إنسانيات عدد 69-70 | 2015 | الهجرات رُؤى من الجنوب | ص 39-60 |
Migrants from Sahel countries in Saharan cities in Algeria: from transit to installation (City of Ouargla)Abstract:According to an anthropological approach, we have tried to follow and understand the migratory routes of the citizens of the countries of the Sahel, their daily life and their relationship with the local society in Algerian Saharan cities. This work is based on a field survey with these migrants in the town of Ouargla (Algeria). This approach focuses on the human dimension of a complex and multidimensional phenomenon, and its relation to the history of the great Sahara as space of itinerary and stability of successive waves of these social movements yesterday like today. Far from the political, security or even media entries which adopt a scary speech in the analysis of this phenomenon, which is originally human, social, and historical; in this article, we defend the thesis that one cannot understand this only through the approach of these immigrants themselves and understand their position from the decision to choose the migration adventure until the details of the day-to-day course of migration or the country of destination. Keywords: Ouargla - Saharan cities - migration - Sahel. |
Abdelkader KHELIFA : Université Kasdi Merbah, 30 000, Ouargla, Algérie.
مقدمة
شهدت تسعينات القرن الماضي تدفق هجرة أعداد متزايدة من بلدان ساحل الصحراء عبر بلدان المغرب، إذ تمتد هذه الهجرة لآلاف الكيلومترات عابرة الصحراء الكبرى ثم البحر المتوسط أو الأطلسي، لتصل إلى القارة الأوربية. وقد اتخذت هذه التدفقات البشرية من البلدان المغاربية محطّات عبور للوصول إلى هدفها الرئيسي، أوربا الغربية، مستخدمة قوارب صغيرة الحجم بدائية الصنع، "قوارب الموت"، تكدست فيها أعداد كبيرة من العابرين والمغامرين وقد انتهى العديد منها إلى الغرق في عرض البحر مخلّفا مآسٍ إنسانيةً صدمت الضمير العالمي، لتنبه العالم إلى ظاهرة كبيرة تحمل رهانات سياسية وقانونية، وأيضا إنسانية، مما طبع القرن الحالي على كونه قرن الهجرة بفعل عولمة الاتصال والمواصلات.
مقاربة أنثروبولوجية لظاهرة مركبة
شكّلت هجرة مواطني دول ساحل الصحراء ظاهرة متعددة الجوانب والآثار شملت قضايا الأمن الدولي والعلاقات الدولية، بين الاتحاد الأوربي من جهة، وبلدان المغرب والساحل من جهة أخرى، إلى جانب قضايا الاقتصاد والتنمية، والجانب الإنساني لهذه الظاهرة، التي شغلت الرأي العام الدولي طويلا، عبر خطاب إعلامي وسياسي مكثّف لتكون في قلب العلاقات الدولية، بل باتت أهم الشروط في أية محادثات بخصوص العلاقات الأوربية المغاربية وأيضا الإفريقية[1].
في واقع الأمر، لم تتمكّن قلة من هؤلاء المغامرين الأفارقة من الوصول إلى الهدف النهائي، "الحلم الأوربي"، ليتكدس الآلاف منهم عبر مسارات الهجرة في مدن "العبور" التي تحولت شيئا فشيئا نتيجة صرامة القوانين والإجراءات الأوربية في التصدي لهذه الهجرة بغلق الفضاء الأوربي، إلى قلعة منيعة ضد الهجرة غير الشرعية، بالإضافة إلى السياسات التي تضطر الدول المغاربية لتبنيها لمنع الهجرة عبر حدودها [2].
وبالرغم من أن هذا النّوع من الهجرة، أي الهجرة إلى الفضاء الأوربي، والذي أثار الكثير من الجدل السياسي والإعلامي، لا يمثل إلا جزءًا قليلا من الأعداد المتزايدة للمهاجرين من بلدان ساحل الصحراء نحو مدن الصحراء المغاربية بالتحديد، فإن هذا الفضاء تحوّل - ومن جديد - إلى مقصد هجرة لمجموعات متتالية من دول ساحل الصحراء (مالي والنيجر)، أكثر المهاجرين فيما يخص مدن الصحراء الجزائرية بالتحديد، بالإضافة إلى مواطني دول إفريقيا الغربية والوسطى، بعد أن كانت فضاء عبور فحسب، فاتحا حلقةً جديدةً في دور الصحراء الكبرى، ليس كفضاء عبور بامتياز فقط [3]، بل - أيضا - فضاء للهجرة ولاستقرار المهاجرين الأفارقة طلبا للعمل والعيش وتحقيقا للفرص في الترقية الاجتماعية.
من بين أهم المدن التي تستقطب اليوم أعدادا كبيرة من هؤلاء المهاجرين، من مالي والنيجر والعديد من الجنسيات الإفريقية الأخرى، والتي طالما كانت على خريطة مسار هجرة مواطني دول ساحل الصحراء، مدينة ورﭬلة (800 كلم جنوب العاصمة الجزائرية) والتي تحولت في السنوات الأخيرة إلى مستقر لمئات من الأفارقة، إذ تتحدث بعض التقديرات عن 2500 إلى 3000 منهم في ورﭬلة وغرداية سنة 2005[4]. أما في واقع اليوم فهم أكثر من ذلك بكثير، يقدّرهم الهلال الأحمر الجزائري بـ 5000 إلى 6000 من مواطني دول ساحل الصحراء أغلبهم من مالي والنيجر، لكنّ هذه الأعداد غير ثابتة تتغير أسبوعيا بل حتى يوميا نتيجة حركتهم ذهابا وإيابا.
ومن خلال مقاربة ميدانية لأهم مسارات الهجرة لمواطني دول ساحل الصحراء في مدينة ورﭬلة، ورصدٍ لمعيشهم اليومي وأنشطتهم، وأيضا الشبكات التي ينسجونها، باعتبار أن هذه المدينة نموذج للمدن الصحراوية في الجزائر، فقد شهدت تدفقا بشريا كبيرا من هذه البلدان، يمكن اعتبارها الآن "متربولا" عرفت خلال العشريات الأخيرة تحولات عمرانية وتنموية عميقة بنسبة نمو عمراني بلغ 3.8% أهلّتها لتكون منطقة جاذبة للهجرة الداخلية والدولية وتحتاج إلى أعداد كبيرة من الأيدي العاملة خاصة في مجال البناء والتعمير والفلاحة، وهي المجالات التي يعزف أبناء المدينة عن العمل فيها.
اعتمدت مقاربة هذا البحث أساسا المدخل الأنثروبولوجي لمعالجة الظاهرة من منظور إنساني، بخلاف وجهات نظر أخرى انطلقت من مقاربات سياسية أو أمنية أو إعلامية؛ فبعض وسائل الإعلام، خاصة المكتوبة منها، تبنّت خطاب تهويل بخصوص هؤلاء المهاجرين في كتابات تحذر من الجنوح والجريمة وتنقل الأوبئة، أوصاف تبنتها الكثير من الصحف والجرائد لوصف ظاهرة مهاجري ساحل الصحراء معتبرة أن هذا هو موقف المجتمع المحلي من المهاجرين[5].
أما من حيث المنهج فقد تم التركيز على تحديد وجهة نظر المهاجرين أنفسهم (20 حالة) من خلال رصد واقعهم وتحليل خطابهم عبر المعايشة في المدينة وأطرافها، وأيضا من خلال التعرّف على علاقاتهم مع مجتمع الاستقبال، وذلك بمساءلتهم حول مسار هجرتهم وتفاصيل حياتهم اليومية في المدينة من خلال العمل والسكن والشبكات التي ينسجونها، والتي ينشطون ضمنها، واستراتيجياتهم التي يطوّرونها للوصول إلى أهدافهم.
المحرّك الأساسي لهذه الهجرة، حسب أغلب الدراسات، هي -أولا- الفوارق الكبيرة في مستويات التنمية بين البلدان الفقيرة في ساحل الصحراء، مع موجات الجفاف والتصحّر التي تضرب هذه الدول تباعا، مثل موجة التصحر في سنوات السبعينات[6] ثم الثمانينات، وغزو الجراد في 2004، في مقابل بلدان شمال الصحراء التي شهدت حركة تنمية متصاعدة بعد استقلالها كليبيا والجزائر. هذه الظروف المزرية دفعت بآلاف الشباب للهجرة شمالا كضرورة حياة أو موت، كما يحرك هذه الهجرة أيضا شبكات مهيكلة من المهرّبين الذين يساهمون عبر تجارة رائجة ومربحة هي تهريب المهاجرين.
السياسة الرسمية للدولة الجزائرية بخصوص الهجرة غير الشرعية
تتحول الجزائر تدريجيا لأن تصبح بلد استقبالٍ للمهاجرين، بعد أن كانت ولمدة طويلة تمثل بلد عبور أو "ترانزيت" لهذا النوع من الهجرة، بالنظر إلى الأعداد المتزايدة من مهاجري دول ساحل الصحراء والذين تطول مدة إقامتهم بسبب ظروف الهجرة المتزايدة الصعوبة نتيجة غلق المجال الأوربي، إذ لا توجد إحصائيات رسمية يمكن الاعتماد عليها في تحديد العدد أو النسبة الحقيقية لهؤلاء المهاجرين فيما عدا بعض التقديرات التي تصدر عن المنظمات الإنسانية كالهلال الأحمر الجزائري، أو السلطات الأمنية التي تحدّد أعداد المعتقلين أو المتورّطين في مخالفات متنوعة.
تقدم المفوضية العليا للاّجئين رقما بخصوص المهاجرين غير الشرعيين من جنسيات إفريقية يقدر بـ (21500) لاجئ، وأن 40% من هؤلاء يعتبرون الجزائر مقصدهم النهائي، في حين يعتبر 40% آخرون أنهم مجرد عابرين نحو مقصدهم أي أوربا، أما نسبة 20% المتبقية فتخص المواقف المتنوعة أغلبها ممن لا يملكون الوسائل للعودة لبلدانهم[7].
تصدت الجزائر لهذه الموجات من الهجرة بتبني استراتيجية متعددة الجوانب، بدءًا برصد التدفقات ومعرفتها عبر إذاعة نشرات دورية منذ سنة 2000 لتسجيل إحصائيات حول حركات السكان الأجانب على الأراضي الجزائرية، وتأسيس مركز للوثائق والإحصائيات حول تدفقات الهجرة تحت وصاية وزارة الداخلية[8].
و قد أبرمت الجزائر عدّة اتفاقيات تعاون دولي مع المجموعة الأوربية أو مع دول منفردة (فرنسا، إسبانيا، إيطاليا) لترحيل المهاجرين غير الشرعيين وتدعيم قدراتها للتصدي للظاهرة، كما أشركت الجزائر بلدان ساحل الصحراء في إطار التعاون الإقليمي ضمن منظمة النيباد، والتعاون الأمني مع مالي، كما عملت على تطوير مكافحة الشبكات التي تعمل في التهريب والاتجار بالبشر وتجهيز مراقبة الحدود وتشجيع اتفاقيات إعادة القبول للمهاجرين.
أما فيما يخص الآليات القانونية، فأضحت الحاجةُ ملِحّة إلى تحيين القوانين المتعلقة بالهجرة غير القانونية، فكان القانون 11-08 بتاريخ 21 يوليو 2008 المتعلق بدخول الأجانب وإقامتهم وتنقلهم في البلاد[9]، والذي كرّس مسعى التعامل مع الظاهرة وفق قانون ملائم للوضع الراهن وحدد شروط دخول الأجانب وحركتهم بموجب الاتفاقات الدولية التي تشترك فيها الجزائر، وعند انتهاك طرف الأجانب لها يتم ترحيلهم إلى بلدانهم الأصلية. وقد راعى القانون المصالحَ الاقتصادية والاستراتيجية للجزائر وأولوياتها الأمنية. وانْجَرّ عن هذا القانون الجديد تحسن كبير في تحديد صلاحيات السلطات المختلفة في مراقبة وضع الأجانب، كما فوض للسلطة المحلية ممثلة في الولاة البت في وضعيات الأجانب على تراب ولاياتهم.
على مستوى آخر، تمّ إنشاء مراكز تجميع للمهاجرين غير الشرعيين واللاجئين من مختلف الجنسيات للمهاجرين(مراكز انتظار) في عدة ولايات. وبالرغم من الجدل الذي يثار حولها، وبعض الحوادث التي ارتبطت بها بين قاطنيها من المهاجرين غير الشرعيين والسكان المجاورين لها، إلا أنها لم تكن بشكل دائم ولا منتشرة في كل الولايات، وسرعان ما يتم تفكيكها وترحيل المهاجرين منها إلى بلدانهم عن طريق اتفاقيات مع سلطات بلادهم، كما حدث مع مواطني النيجر.
الشكل 1: خريطة تمثل أهم مسارات المهاجرين من ساحل الصحراء في الجزائر
المصدر: التحقيق الميداني للباحث.
المهاجرون الأفارقة في مدينة ورﭬلة : بين العبور والاستقرار
لقد سمحت المقاربة الميدانية التي قمنا بها في مدينة ورﭬلة، بين فيفري وماي2015، من ملامسة هذه الظاهرة من خلال المقابلات مع المهاجرين، وكان الهدف الأول هو محاولة رسم مسارات الهجرة لهؤلاء وتلمس الظروف التي يواجهونها أثناء رحلتهم وماهية أهدافهم واستراتيجياتهم للبقاء أو العبور إلى آفاق أخرى، ثم ظروف إقامتهم والأنشطة التي يمارسونها وعلاقاتهم مع المجتمع المحلي.
إن جميع مساءلاتنا حول مسارات الهجرة لمبحوثينا أجمعت، بعد مقارنتها، أن مشروع الهجرة يبدأ لدى أغلبهم بفكرة عن قريب أو جار أو مهاجر سابق من القرية:
" ...إننا نقضي وقتنا قبل الهجرة في تتبع أخبار من نعرف أنهم هاجروا قبلنا، لمعرفة ظروف المسار والتغيرات... نتصل عبر الهاتف أو نسمع الأخبار عن طريق من عادوا..." يقول أحد المستجوبين من مالي (عثمان: 10 فيفري 2015)
التحضير لهذا المشروع يستغرق زمنا طويلا، إذ يلزم المرشح للهجرة تمويلا ضخما بالنظر للظروف الاقتصادية المزرية للمهاجرين، إذ أجمع المبحوثون أن كلفة المشروع التي على المهاجر توفيرها، إما بالعمل أو الادخار أو الاقتراض من ذويهم أو من معارفهم، تتراوح من 300 إلى 700ألف (فرنك إفريقي) والمقدّرة بـين 300 إلى1000 أورو، أغلب هذا المبلغ يمثل كلفة النقل تدفع للمهربين سائقي السيارات رباعية الدفع أو رسوم ورشاوى على طول مسار الرحلة، أو جنود حراس الحدود، أو للبدو أو مجموعات الأزواد المسلحة، أو الذين لابد أن يجدهم أي مهاجر على مساره في فضاء العبور[10].
"... نَفضِّلُ إخفاء وثائق سفرنا لتفادي دمغها من المتمردين...لأن ذلك يسبب لنا مشاكل في الدول التي ندخلها... نسلم وثائقنا وهواتفنا النقالة للسائق لقاء مبلغ إضافي...يحتفظ بها ويسلمها لنا في آخر الرحلة..." (عثمان: 10 فيفري 2015).
عبر غاو (مالي)، يتجه المهاجرون سرا في جماعات صغيرة برفقة أحد المهرّبين، غالبا من طوارق الأزواد على متن السيارات ذات الدفع الرباعي أو الشاحنات القديمة أو حتى على الجِمال، نحو مركز التجميع في مالي في اتجاه تمنراست.
" ... نخاف من الوقوع في يد المتمردين، الذين يطالبون برسوم إضافية أو يقومون بأسرنا للعمل عندهم لمدّة طويلة دون أجرة. في الطريق قد يجبرنا المهرِّبون على السير على الأقدام لمسافات طويلة دون ماء أو طعام تفاديا للوقوع بأيدي دوريات الجيش، نسير من 20 إلى 50 كلم وعند الخطر يتخلّى عنا المهرّبون في الصحراء..."
تعتبر تمنراست مركز التجمع في الجزائر، أو عاصمة الهجرة الإفريقية، يصل إليها المهاجرون ليتكدسوا مع من سبقوهم في أحياء كاملة تعج بالمهاجرين.
"...وَصَلنا إلى تمنراست، كنا 07 مع الأشخاص الذين وجهونا لمنازل سكن المهاجرين، دفعْنا حقّ الكراء لشهر وبقينا في الحي مدة ثلاثة أسابيع ... كنا نشتري المؤونة بالتعاون (مقرونة، خبز، دخان...)، وحصلنا على شرائح هاتف نقال جديدة وتبادلنا الأرقام... أنا أعرف الطريق جيدا... كنا متوجهين لورﭬلة أو غرداية ...أعرف أن فيها العمل... سبق وأن أتيت هنا قبل عامين. " (علي من مالي : 10 فيفري 2015)
يبدأ المسار نحو مدن الصحراء الجزائرية، غرداية أو ورﭬلة، أدرار ثم الحدود المغربية. وأيضا عبر أغداس، مركز التجميع في النيجر، إلى جانت، أو غات وسبها في ليبيا. مسارات هي الآن تعج بتجارة رائجة، خدمات عبور متنوعة متوفرة عبر هذه المسالك التي هي في الأخير إعادة رسم للمسالك التاريخية العابرة للصحراء.
حالة 01، مهاجر من مالي من حالات الهجرة التي تم توثيقها كنموذج عام تكرر مع أغلب المبحوثين، حالة عثمان، 33سنة من بماكو من عائلة كثيرة العدد، له أخ نجح في العبور لإيطاليا منذ 04 سنوات. عثمان متزوج و لديه 4 أبناء، متخرج من تكوين بسيط كلحام، هدفه من الهجرة هو العمل والحصول على المال للعودة إلى بلده لإقامة مشروع صغير. هدفه الأسمى هو إعادة رسم مكانته في سلم النظام الاجتماعي في بلده. لا يفكر عثمان في العبور لأوربا حسب تصريحاته لأنه لديه عائلة لإعالتها، مشروعه البقاء في مدينة ورﭬلة سنتين أو ثلاث حسب ظروف العمل والكسب، وجدناه يبحث عن العمل في البناء أو الفلاحة. في شارع مدينة ورﭬلة الرئيسي مع المئات من أمثاله. تفاصيل رحلته يرويها كما يلي: انطلق من بماكو نحو غاو مستقلا الحافلة لمدة يومين. عند وصوله لغاو دفع لسائقي السيارات الرباعية "تماري" للرحلة نحو تمنراست 5000 للمهربين ودفع من كالو إلى تمنراست 30000 "في تمنراست، نجد مأوى لنا، منزلاً لأحد الخواص جعله مأوى مؤقتاً للمهاجرين، نتكدس فيه بأعداد كثيرة ، ندفع له 5000 فرنك لليلة واحدة، نستريح ونستجمع قوانا. كنا حوالي 30 شخصا في رحلة واحدة، تصل عدة رحلات في اليوم الواحد. ماليين، من النيجر، من الكاميرون، من السنغال، من كوت ديفوار، الأغلب كهول وشباب، بعضهم مع أسرهم، خاصة النيجيريون والكاميرونيّون نتيجة الجفاف. بعد الاستراحة مدة من الأيام إلى أسبوع نستجمع قوانا ونترقب الأخبار. نقوم بالاتصالات عبر الهاتف النقال بمن سبقونا في مدن المقصد، ثم يتفرق الجميع حسب وجهته المخطط لها". هو الآن منذ شهور في ورﭬلة، يقوم بأعمال البناء في الورشات أو عند الخواص، يسكن في بيت جماعي مع آخرين مثله في حي "سكرة"، تعرض مرة للقبض عليه من الدرك وتم التحقيق معه حول وضعيته القانونية وتم إعطاؤه مهلة للمغادرة لكنه بقي لحد الآن متخفيا. |
يتبين من خلال هذا المسار النموذجي، والذي وجدناه يتكرر مع كل المستجوبين، أن العبور والهجرة مسألة تمويل ومغامرة حياة أو موت، يستهلك مدخرات المهاجر لسنوات عمله في موطنه، أو قرض يحصل عليه المهاجر من أفراد أسرته أو الأقارب ليسدّده عن طريق ما يرسله لاحقا لأهله.
الهجرة أيضا مرتبطة بوجود هذه الشبكات المعقدة من المهرّبين والأدِلاء الناقلين ومقدمي الخدمات المختلفة على طول المسارات، هي تجارة عابرة للحدود تسيطر عليها شبكات وعصابات مختلفة الانتماءات والولاءات والأهداف، شبكات تملك السلاح، وسائل النقل، وسائل الاتصال، وأهم من ذلك معرفة "مجاهل" الصحراء.
تستغل هذه المجموعات ظروف المهاجرين بشق قنوات متحركة المسارات والوجهات لتشجيع أسواق تجارة التهريب الدولي للبشر. من خلال هذا النشاط المتنامي استعادت الصحراء دورها كرابط بين الساحل ودول المغرب؛ إذ أن هذه المسارات التي يشقّها المهرّبون المهاجرون ليست ثابتة بل تتغير ويمتد شعاعها حسب ظروف المسالك وأيضا حسب بروز وأفول أقطاب التنمية في مدن الصحراء[11]. لهذا استقطبت مدينة ورﭬلة أعدادا هائلة من هؤلاء المهاجرين في ظل ما عرفته هذه المدينة في السنوات الأخيرة من تحولات عمرانية متسارعة في العشريات الأخيرة.
مهاجرو العبور
حسب أغلب الاستقصاءات، فإن المهاجرين المرشّحين للعبور يقلون نسبيا ومع مرور الوقت نتيجة تنامي صعوبات التنقل، نجدهم في الغالب من دول الكاميرون، وبعض الماليين، وهم من ذوي التكوين الدراسي الأفضل، يعتمدون أيضا على الاتصال بمهاجرين سابقين في البلدان الأوربية. أغلبهم من الشباب (25 إلى 30 سنة) ولديهم كلهم تقريبا اتصال شبه يومي بقريب أو صديق تمكّن من العبور يعتبرونه مثلا أعلى. لا يصرحون بمشروعهم بسهولة فهم شديدو الحذر في تعاملاتهم، كل همهم هو جمع أكبر كمية من المال وانتظار الفرصة المواتية لقطع مرحلة إضافية نحو الهدف الرئيسي. إنهم يقطعون المسافات في شكل محطات ومراحل تطول أو تقصر حسب ظروف الطريق وأيضا حسب مدخراتهم المالية لقطع المرحلة الموالية؛ إذ يستغرق العبور لدى بعضهم عدة سنوات يقضيها المهاجر قاطعا للمحطات، وقد يتعرّض المشروع لتغيير المسار أو الفشل، ففي المجموعة التي عملنا معها مع المبحوثين صرّح أربعة منهم أنهم يخططون للمواصلة نحو أوربا.
"...أنا هنا في ورﭬلة منذ ثلاث سنوات ... عبرت للشمال عدة مرات وعدت؛ لأن ورﭬلة فيها العمل...كنت أرغب في الذهاب لأوربا... لكن الأمور صعبة...من الصعب العودة لقد تعبت كثيرا...سأبقى هنا أعمل في البناء في ورﭬلة لمدة ...لا أدري فيما بعد سأعود أم لا..." (مادي، مهاجر من مالي، 24 سنة ، 12 فيفري 2015).
بالنسبة لهؤلاء أصبحت المسارات أصعب، الجدار الأوربي الذي يزحف جنوبا بفعل المعاهدات الدولية أصبح على مشارف الضفة الجنوبية للمتوسط، وبالتالي يضطر العديد من المرشحين لمواصلة مسار الهجرة أن يتربصوا مدة أطول، لتحين الفرص والعمل للحصول على التموين لمواصلة الرحلة. قد يطول الانتظار ليصل عدة سنوات وفي بعض الأحيان أو أغلبها على الأرجح يفشل المشروع الأصلي في العبور ليتحول المهاجر من عابر إلى مستقر للعمل أو عائدا بخيبة إلى بلاده.
حالة 02، مهاجر من مالي عمر شاب من مالي، 27 سنة، أعزب و ذو مستوى تعليمي ثانوي. سبق وأن هاجر أحد أقاربه نحو مدن الصحراء الجزائرية للبحث عن العمل وتحسين المعيشة. كانت هجرته إلى مدينة ورﭬلة من أجل الشغل والتخفيف من حدة الفقر الذي يعيشه هو وأهله. لم يعان من الظلم الاجتماعي أو التمييز العنصري في ورﭬلة. وقد لعبت عائلته دورا هاما في تشجيعه على الهجرة نحو مدن الصحراء الجزائرية لتوفير حياة كريمة جديدة . كانت هجرته نحو مدينة ورﭬلة مليئة بالمخاطر لأنه هاجر بدون وثائق رسمية، ولقد لعب الهاتف النقال دورا هاما في مسار هجرته كي يتصل بعائلته، كما يرى أن القيمة المالية المكلفة لهجرته غالية الثمن، ويعتبر مدن الصحراء الجزائرية ومدينة ورﭬلة على الخصوص منطقة عبور في طريقه نحو أوروبا فأصدقاؤه وبعض من أقاربه يتجهون في غالب الأحيان نحو المدن الداخلية ثم نحو مدن الساحل الغربي حسب قوله. إن تعامل الأشخاص الذين عمل لديهم كان جيدًا؛ لأنهم يرون أن الأعمال الموكلة له يتمها على أحسن وجه و في آجالها المحددة، كما أنه يتصل بأهله كلما وجد وقت فراغ مناسبا، والمال الذي يجنيه من الأعمال يبعث به إلى أهله عن طريق صديق في أخوية أغلب الأحيان، كما أن معاملة أجهزة الدولة الجزائرية مقبولة ويتلقون المساعدة من المجتمع المحلي ويعالجون في المستشفيات العامة. |
المهاجرون المستقرون في مدينة ورﭬلة
وهي الفئة الغالبة من حيث العدد. منهم من هو مستقر منذ سنوات، وكثير منهم يبقون سنتين أو ثلاثًا ليعودوا للبلد الأصلي ثم يرجعون من جديد. فرحلة الذهاب والعودة أصبحت مألوفة لديهم.
أصبح انتشار مهاجري دول الساحل في كل مدن الصحراء الجزائرية (غرداية، أدرار، إليزي، تمنراست، تـﭭرت، بسكرة) من ديكور المدينة المعتاد. الساحات العامة وسط المدينة، محطات النقل، ورشات البناء في أحياء التوسعات العمرانية الجديدة وحتى الأحياء السكنية، كل هذه الفضاءات اعتادت على مظاهر وجودهم ومعيشهم وحركتهم في شكل جماعات من الشباب يتجمعون على طول الشوارع الرئيسية في جماعات من ثلاثة إلى خمسة أفراد، هو العدد المناسب لمجموعة عمل؛ إذ من النادر أن تجد مهاجرا يتنقل بمفرده.
إن تتبع تفاصيل الحياة اليومية لهؤلاء المهاجرين تتطلّب عدة أيام من المعايشة والتردد على أماكن سكنهم وتجمعهم في أماكن العمل. لقد اعتمدنا ثلاثة مؤشرات متعلقة بحياتهم اليومية وهي: العمل، السكن والعلاقات مع المجتمع المحلي.
السكن وظروف الإيواء
حسب ما أمكن ملاحظته حول ظروف سكن المهاجرين، فَهُم يتخذون من الأحياء الهامشية للمدينة مأوى لهم ؛ إذ يقومون بتأجير مساكن بسيطة لا تتوفر في كثير من الأحيان على الحد الأدنى من الخدمات، أغلبها لا تتوفر على الكهرباء والماء، هذه الأماكن قليلة الكلفة إذ يبلغ ثمن الكراء 5000 دج تقسم التكلفة بين عدة متساكنين من 05 إلى 10 أفراد، يتخذ كل منهم زاوية في غرفة، في الغالب دون خدمات وفي ظروف غير صحية، في مساكن هشة هجرها أصحابها في حي "سكرة" أو" الزياينة" أو حي "بوزيد". الملاحظ أنهم يفضلون هذه الأحياء الهامشية التي يتفادون فيها أي رقابة أو حجز من السلطات بسبب وضعهم غير القانوني. أحياء بكاملها أصبحت توفر هذا المستوى من السكن لهؤلاء، حتى أن بعض المناطق أصبحت تسمى بأسماء بلدانهم: "حي الماليين" مثلا؛ إذ يتعايش المهاجرون مع المجتمع المحلي في هذه الأحياء بسبب التعود على وجودهم بشكل لا يلفت الانتباه، فهم يشترون مستلزماتهم اليومية ويستقلون وسائل النقل العمومية ما أمكنهم ذلك، كما يتنقلون في شكل مجموعات صغيرة العدد ويتحاشون في الغالب التعامل مع السكان.
عدد آخر من المهاجرين يُفَضِّلون السكن في ورشات البناء، يتخذون منها مأوى مؤقتا يدوم مدّةَ العمل الذي يقومون به، ثم يعودون للكراء أو البحث عن ورشة أخرى. أما في مناطق الاستصلاح الفلاحي فالكثير منهم يبنون أكواخا وسط غابات النخيل أو الاستصلاح حيث يشتغلون.
الشكل2: مدينة ورﭬلة تظهر عليها مناطق السكن المفضلة للمهاجرين غير الشرعيين
المصدر: التحقيق الميداني للباحث
مجموعات منهم أيضا تتواجد في مركز الإيواء بوسط المدينة. هذا المركز يأوي حوالي 500 إلى 600 مهاجرٍ من كل الجنسيات الإفريقية، وبالرغم من عملية الترحيل التي مست غالبية النيجريين شهر جانفي وفيفري 2015، إلا أن أعدادا متزايدة منهم متواجدة في هذا المركز وكثير من الذين صرحوا أنهم يعودون في كل مرة يتم ترحيلهم فيها بمجرد تخطيهم للحدود. لقد تم تحويل هذا المركز بعد حادث الحريق الذي شهده في 24 نوفمبر2015 والذي راح ضحيته 18 لاجئا أغلبهم من النيجر، ثم حوّل المركز إلى حي سعيد عتبة شمال المدينة.
العمل والأنشطة
هؤلاء المهاجرون هم في الغالب شباب معدّل أعمارهم من 25 إلى 28 سنة وأغلبهم من ذوي المستوى الدراسي المحدود؛ إذ يصرّح أغلبهم أنهم درسوا الابتدائي والمتوسط وقلة منهم جامعيون أو متحصّلون على تكوين مهني. هؤلاء المهاجرون أصبحوا مخزون يد عاملة بخسة وعلى استعداد لكل الأعمال في مدن الصحراء. هم مصدر استغلالِ الاقتصاديات المحلية منذ مدة طويلة وقطاعات كاملة أصبحت تعتمد على خدماتهم، كالبناء والاستثمار الفلاحي؛ إذ نجدهم عمّالا لدى المقاولين المحلّيين الذين يوفرون لهم الشغل وفي بعض الأحيان الإيواء في ظروف غير صحية غالبا.
لقد أصبح المهاجرون اليومَ أساسيين في الاقتصاد المحلي للمدن الصحراوية، بممارسة أنشطة متنوعة: منهم الإسكافيون الذين يتّخذون طاولات موزعة في أحياء ووسط المدينة، أما الأنشطة الرئيسة التي نجد فيها غالبية هؤلاء المهاجرين فهي تتركز في قطاع البناء؛ إذ نجدهم اليوم في أغلب الورشات يعملون بنائين ومساعدي بنّائين، فهم يحسنون تقنيات العمل اليدوية ومستعدون دائما لتقديم كل أنواع الخدمات، أما الأجرة اليومية للعامل فهي تتراوح من 1200 إلى 1500 دج لكن أغلبهم يشتغل في ظروف قاسية دون أية تغطية صحية أو اجتماعية؛ فمن أصل 50 ورشة بناء تمت زيارتها في مدينة ورﭬلة لمقاولين محليين لم نجد ورشة واحدة لا تُشغّل أفارقة مهاجرين. إن معظم مشاريع البناء في المدينة وغيرها لا يمكنها الاستغناء عن هذه الأيدي العاملة الوفيرة وقليلة الكلفة. إن الديناميكية العمرانية التي تشهدها مدن الصحراء الجزائرية تعود في جزء منها لخدمات هؤلاء المهاجرين.
ليس من السهل على هؤلاء المهاجرين الحصول على عمل؛ فالمنافسة بينهم شديدة ويعتمدون على التآزر بينهم في جماعات قليلة العدد (من خمسة إلى سبعة أفراد) على رأسهم الأكثر احترافا وخبرة. إنهم يتنقلون معا أو يصطفون على طول الشوارع الرئيسية ويعرضون خدماتهم على المقاولين الصغار أو الخواص من مالكي المنازل في طور الإنجاز الذين يمرّون كل صباح لطلب العمالة في ظل عزوف الشباب المحلي في المدينة عن العمل في مجال البناء أو الفلاحة. ويتم الاتفاق غالبا بلغة فرنسية بسيطة وأحيانا بالإشارة وأحيانا باستعمال كلمات بسيطة يحفظها المهاجرون للتعامل بها مع سكان المدينة.
أغلب مبحوثينا يعبّرون عن حالات من الفقر المدقع لأهاليهم في بلدانهم، وهم يقومون بمساعدة ذويهم عن طريق إرسال المال بتسليمه لأحد الوسطاء في المدينة، وبعد اتصال هاتفي من الوسيط إلى آخر في مكان الاستقبال، يقوم بتسليم المبلغ بعد خصم حوالي20% منه كعمولة، وعند تأكد المهاجر أن المبلغ قد سُلم لذويه فعلا يسلم مبلغ تلك العمولة، ويؤكدون أهمية الهاتف النقال في عقد هذه الصفقات وتسهيل حياة المهاجرين؛ إذ يعتبر في نظرهم أداة حيوية في حياة المهاجر.
في وصفه للحياة في مدينة ورﭬلة يعبر أحد المهاجرين:
"... تتلخص حياتي في ورﭬلة في العمل، البحث عن المال... الصمت..." (أبو بكر، مقابلة يوم 18 أفريل 2015).
العلاقات مع المجتمع المحلي
يتحاشى الأفارقة المهاجرون التجوال الفردي لشعورهم بالعزلة والخوف، أحيانا يقوم الأطفال برميهم بالحجارة في الأحياء المعزولة، لكنهم يؤكدون أنهم لا يردون على الاستفزازات التي يتعرضون لها في بعض الأحيان. يعرفون جيدا أنه لا يجب عليهم إثارة المشاكل مع المجتمع المحلي خوفا من الطرد أو الشرطة التي تقبض عليهم، فيتعرضون للمُسَاءَلة حول وضعيتهم القانونية، وبالتالي قد يتعرضون للحبس أو الترحيل إلى حدود دولهم، حتى وإن صرّح بعضهم بالتعرض لمحاولات السرقة أو الضرب. وأحيانا يتعرضون لبعض التمييز خاصة في وسائل النقل العام.
"... يرفض أصحاب الحافلات أحيانا السماح لنا بالركوب مع المواطنين الذين ينزعجون من وجودنا، نتفادى وسائل النقل ونمشي لمسافات طويلة للتنقل بين الورشات والسكن..." (بوبكر، 18 أفريل 2015).
كل هذه التصريحات، وإن حملت الكثير من المصداقية، لا تنفي الشعور العام للمجتمع المحلي المتمثل في القلق من تنامي أعداد المهاجرين، خاصة في الأحياء الهامشية، والذي يثير الكثير من الشكوك حول ممارساتهم والأنشطة التي يتعاطونها. فعدا بعض الحوادث القليلة نسبيا والتي تعرض لها أو تسبب فيها المهاجرون الأفارقة. غير أنه من المهم الإشارة إلى الهدوء والمسالمة التي يتميزون بها، وأن الخدمات التي يقدمونها لا يمكن الاستغناء عنها في المدينة، وكذا تقبلهم كل أعباء الأعمال والأنشطة التي تخلى عنها الناس في مدن الصحراء الجزائرية كالبناء والفلاحة.
في تجربة الهجرة هذه يعيش المهاجرون الأفارقة ظروفا اجتماعية وصحية ونفسية صعبة، فالشكوك التي تحيط بهم وابتزاز بعض المشغلين لهم تجعلهم في وضع استثنائي دوما، فهم يفقدون ثقافة ولا يستأنسون بأخرى، بالرغم من كون الغالبية منهم مسلمين وأسماؤهم مألوفة لدى المجتمع المستقبل لهم، إلا أن الاتصال أو التعامل لا يكون إلا في حدوده الضيقة كتبادل بعض الكلمات القصيرة لتأدية خدمة أو تبادل منفعة. أما غير ذلك فإما تبادل الحديث بلغتهم بطلاقة متجاهلين من حولهم أو الصمت وتبادل النظرات المريبة أو الخائفة في الأماكن التي يحتكون فيها مع السكان المحليين، فالأمر أشبه بعالمين متوازيين.
"...الأفارقة كثرو في السنوات الأخيرة في المدينة، في كل مكان تجدهم، قد يحملون أمراضا لا نعرفها...حتى وإن هم بشر وبعضهم مسلمون...لكن نخاف منهم...لا بد أن تقوم الدولة بمراقبتهم، وإبعادهم عن السكان خارج المدينة..." (يقول أحد سكان ورﭬلة، 20 أفريل 2015).
بين الريبة والتحفظ اللّذين يشعر بهما سكان مدينة ورﭬلة تجاه هذه التدفقات من المهاجرين الأفارقة في كل أرجاء المدينة، في الأحياء العشوائية للسكن والمأوى، في الشوارع والطرق الرئيسية أين يتجمع هؤلاء جماعات على طول الطريق، عددهم بالعشرات، يصطفون لعرض خدماتهم على سيارات المقاولين والخواص؛ يتخوف السكان حسب تصريحاتهم من انتشار الأمراض نتيجة الوضعية المزرية التي يعيشها المهاجرون وأيضا الأوبئة والأمراض الغريبة التي قد يحملونها من بيئاتهم، كما يتخوفون أيضا من السرقة والعنف وانتشار الجريمة وممارسات النصب والاحتيال وممارسة الدعارة، وتجارة الممنوعات، كلها سلوكيات تثير مخاوف السكان حتى وإن كان وقوعها – فعلا- قليلا جدا.
يعرف السكان أيضا فائدة المهاجرين في اقتصاد المدينة وفي التنمية، من خلال الأعمال والأنشطة التي يقومون بها ويعزف عنها الشباب في ورﭬلة، بالإضافة إلى الشعور بمعاناتهم والتضامن معهم خاصة في المناسبات والأعياد الدينية؛ إذ يقوم السكان بتقديم العون لهم وتقديم الوجبات والمؤونة والأغطية والملابس المستعملة، فسكان الصحراء وورﭬلة بالخصوص يشتهرون بتقبل الغرباء والتعايش معهم، وهي مواقف ومشاعر يعبر عنها السكان في المحادثات التي أجريت معهم.
تطرح مسألة الهوية بحدة في العلاقة بين المهاجرين والمجتمع المحلي؛ إذ لطالما تعامل الجزائريون مع الأجنبي على أنه "الأوربي"، لكن في هذه الحالة الأجنبي هو الإفريقي "الزنجي". في الحالة الأولى كان الجزائري ينظر إلى نفسه من خلال مرآة الأوربي، أما في حالة المهاجرين الأفارقة فتنتج مع هذا "الآخر" علاقة من نوع جديد فيها شيء من الشك والريبة وربما حتى الاستعلاء، وفي كل الأحوال هي علاقة جديدة لها جذورها في الذاكرة التاريخية للعلاقة مع الإفريقي.
من أجل مقاربة سوسيولوجية لهجرة مواطني ساحل الصحراء
بالنظر إلى مقاربة الهجرة التي درسها عبد المالك صيّاد والتي أعطاها معان ومصطلحات جديدة، والتي أحدثت قطيعة مع الدراسات السابقة التي تناولت الظاهرة من بعد واحد منطلقا من المركزية الإثنية[12]، أي بإهمال البعد الأساسي وهو الظروف والوضعيات الأساسية للمهاجرين، فقد ركّز صياد على مسارات المهاجرين من بلدهم الأصلي إلى بلد المهجر، وربط الظاهرة بسياقها التاريخي والاجتماعي الأصلي في بلاد الهجرة. وبالتالي تحويل الهجرة من مجرد حالات تاريخية إلى نموذج سوسيولوجي يمكن البناء عليه لحالات أخرى من الهجرة في مناطق أخرى. لقد قسّم صياد الهجرة الجزائرية نحو فرنسا إلى ثلاث مراحل تمثل ثلاثة أجيال من المهاجرين الجزائريين، فمثّل الجيل الأول من القرن التاسع عشر إلى الحرب العالمية الثانية، وهم المهاجرون من أجل مجتمعهم أي الذين رشحوا للهجرة والعمل من طرف المجموعة أو القرية لمساعدة أهلهم وذويهم وأبناء عمومتهم. أما المرحلة الثانية فتبدأ من الحرب العالمية الثانية أين تخف الرقابة الجماعية على الفرد بفعل التفتت الاجتماعي حتى المرحلة الثالثة التي تميزت بهجرة عائلات بأكملها والتحرر الكامل للأفراد[13]. فإلى أي مدى يمكن تطبيق مثل هذه المقاربة على حالة مهاجري ساحل الصحراء في مدن الصحراء الجزائرية؟
أولا إن هجرة مواطني ساحل الصحراء ليست وليدة الظروف الحالية ولا القريبة زمنيا؛ إذ هي حركة تمتد عبر تاريخ طويل، فقد كانت الملاحة بين ضفتي الصحراء منذ قرون عديدة تنشط مع الحركات السياسية والصراعات المذهبية التي صبغت المغرب الكبير منذ الرستميين (القرن الثامن الميلادي) حتى الفترة الكولونيالية (في القرن التاسع عشر)؛ إذ نقل خلال الفترة أعداد هائلة من البشر من ساحل الصحراء في شكل عبيد مع تجارة القوافل، فعمّروا الواحات والقصور ونقل معظمهم شمالا وإلى المشرق للعمل في المزارع والبيوت وغيرها.
وفي مرحلة لاحقة يعاد النشاط للصحراء بعد الفترة الكولونيالية التي اتسمت بالخمول؛ فنشطت بفضل مشاريع التنمية الكبرى بعد الاستقلال في ليبيا والجزائر وأصبحت تستقطب من جديد موجات من المهاجرين للعمل في ورشات البناء والطرق والمشاريع الاستراتيجية، وهم بمثابة جيل جديد من المواطنين الأحرار في بلدهم، اكتسبوا خبرات في العمل وبقوا مرتبطين ببلدانهم يُعيلون أسرهم بتحويل مبالغ من مرتباتهم إلي بلدانهم الأصلية.
ومنذ بداية من تسعينيات القرن الماضي، تجددت ظاهرة الهجرة بكثافة كبيرة، مرتبطة هذه المرة بموجات الفقر، والجفاف والصراعات الإثنية والعرقية والحروب، ولكن أيضا بسبب تطور وسائل الاتصال والمواصلات؛ هذه المرة تتعلق بآلاف من الشباب المغامر من هذه البلدان في رحلة الحياة أو الموت، لتطبع عند هؤلاء بإرادة الخلاص الفردي، وهي موجة جديدة لكنها غير معزولة عن تاريخ طويل من مسيرة المهاجرين. يمكن معلمة هذا التاريخ عبر مراحل مد أو انحسار هذه الموجات، لكن المهم هو القراءة المتأنية لهذه الظاهرة وربطها بواقعها الاجتماعي والإنساني.
لا نملك من المعلومات والتحاليل الكافية عن مجتمعات ساحل الصحراء، والظروف المتعددة الدافعة لهذه الهجرة، وعلاقات المهاجرين ببلدانهم الأصلية؛ إذ يتطلب الأمر، لكي تتضح الصورة لبناء تصور سوسيولوجي متكامل لهذه الظاهرة وتتبع طرفيها، من منبع الهجرة إلى بلاد الغربة، كما يؤكد صيّاد، دراسات ميدانية معمقة لإعادة رسم مسار وملمح مهاجري ساحل الصحراء.
خـاتـمـة
في مواجهة الصعوبات المتزايدة على مسار مهاجري بلدان ساحل الصحراء، يغيّر هؤلاء من استراتيجياتهم بين الاستمرار في مغامرة العبور إلى المقصد، أو تغيير هذا المقصد نفسه بحيث تتحول رحلة العبور إلى تثبيت واستقرار -ولو مؤقتا- في انتظار فرصة تزداد استحالتها كلما شددت "القلعة الأوربية" مناعتها، فبتزايد أعداد المهاجرين الأفارقة إلى مدن الصحراء الجزائرية، تصبح الظاهرة لافتة للنظر؛ إذ أن مسارات هذه الهجرة أصبحت تنخرط ضمن شبكات منظمة لتهريب البشر عبر الحدود، لتشكل اليوم تجارة نشطة على طول الساحل الصحراوي.
فإضافة إلى كل متاعب ساحل الصحراء ومآسيه الاقتصادية السياسية والإنسانية، يقع هؤلاء المهاجرون الأفارقة ضحية هذه الشبكات التي تستغلهم وتنشأ من أجلهم، إضافة إلى ظروف سكنهم وعملهم المزرية في أغلب مدن الصحراء التي هي في أشد الحاجة لخدماتهم بالرغم من وضعيتهم غير القانونية.
لطالما كانت الصحراء الجزائرية عبر تاريخها الطويل فضاء عبور، فمنذ قرون كانت قوافل التجارة هي من يضمن هذا التواصل، والتي رسمت طرقا ومسالك هي نفسها مسالك عبور المهاجرين اليوم، أفلا يحق لنا إذًا أن نتساءل عماّ إذا كان هؤلاء المهاجرون من دول ساحل الصحراء يواصلون مسيرة تاريخية للتواصل عبر ضفتي الصحراء وهم الآن على خطى أسلافهم؟
المراجع
بلعباس، عبد الله (2013)، "ظاهرة الهجرة عند عبد المالك صياد: من السياق التاريخي إلى النموذج السوسيولوجي"، مجلة إنسانيات، عدد 62،
URL : http://insaniyat.revues.org/14325
Bensaâd, A. (2004), « De l’espace euro-maghrébin à l’espace eurafricain : le Sahara comme nouvelle jonction intercontinentale », L’Année du Maghreb [En ligne], I |, mis en ligne le 08 juillet 2010, consulté le 12 octobre 2012, URL: http://anneemaghreb.revues.org/284.
Larceneux, A. (2011), « Le Sahara et ses marges, un objet d’étude identifié : vers un renouvellement des recherches sur les espaces désertiques », Insaniyat / En ligne], 51-52 |, mis en ligne le 15 janvier 2015, consulté le 2 décembre 2016. URL : http://insaniyat.revues.org/12797.
Belguidoum, S. (2002), « Urbanisation et urbanité au Sahara », in Méditerranée, T. 99, 3-4, Le sahara, cette « autre Méditerranée », (Fernand Braudel).
Brachet, J. et all., (2011), « Le Sahara entre espace de circulation et frontière migratoire de l'Europe », in Hérodote, 2011/3 n° 142, p. 163-182.
Bredeloup, S. (2008), « L'aventurier, une figure de la migration africaine », Cahiers internationaux de sociologie, 2008/2 n° 125, p. 281-306.
Bredeloup, S., Pliez, O. (2005), « Migrations entre les deux rives du Sahara », Autre part, 2005/4 n° 36, p. 3-20.
Mohammedi, S.-M. (coord.) (2014), « Abdelmalek Sayad, migrations et mondialisation », éd. CRASC.
Trache, S.-M., Yango (coord.) (2016), « Carrefours Sahariens. Vues des rives du Sahara », Ed. CRASC.
Gregoire, E. (2011), « Réseaux, urbanisation et conflits au Sahara », Insaniyat / [En ligne], 51-52 | 2011, mis en ligne le 15 janvier 2015, consulté le 02 décembre 2016. URL : http://insaniyat.revues.org/12854.
Kouzmine, Y. et all., (2009), « Étapes de la structuration d'un désert : l'espace saharien algérien entre convoitises économiques, projets politiques et aménagement du territoire », in Annales de géographie, 2009/6 n° 670.
OECD (2014), « Migrations et Sahara », in OECD/SWAC, Un atlas du Sahara-Sahel : Géographie, économie et insécurité, OECD Publishing, Paris. DOI: http://dx.doi.org/10.1787/9789264222335-8-fr.
Gonin, P. (2010), « L’énigme spatiale des Subsahariens », Hommes et migrations [En ligne], 1286-1287 | 2010, mis en ligne le 29 mai 2013, consulté le 7 juin 2013. URL : http://hommesmigrations.revues.org/1716.
Sayad, Abdelmalek (1990), « Les maux-à-mots de l’immigration. Entretien avec Jean Leca », in Politix, n° 12.
Bensaad, A. (2009) (dir.), Le Maghreb à l'épreuve des migrations subsahariennes: immigration sur émigration, Karthala.
Notes
[1] OECD (2014), « Migrations et Sahara », in OECD/SWAC, Un atlas du Sahara-Sahel : Géographie, économie et insécurité, OECD Publishing, Paris, DOI: http://dx.doi.org/10.1787/9789264222335-8-fr
[2] Brachet, J., et all., « Le Sahara entre espace de circulation et frontière migratoire de l'Europe », in Hérodote, 2011/3 n° 142, p. 163-182.
[3] Cote, M. (2009), « Les mouvements transsahariennes d’hier à aujourd’hui », in Bensaad, A. (dir.), Le Maghreb à l'épreuve des migrations subsahariennes: immigration sur émigration, Karthala, p. 181-189.
[4] CISP, SARP, Rapport intermédiaire de recherche profils des migrants subsahariens en situation irrégulière en Algérie, avril 2007, p. 21.
[5]عناوين مقالات بعض الصحف في موضوع هجرة "الأفارقة":"اللاجئون الأفارقة. القنبلة الموقوتة"، الشروق 06/10/2014، "آلاف الأفارقة "الحرّاﭬﺔ" يستوردون للجزائر الأوبئة والشعوذة والدعارة"، الشروق اليومي 29/09/2008، "المهاجرون. من لاجئين مساكين إلى منحرفين ومحتالين"، يومية السلام اليوم 05/04/2014، "آلاف اللاجئين الأفارقة يواجهون الرفض والاستهجان بالجزائر"، الخبر 10/05/2014 "الحراقة الأفارقة" يغزون الجزائر بعد غلق الوجهة الليبية"، الخبر 10/11/2011، "تدفق الأفارقة لولاية تمنراست خطر محدق بالجزائر"، الفجر الجديد 25/11/2014، "بلدية ورقلة تحت رحمة المتسولين الأفارقة"، المحور اليومي 08/03/2015.
[6] Gonin, P. (2010), « L’énigme spatiale des Subsahariens », Hommes et migrations [En ligne], 1286-1287 |, mis en ligne le 29 mai 2013, consulté le 07 juin 2013. URL : http://hommesmigrations.revues.org/1716
[7] El Watan, 26 Avril 2009.
[8] Lahlou, M. (2003), Le Maghreb et les Migrations des africains du sud de Sahara, Casablanca.
[9] الجريدة الرسمية، العدد رقم 232 بتاريخ 22 جويلية 2008.
[10] Cote, M., ibid., p. 183.
[11] Gonin, P. (2010), « L’énigme spatiale des Subsahariens », Hommes et migrations [En ligne], 1286-1287 |, mis en ligne le 29 mai 2013, consulté le 7 juin 2013, URL : http://hommesmigrations.revues.org/1716
[12] Sayad, A. (1990), « Les maux-à-mots de l’immigration. Entretien avec Jean Leca », in Politix, n° 12, p. 10.
[13] بلعباس، عبد الله )2013(،"ظاهرة الهجرة عند عبد المالك صياد: من السياق التاريخي إلى النموذج السوسيولوجي"، إنسانيات، عدد 62، ص. 25-38 URL http://insaniyat.revues.org/14325