تعتبر سمة مميزة لبطل أي عمل من أعمال التيار الرومانتيكي، هذه الهوة تتحدد وبالدرجة الأولى بواسطة الصفات والخصائص الذاتية للبطل الرومانتيكي وحسب حاجته الطبيعية للتأمل والتحليل، وللتحليل الذاتي"[13].

يعتبر "توفيق" بما يمثله من أبعاد، شخصية مقابلة "لإسماعيل" باعتبارها تمثل طرفا ثانيا في الصراع. وقد وفق المؤلف في رسم الشخصية بتركيز وإيجاز، من خلال تركيزه على مقوماتها، والكشف عن ولعها بالنضال السري الذي يشوبه الكثير من الأحلام والخيال، وحقده المبالغ فيه على "إسماعيل" البورجوازي، ثم استعداده للتضحية من أجل مصلحة الوطن. إن "توفيق" في العمل، يمثل فئات الشعب الكادحة التي اختارت طريق النضال الاشتراكي، وهدفها القضاء على البورجوازية. وينظر "توفيق" إلى هذه الطبقة على أنها تجسد مرضا في المجتمع ينبغي استئصاله. وهي إلى ذلك تمثل خطرا على حاضر الوطن ومستقبله، ليس من حيث أنها قطاع استغلالي فحسب، وإنما بوصفها نقطة إستراتيجية في نظر الامبريالية التي تسخرها في الحفاظ على مصالحها في العالم كله.

كما يمكننا أن نلخص حياة الشخصية، فإذا ما ارتبطت بعلم التاريخ - باعتبار "توفيق" طالبا في معهد التاريخ- كشفت عن البعد الفكري لها، وإذا ما اقترنت بالنضال الاشتراكي كطريق للخلاص، وخلاص "توفيق" نفسه يكمن فيما يحتدم في عقله، عن حاضره  و عن استعداده للتضحية، رغم إدراكه لخطورة المسلك "وقد يلقى علينا القبض، وقد يموت أحدنا في الطريق، قبل ذلك اليوم، وقد نعيش قبل ذلك تلك اللحظات التي عاشها "روبرت" و"ماريا" في قصة "لمن تقرع الأجراس" بل وقد لا يكون عملنا كله في نتائجه. سوى تلك القصة الرائعة...صفية، ما أروع أن تمتزج أحلام المثقف بالنضال الثوري، حيت تمتد الأبعاد، وتتسع الآفاق، وتجد خلجات الضمير الإنساني، منذ فجر التاريخ نغمات سنفونية رقيقة تتكسب فيها لذيذة مسكرة "[14].

ويجلي هذا الكلام الذي يوجهه "توفيق" إلى "صفية" محاولا إقناعها بضرورة الانضمام إلى التنظيم السري، مدى إيمانه بفكرة النضال الثوري لتحرير الشعوب كما يكشف عن اطلاعه، وهو دارس التاريخ، على حركة الشعوب نحو التحرير عبر التطور التاريخي للمجتمعات البشرية.  ورغم تذمره من الواقع الذي يسعى إلى تغييره، يبدو متفائلا في تصويره "لصفية" مخاطر الثورة والنضال، وسعادة الانتصار، بكلام كثير من الخيال والأحلام الرومانتيكية.

ويمكن  أن تكون "صفية" رمزا وظفه المؤلف لإبراز أحد الجوانب السلبية للطبقة البورجوازية التي نقوم على الاستغلال في أبشع صوره وقسوته، وجفافه من الإنسانية، وبذلك فإن "صفية" ضحية من ضحايا سلوك "إسماعيل" البورجوازي الذي توصل إلى تحويل هذه الفتاة الجامعية إلى عاهرة تلف على البيوت انسياقا للمادة. لقد أغراها بماله وسيارته، وخدعها بالزواج فخضعت له واعتنقت أفكاره. و حين تخبره بأنها حبلى منه يرفض الزواج منها في البداية. فإذا ما أصبحت هذه الوسيلة – صفية – تجمع بين رمز الاستغلال والحقيقة في كون الفتاة تعاني ظلما وإذلالا لكرامتها، فإنها بذلك تتحول إلى وسيلة خصبة للتأثير الدرامي بفكرة العدل والتغيير الثوري الذي تبناه "توفيق" وأصبح يرى فيه السبيل الوحيد لتخليص المجتمع منه.

إن هذا التوظيف الرمزي "لصفية" يؤكد حرص "توفيق" وإصراره على تطهيرها وإنقاذها، إذ يفضلها مناضلة متحمسة على أن تكون عاهرة ضائعة، لذلك يدفعها إلى قطع صلاتها بـ"إسماعيل" وغيره من البورجوازيين طالبي المتعة، وتخلصها منهم. ومن هنا تتكشف موقف "توفيق" الثوري وحرصه على تطهير المجتمع من هذه الطبقة الاستغلالية.غير أن "صفية" شخصية ضعيفة عاجزة عن اتخاذ القرار، فأصبحت غير قادرة على اتخاذ موقف بالرغم مما أظهرته من إذعان لتوفيق، إذ سرعان ما انطفأ حماسها وعادت لتجمعها الصدفة من جديد "بإسماعيل" عن طريق الخادمة التي  تعودت التردد بها على البيوت.

ويوحي الحوار الذي دار بينهما وبين "إسماعيل" في الفصل الأخير، بالتناقض الجلي في تفكير الشخصية وسلوكها، ويكشف في ذات الوقت عن دوافع اضطرابها وترددها الذي أدى بها إلى اليأس من الحياة. و من ثم الأقدام على الانتحار، إنها لم تعد ترى فرقا بين تفكير كل من "توفيق" و"إسماعيل" ورؤيتهما للحياة، فالأول يرى وجوب فعل التغيير وضرورة النضال الثوري لإصلاح ما فسد، والثاني ينظر إليها على أنها تجسد الشر كله ينبغي التخلص منه. و في الواقع إن اقتناعها بالانتحار لم يكن إذعانا "لإسماعيل"، وإنما جاء بعد تفكير عميق توصلت من خلاله إلى إقناع نفسها بتفاهة وجودها وتذمرها من الحياة ولم تعد ترى سبيلا لخلاصها سوى الموت.

و يقودنا الحديث عن "صفية" إلى أن أن عودتها إلى "إسماعيل" التي تتم في المنظر الثالث من الفصل الثالث كانت أمرا مفاجئا. وإذا كان الكاتب قد وفق إلى حد بعيد- كما رأينا سابقا – في التوظيف الرمزي لهذه الشخصية التي أصبحت ثرة بالمعاني، فإنه لم يعن هنا بالتمهيد لظهورها من جديد على مسرح الأحداث بعد اختفائها، لذلك بدا لقاؤها مع "إسماعيل" الذي توسطت فيه الخادمة، من قبيل الصدفة. فالخادمة في اعتقادها أنها أحضرت له فتاة بناء على طلبه، و قد اعتادت أن تقودها إلى غيره، دون سابق علم بعلاقتهما.

ثم أن عنصر المصادفة هنا واضح، لأن الكاتب لم يبرر دخول "صفية" من جديد في صراعها مع "إسماعيل" بأسباب منطقية وفنية، ليتجنب بعد ذلك عودتها المفاجئة، ما أحدث خللا في البناء، وارتباكا في التسلسل المنطقي لأحداث المسرحية.

و مهما يكن من أمر فإنه يمكن اعتبار نتيجة هذه المفاجأة نوعا من التحول الذي يعد من أنجح الوسائل الدرامية في تحصيل التأثير المقصود من المآسي بما فيها من تضاد ومفاجأة. و يذكر "أرسطو" "أن كل مأساة تنطوي على تحول: أي انتقال من السعادة إلى الشقاوة، أو العكس... لأن التحول يقتضي سرعة الانقلاب مما يجعل المرء أمام إحدى حالتين متعارضتين: سخرية الأقدار، أو المفاجأة"[15].

و قد يبدو هذا التحول مقحما على المسرحية، ولا يضفي على تطور الأحداث أو تطور مواقف الشخصيات شيئا جديدا. فعلى الرغم من تعرف "إسماعيل" على سلوك "صفية" -خطيبته- المتمثل في تماديها في خيانته، فإنه يظل متمسكا بها ويواجه بشدة إلحاح "الأنا" في الانتقام منها. كما أنه يصارحها بحبه لها، لأنها على الأقل تحقق له شيئا من المتعة وتبعث في نفسه الاغتباط بين الحين والآخر[16]. وهكذا يكتفي "إسماعيل" بلومها وعتابها دون التفكير في الانتقام منها.

وفي الواقع أن عنصر المفاجأة –هنا- كان أمرا اضطراريا من الكاتب، لجأ إليه لأكثر من غرض. و يتمثل الغرض الأول في التمهيد للوصول بالمتلقي لذروة المسرحية، وذلك بعد أن تتم محاكمة "إسماعيل" أثر رفضه الاعتراف ببنوته للجنين الذي في أحشاء "صفية"، ثم تراجعه المفاجئ الذي استتبعه على الانتحار.

أما الغرض الآخر فيتمثل في مواجهة "صفية" لا "إسماعيل" بعد وصولها، حيث أثبت من خلال موقفه اتجاه "صفية"، سلبية سلوكه، وعجزه الكامل على التصدي لمشكلات الحياة وظروفها ويضمنها خيانة خطيبته. بينما كشفت "صفية" من خلال ما دار بينهما من حوار عن تناقضه فيما كان يحاول دوما إقناعها به من أفكار.

طبيعة لغة الحوار في النص الدرامي

ولما كان "الطاهر وطار" يقصد إلى صنع دراما ذات تناول فلسفي، تعالج قضايا إنسانية تاريخية واجتماعية وأخلاقية، وتدعو إليها، فإنه لجأ إلى تشخيص الفكرة بأشخاص عديدين، يمثلون قطاعا كبيرا من المجتمع على إختلاف فئاته وطبقاته الاجتماعية، وهم إلى ذلك يجسدون قيما اجتماعية متعارضة، وباحتكاك الشخوص يتولد الصراع ويقوم ثمة نقاش وجدال تحاول كل شخصية، من خلال، شرح موقفها والإفصاح عن أفكارها ومنطلقاتها.

وتبرز طبيعة اللغة المستخدمة في هذه المسرحية الطابع الفكري الذي أضفاه المؤلف على حواره. وقد اعتمد في ذلك على التقابل والازدواج بين مواقف الشخصيات التي رأيناها تختلف في اتجاهاتها وميولها الفكرية. ومن خلال تلك العلاقات الدرامية القائمة على التناقض وتفاعلها، يتدفق الحوار كاشفا عن سريان الحركة الفكرية و اطرداها عبر المسرحية كلها. و يتضح ذلك من خلال المعجم الموظف الذي تشكله تلك الألفاظ التي تبرز أحيانا مواقف الشخصيات المتناقضة، وإن كانت في الواقع تجسد المضمون الفكري الذي يهدف إليه المؤلف بهذا العمل. ونذكر على سيبل المثال: الانقلاب، الانعناق والتحرر، الإنسان، المجتمع، الحياة والموت، الوجود و العدم، اللامبالاة و النضال، الحسن والقبح، الخير والشر، النبل والانحطاط، الشيوعية والبورجوازية.

وهذه الألفاظ بما لها من ظلال وإيحاءات، قد استثمرها المؤلف فيما يدعو إليه من تغيير ثوري والقضاء على كل مظاهر الاستغلال والاضطهاد، كما أن معجم المسرحية يشكل بصورة واضحة القضايا التي يعني المضمون بمناقشتها على المستويين المحلي المحدد والإنساني العام، والتي يعد الكثير منها شعارات للمرحلة السياسية والاجتماعية التي عاشها المجتمع خلال فترة الخمسينات والستينات.

ولعل ما تتميز به لغة "الطاهر وطار"، إنها تنزع إلى الأسلوب البسيط بعيدة عن التكلف والصنعة، كاشفة عن مقدرة لغوية وفنية. وقد طعم المؤلف لغته ببعض العناصر التي تمثل إيماءات شعرية لتحقيق بعض الشاعرية، وهذه غالبا "ما يلجأ إليها كتاب المسرحية النثرية لتطبيق قدر من الشعر لمسرحياتهم يعلون به من الجانب الدرامي"[17]. و بذلك فقد استطاع أن يحكم حواره ويحسن إدارته ليكون وعاء مناسبا لما تطرحه المسرحية من أفكار.

 و علاوة على ذلك فقد راعى فيه بعض الخصائص الفنية، في بناء الجملة الحوارية، حتى لا يخرج –الحوار – عن وظيفته الدرامية.

و ما يلفت الانتباه هنا، طول الجملة الحوارية التي تكاد سمة سائدة على الحوار: والغرض من ذلك هو الإقناع بالقضايا الفكرية التي يطرحها النص، ويتجلى ذلك في حوار الشخصيات الأساسية، إذ يطول الحوار، ويتخذ  أبعاده الفكرية، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالأفكار التي يدعو إليها حيث نجد الجملة الحوارية تتسع لمهمة الإقناع والبرهنة، و"بذلك يصبح الحوار وبناؤه بناء لغويا دراميا من أهم وسائل الكاتب لبناء المسرحية ذاتها"[18]. و هكذا تسهم لغة الحوار المحكمة البناء في الكشف عن ماضي الشخصية وحاضرها، وعن مكوناتها الفكرية والاجتماعية والنفسية، والجوانب التي أذكت الصراع. و يتجلى ذلك من الحوار الذي دار بين "صفية" و"إسماعيل" في الفصل الرابع قبيل إقدامها على الانتحار. إذ سرعان ما يرتد ذلك الصراع ليستكن داخل الشخصية بغية تصوير داخلها وسبر أغوارها، وإذا كان كل من طرفي الموقف السابق يحاول أن يؤكد، تفاهة الحياة وعدم جدوى التغيير ومن ثم ينبغي التخلص منها عن طريق الانتحار، فإن إدراك كل منهما للحدود التي تنتهي عندها قدراته ووسائله لتحقيق فكرته، تكشف حقيقة إنسانية عامة هي ضعف الإنسان، وهو يواجه ذاته في عجز وضعف.

ونخلص من ذلك إلى أن البناء في هذه المسرحية، بناء مركز على داخل الشخصية المحورية، ويحاول سبر أغوارها، والكشف عن أعماقها، وإبراز تمزقاتها. و من هنا يصبح نضج الصراع وتطوره داخل الشخصيات أكثر من خارجها وتبدو غلبته على الحركة المسرحية واضحة. ومثل هذا الصراع نجده في المسرحيات ذات البناء الرومانتيكي.

إن الحبكة في هذا البناء متسعة أو مزاوجة بين قصتين تتقاطع فيما بينهما لتشكل الحدث الرئيسي لهذا العمل. كما خرج الحدث بهذه السمات على الوحدات الكلاسيكية، وتعددت وسائله الدرامية من استرجاع وتصوير دقيق لتطور مشاعر وأحاسيس الشخصية، الذي يتطلب التلوين في المكان ومجالا متسعا من الزمان[19]. و تمثل المسرحية، بهذه الصورة، خروجا صريحا عن الشكل التقليدي، باعتمادها على التلوين في المكان الذي تمثله مناظر المسرحية المختلفة حيث تجري الأحداث بين الزنزانة ومكتب المدير وبيت "إسماعيل" والمقبرة، ثم المحكمة.

أما وحدة الزمان، فكان طبيعيا أن تمتد هي الأخرى، لتشتمل حيزا كبيرا. إن المسرحية تصور الشخصية وتغوص في حياتها لتعرض مراحل تطورها عن طريق الاسترجاع، حتى تصل بنا إلى السجن من حيث بدأ الحدث في الفصل الأول. فتعلم أنه قضى عشرين عاما، ونقدر بعدئذ أن الزمن الداخلي للمسرحية ينيف عن المدة الزمنية التي قضاها "إسماعيل" في السجن، ابتداء من شروعه في الانتحار للمرة الأولى، في الفصل الثاني، ومحاكمته لرفضه الزواج "بصفية"، ثم ارتكابه الجريمة، ثم إقدامه على الانتحار حين علم بقرب الإفراج عنه.

وما تنبغي الإشارة إليه في هذا الصدد، يتمثل في الطابع التجريدي الذي أضفاه المؤلف على الزمان والمكان. و لا شك أن ذلك يرتبط ارتباطا وثيقا بمضمون العمل والهدف الإنساني الذي يطمح إلى التعبير عنه الذي يكسب هذا العمل خصوصيته التاريخية والاجتماعية. وما يؤكد ذلك المستوى الإنساني العام لمضمون المسرحية ويحقق شموليتها هو عدم وقوفها عند حدود الواقع الذي تنهض بتصويره، حيث أن المؤلف ينطلق من واقعه جاعلا منه أرضية ليتجاوزه بعد ذلك دون أن تنحصر دعوته في النطاق المحلي أو العصر الذي ينتمي إليه. ومن هنا نقرر أن دعوة المؤلف إنسانية عامة تهدف إلى تحرير الفرد من ربقة البورجوازية الاستغلالية، ومناهضة الإمبريالية العالمية.

بذلك استطاعت المسرحية أن تطرح قصة الصراع بين القوى التقدمية والقوى الرجعية، فقدمت صورة للواقع العربي، وصورت علاقته بالقضية وطبيعة ارتباطه بها، وذلك في نظرة كلية، ترى الظواهر في نسقها، وتقف على أسبابها، وتبصر خلال ذلك القوى الإيجابية، وتؤمن بدورها الفعال في النهوض بالتغيير.و بالرغم من أن المسرحية تنطلق من الواقع وترتبط به، وتستمد منه مادتها وموضوعها، لكنها تضطر إلى قطع الخيوط التي تربطها بعناصر ذلك الواقع ربطا مباشرا، فلا تسمى المكان، ولا تحدد الزمان، وإنما تلجأ إلى التجريد والرمز.

غير أن ما يؤخذ على أسلوب التجريد الذي لجأ إليه الكاتب، أنه أضفى على الأحداث شيئا من المبالغة في تصوير تناقضات الطبقة البورجوازية وسلبيتها. كما ترتب على ذلك أيضا إفقار البيئة وإهمالها، فإذا بالشخصيات تتحرك في أماكن لا معالم لها، ولا دلالات.

و كذلك أدى الأسلوب التجريدي إلى اعتماد المسرحية على شخصيات قليلة تقوم بدور البطولة، فـ"إسماعيل" هو الشخصية الوحيدة التي ترمز إلى الطبقة البورجوازية، وتجسد سلبيتها في المجتمع. و"صفية" هي أيضا ضحيتها الوحيدة، ولا يوجد غيرها. و ينطبق هذا الكلام كذلك على "توفيق" الذي يعلن ثورته ضد "إسماعيل" منذ بداية المسرحية، حيث يكاد يكون الشخصية الوحيدة الممثلة للقوى التقدمية إذا ما استثنينا "الصادق" وحفار القبور، اللذين يمثلان دوريين ثانويين.

و من ثم يمكن القول إن الطابع التجريدي الذي اتسمت به مسرحية "الهارب"، بإلغائها للزمان والمكان، كان أسلوبا غير ملائم، لا يتماشى وموضوع المسرحية الواقعي وطبيعة الصراع الجدلي. وكان حريا بـ"طاهر وطار"، وهو يدعو إلى الثورة على البورجوازية ويبشر بالاشتراكية أن يحصر أحداث المسرحية في زمان ومكان واقعين، يسهمان في نقل الواقع وتجسيده بصورة أدق وأعمق، حتى يلقى هذا العمل تجاوبا جماهيريا، ويحقق الهدف النهائي له.

والمسرحية بهذا الشكل تظل عاجزة عن الوصول إلى هدفها النهائي، وتتحول دعوة الكاتب إلى ثورة رومانسية ذاتية، يتغنى فيها الكاتب بدور "توفيق" المناضل الثوري، ويشيد بانتصاره، بينما يلجأ إلى نقد سلوك "إسماعيل" بأسلوب ساخر وجريء، سعيدا بنهايته. ولكن تلك الثورة تظل قائمة-في النهاية- على نظرة حالمة متفائلة بالمستقبل.


 الهوامش

[1]وطار، الطاهر، الهارب، الجزائر، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، د.ت. 

[2] لم نتوصل إلى الحصول على المسرحية الثانية بالرغم من سعينا الحثيث، وقد اتصلنا بالمؤلف الذي اكتفى بقوله أنه طبعها على حسابه الخاص بتونس ثم تخلى عنها.

[3] المسرحية، ص.49.

[4] المسرحية، ص.10 .

[5] المرجع السابق، ص. 10.

[6] المسرحية، ص. 24.

[7] المسرحية، ص.ص. 32-33.

[8] المرجع السابق، ص.ص. 572-573.

[9] ينظر ماجوري، بولتن، تشريح المسرحية، ترجمة دريني خشبة، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1962، ص.ص.143-144.

[10] مجموعة من الكتاب السوفييت، نظرية الأدب، ترجمة جميل نصيف، التكريني، بغداد، دار الرشيد للنشر، 1980، ص.728

[11] ينظر الأردس، نيكول، علم المسرحية، القاهرة، مكتبة الآداب، ترجمة دريني خشبة، د.ت ص.135.

[12] ينظر غنيمي، هلال، النقد الأدبي الحديث،القاهرة، دار نهضة مصر، د.ت.، ص.560.

[13] أرسطو، طاليس، فن الشعر، ترجمة وشرح وتحقيق عبد الرحمان بدوي، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، د.ت،  1953، ص.ص. 30-31.

[14] المسرحية، ص.ص. 50-51.

[15] المسرحية، ص.51.

[16] المسرحية، ص.83.

[17] سعد، أبو الرضا، الكلمة والبناء الدرامي، القاهرة، دار الفكر العربي، ط1، 1982، ص.47.

[18] المسرحية، ص.ص. 29-30.

[19] Lioure, Michel, Le drame de Diderot à Ionesco, Paris, Editions Armand Collin, 1973, p. 95.

 

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran

95 06 62 41 213+
03 07 62 41 213+
05 07 62 41 213+
11 07 62 41 213+

98 06 62 41 213+
04 07 62 41 213+

Recherche