تقديم


إنسانيات عدد 92، أفريل – جوان 2120، ص. 09-14



يناقش هذا العدد الموضوعاتي المزدوج من مجلة إنسانيات مضامين بعض الدراسات المنجزة حول المدينة الجزائرية، كما يظهر في الوقت نفسه أنّ الفعل الحضري(le fait urbain)  يعرف تحوّلات متسارعة تثبتها جلّ الدراسات الحضرية الحديثة التي تستند إلى مقاربات مبتكرة توجّه التحليل نحو مواضيع وظواهر لم تنل كفايتها من البحث والدراية. وإذا كان موضوع بناء المدينة ومسارات تشكّلها مركزيا وحاضرا بشكل دائم في الدراسات الحضرية، فإنّ تحليل الممارسات الحضرية ودينامياتها من الأسفل (التحت) قد عرف تجديدا في التناول العلمي.

شهدت الجزائر- هذا البلد الريفي نهاية الفترة الاستعمارية وغداة الاستقلال (1962)- سيرورة غير مكتملة للتمدّن أثرت على النمط المعيشي لساكنة مدنها، إذ ارتفع تعدادهم في الحواضر من 30٪ إلى أكثر من 70٪ خلال الفترة الممتدة ما بين 1966 و2020، في وقت الذي تضاعف فيه عدد السكان الاجمالي خلال الفترة ذاتها أربع مرات ليصل اليوم إلى 43 مليون نسمة، توسّع الجانب الحضري بمقدار عشر مرات ليرتفع عدد ساكنة الحواضر من 3 ملايين إلى 30 مليون نسمة.

لقد عرفت الجزائر، مع بداية سنوات الألفين، مرحلة جديدة في تحوّلها الحضري، إذ تُعدّ مدنها اليوم مزيجا بين منتوج السياسات العموميّة وبين التحضّر أو التمدين  العشوائي، وهو ما يجعلها تبدو وكأنّها مجموعات تضمّ أنسجة متعدّدة تشكّل كلاً مجزأً وغير منظّم. يمكن القول أنّ المدن الجزائرية، ومن وجهة نظر إمبيريقية، تشكّل في تفرّدها وعمقها التاريخيين، نسيجا متراكبا مشكّلا من المدينة "ما قبل الكولونيالية" (القصبة، المدينة القديمة أو القصر)، و"المدينة الكولونيالية" ومخطّطها الثماني و/أو تجزئتها الصغيرة والمركّزة، و"مدينة البناء الذاتي" أو "التمدّين الشعبي" و"المدينة المخطّط لها" والتي تعدّ منتوجا لبرامج التهيئة الحضرية، والمناطق الجديدة للإسكان الحضري والمجمعّات السكنية الجماعية الكبرى والتجزئات السكنية الفردية، يضاف إلى كلّ ذلك ما شهدته السنوات الأخيرة من أشكال جديدة للتجمّعات السكنيّة الترقوية الخاصة، والتي تمّ إنشاؤها غالبا ما بين فجوات أنسجة عمرانية موجودة/ أو في الضواحي الجديدة، وهنا تعيد المدن تشكيل ذاتها من خلال الاستمرارية في التطوّر.

تعمل الديناميات الحضرية -المعبّرة عن مجتمع حضري في طور التكوين- على مستوى النظام المكاني والتنظيم الاجتماعي وأنماط الحياة، إذ تنشأ المجموعات الاجتماعية مختلفة التي تشكّل المدينة وتُحييها سلوكات وممارسات يومية جديدة، كما تبني مفهوما جديدا للرابط الاجتماعي تتمظهر من خلاله مختلف أشكال السكن والممارسات الخاصة بالاستهلاك والشغل والترفيه وأنماط تمّلك الفضاء العام، لذا يمكن القول أنّ المدن الجزائرية، وبعد مرورها بالعديد من التناقضات والضغوطات، تعيش انتقالا يمكن تتبع ملامحه في الأنماط الجديدة من العمل المشترك و/أو المتضارب مع السياسات العمومية ومختلف الفاعلين الاجتماعيين. (Belguidoum 2018 ; Semmoud, 2007, 2015 ; Lakjaa, 1998, 2009 ; Bendjelid, 1997, 2010)

تثري مقالات هذا العدد تخصّصات معرفية متعدّدة (علم الاجتماع، علم الاجتماع اللساني، التخطيط الحضري، الهندسة المعمارية، الجغرافيا) جوانبا ذات صلة بالفعل الحضري، تمّ طرحها وفق مقاربات تتناول بالتحليل ثلاثة محاور كبرى هي: حدود التخطيط الحضري المؤسساتي (أوّلا)؛ المدينة وأغوارها (ثانيا)؛ والاحتجاج والحركات الجماعيّة و"مدينة الأسفل" و"المدينة من  الأسفل"(ثالثا).

يتناول الجزء الثاني من هذا العدد الموضوعاتي المزدوج "مدينة الأسفل" و"المدينة من الأسفل"، بحيث تشير التسمية الأولى إلى فاعلي الحياة اليومية والسكان، بينما تشير التسمية الثانية إلى المكان التي تولد فيه الديناميات الاجتماعية وتتطوّر في النسيج العمراني والفضاءات العامة والأنماط السكنية.

تمثّل مقاربة "المدينة من الأسفل" أو من التحت رؤية جديدة في الدراسات الحضرية وجانبا أساسيا فيها، فهذه المقاربة تولي أفضلية التحليل للفاعلين العاديين في المدينة، والذين لا تمنحهم الدراسات الحضرية اهتماما بالغا رغم أنّ لهم كل المكانة التي تسمح لنا بفهم المدينة الحقيقية والمدينة في حركيّتها. لقد ظلت الأبحاث الحضرية، ولفترة طويلة، حبيسة تركيزها على السياسات العمومية وأشكال تلقي السكان لها، وذهبت إلى حدّ انتقاد السكّان الجدد في المدن بسبب افتقارهم لآداب التحضّر وسلوكه. تركّز الدّراسات الحضرية منذ سنوات عديدة على "المدينة الأسفل" وفئاتها الشعبيّة، كما تقارب المدن التي تنشأ من الأسفل على مشارف المدينة المخطّط لها وفي ضواحيها. تشير هذه مقاربة للفعل الحضري إلى أبعاد متعدّدة يمكن لمفهوم المناطق الحضرية غير الرسمية أن يستوعب معانيها.

 يعتنى الجزء الثاني من هــذا العدد الموضوعاتي بمقاربة ثلاثة أبعاد مرتبطة "بمدينة الأسفل" و"المدينة من الأسفل"، وهو ما قد يفتح آفاق بحثية جديدة خصوصا عندما يتناول مواضيع إدارة النفايات، وإعادة التأهيل الذاتي والشعبي للسكنات، وتعلّق سكان ميزاب بتراثهم الحي.

تُوضح بينيدكت فلورين في مقالها المقترح في هذا العدد الرهان الاجتماعي والبيئي والاقتصادي المرتبط بالحوكمة الحضرية لقطاع إدارة النفايات في مدن جنوب البحر الأبيض المتوسط، وتقدّم من خلال ذلك صورة معبّرة للمواجهة الموجودة بين ديناميات "مدينة الأسفل" والسياسات العمومية، خصوصا وأنّ هذا القطاع يعرف "منذ العقود الثلاثة الأخيرة تحوّلات سياسية وتقنية وتشريعية تتجاهل، و/أو تقلق وتقوّض ممارسات جمع النفايات ورسكلتها وإعادة بيعها من قبل فاعلي القطاع غير رسمي"، كما توضّح الباحثة في سياق نقدها للخلط الذي يحدث غالبا بين "إدارة النفايات" و"إدارة الفقر"، بأن مشكلة تدبير النفايات تعود إلى إشكالات مرتبطة بـــ"البحث الحضري"، ومثل هذه المواضيع التي لم تنل حظها من الدراسة الجيدة يمكنها أن تفتح آفاقًا علمية واعدة.

تعتبر ممارسات إعادة التأهيل الذاتي للسكن والمرتبطة برهانات صيانة التراث العمراني وتطويره والحفاظ عليه ضمن النسيج العمراني القديم بعدًا آخر للمدينة يتم إنشائها انطلاقا من الأسفل. يهتم إقبال بن نجمة بالمدينة القديمة في قسنطينة، ويسلّط الضوء على كيفية التي "تقارب بها المبادرة العمومية مسألة إعادة تأهيل مساكن المدينة القديمة من خلال الطابع المؤسساتي للمبادرة والخبرة المهنية في الوقت الذي يقوم السكّان من جانبهم بإعادة التأهيل في مساكنهم المأهولة والمحمية بطرق مختلفة". تدعو هذه الدراسة إلى تثمين هذه الممارسات والاستفادة منها في حماية المجالات العمرانية التراثة المأهولة لكونها تمثّل إجراءات اجتماعية معبّرة عن مفهوم آخر للتراث يختلف عما هو متداول في المؤسسات المكلّفة بذلك، كما يوضح الباحث أنّ "السكن في المسكن التراثي هو بمثابة السكن في الزمن" لأنّه يحمل في ثناياه تفاوضًا مفاهيميا بين التراث والذاكرة ومعانيهما من جهة، وتجارب العيش اليومي فيه من جهة أخرى.

وفي السياق نفسه، يقدّم عبد العزيز خواجة ونعيمة رضائي قراءة في أسباب ديمومة السكن في القرى الميزابية والمعيش بها واستمراريتها التاريخية الملفتة للنظر منذ أكثر من عشرة قرون، ويستعرض الباحثان التعديلات التي قام بها سكان هذه القرى من أجل تحسين ظروفهم المعيشية وجعلها تراثًا حيًا، كما يهتمّ المقال بالبحث في تمثّلات الفاعلين لبيئتهم المعيشية واستمرارية المعيش بها إستنادًا على رابط رمزي وثقافي قوي، وعلى مدى تكيّف هذا النمط السكني مع البيئة الجغرافية والمناخية للمنطقة.

يمكن لدراسة "المدينة من الأسفل" أن تستخدم أيضًا المنهج الحسي (Martouzet, 2013) من أجل فهم الأجواء الحضريّة بناء على تحليل التطلّعات الاجتماعية والتمثلات التي ينتجها سكان المجال الحضري أثناء ممارساتهم اليومية، وفي هذا السياق تعتبر المعالم الأنوماستيكية (علم أسماء الأماكن) مؤشرا بالغ الأهمية لمقاربة هذه الأجواء الحضرية. تقترح هاجر مربوح مقاربة سوسيولسانية للممارسات الحضرية المرتبطة بالتسميات الخاصة بأقاليم مدينة سيدي بلعباس ومناطقها الحضرية وطرق تمثّلها في الخطابات المتداولة بين ساكنة المدينة، وتركّز في تحليلها على مقاربة خطابية للمدينة تثري المعارف حول سيرورات صناعة آداب التحضّر وممارساته ودوره في بناء الهويّات المحلية.

تسهم هذه المقاربات الجديدة والأصيلة المقترحة في هذا العدد الموضوعاتي المزدوج في إثراء المعرفة حول موضوع الديناميات الحضرية، كما تفتح آفاقًا أمام إشكاليات جديدة، ولكن بالمقابل أيضًا، تعكس العديد من الجوانب البحثية التي لا تزال مغيّبة وغير مكتشفة تماما مثل البحث في عمليات إعادة التشكيل الحضري، وتحديث وجه وسط المدن والأحياء الشبه مركزية، والحوكمة الحضرية والتّسيير الحضري، والتنمية المستدامة والتحوّل البيئي، والعديد من المواضيع التي لا تزال خصبة تستدعي ورشات عمل مستعجلة.

نأمل أن يسهم هذا الملف في إثراء هذا المجال من الدراسات الحضرية في الجزائر والبلدان المغاربية.

سعيد بلقيدوم

ترجمة سارة بن عبدالقادر

بيبليوغرافيا

Belguidoum, S. (2008). La ville en question - analyse des dynamiques urbaines en Algérie. Penser la ville - approches comparatives, Khenchela. Bendjelid, A. (Dir.), (2010)Villes d’Algérie : formation, vie urbaine et aménagement. Oran : Editions CRASC.

Belguidoum, S. (2018). la ville algérienne dans tous ses états : transition urbaine et nouvelles urbanités. Revue Moyen-Orient, 40, p. 62-68

Belguidoum, S., Boudinar, A. (2015). Dynamique marchande et renouveau urbain à Oran. Médina J’dida et Choupot deux quartiers du commerce transnational. Les Cahiers d’Emam, Etudes sur le monde arabe et la Méditerranée, 26, p.43-59.

Belguidoum, S., Mouaziz, N. (2010). L’urbain informel et les paradoxes de la ville algérienne : politiques urbaines et légitimité sociale, les territoires de l’informel. Dans Espace et société, 143, p. 101-116.

Bendjelid, A. (1997). Anthropologie d’un nouvel espace habité : enjeux fonciers et spatialités des classes moyennes à Oran et sa banlieue (Algérie).  Insaniyat, 2.

Bendjelid, A. (dir.),(2010). Villes d’Algérie. Formation, vie urbaine et aménagement. CRASC.

Berry Chikaoui, I., Deboulet, A. (dir,). (2000). Les compétences des citadins dans le monde arabe. Penser, faire et transformer la ville. IRMC : Karthala, URBAMA.

Lakehal, A. (2015). Rôle des habitants dans l’invention de nouvelles formes d’urbanité dans la périphérie de Constantine (Algérie). Le cas de la ville nouvelle Ali Mendjeli. Dans L’Année du Maghreb, 12, p .35-53.

Lakjaa, A. (1998). La ville : creuset d’une culture nouvelle. (Villes, cultures et société en Algérie). Insaniyat,5. Crasc. 

Lakjaa, A. (2009). « Les périphéries oranaises : urbanité en émergence et refondation du lien social ». Dans Les Cahiers d’EMAM, 18, p .29-43.

Navez-Bouchanine, F. (2003). La fragmentation en question : des villes entre fragmentation spatiale et fragmentation sociale ? .Paris : L’Harmattan.

ONS, (2011). L’armature urbaine. Collections Statistiques, 163.Série S : Statistiques Sociales, Alger.

Safar Zitoun, M. (2009). Alger d’aujourd’hui : une ville à la recherche de ses marques sociales. Insaniyat, 44-45, p. 33-59.

Safar Zitoun, M. (2012), Violence et rente urbaines : quelques réflexions critiques sur la ville algérienne d’aujourd’hui. Dans Insaniyat, 57-58, p. 57-72.

Semmoud, N. (2007). Habiter et types d'habitat à Alger. Autrepart - revue de sciences sociales au Sud. Presses de Sciences Po.

Semmoud, N. (2010). Mobilités résidentielles, pratiques de mobilités et constructions territoriales en périphérie(s) des grandes villes. Dans Les Cahiers d’EMAM, 19, p. 15-31.

Semmoud, N.(2015). Les marges urbaines : un analyseur privilégié de l'urbanisme d'Alger ?. Les Cahiers d'EMAM. Tours: Équipe Monde arabe Méditerranée.

Semmoud, N., Florin, B. (2014), Marges urbaines en question. Dans N. Semmoud., B. Florin., O. Legros., F. Troin. Marges urbaines et Néolibéralisme en Méditerranée. coll. Perspectives villes et territoire : PUFR, , p. 15-41.

Sidi Boumedine, R. (2002). Désordres ou “des ordres” urbains. Naqd, 16, p. 27-44.

Sidi Boumedine, R. (2016). Bétonvilles contre bidonvilles. Cent ans de bidonvilles à Alger. Préface de Jim House. Alger : APIC Editions, p. 314.

Sidi Boumedine, R., Signoles, P. (2017), Les villes nouvelles en Algérie : une question apparemment réglée, mais une réalité complexe. Les Cahiers d’EMAM, 29.

Signoles, P. (dir,). (2010). Faire la ville en périphérie(s)? Territoires et territorialités dans les grandes villes du Maghreb. Cahiers d’Emam, 19.

Souiah, S-.A. (2002). Mobilité résidentielle et recomposition socio-spatiale : le cas d’Alger. Dans Alger, lumières sur la ville, Alger. Algérie : Dalimen, p. 236-247.

Souiah, S-A. (2005). Les marginalités socio-spatiales dans les villes algériennes. Cahiers du GREMAMO, 8. L’Harmattan, p. 47 - 69.

Trache, S-M. (2010). Mobilités résidentielles et périurbanisation dans l’agglomération oranaise. [Thèse de doctorat d’État en géographie, Université d’Oran Es-Sénia]

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran
+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11
+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Recherche