إنسانيات عدد 13 | 2001 | أبحاث عمرانية | ص 63-73 | النص الكامل
Layachi ANSER : Professeur en Sociologie, Université de Annaba, 23 000, Annaba, Algérie
Centre de Recherche en Anthropologie Sociale et Culturelle, 31 000, Oran, Algérie
يعتبر مفهوم المجتمع المدني أحد التعابير الأكثر انتشارا في نهاية هذا القـرن و بداية الألفية الجديدة، و الواقع أن انتشاره مرتبط بتحولات عميقة شهدها العالم في هذه الفترة. كما ارتبط هذا التوسع في استعماله و شيوعه بمفاهيم أخرى نكاد نجزم أنها لصيقة به بينهما من ارتباطات عضوية قوية سواء من حيث أطرها المرجعية الفكرية، أو من حيث علاقات التداخل التي بينها في الممارسة الفعلية. تلك المفاهيم هي الدولة الحديثة، (دولة الحق و القانون)، الديمقــراطية و حقوق الإنسان.
هذه المفاهيم في مجموعها تشير إلى حركية اجتماعية قوية و سيرورة تحولات عميقة عرفها العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر في البلاد الأوروبية التي دخلت عهد الثورة الصناعية و التحول الرأسمالي قبل ذلك بقرن من الزمن أي في منتصف القرن الثامن عشر. كما شهدت نهاية هذا القرن انهيار القطبية الثنائية المتشكلة بعد الحرب العالمية الثانية على المستوى العالمي، و زوال دولة الرعاية في معظم البلدان الأوروبية المتقدمة، و فشل أنموذج الدولة الوطنية في البلاد المتخلفة و منها البلاد العربية في تحقيق حلم التنمية الوطنية بمحوريها، الإقلاع الاقتصادي و التقدم الاجتماعي.
من هذا المنطلق، لا نبالغ إن اعتبرنا مفهوم المجتمع المدني، إضافة إلى المفاهيم الأخرى التي أشرنا إليها سابقا، أحد المعالم الرئيسية التي تعطي للمرحلة القادمة هويتها و خصوصيتها. و من ثم يمكننا فهم الاهتمام المتزايد بهذه الظاهرة في الدراسات و الأبحاث التي يقوم بها المختصون في العلوم الإجتماعية سواء في البلاد المتقدمة أو حتى في البلاد العربية. وبالنظر إلى الأهمية الاستثنائية لمفهوم المجتمع المدني من حقنا أن نتساءل عن مسارات التطور التي يعبر عنها، و الدلالات المختلفة التي أعطيت له، و الشروط التاريخية التي تحيط بتكوينه و تطوره، و علاقته بالمفاهيم الأخرى مثل المجتمع الأهلي، و الديمقراطية و الدولة، و نتساءل بخاصة عن مدى تجسيد هذا المفهوم لواقع المجتمعات العربية عموما، و الواقع الراهن للمجتمع الجزائري خصوصا. ذلك ما سوف يتضمنه القسم الأول من هذه الورقة.
أما القسم الثاني فيخصص لعرض و معالجة النموذج الجزائري من خلال تحليل تجربة التعددية السياسية، و ميلاد الحركة الجمعوية باعتبارهما أكثر العوامل المعبرة عن قيام المجتمع المدني في الجزائر مركزين على طبيعة التناقضات التي تميز العلاقات بين السلطة السياسية و أجهزتها و مؤسساتها كونها المجسدة للدولة من جهة، و تنظيمات المجتمع المدني الناشئ ممثلة في الأحزاب السياسية و الجمعيات المدنية.
-
حول مفهوم المجتمع المدني :
عرف مفهوم المجتمع المدني كغيره من المفاهيم في العلوم الإنسانية و الاجتماعية تغيرا و تطورا في معناه و دلالاته منذ ظهوره، و يمكننا التعرف على ذلك من خلال الاستعراض السريع للمعاني التي أعطيت له في الفترات التاريخية المتتالية منذ ظهوره في منتصف القرن السابع عشر حيث حدده توماس هوبز الفيلسوف الإنجليزي بشكل لا يميز فيه بينه و بين الدولة على النحو التالي : "المجتمع المنظم سياسيا عن طرق الدولة القائمة على فكرة التعاقد"[1]. أما مواطنه الفيلسوف جون لوك الذي جاء بعده فقد سجل تحديده للمجتمع المدني نزوعا واضحا لتمييزه عن الدولة دون أن يلغي تماما الروابط التي تجمع بينهما عندما أشار إلى أنه "قيام المجتمع المنظم سياسيا ضمن إطار الدولة مهمته تنظيم عملية سن القانون الطبيعي الموجود دون الدولة و فوقها".
و في القرن الثامن عشر اكتسبت فكرة المجتمع المدني معنى مغايرا كونها تشير إلى موقعها الوسيط بين مؤسسات السلطة و بقية المجتمع، عندما اعتبره جان جاك روسو "هو مجتمع صاحب السيادة، باستطاعته صياغة إرادة عامة يتماهى فيها الحكام و المحكومون". كما نجد نفس الاتجاه عند مونتسكيو الذي ربط المجتمع المدني "بالبنى الأرستقراطية الوسيطة المعترف بها من قبل السلطة القائمة بين الحاكمين و المحكومين". و كذلك لدى الفيلسوف الألماني هيغل الذي أكد الموقع الوسيط للمجتمع المدني "بين العائلة و الدولة بحيث يفصل بينهما" دون أن يغفل حقيقة التداخل الموجود بين المجتمع المدني و المؤسستين المذكورتين بحيث يخترق الواحد منهما الأخر. و نجد عند توكفيل اقترابا من المعنى الحديث المتبادل اليوم، إذ يركز على أهمية "المنظمات المدنية النشطة و دورها في إطار الدولة بالمعنى الضيق للكلمة". و في الأدبيات الحديثة بخاصة ذات التوجه الراديكالي ارتبط مفهوم المجتمع المدني باسم أنطونيو غرامشي المفكر الشيوعي الإيطالي الذي حاول تجاوز التحديد الماركسي كونه يعتبر المجتمع المدني مجتمعا برجوازيا بالأساس، و قد اعتبره غرامشي مجال تحقيق الهيمنة في ظل سيادة الرأسمالية، بمعنى فرض النفوذ الثقافي و الأيديولوجي للبرجوازية، بينما تكون الدولة مجال تحقيق السيطرة.
2. الشروط التاريخية لتكوين المجتمع المدني:
مر المجتمع المدني بمراحل عديدة في سيرورة تطوره حتى وصل إلى التركيبة المميزة له في المجتمعات الرأسمالية المعاصرة في الوقت الراهن. و تنبغي الإشارة إلى أن كل مرحلة تميزت بتوفر حد أدنى من الشروط الضرورية لقيام المجتمع المدني بتركيبته الخاصة. و بهذا الصدد هناك من يحدد مجموعة من الشروط التاريخية التي تشكل من خلال تمفصلها مناخا ملائما، بل ضروريا لبروز ما يسمى بالمجتمع المدني في المجتمعات الرأسمالية المعاصرة. و لا بد من حضور شرطين على الأقل للدلالة على وجود ظاهرة المجتمع المدني التي ينبغي تمييزها عن ظواهر مثل المواطنة، الليبرالية، الاقتصاد الرأسمالي و غيرها من الظواهر الأخرى المصاحبة لقيامه.
1- قيام مؤسسات الدولة و مؤسسات المجتمع بشكل منفصل، أو الفصل بين الدولة و المجتمع و هي سيرورة تاريخية تعبر عن مستوى تبلور الوعي الاجتماعي المميز لمرحلة معينة من تطور المجتمع.
2- التمييز بين آليات عمل الدولة كمؤسسة و آليات عمل الاقتصاد. أو تشكيل المستويين السياسي و الاقتصادي كحقلين لهما وجود مستقل نسبيا الواحد عن الأخر. و قد برز هذا الشرط تاريخيا مع قيام الثورة الصناعية و تكوين الطبقة البرجوازية في أوربا الغربية و ما شهدته من تطورات لاحقة.
3- قيام فكرة المواطنة و ما ارتبط بها من فكرة الحقوق المدنية و السياسية، حيث ظهر الفرد باعتباره كائنا حقوقيا مستقلا بذاته في إطار الدولة بغض النظر عن انتماءاته المختلفة (عرقية، دينية، ثقافية، اقتصادية...).
4- انشطار الممارسة المجتمعية إلى حقول ذات استقلالية نسبية و بالتالي ظهور الفرق بين آليات عمل المؤسسات الاقتصادية من جهة و المؤسسات الاجتماعية من جهة ثانية، و التمييز بينها بالنظر إلى تباين أهدافها ووظائفها.
5- تبلور الفرق بين التنظيمات الاجتماعية الطوعية (مثل الجمعيات المهنية، الرياضية، العلمية، النقابات..) المتكونة من مواطنين أحرار ينخرطون فيها بشكل إرادي، و التنظيمات الاجتماعية العضوية ذات الطابع التضامني التي ينتمي إليها الإنسان بفعل المولد (العائلة، الطائفة القبيلة).
6- ظهور الفروق بين الديمقراطية التمثيلية في الدولة الليبرالية و الديمقراطية المباشرة في التنظيمات الطوعية و المؤسسات الحديثة في المجتمع.
بالنظر إلى هذه المجموعة من الشروط التي تعبر عن التغيرات الحادثة في مستوى الوعي الاجتماعي و التحولات الطارئة على بنية المجتمع و آليات سيره و اشتغاله، و هي ميزات تتحدد تاريخيا و اجتماعيا، يمكننا القول أن أية محاولة لطرح مفهوم المجتمع المدني في محيط لا تتوفر على الحد الأدنى من شروط تكوينه التاريخي (شرطان على الأقل من الشروط السابقة) هي محاولة مآلها الفشل. ليس ذلك فحسب، بل أن عملية سحب المفهوم على الواقع العربي الذي لا تتوفر فيه العناصر المحددة لهذه الظاهرة يعني في الأمر الابتعاد عنها أو الخروج عن طريق المؤدي إليها. هذا الطريق الذي يمر حتما بترسيخ الممارسة الديمقراطية و ضمان حقوق الإنسان.
-
المجتمع المدني و الديمقراطية:
بهذا الصدد هناك عدد من الأسئلة جديرة بالطرح و المعالجة، ليس أقلها شأنا التساؤل عما إذا كان المجتمع المدني شرطا لتحقييق الديمقراطية أو العكس، الديمقراطية شرط لتكوين المجتمع المدني؟ إذا كان المجتمع المدني بالمعنى الحديث المتداول اليوم يعني مجموع المنظمات غير الحكومية (NGO,s فإنها على أهميتها ليست كافية بذاتها، و لا يمكننا بالنسبة لواقع المجتمع العربي عموما و الجزائري خصوصا اختزال المجتمع المدني إلى تلك المنظمات دون ن نحدث تشويها كبيرا في المفهوم و الظاهرة على حد سواء.
لقد كان للمجتمع المدني معنى أخر مخالف لدلالة المفهوم اليوم، حيث كان يعني الحقوق المدينة، التعاقد، حق الإقتراع الحر، الانتخابات البرلمانية، حقوق المواطنة. و بهذا المعنى قاد إلى بناء الديمقراطية في المجتمعات الغربية في مرحلة تاريخية سابقة. لكن علينا تجنب طريقة التفكير الميكانيكي، لأننا عند القول أن المجتمع المدني قاد إلى الديمقراطية فإن ذلك لا يعني تقديم أحدهما على الأخر في علاقة سببية صورية، بل يعني أن سيرورة ظهوره و تكوينه هي بذاتها سيرورة بناء الديمقراطية. أما أن نعتبره مؤسسات و تنظيمات المجتمع الحديث هي ذاتها المجتمع المدني، بينما لا تعدو أن تكون في الواقع أخد المظاهر المجسدة له في مرحلة تاريخية معينة من تطور المجتمعات الغربية، ثم نقوم بمحاولة زرعها في بيئة غريبة عنها و بأثر رجعي (بمعنى نتوقع منها أن تحدث اليوم نفس النتائج و الآثار التي أدت إليها سابقا)، فإن ذلك يشير إلى درجة من السذاجة و ربما الوهم القائم على الاعتقاد بأن تلك المنظمات غير الحكومية سوف تقود المجتمعات العربية نحو الديمقراطية. بل في مثل هذه الحالة يصبح من الخطأ الاعتقاد أن "المجتمع المدني هو شرط وجود الديمقراطية".
إن مثل هذا التصور عن المجتمع المدني يحيد بنا عن "المعركة الحقيقية" التي ينبغي على هذا الأخير أن يخوضها في البلاد التي لم تتوصل بعد إلى إقامة أسس الحكم الديمقراطي. ذلك أن معركة البناء الديمقراطي هي ذاتها معركة إقامة مؤسسات السلطة الحديثة و بناء الدولة الديمقراطية و ليست شيئا أخر أقل من ذلك.
لهذا فإن استيراد فكرة المجتمع المدني بالمعنى الشائع اليوم (المنظمات غير الحكومية) مقطوعة عن إطارها المرجعي التاريخي يتضمن مخاطر عديدة ليس أقلها الاعتقاد الواهم بوجود عمل سياسي ديمقراطي، بينما الواقع يشير إلى غياب شيء اسمه "الحقل السياسي" له استقلالية نسبية عن بقية الحقول الأخرى الاجتماعية، الثقافية، الاقتصادية... و في أحسن الحالات انغلاق هذا الحقل أمام المبادرة السياسية الحرة و تميزه بدرجة عالية من التقييد والاستعمال الأداتي من قبل النظام، بل أسوأ من ذلك اغتراب القطاع العريض من المجتمع عن عملية البناء الديمقراطي بسبب الاعتقاد الخاطئ أنها عملية تخص الأقلية من المجتمع (النخب الفكرية، البيروقراطية، التكنوقراطية، الاقتصادية ...) و ذلك بسبب الممارسات التي تقوم بها هذه النخب من جهة، و بسبب التصور الخاطئ عن المجتمع المدني الذي يختزله إلى المنظمات غير الحكومية الحديثة بالخصوص، من جهة ثانية[2] .
لعل السؤال الحاسم الذي يطرح نفسه بإلحاج هنا هو إلى أي مدى تتميز مؤسسات المجتمع المدني بالمعنى الذي تتضمن فيه الأحزاب السياسية و الجمعيات الطوعية الحديثة (المنظمات غير الحكومية) بسمة اساسية هي قدرتها على تحقيق إعادة إنتاج نفسها بصفة مستقلة ؟ أم أنها تعتمد على موارد الدولة التي تسعى لأن تشكل قوة منافسة و موازية لها، أما أنها تلجأ إلى مساعدات خارجية ؟ و هو واقع يبرز ضعفها و هشاشتها و يفتح الباب واسعا امام عمليات الاستعمال الأداتي لهذه المنظمات من قبل ضعف مموليها سواء كانوا في الداخل أو الخارج (سنتعرض لهذه القضية بشيء من التفصيل في القسم الثاني من الورقة). إنه عامل مثير لجدل حاد حول مصداقية تلك المنظمات، فضلا عن كونه يعطي فرصة لكل خصومها للتقليل من شأنها و تقييدها أو مراقبتها و التضييق عليها[3].
-
المجتمع المدني و المجتمع الأهلي :
يطرح مفهوم المجتمع المدني في السياق التاريخي الراهن للمجتمعات العربية مسألة ما يسمى "المنظمات الأهلية" التي تتشكل من كل التنظيمات ذات الطابع "التقليدي" مثل الجمعيات الدينية (التي تشكل الغالبية بين تنظيمات المجتمع الأهلي) الجمعيات الثقافية المعبرة عن خصوصيات المجتمعات المحلية (في الجزائر مثلا الجمعيات الأمازيغية بتفريعاتها المتعددة، و تنظيمات أخرى خيرية ذات طابع محلي أو إقليمي) و التنظيمات الخاصة بالأوقاف العائلية و قد بدأ عددها يتزايد مع نهاية التسعينيات (مثل مؤسسة الأمير عبد القادر، الشيخ عبد الحميد بن باديس، الشيخ بوعمامة، محمد بوضياف، الشيخ المقراني، العربي التبسي...إلخ). و يبدو أن هناك جدلا قويا بين الباحثين حول العلاقة بين المجتمع المدني و المجتمع الأهلي و التنظيمات التي تشكل كل واحد منهما، فبينما يدافع برهان عليون مثلا عن أطروحة التطابق بين المفهومين و بالتالي مدلولاتهما في المجتمع العربية[4]، نجد من يرفض ذلك مثل عزمي بشارة، الذي يميز بينهما باعتبارهما يشيران إلى مستويين مختلفين من التطور المجتمعي، لكن دون استبعاد فكرة ان تكون التنظيمات الأهلية جزءا من "المجتمع المدني" في سياق الوضع العربي الراهن[5].
و يبدو لمن يلاحظ الواقع العربي عموما و الجزائري بالخصوص وجود نوع من التواؤم في التمييز بين المجتمع المدني و الأهلي من جهة، و تقسيم العمل بين القوى الاجتماعية ذات التوجهات الأيديولوجية و السياسية المتباينة من جهة أخرى. إذ بينما نجد القوى الاجتماعية المحسوبة تقليديا على اليسار و المسماة اليوم القوى الديمقراطية بنزعتها الحداثية و العلمانية تستعمل بقوة مصطلح "المجتمع المدني"، و تسيطر على التنظيمات و المؤسسات العاملة في مجال حقوق الإنسان (منظمات حقوق الإنسان، مراكز البحث و الدراسات في حقل التنمية الاجتماعية و المشاركة السياسية...). نجد في المقابل القوى الاجتماعية ذات التوجه التقليدي و الديني المحافظ حاضرة بقوة في مجال الجميعات و التنظيمات الأهلية، مفضلة استعمال هذا المصطلح الذي تراه أكثر تعبيرا عن خصوصية الواقع في المجتمعات العربية.
و يبدو وزن و تأثير هذه القوى بخاصة في التنظيمات الأهلية ذات الطابع المهني و بشكل أخص تنظيمات الخدمة و الرعاية الاجتماعية (الخدمة الصحية، التربية و التعليم، الشؤون العائلية...).
لعل الملاحظة المهمة في هذا التمييز بين القوى الاجتماعية هو كون قوى المعسكر الأول (قوى اليسار عموما أو القوى الديمقراطية كما تدعى اليوم) تعاني مشكلة أساسية تتمثل في افتقادها في غالب الحالات إلى قاعدة اجتماعية واسعة و قوية تسمح لها بإعادة إنتاج ذاتها. بينما تحظى القوى التقليدية بتنويعاتها (قوى اجتماعية تقليدية محافظة، تيار الإسلام السياسي، قوى دينية سلفية...) بقاعدة واسعة بخاصة في الأوساط الشعبية و بين الشرائح الوسطى حديثة التكوين (العمال، الطلبة، الموظفون...).
و هكذا يجد الملاحظ نفسه أمام مفارقة : من جهة هناك التنظيمات و المؤسسات التي تنحو بقوة لاستعمال تعبير "المجتمع المدني" و تهدف لتوظيفه كقوة موازية لقوة الدولة السلطوية المميزة للواقع العربي، و بالتالي محاولة توسيع الممارسة الديمقراطية و ترسيخها. هذه القوى تفتقد لقاعدة اجتماعية و للتأثير الذي يسمح لها بتحقيق تلك التغيرات المنشودة في بنية السلطة و ممارستها. بل أكثر من ذلك، تبدو هذه القوى بأفكارها و ممارستها بمثابة الكيان الغريب المغروس في جسم المجتمع، كونها في غالب الأحيان عبارة عن نخب محدودة العدد و التأثير، غريبة و دون جذور، و بالتالي دون قوة حقيقية. و في المقابل هناك القوى التقليدية و المحافظة التي تحظى بقاعدة اجتماعية واسعة، و لها تأثير يسمح لها بإدخال التغيرات المرغوبة في بنية السلطة و ممارساتها، لكن قطاع هام منها عادة ما يرفض الدخول في مجال العمل السياسي (في حالة الجزائر هنالك عدد كبير من التنظيمات الدينية المؤثرة مثل "الزوايا"، الجمعيات الدينية و الخيرية التي تتخذ هذا الموقف). و هكذا تبقى الدولة السلطوية و الأقليات المتنفذة في هياكلها و أجهزتها مثل الجيش و البيروقراطية دون منافس حقيقي يستطيع تحمل عبء المواجهة مع هذه الأقليات القوية.
إذا كان المجتمع المدني يعني كافة المؤسسات و التنظيمات التي تلعب دور الوسيط بين الفرد، المجتمع و الدولة فإنه يصبح من الضروري العناية بجميع البنى الوسيطة ؛ هيئات ؛ هياكل، حركات، تنظيمات، جمعيات أو رابطات بما في ذلك التنظيمات الدينية، الأحزاب السياسية، و هيئات الرعاية، التضامن و التكافل الإجتماعي و في مقدمتها تلك التي يكتسي نشاطها طابعا محليا أو جهويا (إقليميا). و تبرز أهمية هذه التنظيمات المحلية أو الجزئية رغم محدودية مجالها، أو لعله من الأحسن القول بسبب هذه الصفة ذاتها. و بالرغم من أنها عادة ما تكون مدانة بسبب محدودية نطاقها فإن ذلك ما يشكل قوتها لعدد من الأسباب :
يجد فيها الأعضاء بالنظر إلى صغر حجمها و محدودية نطاقها فرصة للتعبير عن همومهم و إنشغالاتهم بطريقة صريحة و مباشرة.
و يسمح حجمها للأعضاء بإقامة علاقات مباشرة تساعد على تقوية الروابط و ترسيخ التضامن بعيدا عن الأساليب البيروقراطية المميزة للتنظيمات الكبيرة، فضلا عن مقاومتها لظاهرة التسلط الأوليغاركي التي تؤدي إلى شعور الأفراد بحالة الاغتراب.
كما توفر أحسن وسيلة للدفاع عن الهويات الفردية المتميزة للأفراد و الأقليات في مواجهة النزعة الجماهيرية حيث تذوب الفوارق الفردية و الجماعية في هويات عامة غالبا ما تكون تسطيحية تنتفي فيها خصوصيات الأفراد و الجماعات[6].
يرى بعض المفكرين أنه من حسن حظ المجتمعات العربية أن تكون هذه التنظيمات الجزئية قائمة فيها غير مندثرة و ذلك بسبب عدم اكتمتا تكوين الدولة - الأمة على غرار ما هو قائم في المجتمعات الغربية المتقدمة. و بخلاف الباحثين الذين يستنكفون من اعتبار البنى التقليدية و التنظيمات الجزئية عنصرا مهما في تكوين المجتمع المدني لارتباط المفهوم في تصورهم بالتنظيمات الحديثة للمجتمعات الغربية، فإن ملاحظة الواقع الخصوصي للمجتمع العربي تسمح لنا باعتبارها كذلك ما دامت تؤدي دور الوسيط بين الفرد - الجماعة - الدولة.
يحدث ذلك، كما يقول عزمي بشارة، لأن التنظيمات التقليدية تلعب دورا قمعيا في علاقتها بالفرد، يحظى بحمايتها لا لكونه فردا مستقلا له حقوق يقرها القانون، بل لأنه يمثل وحدة أولية في بنائها. كما تحقق ذلك الدور من خلال اعترافها و إقرارها بسلطوية الدولة و ليس بمعارضتها و رفضها. و في المقابل تعجز التنظيمات الطوعية الحديثة عن لعب دور الوسيط لأنها تقوم على فكرة الانتماء الطوعي للأفراد، لكنهم دون حقوق معترف بها أو مكرسة قانونيا بسبب الطبيعة السلطوية للأنظمة السياسية التي يعيشون في ظلها. لعل هذه إحدى المفارقات التي يواجهها أولئك الذين يسحبون فكرة "المجتمع المدني، و هي ثمرة سيرورة تاريخية و اجتماعية متميزة على الواقع الاجتماعي العربي دون الالتفات إلى خصوصية المرحلة التي يمر بها في تكوينه. و لعل هذه أيضا معضلة تواجهها التنظيمات غير الحكومية الحديثة في البلاد العربية لأنها "غير قادرة على حماية الأفراد أمام تعسف الدولة، و لا على إعادة إنتاج ذاتها كإحدى مظاهر السوق المحلية"[7].
-
الدولة و المجتمع المدني
تعتبر الدولة الحديثة ظاهرة مصاحبة في تكوينها و تطورها لعمليات التحول الاجتماعي و التغير الاقتصادي الذي عرفته البلاد الأوربية منذ القرن الخامس عشر. كما يمكن القول أن الآليات التي تقف وراء نشوء الدولة الحديثة في شكلها الديمقراطي الليبرالي هي ذاتها التي قادت إلى تكوين المجتمع المدني بتنظيماته السياسية (الأحزاب و المجالس المنتخبة)، الاجتماعية (الجمعيات المهنية، النقابات)، الثقافية (المدارس و الجامعات ووسائل الاتصال) و مؤسساته الاقتصادية (المنشآت، الشركات، البنوك). فهل يمكننا الحديث بنفس الطريقة عن المجتمع و الدولة في البلاد العربية ؟ الجواب قطعا بالنفي.
فالدولة في البلاد العربية ظاهرة مستجدة ليست نابعة عن سيرورة التغير الاجتماعي المحلي، بقدر ما تشكل كيانا غريبا وقع فرضه من الخارج بفعل الاختراق الذي تعرضت له هذه البلاد خلال مراحل تاريخية معينة. كما أنها شكلت أداة و وسيلة التحديث الرئيسية التي أنتجت بقية المؤسسات و التنظيمات المختلفة التي احتاجت إليها لفرض هيمنتها و سيطرتها ككيان غريب وقع غرسه في جسم المجتمع المحلي ذي الطابع التقليدي بالنظر إلى بنيته الاجتماعية، الاقتصادية و السياسية. و كان دور تلك المؤسسات و الأجهزة في عهد الاحتلات و الحماية، و لا يزال كذلك في عهد الاستقلال مع فارق تأميمها و إدارتها من قبل نخب محلية، هو ممارسة الرقابة على المجتمع و إخضاعه لسلطوية دولة ذات طابع موروثي جديد néo-patrimoniale state تحت سيطرة أقليات عائلية، عسكرية و بيروقراطية.
و هكذا تشكل مؤسسات الدولة و أجهزتها سواء على المستوى الوطني أو المحلي (المجالس المنتخبة، إن وجدت، و البلديات، و أجهزة الإدارة المحلية و الإقليمية) أدوات إضافية للجهاز البيروقراطي المركزي للدولة أكثر منها مجالس و رابطات و مؤسسات محلية تتصف بحد أدنى من الاستقلالية و التمثيلية، تسعى لخدمة الأفراد و المجموعات و ترعي مصالحهم.
الهوامش
[1] - التحديدات المقدمة وردت في عزمي بشارة : واقع و فكرة المجتمع المدني، قراءة شرق أوسطية.- منشور في : إشكاليات تعثر التحول الديمقراطي في الوطن العربي. مواطن، المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية.- رام الله، 1997.- ص.391.
[2] - لعل أحسن مثال عن ذلك الأحزاب السياسية التي ظهرت في الجزائر في عهد التعديدية، و كذلك الحركة الجمعوية، بخاصة تلك المسماة الديمقراطية التي تتميز بتذريها و نخبويتها المفرطة. فهناك مثلا الجمعيات النسوية المتعددة التي تقتصر عضويتها على عدد محدود من النساء، أو جمعية المرأة الريفية التي لا وجود لنساء الريف فيها، و غير ذلك من الأمثلة كثير.
أنظر عملنا.- التحول الديمقراطي في الجزائر، الواقع و الأفاق.- ورقة قدمت لندوة : الانتقال الديمقراطي في المنطقة العربية.- الآردن، جامعة ألا البيت، 30 نوفمبر - 02 ديسمبر 1999.
[3] - مثال ذلك الجدل القائم مصداقية حركة حقوق الإنسان و تنظيماتها في البلاد العربية. و قد وصمت هذه الحركة دوما بالخيانة و العمالة للخارج. أخر حالة سجلت بهذا الصدد تخص المنظمة المصرية لحقوق الانسان بشأن الحوادث التي وقعت في الصعيد بين الأقباط و المسلمين منذ نهاية 1999.
[4] - أنظر بهذا الشأن Chalioun, Burhan.
[5] - أنظر عزمي بشارة.- مرجع سابق : Chalioun, Burhan : Le malaise arabe : Etat contre nation.- Alger, ENAG, 1991.
[6] - أنظر عزمي بشارة.- مرجع سابق.- ص.401.
[7] - نفس المرجع .-ص.401.