طلال أسد، جينالوجيا الدين : الضبط وأسباب القوة في المسيحيّة والإسلام

انسانيات عدد مزدوج 80-81| 2018 | الصحة في الحياة اليومية بالبلدان المغاربية| ص 95-107| النص الكامل


يندرج كتاب طلال أسد ضمن المقاربات التي أخذت على عاتقها دراسة الدين بوصفه ظاهرة مؤثرة ومتأثّرة؛ فهو يمثل إحدى المحاولات الجادة التي استأنفت النظر في الدين باعتباره ظاهرة قابلة للدراسة التاريخية. ومع أنّ الدراسات المتعلقة بهذا الموضوع الدين كثيرة في حقل علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، إلاّ أنّ أهمية الكتاب لا تكمن في تقديم تعاريف خاصة بالدين المسيحي أو الإسلامي، وإنما في النظر إلى السياقات التي تنتج تلك التعريفات، وفهم التطورات التي تطرأ على هذه الظاهرة وأسبابها.

إن الدين ليس كلمة منعزلة بل هو جزء من نظام مفردات تستحضر أشخاصا وأشياء ورغبات وممارسات، وتجتمع معا في بيئات ثقافية معينة. يؤكد الكاتب عند دراسته للدين على طرق الحديث والسلوك الذي ينتمي إلى تراث يجسّد الممارسات الفعلية، سواء كان هذا التراث دينيا أو علمانيا. ويركز المؤلف هنا على مسألة تشكل الجسد وأحاسيسه وعلاقته ، بسلطة الضبط سواء الضبط الناتج فيما يؤمن به الفرد أو الجماعة، الذي تفرضه الدولة أو الكنيسة.

وتجدر الإشارة -أولا- إلى أنّ النسخة الأصلية الإنكليزية نشرت سنة 1993، وتمّ نشر عدّة مقالات في مجلاّت أكاديمية متخصصة أغلبها يتمحور حول ظاهرتي الدين والعلمانية. ويضم الكتاب عددا من تلك المقالات، لذا قد لا يبدو لنا في الظاهر الترابط المحكم بين فصول هذا الكتاب لإثبات فكرة أساسيّة واحدة. ويتوزع الكتاب على ثمانية فصول، يندرج كل فصلين منها تحت محور عريض ممثلا في  جينالوجيات، أوضاع قديمة، ترجمات، مجادلات وخاتمة. ولقد خصّ المؤلف هذا الكتاب في طبعته العربية بمقدمة عامة، موضحّا فيها معارضته تلك المحاولاتِ الساعيةَ إلى التوصل إلى "التعريف الكلي الشمولي للدين"، متوجها إلى دراسة بعض أوجه النقص في طرق الدراسة التي يجريها الدارسون حول هذه الظاهرة. ويعتبر الدين في نظره، ليس له صفات جوهرية ثابتة، منتقدا الباحث الكندي وِلْفْرِد كانْتْوِلْ سْمِثْ (Wilfred Cantwell Smith) الذي يلتقي مع الكاتب في الرّأي السابق، إلاّ أنه بقي أسيرا لبقايا تلك الصفات الجوهرية. ويظهر ذلك من خلال العمل بمصطلح "المعتقد" بدل "الدين"، مبررا ذلك برغبته في تحاشي خطر تجسيد المجرد، مما دفع الكاتب إلى التساؤل عن مدى الصواب في جعل سْمِثْ الدينَ معتقدا شخصيا، فهو يرفض جعل الكيفية التي يفكر بها الشخص عن تجربته الدينية أساسا لتعريف شامل للدين.

يتناول الفصل الأول الدّين موضوعا أنثروبولوجيا تحت محور الجينالوجيات، حيث يقدم الكاتب لمحة عن ظهور الدين بصفته موضوعا تاريخيا حديثا، والتغيرات التي طرأت عليه، انطلاقا من القرن التاسع عشر الذي اُعتبر الدين وضعا إنسانيا تفرعت عنه الأفكار القانونية والعلمية والسياسية الحديثة ثم انفصلت عنه. ويصبح الدين في القرن العشرين مجالا منفصلا من مجالات الممارسات والمعتقدات البشرية والتي لا يمكن فهمها من منطلق أنّ الدين والسياسة متلازمان؛ لكون جوهرهما متباينان.

 وفي معرض حديثه عن الرمز باعتباره دليلا على جوهر الدين، يركن الكاتب إلى مفهوم غيرتز Clifford Geertz للرمز في كونه وساطة لتصوّرٍ ما. وهذا التصور هو معنى الرمز، ثم يوضح الاختلاف في اتصال الرمز بالمحسوسات والأحداث اتصالا داخليا وانفصاله عنها نظريا. وهذا ما يُصعِّب عملية استقصاء الطرق التي يتصل بها الخطاب والفهم بالممارسة الاجتماعية. وينتقل الكاتب من قراءة الرموز إلى تحليل الممارسات، فيرى أن افتراض وجود نظام من الرموز منفصل عن الممارسات سيؤدي حتما إلى تجاهل فروق مهمة أو إنكارها صراحة في بعض الأحيان، مستندا إلى ما افترضه غيرتز في أنّ المسيحيين يسلمون بأنّ الخطاب اللاهوتي لا يستدعي المشاعر الدينية رغم ما للّاهوت من وظيفة أساسية، وأنّ المشاعر الدينية لا تعتمد بالضرورة على تصور واضح المعالم للإطار الكوني من جانب المتدين.

وفي الفصل الثاني الخاص بتطور مفهوم الطقوس، يتعرض المؤلف إلى محاولة استكشافية لرصد التغيرات التاريخية التي أسهمت في جعل مفهوم الطقوس مقبولا اليوم. وتبدأ أولى محاولات طلال الأسد بعرض تطور التعريفات المتغيرة للطقوس، انطلاقا من مدخل الطبعة الأولى من الموسوعة البريطانية منذ عام 1771 إلى 1910، والذي يضم تعريفا للطقوس بوصفها ظاهرة ثقافية. وفَاقَ بكثير هذا التعريف ما كان سائدا في القرن 18، لكن ما نحصل عليه اليوم شيء جديد تماما؛ إذ أصبح ينظر الى الطقوس بوصفها جزْءا أساسيا من كل دين. وهذا يعني أنّ الطقوس لم تعد نصًّا ينظم الممارسة، بل ممارسة يمكن تفسيرها على أنّها ترمز لشيء قابل للتعريف لغويا، لكنه حدثٌ مفهومٌ ضمنيًّا.

وفي معرض حديثه عن الجواهر الخاصة والتمثيلات العامة، يستعير طلال أسد كلمة شخصية Character والتي تحمل معنيين حسب ادورد بيرنز
 : Edward Bernays يدل الأول على السمعة ويدل الثاني على التركيب العقلي أو الأخلاقي، أي الجوهر الخفي الذي يحدد وجود الفرد في العالم، حيث نشأت من هذا المعنى الأخير فكرة الهُوية الأساسيّة للفرد والهوية الأخلاقية للكائن البشري، وعلى المهارة في الحكم على الشخصية، لتصبح قراءة الشخصية الحقيقية للرجال من وجوههم وعاداتهم مرهونة بعامل الخبرة، لذا دعا الكاتب إلى التركيز عليها في الحكم.

يشير المؤلف إلى تمييز الكتاب خلال فترات لاحقة من القرن 18 العواطف عن المشاعر ، ذلك أن للعواطف -على خلاف المشاعر- أثرا قويّا في العلاقات الاجتماعية، مشيرا إلى احتلالها مكانا يشبه مكان الفضائل والرذائل في القرون الوسطى؛ فالعواطف قد تحدد السلوك بوصفها قوة تصعب السيطرة عليها، عكس الرغبات التي يمكن تعليمها في الرهبنة القرون الوسطى.

أما الفصل الخامس الذي انضوى تحت محور (ترجمات)، فيتناول الكاتب فيه مفهوم الترجمة الثقافية في الأنثروبولوجيا الاجتماعية البريطانية، منطلقا من نص نظري لأرنست غيلنر (المفاهيم والمجتمع) مركزًا على الطريقة التي عالج بها الأنثروبولوجيون مشكلة تفسير الخطاب في المجتمعات الغربية وترجمته. وتقوم فكرته على الأمور التالية :

  • تفسير الأنثروبولوجيين للمفاهيم غير المألوفة، انطلاقا من سياقها الاجتماعي؛
  • حرصهم على إعطاء الأقوال التي يبدو أنّها تجافي العقل أو التي يعتريها الاضطراب المعاني المقبولة؛
  • قد تكون الطريقة السياقية في التفسير صحيحة من حيث المبدإ، لكن يرافقها عادة تسامح مبالغ فيه.

ويخلص الكاتب إلى أنَّ على كل من يشتغل بالترجمة من ثقافات أخرى أن يبحث في تناسق الخطاب، الذي يفتقر إليه ونص "غيلنر"، إضافة إلى أنه قد غفل بعض نواحي المشكلة التي تواجه المشتغل بالأثنوجرافيا وهي مسألة تفاوت اللغات، إذ لا بد لكل ترجمة جيدة من أن تقوم على فرضيات مؤداها أنها موجهة بلغة معينة وإلى مجموعة من الممارسات وشكل معين من الحياة. وتتحكم في اللغة علاقات قوة تتحد مؤسساتيا مع اللغات وأنماط الحياة المعنية. ويضرب لنا طلال أسد مقارنة بين لغات العالم الثالث التي ينظر إليها على أنها من أضعف اللغات الأوروبية وبين خضوعها لتغييرات قسرية أثناء عملية الترجمة. ومرد ذلك، حسب الكاتب، إلى أنّ المجتمعات الغربية أقدر على التأثير في أقطار العالم الثالث في علاقاتها السياسية والاقتصادية، إضافة إلى أن اللغات الغربية تنتج معرفة يرغب الناس في الحصول عليها أكثر مما تنتجه لغات العالم الثالث.

وفي الفصل السادس الخاص بحدود النقد الديني في الشرق الأوسط، يتحدث طلال أسد عن العقل النقدي والدولة والدين في عصر التنوير. ويرى أن الشعوب الغربية تنظر إلى تاريخ غيرها من الأمم غير الغربية بأنه محدود، كما تنظر إلى تقاليدها من وجهة نظر التنوير الأوروبي. وهي نظرة تنحو إلى تقويم التقاليد بحسب قربها أو بعدها من التنوير أو النموذج الليبرالي، لذا وُصفت الدول الإسلامية بأنها دول ذات نظام سياسي استبدادي. وأشار الكاتب إلى الكيفية التي أخذ منظرو القرنين 17 و18 يشكلون بها الدولة الحديثة، ما تطلَّب الإعادة الحتمية لتعريف الدين بأنه الإيمان، جاعلين أمور الإيمان والعواطف والهوية الدينية أمورا شخصية تنتمي إلى فضاء الحياة الخاصة، في مقابل الحياة العامة. ولا يمكن لهذا الإيمان أن يكون مؤسسا لأخلاق عامة ولا لإيجاد لغة عامة للنقد العقلاني.

وفي الفصل السابع، المتعلق بمجادلات التعددية الثقافية والهوية البريطانية إثر قضية سلمان رشدي وما أعقبها من تحرك سياسي لمنع نشر الكتاب وما خلف من ردود أفعال عاطفية لدى النخبة الليبرالية، إضافة إلى صدور بيان غير مسبوق موجها إلى الأقلية الإسلامية مَصدرُه وزير في الحكومة جون باتن حول الهوية البريطانية، يرى أسد أن هذه الأحداث ساعدت على انتشار خطاب خاصٍّ بالهوية البريطانية؛ فقد تجددت الدعوات الخاصة بالدمج. والمخيف في هذه القضية عند النخبة الليبرالية، سببه وجود نشاط سياسي تمارسه فئة صغيرة من المجتمع وتسعى من خلاله إلى الحصول على مرجعية بسبب اختلافها في التقاليد الدينية التي يبدو أنها تُحدث خللا مكانيا وزمانيا في الوحدة الإيديولوجية للدولة القومية.

جاء الفصل الثامن حول الأثنوغرافيا والأدب والسياسة ليقدم قراءات واستخدامات لرواية آيات شيطانية، حيث يرى طلال أن الدراسات الإثنوغرافية نشأت بوصفها جزء لا يتجزأ من التوسع الأوروبي الليبرالي، وذلك من أجل فهم الشعوب والسيطرة عليها وإدارة شؤونها، كما أسهم علم الأنثروبولوجيا في السيادة السياسية لأوروبا على غيرها. وفي قراءته لرواية سلمان رشدي، يرى طلال أن الوضع الخطابي للجزء الذي يتناول الإسلام ليس واضحا تماما أمام مقاصده السياسية، لكن يبدو أنّ سلمان رشدي قد استمد مادته على نحو ذكي من التراث المسيحي المعادي للإسلام والذي يحتل فيه الانشغال بالجنس في حياة النبي مكان الصدارة.  ومن ناحية أخرى، ينفي أن يكون نقد رشدي فاسدا بحجة أنّ موقفه يقع خارج التراث الإسلامي، إنّما قوة ذلك النقد تعتمد على وجوده داخل التراث الليبرالي الغربي.

وفي الأخير، يحسب لهذا الكتاب تميزه في إعطاء مقاربة تاريخية لمفهوم الدين باعتباره مظهرا ثقافيا دون البحث في المعنى الجينالوجي لهذه الكلمة، وسعيه إلى إظهار مدى تعقيد وغموض الطرق التي يتشابك فيها الدين مع العلمانية، بالإضافة إلى تأكيده عند دراسة الأديان على طرق الحديث والسلوك الذي ينتمي لتراث ديني أو علماني، يتجسد الكلام والتفكير فيه في الممارسة الفعلية ولا يستخلصان منه استخلاصا، وبمعنى أدق، فإنه يدعو إلى النظر في كيفية تشكل الجسد وأحاسيسه، سواء بالضبط الواعي أو نتيجة للتطورات العارضة، ذلك لأنّ التجارب اليومية للفرد بما في ذلك التجربة الدينية، تجارب مجسدة تتحرك في الباطن وليست واعية مقصودة.

خديجة بغدادي

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran
+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11
+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Recherche