إنسانيات عدد 13 | 2001 | أبحاث عمرانية | ص 27-43 | النص الكامل
The town in an Algerian novel : The Constantine space Abstract: This article aims at examining the relationship between character and urban space through a thematical analysis and socio-critic of Tahar Ouettar's novel "Ez-Zilzel" (Earth quake). The town being a field of research for a plurality of subjects, this article is based on several theoretical contributions of a socio-psychological and semiological nature to draw out the meaning of Boularouah's journey across the town of Constantine, which is characterized by an equivocal feeling (attraction/ repulsion) becoming a feeling of reject, and rupture, because the town has met with several socio-political changes upsetting the political – sociological hierarchy due to rural exodus and agrarian reforms, which have opened up the Constantine space formerly closed to lower social class unaccepted by the town as it threatened its interests. This journey to Constantine is to preserve his land, but the trip veers abruptly. |
Mohamed DAOUD : Chargé de cours, Faculté des arts Langues et arts, 31 000, Es Senia, Oran, Algérie.
Centre de Recherche en Anthropologie Sociale et Culturelle, 31 000, Es Senia, Oran, Algérie.
أصبحت إشكالية المدينة منذ عهد قريب الشغل الشاغل للعديد من الباحثين داخل الجزائر حيث تعتمد العديد من المقاربات في الاختصاصات المتنوعة للعلوم الإنسانية و الإجتماعية (علم النفس - الإجتماعى، علم العمران، الأنثروبولوجيا، السيموتيك، الجغرافيا،...). و في هذا الإطار يمكن الإشارة إلى صدور في المدة الأخيرة لمجموعة من المجلات المتخصصة التي تناولت هذا الموضوع : إنسانيات، ريفليكسيون، معالم...)[1]، بالإضافة إلى العديد من الأبحاث في مختلف التخصصات المعنية بالموضوع.
و هذا يدل على أن الموضوع المتعدد الدلالات يخضع للعديد من المقاربات و الاختصاصات، لكن عندما نعالجه ضمن علاقته بالرواية، فإن إحالة النص على الواقع المرجعي أو بالأحرى على خارج - النص (Hors-texte) كما قيد داخل النسيج الروائي تصبح ضرورية. و تفرض هذه الإحالة التوجه إلى الاختصاص الأقرب إلى مجال البحث الذي نخوضه ألا و هو النقد الأدبي و لكن الحقل المعرفي مرجعية فكرية و نظرية متعددة نجملها في اعتبار النص الأدبي خطاب يملي شروط و آليات مقاربته.
لكن قبل ذلك، لابد من الإشارة إلى أن المدينة تمثل فضاءا جغرافيا و اجتماعيا تضم مجموعة من البنايات يسكنها عدد معتبر من البشر يشتغلون في نشاطات ذات طابع تجاري و صناعي و إداري، أي تختلف عن القرية من حيث الطبيعة الاجتماعية و الاقتصادية، و كذا من حيث العدد البشري و نوعية العلاقات الإنسانية، فهي - أي المدينة - تنزع نحو الفردانية عكس القرية حيث تغلب العلاقات ذات الطابع الجماعي و العائلي و الاعتماد على الموارد الفلاحية و خدمة الأرض و رعاية الحيوانات الأليفة.
فالمدينة باعتبارها بنية جغرافية و معمارية و تاريخية و إجتماعية المؤسسة على التبادلات التجارية و الإدارية و التواصل الإعلامي النوعي تملك هوية تحددها و بالتالي تتحدد بها هوية من يسكنها. فقد تقتحم العديد من الصور مخيالنا بمجرد أن نذكر أسماء مدن سواء كانت قديمة أو معاصرة مثل : القدس أو أثينا أو روما أو باريس أو موسكو أو نيويورك.
و يمكن القول أن المدينة هي ظاهرة العصور الحديثة بسبب نشأتها مع الثورات الصناعية، و ما أفرزته هذه من تراتبية إجتماعية داخل فضاءاتها الحضرية من خلال توزيع مساحتها إلى أماكن للعمل و أماكن للسكن و أماكن للهو و الترويح عن النفس، و أماكن للبيع و الشراء، مركز و هامش، وسط وضفاف أو ضواحي، أحياء للأغنياء و أحياء للفقراء...باختصار إن المدينة هي ذاتها المجتمعات الحديثة.
فممارسة المدينة، أي العيش داخلها لمدة طويلة أو قصيرة يقود بالضرورة إلى "تحديد تمثل عقلي مشوه نوعا ما، أو مشحون بالرمزية نوعا ما"2، و يمكن الحديث عن هذه الممارسة من منطلق أن هذا الفضاء الحضري هو "مسرح المغامرة البشرية، تعبر عن أسلوب حياة مجتمعاتنا، و تروي ماضي هذه المجتمعات و تعلن مسبقا عن تحولاتها"3.
و بناءا على ما سبق فإننا لا نستطيع فصل ممارسة المدينة بتمثلاتها العقلية عن ما هو داخلي و عميق لدى النفس البشرية بجوانبها الوجدانية و الإنفعالية، فمقاربة معيش و مخيال المدينة تتم بصفة داخلية، و في هذا الصدد، لا يمكن لها أن تستغني عن دور الإيديولوجيا و عن التصور العلمي للعالم و عن المعرفة الحسية ذات الطابع الذاتي .(La connaissance sensible)
فالمدينة هي تمثل متداخل ذاتيا (représentation intersubjective)، و كل تمثل هو تأويل لتنظيم هذا الفضاء المتأسس على ثلاثة عناصر هي : هوية المكان، بنية عناصره و كذا دلالاته الوظيفية و الرمزية. و العلاقات التي يقيمها الفرد داخل هذا الفضاء تتم من خلال مرجعية ذاتية المركز حسب الإحداثيات التي يملكها الفرد عن المكان و كذلك من خلال مرجعية خارجية المركز مستقلة عن حقل الشخص.
و تعاين المدينة من خلال ثلاثة مستويات إدراكية مختلفة تتعلق بالنظر و التذكر و التثمين مما يفرض وجود مسافة معينة مع عناصره الثلاث المذكورة سابقا4. و هكذا تتحول المدينة إلى متحف مخيالي صوري (musée imaginaire)، ولا نستطيع الحديث عن الإنسان المعاصر دون الحديث عن المدينة، و بالأخص عن دوافع و أسباب و كيفية ممارسته للمدينة.
أسئلة القراء
و عندما نتحدث عن المدينة في الرواية الجزائرية، فإننا نجد أن مثل هذه الإشكاليات الموضوعاتية قد طرقت و نذكر على سبيل المثال، موضوعات : الأرض في الرواية الجزائرية، المرأة أو الثورة، المثقف أو الإيديولوجيا...لكن الملاحظ على هذه المعالجات المختلفة أنها كانت تقتصر على إسقاط الأحكام الجاهزة و الخارجية عن النص، بالإستحسان أو الإستهجان... و يمكن الجزم أن مثل هذه القراءات هي قراءات إيديولوجية محضة لا أقل و لا أكثر، و إن كانت كل قراءة هي بالضرورة إيديولوجية لكن الاختلاف يقع في الجهاز المعرفي الموظف و في نوعية توظيفه.
و يمكن استثناء من هذه الآثار النقدية، العدد الخاص من مجلة المساءلة مع التحفظ المنهجي على بعض المقالات الواردة بالعدد5 و بعض الكتابات النقدية لكل من عبد المالك مرتاض و رشيد بن مالك و عبد الحميد بورايو و غيرهم...
يحاول هذا الاتجاه النقدي المستفيد من المنجزات الحديثة في حقول السيـميوتيك و علم الدلالة و الشعرية للخروج من الدروب المطروقة بغية الوصول إلى نتائج جديدة في قراءة الرواية الجزائرية، و تجدر الإشارة كذلك إلى أن الدراسات التي عالجت موضوع المدينة في الأدب الجزائري هي قليلة جدا، إن لم تكن منعدمة حسب المعلومات التي نملكها6.
فالموضوع، كما يبدو، مفتوح على مصراعيه للإجتهاد و المغامرة، حيث أن كل نص، يملي أسلوب طرقه و بحثه، و كذا آليات قراءته.
الواضح أن المدينة قد مثلت فضاءا للغيرية في النصوص الروائية الصادرة في فترة الخمسينات عند كل من محمد ذيب في ثلاثيته وكاتب ياسين في روايته "نجمة" وغيرهما...
كانت مدينتا تلمسان و عنابة مثلا عند الروائيين المذكورين فضائين للإختلاف بصفتهما مدينتان أوروبيتان حيث اللامكان و اللاشرعية. فالمدينة هنا هي فضاء للسلطة الإستعمارية، للموت و الحقد و الكراهية و الإقصاء و الخيبة و الضياع.
كان ذلك في الرواية المكتوبة قبل الخمسينات، فهل تغيرت الإشكالية؟
الواضح أن الشرعية الثورية و السياسية من حيث الخطاب الإيديولوجي و السياسي في الجزائر، لم تكن للمدينة، و لو أن هذه الأخيرة نظّرت و خططت للعمل الثوري ضد الكولونيالية.
فالقرية و الفضاءات الهامشية و الضواحي هي صاحبه الشرعية، كما يبرز ذلك من خلال الخطاب المؤسس للفعل السلطوي الذي جعل من المدينة مركزا له. وقد حاول النظام المنبثق في بداية السبعينيات إلى حدود نهاية التسعينيات قلب موازين القوى لصالح الفضاءات الريفية "بتمدينها" من خلال عملية الإصلاح الزراعي بغية توقيف النزوح الريفي، لكن هذا النزوح لم يتوقف، مما تسبب في "ترييف المدينة".
و إذا حاولنا أن نحصى عدد الروايات الجزائرية التي جعلت من الفضاءات الحضرية مسرحا لأحداثها، نجدها أقل بكثير بالمقارنة من الروايات التي تحدثت عن القرية، ذلكم أن معظم كتاب الرواية الجزائرية باللغة العربية هم من ذوي الأصول الفلاحية، مما جعل أغلبيتهم ينسجمون مع الخطاب السياسي السائد في السبعينيات.
فقد جعل هذا الخطاب من الإصلاح الزراعي أساس مشروعه السياسي حيث عمد إلى ترغيب الفلاحين في إمتلاك الأراضي بغية الترقية اجتماعي و الإستقرار المكاني.
و في هذا الإتجاه تبرز رواية "الزلزال" للروائي الطاهر و طار معلما رئيسيا في الرواية الجزائرية الناطقة باللغة العربية، أتخذ من مدينة قسنطينة إطارا جغرافيا تتحرك داخله الشخصيات و تنمو الأحداث.
2- البحث عن المدينة "الحقيقة" أو العودة إلى فضاء - الأمومة:
تبرز مدينة قسنطينة كما قيدت في نص "الزلزال" من خلال تمثلات وعيين متلازمين، هما وعي الواصف و وعي الشخصية الرئيسية المتمثلة هنا بعبد المجيد بو الأرواح.
يبدو من البداية أن وعي الشخصية هو وعي خاضع للفضائية (Conscience spatialisée)، حيث تلعب الحواس دورا أساسيا في تمثيل المدينة و شحنها بالأبعاد الوجدانية و الإنفعالية و الرمزية و الإيديولوجية، من خلال عمليات ثلاث: النظر في الحالة الحاضرة للمدينة و الإستعانة بالذاكرة لبعث ماضي المدينة و أخيرا المقارنة بين الحالتين.
إن عبد المجيد بو الأرواح الذي يسافر إلى قسنطينة منطلقا من العاصمة، بغية استباق الأحداث و بالتالي الوقوف ضد إجراءات الإصلاح الزراعية القائمة على توزيع أراضي الملاك الكبار على الفلاحين الفقراء، يرغب في استعارة أسماء أقاربه و معارفه ليسجل لهم أراضيه فيحول بتلك الطريقة الملتوية دون تطبيق تلك الإجراءات على أملاكه.
إن هذا السفر - المهمة يتحول مع توالي السرد إلى كابوس حيث ترتطم صورتان للمدينة، صورة التقديس و صورة التدنيس لدى بو الأرواح حيث يقع هذا الأخير في ارتباك شديد العمق، فيتغير من الرغبة الإيجابية، أي المعارضة و الإحتجاج ضد قوانين الفعل السلطوي إلى النكوص و محاولة الإنتحار. لماذا هذا التحول؟ إننا لا نستطيع الفصل بين الفضاء الحضري الذي تجوبه الشخصية الرئيسية و بين وجدانها و مخيالها اللذان يستهلكان هذا الفضاء، باعتبار أن الواصف يوظف وصفا متحركا من خلال تنقلات الشخصية داخل أحياء و أزقة المدينة مما سيؤثر في نفسيتها.
فالمدينة بوصفها مكان للإستقرار أو العبور، تستدعي نوعا من العلاقة مع فضاءاتها حسب إحدى الرغبتين، إلا أن البحث عن الألفة التي تضمن الراحة و الأمن هو القاسم المشترك بين هذين الوضعين أي الاستقرار أو العبور.
و ينتج عن وجود الألفة شعور بالغبطة (L’euphorie) و غيابها يؤدي إلى الشعور بالضجر (La dysphorie) 7 و تسمى هذه العملية، أي إقامة علاقة أليفة مع الفضاء، بالتعشيش La nidification8 حيث يتحول ذلك إلى فضاء للأمومة يشمل جوانب وجدانية و رمزية. يكون الهدف من السفر إلى مدينة ما غالبا، هو إكتشاف المجهول، بالبحث عن الجديد و عن المتعة بمعناها العريض، أي البحث عن الهناك و عن الغرابة بغية استهلاكها، و يرافق دائما هذا التوق صورا جميلة و أوهاما وردية عن الوجهة المراد بلوغها.
لكن في هذه الحالة، فإن بو الأرواح ليس غريبا عن مدينة قسنطينة، بل يملك معرفة مسبقة عنها، حيث عاش بها قبل سبع عشر سنة خلت، و ما توجهه إليها في عز الصيف فهو لغرض الإعتراض على تأميم الأراضي التي أمتلكها قبل ذلك بطرق ملتوية. يحاول بو الأرواح، و بناءا على خبرته السابقة بالمدينة، التي تكونت لديه قبل اندلاع الحرب التحريرية و بعد سبع سنوات من الحصول على الاستقلال، أن يفحص مكونات تمثله للمدينة، من خلال فعل إعادة تعشيش وجداني و رمزي، أي إسقاط خطاب تكوّن سابقا على حاضر المدينة، لكن هذه الأخيرة قد عرفت تحولات لا يستطيع إدراكها و استيعابها بو الأرواح خلال مدة انقطاعه عنها.
إن التأرجح بين الماضي و الحاضر، أو بالأحرى التمسك المرضي بالماضي، ماض المدينة، يربك هذا الأخير و يجعله يعيش حالة من البرانويا Paranoä الحادة. و السبب في ذلك هو أن فضاء - الأمومة الذي كان يبحث عنه بو الأرواح أصبح جحيما أي فردوسا مفقودا.
تهافت صورة المدينة - الرمز
إن المدينة الحقيقية في نظر بو الأرواح هي قسنطينة الرمز، قسنطينة الثلاثينات و الأربعينات حيث التراتبية الإجتماعية واضحة، فلا مكان للرعاع بها، و حيث الوقار و السلوك الراقي و التفاهم المتبادل بين الأعيان و العلماء. أما قسنطينة السبعينات، فهي المدينة الزيف، و الوهم و الخيبة، أي باختصار اللامكان بسبب فقدانها لدلالتها و لرمزيتها و لنموذجيتها.
و الملاحظ أن العلاقات الإنسانية و الإجتماعية الفضائية مع المدينة هي علاقات معادة و مسترجعة أي ليست علاقات جديدة، أي يحاول بو الأرواح بعث الحياة فيها ثانية. و في الصدد تلعب الذاكرة دورا أساسيا بما تحمله من حنين و من رغبة في إعادة امتلاك هذا الفضاء الحضري بواسطة فعل الزيارة و البحث. إنه يبحث عن اليقين، بعد أن ولج الشك أعماقه، بحث عن مساعدة للوقوف في وجه أعدائه الإيديولوجيين الذين جعلوا المدينة تفقد قدسيتها و رونقها.
فالمدينة كما تبرز من خلال مونولوق بو الأرواح : عاصمة فلاحية و الدليل على ذلك مخزن الحبوب الشاذ الوضع9، هذا من الناحية الإقتصادية أما من الناحية الطبوغرافية فهي صخرة كبيرة يفصلها واد الرمال إلى طرفين : مدينة قديمة و هامش و تربط بينهما سبعة جسور و هي نفس فصول الرواية، إلا أنه لا منفذ لها من ناحية الصخرة، كما تتميز بالصعود و النزول، و لكل عملية من هاتين العمليتين دلالة كما سنرى فيما بعد. أما تاريخنا فإنها لا تزال تحافظ على بقايا التاريخ الفرنسي، ذلكم أن تلك البقايا لم تتغير كثيرا مثل : الثانوية، و المستشفى، البنايات و الجسر المعلق (إله قسنطينة..) و تمثال القدسية جان دارك بجناحيه، المتأهب لطيران لم يتم، منذ عهد بعيد10. إن ثبات و استقرار، هذه المعالم يدخل في نفسه شعورا بالابتهاج، و يضيف سماعه للآذان درجة أخرى من الابتهاج في وجدانه المشغوف بلقائه للمدينة من جديد. كان هذا في بداية دخوله المدينة و انطلاق السرد الروائي، لكن هذا الحماس يبدأ في الفتور شيئا فشيئا ليتحول إلى عدائية صارخة.
و على الرغم من أن المدينة تبدو أنظف و أزهى، من ذي قبل، إلا أنها تبرز منحية و قد تعددت بها الألوان و قل اللون الأوروبي الوقور، السكري11، و مما يجعل بو الأرواح يشك و يتساءل عن أحوال المدينة الطارئة حيث أكتظ بها الراجلون و الراجلات و ازدحمت شوارعها بالسيارات. إن هذا الإمتلاء و هذه الزحمة البشرية جعلته ينفر منها، و تتزعزع ذاكرته و يتخلخل مخياله الذي تكون سابقا عن المدينة.
إذا هناك انجذاب (attraction) نحو الملامح الجغرافية و التاريخية للمدينة، نحو هويتها الأصلية، لكن هناك نفور (répulsion) من حاضر المدينة بسبب الاكتظاظ البشري بها و بالتحولات الإجتماعية و السياسية الطارئة عليها. دخل بو الأرواح المدينة و حواسه كلها يقظة، النظر و الشم و السماع، حيث يقول في مستهل الرواية (Incipit).
"حاسة الشم، تطغى على باقي الحواس، في قسنطينة، في كل خطوة، و في كل إلتفاتة، و في كل نفس، تبرز رائحة متميزة، صارخة الشخصية، تقدم نفسها لأعصاب و قلب المرء"12. و من خلال إتصالها بالواقع الحضري بأبعاده المختلفة و جوانبه الحيوية المتعددة تقوم الشخصية بالتقويم السلبي للتحولات التي تعرفها المدينة.
فتمثل بو الأرواح لهذه الأخيرة هو ذو مرجعية دينية محضة يطبعها التقديس، لإذ يقول : "قسنطينة مثل الكعبة، يستحاب أن يدخلها المرء يوم الجمعة"13.
إن هذا الانجذاب التقديسي للفضاء القسنطيني يتحول إلى نفور بعد زيارة بو الأرواح للفضاءات الأليفة لديه ليدمج في تمثله لها أجزاء خطابات سمعها لدى عملية الفحص التي قام بها قبل دخوله الجامع، حيث شيخ حضري بطربوشه الأحمر الطويل يقول :
"ضاقت المدينة، خمس مائة ألف ساكن، عوض مائة و خمسين ألفا، في عهد الإستعمار (...) يا صاحب البرهان، يا سيدي راشد، أحضر، و قل فيها القول الفصل. حركها بهم و بمنكرهم و فسقهم و فجورهم...14.
إن اكتظاظ المدينة، ينبئ عن تشكل تراتبية جديدة بفعل انحصار فئات الأعيان و صعود فئات اجتماعية دنيا، لقد كان الفضاء الحضري مغلقا في عهد الاستعمار و مقتصرا على فئات معينة لكنه أصبح في هذه المرحلة مفتوحا لكل الفئات الآتية من الريف. مع هذا التفاعل الإجتماعي و الهجرة الريفية بدأت المدينة تفقد "هويتها الثقافية"، حيث أصبح العامل الإقتصادي مهيمنا، و انفجرت المرجعيات الطبيعية للفضاء الحضري و تحطمت أشكال الإنتاج الإجتماعي السابقة مما يوحي "بأزمة قيم" كبيرة داخل تمثل بو الأرواح لهذا الفضاء.
البحث عن المعنى أو محاولة إعادة الأدللة (resémentisation)
إن بو الأرواح، هو شيخ في الستين من عمره، مدير مدرسة بالعاصمة، يعني أنه يملك سلطة إدارية و تربوية و أخلاقية ينظر بعين المربي للناس، فهؤلاء الآتون من القرى و المداشر ناقصون تربية في نظره، و عليه لا بد لهم من الإبتعاد عن المدينة و العودة إلى قراهم. هذا بالإضافة إلى اعتباره للعلاقة بالعلم و المعرفة، علاقة إستعبادية، تجعل المالك لهذه الثروة الثقافية متميزا عن الرعاع، إنها عقلية الأعيان المحضة التي تنظر للطبقات الإجتماعية المختلفة عنها من فوق حيث رغبة التحكم فيها و توجيهها حسب أهوائها،إنها عقلية ترفض الإختلاف و ترفض للتواصل مع الآخرين و تتكل على قوى غيبية.
إن هذه الصفة القوية التواصل في شخصية بو الأرواح جعلته يرفض النقاش حتى داخل قاعة التدريس أين واجه أحد طلبته الذي سأله عن دور حركة السبابة أثناء الصلاة، و اتهمه بالمروق و طرده من القسم15.
هذا مع ظهور بو الأرواح كشخص عاقر و شاذ جنسيا، مما يدل على عدم إنتاجه للجنس البشري و كذا على عدم إضافته شيئا للمجتمع، و هو الشيء الذي يعمق نرجسيته و حقده على الآخرين، هذا إلى جانب علاقته المرضية بالمال التي تجعله ينفر ممن يريدون مشاطرته و لو الجزء القليل مما يملك و مثال ذلك المتسولون و المتسولات.
فالمدينة التي عرفها سابق أصبحت ملوثة، الشيء يجعله يشعر بالإختناق، و يتملكه إحساس قوي بالشك و الريبة و القلق، و بالتالي الحنين إلى الماضي. و عليه يحاول "إعادة ترتيب" المدينة حسب ما يملكه عنها من تصورات جميلة و أليفة، أي محاولة إعادة أدللة لها (resémentisation) ، و استرجاع الفضاء "المفقود".
و تبدأ الرحلة داخل المدينة، و لا يستطيع القارئ التعرف على معالمها إلا من خلال تمثل بو الأرواح لها، و هو تمثل إنتقائي représentation sélective حيث الترسيم marquage لمعالمها هو ذو طبيعة وجدانية و إيديولوجية.
فالرحلة بالنسبة لأبي الأرواح ليست رحلة تلقينية Voyage initiatique، بل هي رحلة تجديد الصلة بالأصول و البحث عن معنى ثابت. و ضمن هذا الفعل الفردي تبرز الحاضرة على حقيقتها و يوميتها و معيوشها و راهنيتها، لكن ما يحمله بو الأرواح عنها هو خطاب افتراضي discours virtuel ينطلق من الجانب المهيمن في ذاكرة المدينة الجماعية باعتبارها فضاءا دينيا.
فمدينة قسنطينة هي مثل "مدينة روما، إنها تقدم صراعا دائما بين الضرورات الوظيفية للحياة العصرية و الحمولة الدلالية التي يقدمها لها تاريخها"16.
إن هذا الصراع أو التصادم و العلاقة المزدوجة بالمدينة تبرز داخل نفسية بو الأرواح الذي يتجول في الأماكن الأليفة لديه لعله يجد ما يقربه أكثر منها، متوزعا "بين توجهين متعارضين : رغبة في الحركية و التنقل، و رغبة في الثبات و الإنغراس"17.
تبرز مقروئية المدينة من خلال هذه الإزدواجية و هذا التعارض بين القيم "الحالية" و القيم "الماضية" حيث فقدت هذه الأخيرة، و أصبح أسلوب الحياة و الثقافة الحضريتين في خبر كان، بسبب هذا النزوح الريفي الآتي من القرى و المدن المجاورة "عين البيضاء" و "عين مليلة" و "باتنة" و شلغوم العيد" و "القل"...)18و الجدير بالذكر أن هذا النزوح قد جعل المدينة تخضع لنوع من "نزع الأدللة désementisation المكتسحة للمدن بقدر ما يشعر المرء تجاهها بعدم الرضى تبرز له استلابا" 19، فمدينة قسنطينة انزاحت إجتماعيا و ثقافيا و إيديولوجيا و دينيا، حيث اهتز بها نظام القيم و أصبحت "فضاءا مريضا" لا بد من معالجته بكيفية أو أخرى، أو بالقضاء عليه.
يحاول بو الأرواح استذكار الملامح "الأصلية" للمدينة حيث تحتل صورة ابن باديس المركز، لكن هذه المرة تظهر صورة ابن باديس غريبة إلى حد كبير20، "و لو عاش لكان معه شأن. إنما الدين هو الدين، و ليس شيئا آخر. الدين هو الإخلاص للسلف. و كل بدعة ضلال"21. هكذا فكر بو الأرواح و هو يؤدي الصلاة داخل المسجد الكبير لكنه يتراجع عن هذا الشعور الغريب ليقرر إنتمائه لجماعة ابن باديس و التبسي و الإبراهيمي حيث شهد صورتهم في مطعم بالباي الشهير، و حيث وجدا أخيرا، "من ينتمي إليهم هؤلاء هم الصالحون... التجارة بما فيهم الخونة و المفلسون معنا. مع السلف، الشعب الحقيقي هو هؤلاء، و ليس العمال و الخماسة، و الرعاة"22.
يلاحظ بو الأرواح ثباتا للمعالم الحضارية للمدينة لكن ما تغير هو إجتماعيتها و اختلاط الملامح و الألوان و الأصوات بها مما جعل طابعها غير المضياف طاغيا بالنسبة إليه حيث أن مطعم بالباي الذي كان، كما تدل على ذلك الصورة الضخمة المعلقة على الجدار في إطار ذهبي، مقام "كبار ولاية قسنطينة الكبرى، باشاغاوات و آغاوات و قياد، و نواب وموظفين سامين.. أنوار ثرية ضخمة تتلألأ، منعكسة على ملاعق الفضة، و كؤوس البلور، و مزهريات النحاس.."23، قد تغيرت أحواله "و تكوخ" إلى حد بعيد.
و بعد خروجه من المطعم يتوجه إلى شارع 19 ماي، شارع فرنسا سابقا، هنا كان الحب، و الغرام و الحبور يشع من عيون الغادات الأوروبيات و الإسرائيليات. هنا ما كانت تنقطع روائح عطر الياسمين و عطر حلم الذهب، و عطر اللبان.."24.
ثم ينتقل إلى مقهى البهجة الذي كان وكرا للمثقفين حيث سخاء و كرم البرجوازية الصغيرة و إحتشامها، و بعد ذلك يتوجه إلى مكتبة مامي إسماعيل التي كانت ذات شأن كبير من الناحية الثقافية و السياسية قبل اليوم، تحولت الآن إلى متجر للأثاث القديم.
يحاول بو الأرواح من خلال زيارته للمدينة للوقوف على أربعة معالم رئيسية في نظره: الجامع الكبير حيث عدم وجود التمييز الطبقي لكونه مركز المرجعية الدينية، ثم ينتقل إلى مطعم بالباي مقام الأعيان سابقا، و من ثم إلى مقهى البهجة محل البرجوازية الصغيرة و أخيرا شارع 19 ماي، شارع الحب و الجمال الذي به مكتبة مامي إسماعيل مكان البرجوازية المثقفة.
إن هذه الأماكن التي زارها بو الأرواح هي التي يحاول من خلالها إعادة أدللة المدينة، بإعطاءها دلالة مبهجة حيث يكون التقييم لديه كالتالي:
الأعيان # الرعاع
الأغنياء # الفقراء
المثقفون # الجهلاء
الحضر # البدو
العالي # الدونى
الهوية # الغيرية
نلاحظ أن أبو الأرواح يضع نفسه و فضاءاته التي زارها في البداية في خانة القيم الإيجابية و المختلف عنها في القيم السلبية.
أما الآن، فإن الأمور أصبحت منقلبة، حيث ضاعت واندثرت كل هذه الملامح "الأصلية"، وفقدت بريقها السابق، و حتى الشوارع أصبحت لها أسماء شيوعية (يوغوسلافيا...)" في السابق كنا نعتبر مثل هذه المسائل شكلية، أما و قد بدأوا يكشرون عن أنياب الذئاب فتجب المحاسبة على كل دقيقة25"، يقصد الحكومة و السلطة السياسية. هذا بالإضافة إلى أن المدينة تريفت بسبب اكتظاظها بالريفيين، و "هذا هو سبب كراهية الحضريين للآفاقين"26، لأن علاقتهم تجارية محضة.
فإنتقال بو الأرواح إلى الأماكن الأخرى بحثا عن أقاربه لتسجيل أراضيه على أسمائهم تهربا من القانون، يجعله في تصادم مع "صفاء" تلك الأماكن التي زارها في البداية و "تلوث" الأماكن الأخرى، مما يفرض تصادما عنيفا بين "الفضاء الرمزي" (الجامع الكبير، مطعم بلباي - مقهى البهجة و مكتبة مامي إسماعيل، "و" الفضاء المفارق" (المساحات و الشوارع و الأزقة...). فالمدينة التي كانت من المفروض، أن تكون "الهنا" بالنسبة إليه يرتاح فيها لما توفره من روائح طيبة و لون وقور، تحولت إلى "الهناك"
الفضاء الرمزي # الفضاء المفارق
الرائحة الطيبة # الرائحة الكريهة
اللون الوقور # تعدد الألوان
الراحة # الإزعاج
الهدوء # الفوضى
لغة الأعيان # لغة العامة
الهنا # الهناك
إن هذا الوضع الجديد يجعله يثور و ينتفض و يدعو للمدينة بالزلزال و الكارثة. و في هذا الإتجاه يقول غاستون باشلار في كتابه "شعرية المكان" أن "فضاءات الحقد و الصراع لا يمكن أن تدرس إلا بالإحالة على المواد الملتهبة و على صور تستدعي قيام الساعة"27 و يتضح لدى بو الأرواح أن الفضاء "المفارق" قد احتل "الفضاء الرمزي" و هذا علامة من علامات الساعة.
و السبب في ذلك هو تخطي الشاوية للواد و الجسور السبعة للصعود إلى القصبة28، أي تخطي "الفضاء المحوري الذي كان يوزع المدينة إلى فضائين: فضاء مقدس (المدينة القديمة) و فضاء مدنس (ضواحي المدينة)" 29.
و لم يبق من الحياة الحضرية السابقة إلا الآثار، لقد هدم النازحون عالما و أقاموا آخر، "داسوا فوق عنق قسنطينة، و راحوا يضغطون، وهاهم يضغطون أكثر فوق صخرتها"30.
فالجو بوسط المدينة أصبح خانقا، و رائحة التعفن بالشوارع تكاد تقطع الأوصال، لقد تغيرت كل المعالم الحضرية، فمدخل السباط حيث يشاهد تجمعا بشريا لأجل انتخاب نقابة فنانين يفقد بو الأرواح صوابه، و يؤجج لديه رد فعل إيديولوجي عنيف. بهذا المكان يبدأ بالبحث عن أقاربه و أولهم عمار أخو زوجته الذي لم يره منذ تسعة عشر سنة، كان حلاقا بهذا المكان، و كذلك ابن عمه عبد القادر و عيسى ابن خالته الطرقي الذي يثق فيه، و الزرقي البرادعي ابن عم أبيه، و الطاهر ابن أخيه الذي كان نشالا برحبة جمال، لكن عمار قد استشهد ببطولة، و الطاهر أصبح ضابطا ساميا في الجيش، و عيسى ابن خالته قد تحول إلى نقابي شيوعي و البرادعي أصبح أستاذا بعدما كان أميا خلال الحرب التحريرية.
هذا بالإضافة إلى أن هؤلاء جمعيا و إن لم تكن لأبي الأرواح معاملة سيئة لهم من قبل، كان منه جفاء لبعضهم، مما يدعوه إلى الرغبة في تصليح ما قام بإفساده معهم حتى يرضون بمشروعه و إن اشترط عليه أحدهم التمتع بالأرض بعد وفاته سيرفض لأن الأرض، "أرضه و هو أدرى بها حتى و إن كان ميتا"31.
فضاء الغيرية و الكارثة
تتحول المدينة خلال تجوال بو الأرواح بها إلى فضاء للغيرية بوضوح و بخاصة عندما يكتشف حقيقة الحقيقة، أي حاضر قسنطينة الذي "تلوث" بفعل تشكل جديد للبنية الإجتماعية بها، و حدوث تغيرات هامة في حياتها العمومية. يقول بالباي صاحب المطعم العتيق لأبي الأرواح : "قسنطينة الحقيقة انتهت. أقول. زلزلت زلزالها.
لم يبق من أهلها أحد كما كان. أين قسنطينة بالباي و بالعقون و بن جلول و بن تشيكو و بن كراره. زلزلت زلزالها. زلزلت زلزالها و حل محلها قسنطينة بوفنارة و بو الشعير و بولغول و بوطمين و بو كل الحيوانات و النباتات"32.
يكتشف بو الأرواح حقيقة ذلك عندما يتجول في شوارع و أزقة المدينة و ساحاتها.
و لعل أول ما يلفت إنتباهه كثرة النساء السافرات، و خلافا للمتحجبات، فعيونهن نهمة و نظراتهن مشحونه بالفضول و التطفل. يقين أن الزواج متوقف في قسنطينة. المساكن ممتلئة"33. و كثرة الأطفال في مختلف الأماكن العمومية، و هكذا فالنساء هن سبب الخراب و الزلزال حيث يلدن مثل الأرانب الخنافيس و يعمرن العالم بالشياطين. إن موقفه من النساء يرتكز على نظرة حنسوية Sexiste قوية إلى حد التمييز العنصري، و يغتاظ أكثر عندما يدعوه أحدهم للدخول إلى منزله و هو الشيخ حافظ كلام الله و خريج الزيتونة، كلام بمدينة ابن باديس و يوم جمعة لا يطاق. فالفضاء القسنطيني الذي كان بالأمس جليا لديه يصبح ملتبسا، فالناس "كالذباب، كأنهم في يوم الحشر يتدافعون في حركة عشوائية"34 و الناس تتسابق و تنفق كل ما لها من نقود و تتهافت على البضاعة ترقبا لأي زلزال محتمل.
و إلى جانب كثرة الناس و الأطفال و سفور النساء، إن ما يجعل هذا الفضاء مقرفا و ضاغطا على وجدانه هو الروائح الكريهة و الأصوات و المزعجة و الأوساخ حيث يلاحظ ذلك حيثما حل : تكنة القصبة تبدو مائلة، و سيدي مسيد تحول إلى قصدير و مزبلة بولفرايس، دون بوسفور و حي الكدية... و من هنا يكون خراب المدينة، لكن الخراب لأولئك الرعاع الذين يسكنون في المنحدر: المتسولون، الباعة المتجولون، الفقراء، العاطلون أصحاب العاهات...
أصبحت المدينة مرعبة في نظر بو الأرواح إلى حد التفكير بتقسيمها إلى فضائين، فضاء الهوية و فضاء الغيرية إذ يرى أنه بشارع زيروت يجب أن يقام جدار كجدار برلين، ليؤكد شخصية كل جهة"35 فالغيرية مست كل أطراف المدينة مما يعمق الإختلاف و يشير إلى المتسببين فيه و هم الحكام الذين "ليسوا عربا، و ليسوا بربرا، و لا حتى وندالا أو تتارا أو مغولا و أقباطا، هؤلاء إما أن يكونوا روسا سلطهم الله على البلاد ليحطموا مقوماتها"36 و إما أن يكونوا بلا أصل و لا فصل و لا دين و لا ملة" إن أعداء بو الأرواح الإيديولوجيين موجودون داخل جهاز الحكم و هو السبب في القضاء على المدينة بجعل التراتبية الإجتماعية تنعكس و بسبب تآمرهم على أراضي الملاكين الكبار و مبالغتهم في اعتناق الإشتراكية.
بالأمس، لم تكن الأمور على هذا الشكل، كان الكفاح ضد الإستعمار بإسم العروبة و الإسلام، أما اليوم إن التخريب و الكفر و الإلحاد مسائل أخرى37 لأن بو الأرواح و أمثاله كانوا يعمرون الألسنة بلغة الضاد، لغة القرآن الكريم، و الأفئدة بالدين، بالحديث و السنة، و ما كان عليه السلف.
و أمام هذا التحور في الوظيفة الإجتماعية للفضاء الحضري القسنطيني و الزلزال الذي أصاب التراتبية بين الفئات الساكنة للمدينة، ينتقل بو الأرواح من الشعور بمحبة الفضاء Topophilie إلى الشعور برهاب الفضاء Agoraphobie، مما جعله يتأزم و يصاب بالتقزز و الغثيان و تنهار ذاتيته، بسبب فقدانه للعلاقة مع هذا الفضاء و تطور شعوره باللون الداكن و المادة السائلة داخل صدره و الدوار في رأسه و الإرتجاج في قلبه و الوهن في ركبتيه.
و هكذا يتركز شعوره الذي بدأ مبتهجا بلقائه الفضاءات الأليفة لديه و تطوره إلى علاقة مزدوجة تجمع بين الإنجداب و النفور لينتهي إلى الحقد على المدينة و الدعوة لها بالزلزال.
و يتكون خطاب الدعوة للزلزال و الكارثة من دعاء الشيخ الحضري و خطبة الإمام عن الزلزال بالمسجد الكبير و تذكره لبعض الآيات الموحية بقيام الساعة، إضافة إلى حديث بالباي عن المدينة التي زلزلت رمزيا و ثقافيا و إجتماعيا قبل اليوم. إن المدينة التي أحبها بو الأرواح "أيام العز" أيام تواجد الأوروبيين و اليهود بها حيث كان التفاهم بين هؤلاء و أولئك من الجزائريين الأعيان و العلماء تاما، و كانت التقاليد و الأخلاق و السلوكات الراقية مصانة، تحولت و أصبحت و كرا للرعاع النازحين من الأرياف و المدن الصغرى الذين حملوا معهم عاداتهم و تقاليدهم "البدائية" و "أفسدوا" المدينة. لقد أمسى بو الأرواح يكره المدينة إلى حد الدعوة لها بالزلزال و الكارثة و بخاصة أنها قابعة على صخرة قابلة للتفتث. لقد وصل إلى الباب المسدود في تيهانه داخل المدينة و فضاءاتها المختلفة حيث سيسيطر عليه الشعور بالإختناق و الإنزعاج و التوعك، فيعدل عن مشروعه بسبب عدم التلاؤم مع قسنطينة التي فقدت بريقها و قدسيتها و عذريتها لكن لا وسيلة له في الإحتجاج على هذا الوضع الجديد سوى الإنتحار، ذلك ما يحاوله في نهاية رحلته للمدينة.
الخلاصة
يمكن القول بعد هذه الرحلة الطويلة مع رواية "الزلزال" للطاهر وطار، أن هذا النص الروائي هو رواية المدينة، باعتبارها فضاءًا حضريًا و عموميًا، بكل استحقاق إذ وضعت شخصية بو الأرواح في مأزق عميق بسبب التحولات الإجتماعية و الثقافــية و الإيديولوجية و العمرانية التي عرفتها المدينة في ظل فترة غيابه عنها بحكم إلتحاقه بالعاصمة.
فقد كان يحمل لها شعورا مزدوجا موزعا بين الإنجداب و النفور إلى أن كرهها كرها شديدا، لأن من بحث عنهم كذلك ارتقوا اجتماعيا، و كذلك لكثرة الناس بها و اكتظاظها بهم. فمدينة قسنطينة "الحقيقة" ذي المرجعية الرمزية قد تهافتت و زلزلت زلزالها، ذلك ما يعاينه بو الأرواح من خلال رحلته داخل أزقتها و شوارعها و ساحاتها العمومية و أسواقها و مقاهيها.
الهوامش
[1]- أنظر : مجلة معالم، رقم 3، سنة 1997.- مجلة Réflexion، مارس 1998.- مجلة إنسانيات، رقم 5، ماي - أوت 1998.
2 - Collectif : Représenter la ville.- Paris, Editions communica, 1995.- p.5.
3 - Idem.- p.14
4 - Voir idem.- p.p.9-13
5- المساءلة - مجلة اتحاد الكتاب الجزائريين، العدد الأول، ربيع 1991.
6 - عقاق، قادة : المدينة في الشعر.- جامعة وهران، رسالة ماجستير.
و عمار يزلي. - مقال حول المدينة بجريدة الرأي - وهران.
7- Voir Greninas : Sémiotique et sciences sociales.- Paris, Seuil, 1976.- p.p.129-159.
8 - Voir Nicolas Gustave Fischer : La psychologie de l’espace.- Paris, PUF (Que-sais-je), 1981.- p.90.
9 - وطار، الطاهر : الزلزال.- الجزائر، الشركة الوطنية للنشر و التوزيع، 1976، ط.2.- ص.10.
10 - الرواية.- ص.ص. 10-11.
11 - الرواية.- ص.11.
12 - الرواية.- ص.9.
13 - الرواية.- ص.9.
14- الرواية.- ص.ص.18-19.
15 - الرواية.- ص.ص.18-19.
16 - Barthes, Roland : L’aventure sémiologique.- Paris, Ed du Seuil, 1985.-p.270.
17 - Almand, Sylvain.- (in) Repères (revue) : La ville et l’urbanisation.- N°3, Alger, 1997.-p.254.
18 الرواية.- ص.16.
19 - Creimas.- Op.cité.- p.144.
20 - الرواية.- ص.17.
21 - الرواية.- ص.18.
22 - الرواية.- ص.26.
23 - الرواية .- ص.27.
24 - الرواية.- ص.35.
25 - الرواية .- ص.44.
26 - الرواية.- ص.57.
27 - Bachelard, Gaston : Poétique de l’espace.- Paris, P.U.F, 1992, 5ème édition.- p.17.
28- الرواية .- ص.ص 39-40.
29 - Gontard, Marc : Violence du texte.- Paris, L’Harmattan, 1981.- p.69
30- الرواية .- ص.30.
31- الرواية .- ص.62.
32 - الرواية .- ص.28.
33 - الرواية .- ص.ص.33-34.
34 - الرواية .- ص.12.
35 - الرواية .- ص.48.
36 - الرواية .- ص.41.
37 - الرواية .- ص.42.