تقديم

إنسانيات عدد 68 | 2015 | فضاءات و طقوس جنائزية  | ص07-10 | النص الكامل


تنشر مجلة إنسانيات في عددها 68 هذا الملف المخصص للفضاءات والطقوس الجنائزية، والذي حدّدت فيه هدفا رئيسًا متمثلا في فتح وتوسيع مجال التّبادل بين تخصصات معرفية عديدة تتناول ما يمكن أن نسميه بطريقة عامة أنثروبولوجيا الموت. إنّ العامل المشترك بين هذه التخصّصات، كما يمكننا ملاحظة ذلك، هو أنّها تناقش مسائل تقع في صميم البحث الذي نأمل رؤية تطوره في هذا العدد. لقد أولينا أهمية كبيرة للعناصر المادية الخاصة بزيارة الأموات) المزارات، الزوايا، الآثار النّذريّة(... وإلى الملامح العديدة المرتبطة بالمقابر باعتبارها أماكن للذاكرة والاحتفاء، والتي يمكن اعتبارها عناصر تنخرط في تنظيم المجال الحضري والريفي، كما انصّب اهتمامنا أيضًا على تحليل الطقوس الجنائزية بوصفها ممارسات اجتماعية في تجلياتها التعبّدية، الاحتفالية، التذكارية ...

تثير حالياً المسائل المرتبطة بالمقابر عبر فترات تواجدها التاريخي نوعاً من عودة الاهتمام بها سواء لدى الرأي العام، أو من خلال بلورة الاشكاليات البحثية، وفي هذا السياق، مثّلت استمرارية الطقوس الجنائزية، من فجر التاريخ إلى العالم القديم في شمال إفريقيا، موضوع مقال سليم دريسي، ويرى هذا الأخير أنّ هاجس الجماعات الإنسانية الأولى كان الرغبة في التأكّد من الخلود في العالم الآخر، ومن أجل ذلك أبدعوا في صنع أثاثهم الجنائزي المتعدّد المكتشف من طرف علماء الآثار خاصة منذ القرن 19م. وإضافة إلى الجانب المادي لتحضير "السّفر الأكبر"، فإنّ لطقوس مرافقة الميّت مكانة لا يستهان بها. فبالنسبة لفترة فجر التاريخ، دعّم اكتشاف عظام حيوانات في العديد من مواقع الحفر الأثري فرضية وجود طقوس جنائزية يمكن اعتبارها أولى تجليات الاعتقاد الديني. أمّا بالنسبة للفترة القديمة، والتي غرست أسسها في الفترة اللاتينية –الأترسكانية مع بصمة إغريقية، فإنّنا نلاحظ أنّها قد أثريت بالمعتقدات والثقافات الشرقية خصوصا تلك القادمة من ضفاف البحر المتوسط..وكمثال عن ذلك، سمحت الحفريات بمدافن ستيفيس وتيبازة في الجزائر بإبراز مجموعات دفن أكدّت ممارسات دفن وتحريق الموتى في الموقع ذاته.

يخصّص العدد أيضا ثلاث مقالات لموضوعات المزارات والأضرحة في فترات زمنية وأماكن متباينة. إذ تعرضت نفيسة دويدة إلى مسألة الممارسات والطقوس المرتبطة بها من منظور تاريخي، ميزته تسليط الضوء على جانب من الحياة الدينيّة في المجتمع الجزائري خلال الحقبة العثمانية، لاسيما زيارة أضرحة الأولياء التي عرفت ازدهارا في هذه الفترة، وذلك اعتبارًا لأسباب تاريخية أكثر منها دينية. وحسب الباحثة حظيت أضرحة الأولياء الصالحين في بلاد المغرب باهتمام بالغ، خصوصاً من طرف النساء اللاتي جعلن من هذه الأمكنة المقدسة مقصدا للتلاقي أيام الجمعة وأثناء الاحتفالات الدينية.

وبالارتكاز دائما على موضوع زيارة الأضرحة، توضّح مساهمة حمزة زغلاش ومنية بوسنينة أنّ الإنسان، وفي كل الأزمنة، شعَر بحاجة لأن يكون في وفاق مع الأماكن المقدسة المخصّصة لـ"رجال الله"، كما هو الحال هنا بالنسبة لسيدي الخيّر، أحد أولياء منطقة سطيف. ويؤكّد صاحبا المقال أنّ زيارة الأضرحة ليست خاصة بالمجتمعات التقليدية؛ فمن خلال هذه الممارسة يتوصّل المؤلفان إلى أنّ المجتمع الجزائري، وبالرغم من مظاهر التحديث، إلا أنّه غالبا ما "يعود إلى بنيته الفكرية التقليدية، بشكل دوري، من خلال استمرارية الممارسة الطقسية. تتعايش هذه الممارسات مع الإسلام الذي، دون أن يمحيها، قام بإعطائها مكانة دينيّة فعليّة ومعترفا بوصفها عاملاً للانسجام الاجتماعي".

أمّا بالنسبة لـعلي نابتي، فإنّ زيارة النساء لمقبرة سيدي بوجمعة بعين الصفراء، جنوب القطاع الوهراني، تعتبر مثالا رائعا لتملّك المرأة للفضاء الجنائزي. ويلفت المؤلف الانتباه بالخصوص إلى الممارسات المتنوعة لزائرات المقبرة وليس فقط إلى عددهن الكبير ويلاحظ أنّ الحضور القوي لهؤلاء النسوة لا يهدف بالدرجة الأولى إلى جلب بركة ولي المقبرة، ولكن يستجيب لاعتبارات أخرى، خاصة تلك المتعلّقة بالتبادل الاجتماعي، إذ يعطي التجمّع النسوي فرصة التواجد معا، لِما يمنحه الضريح من الشعور بالأمان يحفّز الكثير منهن على البقاء فيها اليوم بأكمله.

ويوسع محمد حيرش بغداد من جهته آفاق البحث بمقاربة "أنثروبو-فلسفية" للطقوس الجنائزية في أبعادها الزمانية والمكانية وآثارها من خلال الممارسات الفردية والجماعية. وَيوَر الباحث، الذي يعتبر الزمان أساساً في التحليل، تصوّرً عن الاستعمال الاجماعي لمناسبة "الأربعينية" انطلاقاً من حدثين في دورة الحياة: هما الولادة والوفاة، ويستبعد منذ البداية فكرة الصدفة (اللاعقلانية، العشوائية، الخيالي...) في الإحتفاء بها ويحرص على توضيح أنّ "المسار التدريجي من الحياة إلى الموت مشابه، بشكل ما، للمسار التدريجي من الموت إلى الحياة".

أمّا في ما يخص موضوع تنظيم المقابر وإدارتها في الفترة الحديثة والمعاصرة، فيقترح العدد نصّين اثنين: فبالنسبة لصادق بن قادة، المقبرة هي أبعد من أن تكون عنصرا محايدا في سياسات توسيع المدن، بل يمكن القول أنّها أحد عناصرها المحرّكة، لذا يجب دراسة هذه السياسات الحضرية من حيث أنّها تسمح بفهم ممارسات المضاربة المرتبطة بها في المجتمعات ذات النظام السياسي الرأسمالي أو الكولونيالي. وبالعودة إلى حالة إغلاق المقبرة الإسلامية بسيدي البشير في وهران سنة 1868، التي يُقْرنها الباحث بسياسة البارون هوسمان Haussmann الخاصة بإبعاد بعض المقابر خارج مدينة باريس وإزالتها خلال نفس الفترة، يعتبر أنّ هذا القرار ليس سوى نقل للنموذج الهوسماني إلى السياق الكولونيالي. وتكشف قضية إغلاق المقبرة الإسلامية بوهران، إذا جاز التعبير، عن العنف الرمزي للنظام الكولونيالي الذي يستند، فيما يخصّ إزالة المقابر، على تشريعات ظرفية بعيدة تماما عن عادات وقواعد الجماعة المسلمة. لقد زعزعت هذه القضية خلال ثلاث سنوات كل السّكان الذين اعتبروا، على لسان أعيان المدينة، أنّ هذا القرار تعسفي ولا يأخذ أبدًا بالاعتبار احترام الأموات وأماكن الذاكرة الجماعية.

وفي المجال نفسه، يقدّم رجيس برتراند عرضًا موسّعاً عن المقابر الفرنسية. فقد استهل مقاله بتذكير تاريخي لوضعية المقابر قبل وبعد الثورة الفرنسية. فَتحْتَ حُكم النظام القديم، "كانت المقابر في أوربا الكاثوليكية أراضي مغلقة وكانت تعتبر أماكن نجسة". لقد حرص رجال الدين في نهاية هذه الفترة على غلق المقابر وذلك لمنع الناس والحيوانات من دخولها. لكن الثورة الفرنسية (1789-1799)، والتي فقدت خلالها الكنيسة أهميتها، شكّلت منعرجًا حاسمًا، إذ نتج عن ذلك، من بين أمور أخرى، إلغاء الطقوس العامة للمآتم وإقرار مساواة الجميع في الدّفن بالمقابر العمومية. لقد ظهرت مع نهاية هذه الثورة أفكار جديدة فيما يتعلق بإعادة تنظيم طقوس وأماكن الدّفن، وكان من بين نتائج هذا المشروع سنة 1804 إنجاز مقبرة الأب لاشيز Père-Lachaise التي أصبحت بسرعة نموذجا يحتذى به. وبالموازاة مع ذلك، وتحت حكم نابوليون، تَمَّ إصدار التشريعات الجنائزية المعاصرة بفرنسا. نحن هنا إذن في لحظة دقيقة بين نهاية نظام جنائزي قديم و"اختراع" المقبرة الفرنسية المعاصرة.

يعتبر الموضوع المقترح لهذا العدد من مجلة إنسانيات بمثابة "رهان مجازفة"، وفي الواقع، إذا أخذنا بالاعتبار الحذر والتناول المحتشم لهذا الموضوع في بلدان المغرب عموما والجزائر بالخصوص، فإنّ الدراسات الأكاديمية تميل إلى عدم إعطاء الأهمية الكافية لهذا النوع من المواضيع. لهذا السبب، يبدو أنّ العلوم الاجتماعية في مجملها، وعلم التاريخ في بلداننا بصفة خاصة، لا زالت تتمنّع عن تجديد المقاربات الموضوعاتيّة التي تمّ تناولها منذ زمن طويل في بلدان أخرى.

صادق بن قادة و محمد حيرش بغداد

 

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran
+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11
+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Recherche