إنسانيات عدد 10 | 2000 | العنف : مساهمات في النقاش | ص109-120 | النص الكامل
Mohamed BOUSOLTANE : Enseignant et doyen, Faculté de droit, Université d'Oran - Es Senia, 31 000, Oran, Algérie
مقدمة
تعامل الإنسان منذ وجوده على البسيطة مع القوة و العنف كوسيلة غريزية لضمان بقائه. و في المجتمعات القديمة كانت لغة السلاح هي الطريقة الأنجع لحل الخلافات حول نقاط المياه و مناطق الكلأ و حماية المصالح المختلفة. حيث أنه من الطبيعي، في مجتمع غير مركزي أن كل كائن و حسب الفطرة، يستعمل كل قواه لحماية حقوقه أو إستعادتها و الحفاظ عليها [1].
المعاناة من ويلات الحروب و الغزوات و كل أوجه الإحتلال و الإستعمار و الاستعباد هو ما طبع حياة الشعوب. و قد تميز كل عصر بتبريراته لاستعمال العنف و القوة، و كانت الحجج سياسية في غالبيتها، يسهر على حبكها الحكام لاستدراج الرعية.
في الفترات الأخيرة، و خاصة منذ بداية القرن الحالي، بدأ الإنسان يكتشف أنه هو الخاسر الأكبر في كل مرة خاض فيها غمار الحرب و شارك في إسداء اوزارها. و بنمو مفاهيم المجتمع الدولي، و حقوق الأمم، و حقوق الإنسان، بدأت مفاهيم أخرى، تتقهقر فيما يخص الإنتصار في الحروب، و الإنهزام، و قضايا الغنائم و ما شابه ذلك.
إتجه المجتمع الدولي بادئ الأمر إلى محاولة التخفيف من ويلات الحروب و تفادي الآلام التي يعانيها الإنسان من جراء إستعمال القوة [2] فتعاقبت تنظمات لاهاي بعد المؤتمر الدولي لعام 1864، و الدور الذي قام به الصليب الأحمر الدولي في مجال المعاملة الإنسانية لضحايا الحروب، ثم تحسين ظروف الأسرى و التخفيف من معاناة الجرحى، و تحديد وضع المدنيين و الغير مشاركين في المجهود الحربي، و من جهة أخرى تنظيم وسائل القتال و الحد منها إعتمادا على مبادئ القانون الدولي الإنساني.
الجبهة الثانية التي فتحت هي الطموح إلى السلم و محاولات حفظه من خلال النصوص القانونية [3] (أولا) و إستجابة للتطور السياسي العالمي إتجه الأمر إلى إعتبار أن السلم يتمم حقوق الإنسان الأساسية (ثانيا) و يتجه الآن المجتمع للحديث عن ثقافة السلم لأنها ضمان الفعالية الواقعية للنصوص التي تضمنه (ثالثا).
سنحاول التطرق إلى النقاط الثلاثة المبرزة من خلال تطور القانون الدولي حول الموضوع و قد نتطرق من حين لآخر للوضع على مستوى القانون الوطني و النصوص الدينية و المعطيات الثقافية الأخرى المتعلقة بالسلم.
1. حفظ السلم عن طريق النصوص القانونية
السلم و السلام في القانون الدولي هو حالة اللاحرب و الإمتناع عن إستعمال القوة فيما بين الأمم. لبلوغ حالة دائمة و مستمرة من السلم، بالإضافة إلى محاولة القضاء على دواعي الحرب، فإن المجتمع الدولي قد شرع في سن نصوص قانونية تطمح إلى منع اللجوء إلى الحرب عن طريق نظام عصبة الأمم و ما لحقه من نصوص ما بعد الحرب العالمية الأولى (أ) ثم إستخلف بميثاق الأمم المتحدة بعد الحرب الكونية الثانية (ب).
-
أ. نظام العصبة في حماية الأمن و السلم في العالم
يعتبر رجال السياسة نظام عصبة الأمم و بعده عقد باريس لعام 1928 كنقطة تحول في مجال حفظ الأمن و حماية السلم في العالم. عملية التنظيم لمواجهة الحرب، في حد ذاتها، هي من المستجدات، فلأول مرة تحاول بعض الأمم تفادي قيام حروب مستقبلية، و تقيم منظمة دولية لذلك الغرض. فشل هذا النظام لا ينقص من أهميته كمبادرة أولى لها قيمتها في التطور الفكري لإنشاء نظام قانوني لحفظ الأمن و تنسيق الجهود للعيش في حالة سلم.
إرتكز هذا النظام على تفادي الحرب العدوانية و عدم الإعتراف بالوضعيات الناتجة عنها[4].
صك العصبة لم يحرم الحرب إلا جزئيا، و يستخلص "والدوك" إمكانية اللجوء إلى الحرب في ظل ذلك النظام في الحالات الثلاث التالية [5]:
1- حالة فشل الدول المتنازعة الأخرى أو إفصاحها عن عدم رغبتها في تنفيذ قرار تحكيمي أو حكم قضائي دولي أو قرار صادر عن مجلس العصبة بالإجماع.
2- حالة فشل مجلس العصبة في الإتفاق حول قرار بالإجماع.
3- حالة الإدعاء بالإختصاص الوطني.
شكلت هذه الحالات ثغرات خطيرة في نظام عصبة الأمم سمحت لبعض الأنظمة بإنتهاج سياسات عدائية و توسعية كانت نتيجتها الحرب العالمية الثانية.
لا يكتمل الحديث عن هذه الفترة دون الإشارة إلى عقد باريس لعام 1928 [6]. و يتكون العقد من فقرتين كما يلي :
1- إن الأطراف، بإسم شعوبها، تندد باللجوء إلى الحرب كوسيلة للسياسة الوطنية في علاقاتها.
2- تتفق الأطراف على أن كل النزاعات، فيما بينها مهما كانت طبيعتها أو أصلها، يجب أن تحل بالوسائل السلمية.
يكتسي هذا العقد أهمية خاصة لعدة أسباب نذكر منها :
1- إن محتواه أكثر إتساعا من نظام العصبة في مجال تحريم الحرب، العقد يحرم كل أشكال الحرب متى كانت وسلة للسياسة الوطنية.
2- تشجيع الدول على محاولة حل خلافاتها عن طريق الوسائل السلمية لتفادي الحرب.
3- توقيع العقد خارج نظام العصبة جعله لم يندثر بزوال هذه المنظمة. بل بقي مفتوحا لتوقيع و انضمام دول أخرى، و هو ساري المفعول لحد الآن، إذ بلغ عدد الدول أطرافه في بداية السبعينات 65 دولة [7].
ب- حفظ السلم و الأمن من خلال نصوص ميثاق الأمم المتحدة
الهدف و المقصد الرئيسي لميثاق الأمم المتحدة هو حفظ السلم و الأمن الدولي…[8]"
و لم يبخل الميثاق في سرد المبادئ الهادفة إلى تحقيق هذا المقصد الرئيسي. و نخص بالـذكر الفقرة الرابعة من المادة الثانية التي تنص على أنه "يمتنع أعضاء الهيئة جميعا في علاقاتهم الدولية عن التهديد بإستعمال القوة أو إستخدامها ضد سلامة الأراضي أو الإستقلال السياسي لأية دولة أخرى أو على أي وجه آخر لا يتفق و مقاصد الأمم المتحدة".
يلاحظ أن الميثاق، في مجال تحريم العنف في العلاقات الدولية، تفادى إستعمال تعبير "اللجوء إلى الحرب"، و ذلك نظرا للنقائص المرتبطة بتفسيره [9].
تعبير "إستعمال القوة"، الوارد في الميثاق أشمل، حيث أنه يغطي كل حالات إستعمال القوة الموجهة ضد الاستقلال السياسي و الوحدة الترابية لدولة أخرى، و كل أعمال العدوان، و التهديد باستعمال القوة و المساس بسيادة الدولة.
الرأي الرجح هو أن تعبير"… أو على أي وجه آخر لا يتفق و مبادئ الأمم المتحدة"، الوارد في نهاية الفقرة المذكورة أعلاه، يفيد تحريم الضغوط الاقتصادية و السياسية كذلك [10]. هذه الضغوط قد تكون أكثر وقعاً على سيادة الدولة و إستقلالها السياسي.
هذا التحريم الشامل و الكامل لكل أوجه العنف و الإكراه فيما بين الدول لا يستقيم إلا إذ تم تعويضه بوسائل تسمح بحل الخلافات و النزاعات الدولية سلميا. و في هذا الشأن نصت الفقرة الثالثة من المادة الثانية على أنه "يفض جميع أعضاء الهيئة منازعاتهم الدولية بالوسائل السلمية على وجه لا يجعل السلم و الأمن و العدل الدولي عرضة للخطر". الوسائل السلمية المقصودة [11] هنا هي المفاوضة، و التحقيق و الوساطة، و التوفيق، و التحكيم، و التسوية القضائية أو الحل السلمي عن طريق المنظمات الإقليمية أو أي وسيلة سلمية أخرى تتفق عليها الأطراف.
إلى جانب كل ذلك تم بناء نظام للأمن و السلم الجماعي عن طريق مؤسسات منظمة الأمم المتحدة و فروعها. قد يصل في النهاية إلى إستعمال القوة من طرف مجلس الأمن بشكل قمعي ضد أي دولة في ظل الفصل السابع من الميثاق [12] و هناك استثناءات أخرى تقع على مبدأ تحريم العنف تتعلق بالدفاع الشرعي الواردة في المادة 51 [13]. و تجدر الملاحظة إلى أن هذا النظام رغم تكامله قد تعرض لهزات مختلفة و أعطيت تفاسير مختلفة لبعض نصوصه. و بصفة خاصة تلك المتعلقة بحفظ السلم و الأمن.
فقد شاهدنا تقاعس مجلس الأمن الذي كبله "حق الإعتراض" في فترة الصراع شرق غرب. بينما فاضت قريحته و توالت قراراته في العشرية الأخيرة من القرن الحالي، في ظل أحادية القطب و هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية و إرساء أعمدة العولمة. موضوع السلم أخذ الآن يتطور في إتجاهات أخرى.
2. السلم كحق من حقوق الإنسان
الحرب قديما كانت تدور رحاها في ميدان القتال بين القوات المسلحة النظامية. و نمت في ظل ذلك نصوص و مبادئ مختلفة لتنظيم العمليات القتالية و وسائل الجهات المتحاربة في ذلك. التطور المذهل في وسائل الحرب و الأسلحة، سواء من ناحية القوة التدميرية، أو تقنيات إدارة العمليات، كان يظن أنه يتجه إلى حفظ المدنيين و تفادي إصابة الأفراد الغير مشاركين في المجهود الحربي، لكنه في كل من حرب الخليج و الكوسوفو تبين عكس ذلك، فالمدنيون دفعوا أغلى الأثمان.
التطور الكبير في إمكانيات وسائل الإعلام التي أصبحت تقدم الحرب على المباشر فوق شاشات التلفزيون و على أمواج الإذاعات، غير من نظرة الرأي العام العالمي للحرب و نتائجها. حيث أصبح مطلب السلم من حق الأفراد و ليس فقط إلتزاما فيما بين الدول (أ) كما أصبحت قواعد حفظ السلم لها طبيعة آمرة (ب) و النتيجة الثالثة هي ترتيب المسؤولية الشخصية على الأفراد في حالة خرق هذه القواعد (ج).
أ- العيش في سلم حق من حقوق الإنسان
القانون الدولي العام يخاطب أشخاصه [14] التي في مقدمتها الدول، فلا يتجه الإلتزام و لا الحق مباشرة إلى الفرد بل يحتاج إلى المرور عبر المكانزمات التشريعية و التنفيذية للدولة. هذه الفكرة الكلاسيكية في تغير مستمر. فمن الواضح أن الفرد يستمد حقوقه مباشرة من القانون الدولي في مجال حقوق الإنسان [15]. هذه الميزة دفعت جانبا من الفقه إلى إعتبار السلم من الجيل الثالث لحقوق الإنسان [16]. و الواقع أن من بين الحقوق الأساسية للإنسان، الحق في الحياة و الحرية. و اعتبارا أن حالة الحرب أو أي شكل من أشكال العنف تهدد هذه الحقوق، فإن حالة السلم وحدها هي الكفيلة بتحقيق هذه الحقوق الأساسية على أحسن وجه. السلم في حقيقة الأمر ضرورة لتحسين كل الحقوق الواردة في اتفاقيتي حقوق الإنسان لعام 1966. سواء منها الحقوق الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية أو الحقوق المدنية و السياسية.
إذا كان حق الشعوب في تقرير مصيرها كحق جماعي قد أتجه تدريجيا، و بعد الانتهاء من عملية تصفية الاستعمار، إلى حق جماعي و فردي داخلي يتمثل في حق العيش في ظل نظام ديمقراطي تعددي. فإن الحق في السلم كحق كوني يتعلق ببقاء الشعوب إحتل مكانته كأخذ حقوق الإنسان في الدول الديمقراطية [17].
و رغم أن القرار السياسي باللجوء إلى العنف و السلاح، نظرا لطبيعته، لا يمر دائما عبر كل الأجهزة المعبرة عن رأي الشعب. فإن الممارسة في مختلف الدول تتجه إلى إقناع الجماهير بإجبارية الأمر وجدواه السياسية.
و من جهة أخرى يفترض أن الدول الديمقراطية لا تلجأ إلى النزاع المسلح إلا في حالة الدفاع الشرعي. لكن الدول القوية حاولت البحث عن شرعية قرار الحرب في كونه يواجه و يقاوم أعمال غير مشروعة في نظرها [18]. هذه الأعمال كثيرا ما تهدد الأنظمة الديمقراطية. و هو الإدعاء الغالب في الحقبة الأخيرة.
و على كل حال فإن السلم شرط أساسي للتمتع بالحقوق التي يضمنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادتيه 3 و 28 و كذا المادتين 6 و 20 من إتفاقية الحقوق المدنية و السياسية لعام 1966. و يتعلق الأمر بالحق في الأمن و الحق في الحياة [19]و هذا كاف للجزم بأن الحق في السلم من حقوق الإنسان.
ب- قواعد حفظ السلم لها طبيعة آمرة
الطبيعة الآمرة لبعض قواعد القانون [20] الدولي تجعلها في مرتبة أعلى، و تؤدي إلى إبطال كل ما يتعارض معها أو يخالفها من الاتفاقات التي تبرمها الدول و التي لا تتمتع أحكامها بنفس الطبيعة.
ولإيضاح هذه القواعد في القانون الدولي جرت العادة على إعطاء أمثلة مختلفة تتعلق بالجرائم ضد الإنسانية التي عرفها القانون الدولي العرفي مثل تحريم القرصنة. و إبادة الجنس البشري، و العنصرية، و قواعد حماية حقوق الإنسان، و يلاحظ أن كل الأمثلة و الحالات تذكر الأحكام الخاصة بتحريم استعمال القوة و التهديد بذلك و أعمال العدوان بأنها في مقدمة القواعد الآمرة [21]. و عليه فإن أحكام حفظ السلم و الآمن هي من بين هذه القواعد. خاصية الأمر و القطعية لنصوص و قواعد حماية السلم تعطي لها وزنا أكثر، و ذلك ما دفع إلى تصنيف الاعتداء عليها و عدم احترامها من بين الجرائم الدولية و ترتيب المسؤولية الشخصية على ذلك.
ج. ترتيب المسؤولية الشخصية عن خرق السلم
الجرائم في حق السلم من بين الأفعال التي تم تجريمها على المستوى الدولي، و يكون مرتكبها مذنبا على المستويين، الدولي و الداخلي، و لا يمكن التذرع بالحماية الدبلوماسية. و لا الحصانة على أساس أن القائم بهذا النوع من الجرائم كان في خدمة دولته و اقتصرت مهمته على تنفيذ أوامر السلطة العامة في الدولة. المسؤولية الشخصية على الجرائم في حق السلم أقصى درجة من التطور الذي بلغه القانون الدولي في مجال حفظ السلم و الأمن. مسؤولية الدولة المعتدية لا تنفي مسؤولية الأشخاص على الجرائم في حق السلم. ازدواج المسؤولية معمول به هنا. هذه الجرائم كانت من بين التهم التي تضمنتها محاكمات النورنبورغ و طوكيو بعد الحرب الكونية الثانية. و قد تضمن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، الذي تم تبنيه في روما عام 1998 جريمة العدوان التي قد تقابل الجرائم ضد السلم.
النظام الأساسي للمحكمة الجديدة عرف ثلاث جرائم من الجرائم الأربعة الواقعة تحت ولاية هذه المحكمة [22] لكن يبقى مشكل تعريف العدوان و بالتالي الجرائم في حق السلم عالقا[23].
و ذلك ما دام موضوع الإختصاص بتعريف العدوان لم يحل في إطار أجهزة الأمم المتحدة. مجلس الأمن له الحق في تشخيص العدوان طبقا لنص المادة 39 من الميثاق، بينما الجمعية العامة صاحبة الاختصاصات العامة قامت بتعريف العدوان عام 1974 بموجب الإعلان رقم 3314[24].
موقف محكمة العدل الدولية في قضية النشاطات العسكرية الأمريكية في نيكاراقوا لم يحل الإشكال. حيث إعتبرت المحكمة أن تعريف العدوان لعام 1974 إشارة لمحتوى القانون الدولي العرفي. و هو يضم ما سمي آنذاك بالهجومات المسلحة الغير مباشرة التي تقوم بها "جماعة مسلحة" أو قوات غير نظامية [25]. يضاف إلى ذلك خرق مجال الإختصاص الوطني للدولة أو إستعمال القوة ضدها بشكل يتعارض مع مبادئ الأمم المتحدة. و عليه فتعريف الجرائم في حق السلم مرتبط بحل هذا الإشكال.
3. بناء ثقافة السلم يضمن الفعالية الواقعية للنصوص التي تحكمه
مرحلة الإنتقال من نصوص قانونية عقيمة، كثيرا ما نجحت المصالح السياسية للدول العظمى في إيقاف دواليب وضعها حيز النفاذ، فرضتها الحاجة الإجتماعية للسلم (أ). و يُميَّز ذلك عبر إحياء المعطيات الدينية و العقائدية التي تحث على السلم (ب) ثقافة السلم تتطلب إقصاء العنف و القوة خارج الإطار الشرعي على المستوى الوطني كذلك (ج). هذه السبل تضفي على مجهودات تحقيق السلم فعالية واقعية ناجعة.
أ- الحاجة الاجتماعية للسلم
الإجماع حاصل على مستوى الفكر السياسي الديمقراطي على أن السلم ضرورة اجتماعية تضمن إقامة علاقات متوازنة فيما بين أفراد المجتمع الواحد، و تطبع التعامل فيما بين المجتمعات المختلفة خاصة و أن الجميع ينعم بحالة السلم. و خلال ما يقرب من قرن من التنظيم و تطوير النصوص القانونية للقضاء على الحروب و تحريم استعمال القوة في العلاقات فيما بين الأمم و تفادي الويلات التي تتعرض لها، لم يتم التحصل على النتائج المرضية.
و رغم بعد نظر نظام الأمم المتحدة لتحقيق السلم و الأمن على المدى الطويل من خلال التنمية الاقتصادية و الاجتماعية للتقريب في مستوى المعيشة بين مختلف الشعوب، و بالتالي تفادي أسباب التوتر و اللجوء إلى العنف، بدأ المجتمع الدولي يتدارك أن السلم في حد ذاته من شروط تحقيق التنمية الاقتصادية و الاجتماعية. و السلم على المستوى الدولي مرتبط كل الارتباط بالسلم على المستوى الوطني. و من عناصر الارتقاء إلى هذا الأخير ضمان حقوق الإنسان الأساسية و الديمقراطية.
يقول أحد الكتاب أن النظام الدكتاتوري يستطيع أن يصنع الحرب حسب هواه بينما يفتقر الحكام في الأنظمة الديمقراطية إلى هذا الامتياز المرعب [26]، ظهور الثقافة الديمقراطية على المستوى العالمي يترجى منه بلوغ ذلك الهدف. ثقافة السلم في رأينا هي إحدى أعمدة ثقافة الديمقراطية. السلوك الديمقراطي سلوك مسالم. ينبذ العنف كيفما كان، ما عدا الدفاع الشرعي عن النفس، الذي هو من الحقوق الطبيعية، و يتخذ النقاش و الحوار و الإقناع كوسيلة للتعامل.
نشر ثقافة السلم في المجتمعات يمر عبر التعريف بالوسائل و الطرق السلمية لفض الخلافات. و يكون ذلك على المستوى الداخلي بإصلاح أجهزة العدل و بناء ثقة المواطنين فيها، و تنظيم و استعادة الطرق التقليدية لحل الخلافات و النزاعات عن طريق المصالحة و الحوار و غيرهما. الحلول هنا تخفف العبء عن الأجهزة الرسمية و من جهة أخرى تكون لها نجاعة أكثر، و هي سهلة التنفيذ لكونها توفيقية. و مما يقوي فعالية هذه الوسائل السلمية استناد معظمها إلى تعاليم دينية.
ب- البعد الديني لثقافة السلم
العامل المشترك بين كل الديانات السماوية هو حثها جميعا على السلوك المسالم و إلحاحها على أنه سلوك حضاري. كما أن كل هذه الديانات لا تخلو من النصوص الحافظة للحياة و الضامنة للحرية، إبراز هذه القواعد التي تدين بها مختلف الأمم يمكن أن يشكل أساسا لإصلاح نظام الأمم المتحدة في ميدان حفظ السلم في العالم. كما أن التعاليم الدينية تدعو لإقامة علاقات حسنة مسالمة بين مختلف الشعوب.
الدين الإسلامي خاتم الأديان جامع للتعاليم الواردة في الديانات التي سبقته في مجال السلم. و هو يرادف بين السلم و المسالمة و الإسلام [27]. فالمسلم ينطق بالسلام طوال يومه مدى الحياة. "السلام عليكم" و "عليكم السلام و رحمة الله تعالى و بركاته "، و الأمر كذلك في صلواتهم، و ذكرهم للرسل يتبع دائما " و عليه السلام"… الخ. و من الآيات القرآنية التي يستدل بها على أن السلم من تعاليم الإسلام و واجبات المسلم "يا أيها الذين آمنوا أدخلوا في السلم كافة و لا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين " [28]. كما يأمر القرآن الكريم بالإستجابة إلى دعوة السلام و الأمان بقوله "و إن جنحوا للسلم فأجنح لها و توكل على الله إنه هو السميع العليم " [29].
و هكذا نخلص إلى أن تنمية ثقافة السلم و الإخاء و الوفاق هي ممارسة لشعيرة دينية.
ج. ثقافة السلم تستدعي إقصاء العنف على المستوى الوطني عن طريق النصوص و الممارسة السياسية
كل ما سبق التعرض إليه من نصوص قانونية تخص العلاقات فيما بين الأمم، التي هي ملزمة بأحكام ميثاق الأمم المتحدة على أساس العضوية في هذه المنظمة العالمية، أو على أساس القانون الدولي العرفي بالنسبة للدول الغير أعضاء. ذلك أن الإجماع حاصل فقها و قضاء على أن كل المبادئ المتعلقة بحفظ السلم و الأمن في العالم هي من قبيل القانون الدولي العرفي الآمر.
إلتزام الدول بتطبيق أحكام الميثاق يخص علاقاتها و لا يتعلق الأمر، من حيث المبدأ، بما قد يجري داخل الدولة من مشاكل أمنية و غيرها، و ذلك إرتكازا على نص المادة 2 فقرة 7 من ميثاق الأمم المتحدة التي تنص على أنه "ليس في هذا الميثاق ما يسوغ (للأمم المتحدة) أن تتدخل في الشؤون التي تعتبر من صميم السلطان الداخلي لدولة ما. و ليس فيه ما يقتضي الأعضاء أن يعرضوا مثل هذه المسائل لأن تحل بحكم هذا الميثاق، على أن هذا المبدأ لا يخل بتطبيق تدابير القمع الواردة في الفصل السابع".
هذه الفقرة تضمن عدم التدخل في الاختصاص الوطني لأية دولة و تحت أي مبرر. و ذلك حفاظا على السيادة الوطنية و احتراما لمبدأ المساواة فيما بين الدول.
التطورات الأخيرة سواء على مستوى مفهوم السيادة و المساواة، أو بالنسبة لتلك الأحكام في مجال الديمقراطية و حماية حقوق الإنسان، هذه التطورات و غيرها سمحت بالتقليص من فحوى النص السابق. كما أن مجلس الأمن كثف من تدخلاته في بعض القضايا التي هي من صميم الاختصاص الوطني، و هو ما تسمح به الجملة الأخيرة من النص المذكـورة. و نخص بالذكر هنا الوضع في الصومال، وضعيات أخرى أدَّتِْ إلى تدخل تكتلات دولية أو دولة معينة بترخيص من المنظمة الدولية أو بدونه. و في كل الحالات كان السبب المعلن للتدخل هو حماية حقوق الإنسان و تفادي انفجار الوضع الذي قد يهدد السلم و الأمن، و حماية الأقليات الوطنية. و امتازت معظم حالات التدخل بضعف الحكومة الوطنية أو الانهيار التام للسلطة العامة.
في الحقيقة التزام الحفاظ على السلم له وجه داخلي وضعي. حيث أن الكثير من الدساتير تخرج قضايا إعلان الحرب و إبرام معاهدات السلم من الاختصاص الانفرادي للسلطة التنفيذية. و تكتفي دساتير أخرى بتنظيم كيفيات الرد السريع و المجدي على أعمال العدوان التي قد تتعرض لها.
لقد ضمنت الجزائر التزاماتها الدولية في مجال السلم دستور 1996. حيث تنص المادة 26 منه على أن "تمتنع الجزائر عن اللجوء إلى الحرب من أجل المساس بالسيادة المشروعة للشعوب الأخرى و حريتها".
و تبذل جهدها لتسوية الخلافات الدولية بالوسائل السلمية. كما تضمنت المادة 28 تبني الجزائر لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة و أهدافه.
و من جهة أخرى فالجزائر تعمل على بناء نظام حكم ديمقراطي تعددي يضمن الحريات الأساسية و حقوق الإنسان و المواطن [30]. كما تضمن الدولة الجزائرية عدم انتهاك حرية الإنسان. و تمنع أي عنف بدني أو معنوي أو أي مساس بالكرامة [31]. هذه الأحكام في الدستور الجزائري حذت حذو الدولة العريقة في تطبيق الديمقراطية.
ما سبق يدفعنا إلى القول بأن الديمقراطية في إطار النصوص القانونية الوطنية ممارسة و سلوكا تنبذ العنف و تتبنى الطرق السلمية لتسيير النشاط العام، و تتخذ الحوار وسيلة لحل الخلافات. و في ظل منظومة دولية تؤمن بنفس المبادئ في مجال حفظ السلم و تمارسها على المستوى الوطني يصعب تصور السلوك العدائي تجاه بقية أعضاء هذه المنظومة.
ثقافة السلم في منظورنا هي مجموع المعارف التي يؤسس عليها الفكر الجماعي و المبادئ التي تطبعه و منه ينبع الطموح المشروع و منهج الحياة و العمل معا.
ضمن هذه المعادلة تظهر ثقافة السلم [32] كبقية السلوكات المشتركة على كل مستويات المجتمع دوليا و وطنيا. بالنسبة للحكام يظهر ذلك في التعامل مع القضايا الدولية أو في تسيير الشؤون الوطنية و كذا فيما يخص المتعاملين على الساحة السياسية داخل الدول، ليكون التنافس المشروع للوصول إلى السلطة بطرق شرعية تضمن التداول على السلطة في ظروف سليمة.
و يجب ألا يهمل دور الإعلام و الصحافة في تنوير الرأي العام و نشر مبادئ المحبة و الوفاق و حسن الجوار و ضمان المصالح المتبادلة. إطلاع الرأي العام المتشبع بثقافة السلم على حقائق الأمور يكون الذرع المتين للدفاع عن السلم.
الهوامش
[1]- أنظر بوسلطان، محمد.- مبادئ القانون الدولي العام.- الجزء الثاني، وهران، دار الغرب للنشر و التوزيع، 1999.- ص.148.
[2]- لتفاصيل أكثر أنظر، نفس المرجع .- ص.173.
[3]- أنظر بوسلطان، محمد.- حفظ الأمن و السلم في العالم من خلال النصوص القانونية.- أعمال ملتقى النظام العالمي الجديد و مصالح دول العالم الثالث، جامعة البليدة، 1993.- ص.ص 225-246.
[4]- أنظر المادة العاشرة من نظام العصبة
[5]- WALDOCK, C.H.- The regulation of the vsc of force by Individual states in international law.- R.C.A.D.I, 1952.- p.470.
[6]- و يدعى كذلك Kellogg-briand pact نسبة إلى الديلوماسي الأمريكي كلوخ و الفرنسي بريان و هما موقعا الإتفاقية الثنائية التي انضمت إليها العديد من الدول فيما بعد.
[7]- International legal system, cause and muterials.
[8]- أنظر الفقرة الأولى من المادة الأولى من الميثاق.
[9]- لتفاصيل أكثر أنظر مقالنا : حفظ السلم و المن في العالم، مرجع سابق.-ص.232.
[10]- لتفاصيل أكثر حول الإكراء الإقتصادي أنظر مؤلفنا، فعالية المشاهدات الدولية.- ديوان المطبوعات الجامعية، 1995.- ص.209 و ما بعدها.
[11]- أنظر المادة 33 من الميثاق.
[12]- أنظر على الخصوص المواد 39، 41 و 42 من الميثاق.
[13]- حول الإستثناءات الأخرى، أنظر مؤلفنا، مبادئ القانون الدولي العام، مرجع سابق، الجزء الثاني، ص.165.
[14]- حول أشخاص القانون الدولي، أنظر مؤلفنا، مبادئ القانون الدولي العام، الجزء الأول، ديوان المطبوعات الجامعية، 1995.- ص.93.
[15]- مؤلفنا مبادئ القانونية الدولي العام، الجزء الثاني.- ص.279.
[16]- أنظر SEUSE, Salvator.- Droit à la paix et la paix et droit de l'homme, les droits de l'homme.- Universalité et renouveau.- AIJD, L’Harmattan, 1990.- p.195.
[17]- SENSE, Salvatore.- نفس المرجع.-ص.201.
[18]- HERMEL, Guy.- culture et démocratie.- UNESCO, 1993.-p.223.
[19]- SENSE, Salvatore.- نفس المرجع.-ص.198.
[20]- تنص المادة 53 من إتقافية قانون المعاهدات لعام 1969 على مايلي: … في تطبيق هده الإتفافية يراد بالقاعدة الأمرة (القطيعة) من قواعد القانون الدولي العام، أية قاعدة مقبولة و معترف بها من المجتمع الدولي ككل بوصفها قاعدة لا يسمح بالانتقاص منها، و لا يمكن تغييرها إلا بقاعدة لاحقة… لها نفس الخاصية.
[21]- لتفاصيل أكثر أنظر مؤلفنا، فعالية المعاهدات الدولية.- ص. 228 و ما بعدها.
[22]- أنظر المواد 6، 7، 8 من معاهدة روما لعام 1998 التي تتضمن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
[23]- أنظر المقرة الثنائية من المادة الخامسة من نفس المعاهدة.
[24]- لتفاصيل أكثر حول الموضوع، أنظر : GILL, T.D..- Limitations en U.N. Enforcement Powers.- Neherands Y.I.L, 1995.- p.p. 99-198.
[25]- أنظر قرار المحكمة لعام 1986.- ص.108.
[26]- أنظر HERMEL, Guy.- نفس المرجع السابق.- ص.224.
[27]- الدكتور السرباحي، أحمد.- يسألونك في الدين و الحياة.- دار الجيل، 1981.- ص.794.
[28]- من سورة البقرة.
[29]- من سورة الأنفال
[30]- أنظر المادة 32 من دستور 1996.
[31]- أنظر المادة 34 من نفس الدستور.
[32]- أنظر حق الإنسان في السلم.- بيان مدير العام لليونسكو 1997.-ص.6.