المساحات الخضراء العمومية في المدن: أماكن الجمعنة و عناصر التكوين الحضري

إنسانيات عدد 07 | 1999 | فلاحون جزائريون ؟ | ص 53-57 | النص الكامل


Ammara BEKKOUCHE : Enseignant chargé de cours, USTO, 31 000, Oran, Algérie
Centre de Recherche en Anthropologie Sociale et Culturelle,
31 000, Oran, Algérie


 يلخص هذا التقرير الدراسة التي تم إنجازها في إطار أطروحة دكتوراه دولة : تحت عنوان "المساحات الخضراء العمومية في المدن" أماكن الجمعنة و عناصر التكوين الحضري و يقدم خطوطها العريضة بهدف تأكيد أصالتها.

تشكل دراستنا التي تم تحضيرها في جامعة العلوم و التكنولوجيا بوهران، أول أطروحة دكتوراه دولة احتضنها نعهد الهندسة المعمارية بالتنسيق مع الأستاذين : الدكتور "السيد التوني" و "الدكتورة نسمات عبد القادر" من جامعة القاهرة[1]. إن الدراسة تطمح إلى تحقيق خبرة جامعية بهدف تدشين و تطوير دينامية بحث معماري و عمراني خاص بقضايا المدينة الجزائرية. و يقترح هذا المسعى الذاتي تعميق البعد الثقافي الذي يتم التعرض له بشكل متزايد في المناقشات المختصة بهدف التكفل به عند إثارة المجال، إلى ميدان الأنثروبولوجيا "التي تهتم بأنظمة هيكلة المجال العمراني و بأنماط العمليات المطبقة عليه و كذا أشكال التمثلات"[2].

تأتي هذه الدراسة إلى إثر تجربة مهنية جمعت بين ممارسة الهندسة المعمارية (1974-1984) و تعليمها و البحث الجامعي في موضوعاتها. فقد أنجزت –سابقا- رسالة ماجستير[3] تناولت موضوع "المساحات الخضراء"، كانت بمثابة المقدمة التي فتحت لي مجال التفكير في إعداد أطروحة الدكتوراه، و دفعتني أهمية الموضوع إلى رسم الحدود الموضوعاتية و المجالية و التاريخية بالنظر إلى الوسائل الملائمة و الفترة الضرورية لإنجاز هذه الأطروحة.

تتجلى الحدود الموضوعاتية في الإشكالية (من الصفحة 3 إلى الصفحة 5).فضمن المفاهيم الموظفة التي تميز المساحات الخضراء، توجد تلك التي لها علاقة بالمجال: كالحضري و ما يقع في محيطه، ثم تلك التي لها علاقة بالممارسة كالعمومي و الخاص.

و يجد اختيار مصطلح "الحضري" من جهة و مصطلح" العمومي" من جهة أخرى مصداقيتها يحكم علاقتهما بالهندسة المعمارية و التعمير. تتخذ هذه العلاقة المرتبطة بالواقع الحضري، دلالتها عند ترقية الميدان العمومي إلى مجال تتجه إيه حركة تنظيم المساحات الخضراء. تؤكد التجربة التاريخية أن قسما هاما من المساحات الخضراء العمومية بالمدن، كانت ممتلكات خاصة في السابق. إن هذه العملية التي مازالت مستمرة في أيامنا، تفرض علينا تحديد مقاييس تنظيمها.

أما الحدود المجالية، فقد تم عرضها متن الدراسة (من الصفحة 82 إلى الصفحة 84)؛ و تعني المدن التي عايناها مدينة مرسيليا في فرنسا و العاصمة و وهران في الجزائر و يتمثل قاسمها المشترك في الانتماء إلى المجال الجغرافي المتوسطي، الذي أضفي عليها صبغة طوبوغرافية واحدة. تدفعنا هذه الخاصية إلى إجراء مقارنة بين مساحاتها الخضراء العمومية، انطلاقا من رؤية طبولوجية و مرفولوجية و بناء على الفرضية التي تشير إلى أن الاختلافات الملاحظة في استعمالها ترتبط بإجراءات تهيئتها و تطورها عبر التاريخ. و تقررت الحدود التاريخية بظهور المفاهيم الحديثة التي استعملت في مجالي التكوين الحضري و العمران الحديث ابتداء من القرن التاسع عشر و التي اخترقت حديثا، علم البيئة الحضري.

سمحت التجربة الـمعاشة و قراءاتها المختلفة باكتشاف تناقضات في حركة إنجاز المساحات الخضراء العمومية في المدن و في محيطها. و ترتبط هذه التناقضات بالهوة القائمة بين المشروع العمراني الذي يحتمل عددا من الاستعمالات للمجال و الاحتمال الذي تم تحقيقه في الواقع. فالرؤية السائدة التي تستند إلى المسعى الوظيفي، لا تأخذ  بعين الاعتبار إلا الحاجات التي تم إحصاؤها موضوعيا بهدف تحقيق نتيجة معينة. ثمة تقصير واضح في تناول القضية إذ لا تراعي جوانبها الذاتية، لذا تسعى دراستنا إلى التنيبه بهذه الثغرة في البرمجة.

نشأ حافز الدراسة المقدمة من الالتباس القائم في استعمال المساحة الخضراء العمومية بالمدينة، إذا اعتبرت المساحة الخضراء العمومية مجالا حرا تتأكد مردوديته عند إرفاقه بنشاطات تساهم شيئا فشيئا في تشويهه. ينتقل هذا الالتباس إلى حقل تعليم الهندسة المعمارية، إذ يؤدي عامل المردودية إلى تبرير شرعية استغلال مجال المساحة الخضراء لغرض البناء. فالوجهة المهنية لا تعطي دلالة للمجال إلا إذا تم بناؤه.

إذا قورنت بمرافق ذات مردودية أكثر، تعتبر المساحة الخضراء العمومية بالمدينة عبئا بالنظر إلى قيمتها الاقتصادية المستخف بها، ينجر عن هذا التصور، إنشاء مجالات فرعية ذات طابع تجاري تعمل على لمج المساحة الخضراء بإفساد حلتها النباتية و تشجيع ظاهرة تشويهها بإقامة الاكشاك و غرف الهاتف و موافق السيارات. تسعى دراستنا إلى مواجهة هذه الفكرة الشائعة بإعادة الإعتبار إلى المظاهر غير المادية في عملية تكوين المجال. إن مساهمة مثل هذه المظاهر أساسية لكي تلعب المساحة للخضراء العمومية دورا ايكولوجيا و اقتصاديا داخل المدينة.

إن طرح المسألة من زاوية اقتصادية، يدفعنا إلى البحث عن كيفية إضفاء المردودية على المساحة الخضراء العمومية في المدينة دون إتلافها؟

يتحدد حقل البحث و المقاربة المعتمدة بالمسألة المطروحة و أصالة الموضوع الذي يتصل بالإشكالات المستجدة في علم البيئة الحضري، و تنص الفكرة الجوهرية لهذه المقاربة على أن الحاجة إلى المساحة الخضراء لا يجب أن تنحصر في تقديرات حسابية و معيارية إذ يضطلع مستخدمو المساحات الخضراء إلى تحقيق رغبات غير مادية. و تحليل هذه الرغبات إلى احساسات تشكل بعدا هاما لمفهومي "الرفاهية" و "إطار الحياة". تهدف الفكرة إلى ترقية رؤية جديدة للمجال استنادا إلى مفهوم العقلنة في معناه الوجودي لا في معناه المادي. في هذه الحالة، يجب تحديد مؤشرات هذا البعد الوجودي بمراعاة العوامل غير الطبيعية التي تهيكل المجال.

في إطار الدراسة، سمح البحث عن هذه المؤشرات استنادا إلى الملاحظة الميدانية – بالكشف عن ظاهرة أبرزت قدرة مساحات خضراء عمومية معينة على جلب المواطنين و جمعهم أكثر من غيرها. فإذا اتفقنا أن "عدد المستعملين" للمجال يشكل مقياسا ضروريا في تحديد المردودية و التنشيط، يجب علينا، في هذه الحالة، الكشف عن العناصر التي تساهم أو لا تساهم في تكوينها. انطلاقا من هذه الاعتبارات، اتجهت تحرياتنا إلى تناول مفهوم "المكان" و دوره الهام في عمليتي برمجة و التخطيط العمراني وفقا للمنظور الأيكولوجي. يمثل المكان مجالا حياتيا حاملا لدلالات و ممارسات اجتماعية أحاطت به في الزمان. في هذه الحالة، تكون العودة إلى التاريخ مسعا لا يمكن تجاوزه عند قياس مدلول الممارسات المهيكلة للمكان و الزمان، و ينجر عنها توظفي منهجية خاصة (من الصفحة 10 إلى الصفحة12، و من الصفحة 87 إلى الصفحة 92) تثبت أصالة الدراسة فيما يتعلق بوسائل تقويم المتغيرات و المقاييس الناجعة حسب منظومة دلالية تستند إلى المقارنة.

تتعرض دراستنا إلى قضايا نظرية عند صياغة مدونة الفرضيات (من الصفحة 84 إلى الصفحة 87). تتجسد هذه الفرضيات في أسلوب تحليل الوقائع التي تمت ملاحظتها بشأن استعمال المساحات الخضراء العمومية القائمة بالمدن، و بمحيطها و بشأن إجراءات تهيئتها يفترض وجود علاقة بين هاتين المجموعتين من التغيرات و يحيل تفسير هذه العلاقة إلى تحليل طبيعة العمليات التي تدعمها.

تشير النتائج الجزئية (نت الصفحة 307 إلى الصفحة 314) التي استخلصناها من تحليل المساحات الخضراء العمومية الواقعة في المدن و محيطها إلى ما يلي :

تتميز المساحة الخضراء العمومية لساحة "جان جوريس" بمدينة مرسيليا التي اتخذناها نموذجا مرجعيا، بقيمة إستعمالية ذات مستوى عال، إذ توفرت منذ نشأتها على طاقات طبيعية و غير طبيعية مميزة و حظيت بإجراءات تهيئة ذات جاذبية قوية.

في 50% من الحالات (6 مساحات خضراء عمومية : واحدة بالجزائر العاصمة و خمس بوهران) بقيت قيمتها الإستعمالية على  درجة عالية طالما توفرت لها طاقات غير طبيعية معتبرة لدى نشأتها و ذلك رغم إجراءات تهيئة تنعدم فيها الجاذبية.

في 25% من الحالات (3 مساحات خضراء عمومية بوهران) حيث القيمة الإستعمالية تقارب المتوسط، لم تكن الطاقات الغير طبيعية متوفرة لها عند نشأتها، إلا أن إجراءات التهيئة كانت تتميز بجاذبية قوية.

في 14.6% من الحالات (مساحتان خضراويتان عموميتان بوهران) حيث قيمتهما الإستعمالية دون المتوسط، لم تكن الطاقات غير الطبيعية متوفرة عند نشأتها، إلا أنهما اختلفنا فكانت إجراءات التهيئة تتميز بجاذبية قوية في الحالة الأولى و منعدمة في الحالة الثانية.

في الختام، يعتبر توفر طاقات غير طبيعية في موقع ما، عند نشأته، معطى مرجحا (58.33%) لإجراءات التهيئة، كلما سعينا إلى ترقية القيمة الإستعمالية لمساحة خضراء عمومية بالمدينة.

بناء على الأهداف المعلنة (الصفحة 10)، تقدم الخلاصة العامة للدراسة الخطوط العريضة لنمط يبرز أهمية مفهوم المكان و أبعاده عند إجراء التحليل و التخطيط في مجال التعمير.

إن هذا النمط الذي يجب تقويمه في نطاق حدود الدراسة المقدمة، يتحدد بناء على مبادئ يجب مراعاتها عند توطين المساحة الخضراء العمومية و تهيئتها بهدف ترقية قيمتها الإستعمالية.

و يعني ذلك استكشاف الخصائص الطبيعية (ماهية المساحة الخضراء) و غير الطبيعية (مظهر المساحة الخضراء) التي تهيكل المجال عند نشأته و تنمي طاقاته. فبشأن الخصائص الطبيعية، أولت الدراسة عناية للمقاييس المرتبطة بالشكل الطوبولوجيا و الهندسة و أبعاد المجال. أما الخصائص غير الطبيعية فتتعلق بالمقاييس ذات الصلة بذاكرة المكان التي تشتمل على الممارسات و الآفاق و الدلالات المستوحاة من أسماء الأماكن (طبونيميا). لقد أشرنا، ضمن العينات التي تم تحليلها إلى وجود طاقات غير طبيعية تمنح المجال مدلوله و تحقق له تأثيرا سائدا يكسبه جاذبية قوية. أما غياب هذه الطاقات عند إجراء تهيئة المساحة الخضراء العمومية الواقعة بالمدينة وبمحيطها، فيؤدي إلى تشويهات عند استعماله، يكون تأثيرها سلبيا من زاوية مردودها الإقتصادي و الأيكولوجي.

 تعريب : محمد غالم


الهوامش

[1] - تحققت هذه المبادرة على إثر مراسلة مع جامعات مختلفة بهدف الإشراف على الأطروحة و قد وافق الأستاذان الدكتوران المذكورة أعلاه –مشكورين- على هذا الإشراف و قبلا تسجيلي بجامعة العلوم و التكنولوجيا بوهران و بالتالي إعفائي من دفع نفقات بالعملة الصعبة لم أكن قادرة على دفعها

[2] - CLEMENT, Pierre.- Architecture et Anthropologie : quelques réflexions.- lin Espace des autres, Ed/ de La villette, 1987.

[3] - Espaces verts et croissance urbaine : le cas d’Oran.- Mémoire de Magister soutenue à l’Institut d’Architecture de l’USTO en 1990.

 

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran
+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11
+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Recherche