عدنان الأمين، (2021). إنتاج الفراغ. التقاليد البحثية العربية. بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، عدد الصفحات 318.


إنسانيات عدد 92، أفريل – جوان 2021، ص. 49-54



مقدّمة لا تُشْبِهُ تصدير الكتاب

كيف يمكن أن نُخضِع ما يقارب 7 000 دراسة إلى دراسة تجْمَع معرفة عالم الاجتماع إلى خبرة الباحث التربوي بحيث تُشرِّح التقاليد البحثية وتُطلعنا على كيفيّة إنتاج المحتوى المعرفيّ؟ ذاك ما أتاه عدنان الأمين في آخر إنتاجاته التي صدرت تحت عنوان إنتاج الفراغ، التّقاليد البحثيّة العربيّة.

أعرض مراجعتي للكتاب مُعتمِدًا المرور ممّا هو خارج نصّه إلى كيفيات وَضْعِ مُحتوياته، لأنتهيَ إلى تفحّصها، هذه المحتويات من منظور تفكير مُشْتَغِلٍ بعلم الاجتماع، في الصِّنَاعَة الاجتماعيّة لكيفيّات الاشتغال بعلم الاجتماع. ولآفاق البحث نصيب في الخاتمة.

أوّلا: في موارد وضع الكتاب

يُظْهِرُ إنتاج الأمين على امتداد الأربعين سنة الماضية، ومن خلال عناوينه وما تَدُور عليْه من مَفَاهِيم (وهذا أسلوبه المنهجي في الفصل التاسع) تطور تفكيره  في سؤاليْن مركزيّيْن حول أوضاع التعليم وأدائه من جهة وحول البحث العلمي الاجتماعي في التربية والتّعليم من الجهة الثانية. وكان يجول بين مباحثهما بالاستناد إلى نظريات التحليل العلمي الاجتماعيّ، وباستثمار مفاهيمه وأدواته المنهجية، على اتساع المدى العربيّ الكبير. و"مَهَمَّةُ هذا الكتاب الأساسية اقتراح تفسير مقنع لأحوال أبحاث علم الاجتماع... إنه محاولة نقديّة للسّلوك البحثي في العلوم الاجتماعية" (ص. 26) بحيث نقترب من "فهم علاقة الباحث (الإنسان الأكاديمي) ببحثه في بلادنا" ( ص. 40).

ثانيا: في كيفية وضع الكتاب

يضع الأمين فعله البحثي ضمن أطلس اجتماعي تُكَوِّنُه مَوَاقِع الفاعلين الاجتماعيين وبُنى حقول الفعل الاجتماعي ومختلف الاستراتيجيات الفاعلة فيها، والكلمة المفتاح في تحديد هذا الموقع هي 'المُدَاوَلَة'. ففي بعض عناوين ما نشر إشارات إلى كُتُبٍ وفصول في كتب، ومقالات علمية-بحثية، ومحاضرات وعروض سمعيّة بصريّة أُلقيت في لقاءات علميّة من كل نوع، واستقبلتها جامعات ومراكز بحثية وجمعيات مدنية. بعض العناوين كان في سياق الاشتغال على بناء قواعد بينات بحثية (وعلى الأخص منها موقع 'شمعة')، وكانت بعض العنواين الأخرى لمقالات في مجلات وصحف وجرائد سيّارة، وفي اختيار هذه المنابر المتنوعة، تتجسّد نظرة الأمين لأحد جوانب كيفية القيام بالبحث العلمي وإخراج نتائجه للناس، وفي مثل هذا السّياق لا تُكتب الكتب ولا حتى تؤلّف، وعلى هذا استخدمتُ تعبير 'وَضْعَ الكتاب' الأقرب إلى معنى الولادة.

والأمين في وضعه كتابه مرَّ من محطات ما قبل المَخَاض. ففي سنة 2006، نشر مقال "البحث العلمي في الإنسانيات. "النضال البحثي"... "والمناضلون البحثيون" (النهار (لبنانية)، 17-05-2006). كما ألقى محاضرة في بيروت عنوانها 'سُوسيولوجيا البحث التّربوي في البلدان العربية' (2013). ثُمَّ ألقى أخرى في بيروت وَسَمَهَا 'وَسَاوِسُ البحث التربوي في الجامعات العربية (2015)، ثم نشر بحث "الخِداع البحثيّ في العلوم الاجتماعيّة" افْتَتَاحية للعدديْن 33-34 ( 2016)، من مجلة إضافات. وفي هذه المحطّات ظهرت نُطَفُ الأفكار التي صارت أجنّة التجريدات المفهومية والمناويل التحليلية والمقولات التفسيرية التي بَنَتْ العَمُودَ الفِقَرِي لكتاب إنتاج الفراغ. ومن مداخل التمهّل والمثابرة والتّركيم، أمكن للأمين أن يقدّم لنا في كتابه مادّة معرفيّة عَرَّتْ المعايب الثلاث الكبرى التي رآها في التقاليد البحثية العربية: تيه الباحث واغتراب البحث وفراغ النّواتج.

ثالثا: تِيهُ البَاحِثِ

في قسمه الأول، بفصليه، يحدّد الكتاب وجهته على مفترق طرق الباحثين السوسيولوجيين، بين أن يعوّلوا في تفسير أحوال بحوث العلوم الاجتماعية على التركيز على العلاقة بين البحث والمجتمع (الفصل الأول)، وبين أن يركزوا على التقاليد البحثية (الفصل الثاني).

باقي الكتاب هو بطريقة ما تنفيذ للوجهة التي اختارها كاتبه. ففي القسم الثاني الذي اهتم بشروط إنتاج المعرفة وتداولها  تمحيصٌ في كيفية اشتغال الجامعات ومراكز الأبحاث (الفصل الثالث)، وفي الفصل الرابع اعتناء بالجماعة العلمية أي بالباحثين وذلك باعتماد العينات العشوائية. وللقارئ أن يلمس كيف تتجسّد الإمبيريقية الفارغة (الفصل الخامس، القسم الثالث) والمعيارية الاجتماعية (الفصل السادس، من نفس القسم) بوصفها أنماطا بحثية شائعة في الدراسات التربوية، مثالا على البحوث الاجتماعية. وفي القسم الرابع بفصوله الأربعة تركيز على نماذج محدّدة من هذه البحوث بحيث ينتهي الكتاب إلى قسمه الخامس والأخير  وهو المخصّص للبنان، مع بعض المقارنات العربية.

 في نظر واضع الكتاب، مؤسسات البحث التربوي ومنابر نشر نواتجه في لبنان، كما في الكثير من البلدان العربية، هي على هيئة بيت واحد بمنازل كثيرة، كِنَايَة عن التعدّد غير المُفْضِي بالضّرورة إلى النّقاش والتفاعل. هذه حال شاملة لأغلبية غالبة من الباحثين العرب، وعلى ذلك قلتُ إنَّهُم في التّيه. وفي تفسير هذا التّيه، ينقل الأمين "المشكلة إلى داخل الأبحاث" (ص. 15)، بعد أن يكون قد استبعد التفسير بالعودة إلى المجتمع، بما هو تفسير يعوّل على 'المعوّقات الخارجية' (نفسها).

فَفِيمَ يَتيه الباحثُون إذًا؟

هُمْ أوّلا، يتيهون "في الانخراط الاجتماعي، يتخذ الباحثون موقع الانتماء إلى السلطة أو الحزب الحاكم... لكن هذا النموذج أصبح أقل شيوعا... وما يشيع أكثر منه هو تبني إيديولوجيا إسلامية أكانت في المعارضة أو في السّلطة. كما نجد ما يشبهه في إيديولوجيات الجماعات (طائفية، إثنية) أو المجموعات النّقابيّة و السّياسية وغيرها" (ص. 46).

ويتيه الباحثون ثانيا في التجنّب، ومنه تجنّب التحليل النوعي والابتعاد عن الأبحاث غير الإمبيريقية، وتجنب البحث في قضايا المجتمع المحلية (ص. 49-50). ويعني هذا أن "الباحث يراهن على إنجاز مُنتجٍ معرفي من أجل أغراض أخرى على حساب الغَرَض المعرفي (ص. 49) .

ولأن الباحثين يجمعون، تلفيقًا، بين التجنّب والانخراط فإنّهم يستعيضون عن الخيال العلمي (توماس كوهن، ص51) وعن الخيال السوسيولوجي (تشارلز رايت ميلز، ص. 51) الضرورييْن، ببديل يُوهِمُ فيه صاحبُه نفسَه بأنّه "مؤهّل لأن يمارس دورا اجتماعيا أو سياسيا نظرا لصفات يظنها في نفسه" (ص .51). وهُم ببديلهم الوَاهِمِ والمَوْهُومِ هذا ينخرطون في الوَسْوَاس (ص. 51).

ومع ذلك، في فيافي تيه الباحثين طُقوس وشارات وألقاب ورتبٌ واحتفالات وصور تذكارية بل ونزاعات مصالح ونفوذ، وهي كلّها علامات على مدى رسوخ التقاليد البحثية في تُرْبَة التّقاليد الاجتماعية.

وفي هذه التربة الاجتماعية بالذّات تَسْتَحْكِمُ مَفَاعِيلُ اغتراب البحث.  

رابعا: اغتراب البحث

ما يميز جامعات العلوم الإنسانية والاجتماعية ومخابرها، حسب الأمين، هو خضوعها لحكامة سياسية تعتمد تعيين مسؤوليها (باستثناء تونس) ولا تعترف كثيرا بالحريات الأكاديمية (ص. 62) وفيها يستشري الخوف من الدولة ومن السّلطات الدّينية في نموذج سياسي قريب من التفرّد على مستوى العالم (ص. 63).  ثاني مميزات هذه المؤسسات يأتي من أنه" يُرسل الطلاب إلى كليات العلوم الاجتماعية... بأعداد غفيرة بغض النظر عن الطاقة الاستيعابية... ومع... قلّة الموارد تنخفض نوعية الخدمات وصيانة القاعات والتجهيزات وتتحول الدّروسُ إلى محاضراتٍ ومختصراتٍ والامتحاناتُ إلى أسئلة استظهار" (ص. 65). وهذه سمات تدلّ على تهميش العلوم الاجتماعية. وخريجو العلوم الاجتماعية، الخاضعون إلى التقاليد البحثية السابق عرضها، الهائمون في وجهات التيه الثلاث، هم من يتولّون إعادة ترسيخ هذه التقاليد، فنجد في مؤسسات التعليم الجامعي تلقينا للمعرفة اليقينية (ص. 66) وانغلاقا معرفيا (ص. 69)، وهامشية الحضور والفعالية لدى مراكز البحث في العلوم الاجتماعية في البلدان العربية" (ص. 72).

فالبحث يغتربُ لأنّه يكرّس أنماطا بحثية تتجسّد في الإمبيريقيّة الفارغة  وقواعدها الخاصّة (ص .115) " حيث يغيب السؤال المبني على فكرة أو قضية معرفية ممّا يتبلور في مراجعة الأدبيات..."، فيرى الباحثُ "نتيجة بحثه أمرًا لا يمكن أن تدوّنه في أيّ تاريخ أو تقدُّمٍ للمعرفة مهما كان صغيرا" (ص. 127).

خامسا: فراغ النواتج

يلاحظ  الأمين "أن النوعة الغالبة في الدراسات الاجتماعية ... هي الإمبيريقية الفارغة والمعيارية الاجتماعية (الخبير والمقيّم والشيخ والسياسي) أو التلفيق بينهما بسبب الوسواس " (ص. 158). وهذه سمة تدلّ على أن التقاليد المعرفية التي تحدّد نوعية النواتج يغلب عليها الاجتماعي في معناه المصنوع من تيه الباحثين ومن اغتراب البحث، وأنها من صنع الباحثين أنفسهم ضدًّا عن التقاليد المعرفية التي يفترض أن تعتدّ بها الجماعة العلمية، وبذلك" التّقاليد البحثية السائدة بالبلدان العربية لا تُفضي إلى إنتاج مضمونٍ معرفي بقدر ما تُفضي إلى إنتاج فراغ معرفي و(هي) تقاليد تجمع بين الباحثين والناشرين والمحكمين " (ص. 104).

 هاهنا تكتمل الدائرة. ولكن التركيز الأكبر كان على نُقطة تزاوج-تفاعل-تبادل التأثير والتأثر بين المستويات الثلاثة وهي موضع تَوليد تقاليد تستند إلى المعيارية الاجتماعية المُفسِدة للمعيارية المعرفية. وضمن كل هذا البناء يظل الباحث النمطي هو محلّ التّركيز الأوّل لأنه هو الذي ينتج هذا الفراغ بكمّه الهائل.

خاتمةُ قراءةٍ لكتابٍ من دون خاتمة

ظلَّ الكتابُ من دون خاتمة، وقد لا يكون ضلّ عنها، إذ هو نمذجةٌ تلخيصية لاهتمام كاتبه بما تناوله من قضايا، اهتمامًا امتد على أكثر من خمسة عشر عاما. فلماذا ترك الأمين كتابه من دون خاتمة؟

محاولتي اجتراح إجابة عن السّؤال تعود إلى تفاصيل اللوحة السوسيولوجية التي رسمها لأحوال البحث العلمي. ثلاثة أبعاد حوتها اللوحة وأقترح أن تكون أعمق تناولا: ميراث الماضي، والتّحديد  الفائقٌ، وعُسر المداولة.

أفليس من الضروري التركيز على أنّ هذا الماضي المتوارث يعود إلى ما قبل تركيز المؤسسات التعليمية والبحثية المختصة في العلوم الاجتماعية في البلاد العربية، في معنى أن ميراث هذه المؤسّسات العربيّة ما بعد الاستعمارية هو ذاته ناتجة من نواتج ميراث أقدم يعود إلى الهندسة الاستعمارية للعلم الاجتماعي الكولونيالي؟ أليس ثمة تعالق نظري ومفهومي ومنهجي بين مظاهر التجنب والمعيارية والانخراط الحالية وماكانت عليه إبان بناء العلوم الاجتماعية الكولونيالية أولا ثم إبّان صيغتها مابعد الكولونيالية دون أن تكون ديكولونيالية بالضرورة.

ثاني الأبعاد هو ما وضعه الأمين تحت تسمية الحكامة السياسية.  أقترح أن نتجاوز مجرد القول بتسبّب الحكامة السياسية (ص. 62) في نشأة نموذج جامعي عربيّ مستحدث، نحو مَحْصِ الفرضيّة القائلة بأنّ ثمّة تسييسا استراتيجيّا لايكتفي بتهميش العلم الاجتماعي بل يضيف إليه تشغيل خطاب بديل عنه، زائف، وهذا تسييس استراتيجي للخطاب الاجتماعي غير العلمي غايته الأساس كبح التغيّر الاجتماعي.

آخر الأبعاد هو المداولة، من أوائل جمل الكتاب "... إنّه إعادة الكتابة في الموضوع من زاوية أعمّ، تجمع الأفكار السابقة وتتجاوزها وتضعها في إطار سوسيولوجي للمعرفة" (ص. 14)، وآخر جُملة تقول: "هكذا أكون قد اعترفتُ بحدود هذا الكتاب، وبأن هناك آفاقا لتوسعته والإضافة إليه ونقضه (ص. 309).

أنا فهمتُ، وأعتقد أن قراء الكتاب يتفقون معي، أن هذه دعوة للمزيد من المداولة، وأحسب هذا العرض نوعًا من الاستجابة لها.

منير سعيداني

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran
+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11
+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Recherche