تقديم


إنسانيات عدد 94، أكتوبر – ديسمبر 2021، ص. 13-16


 

ما هو العادي وغير العادي في حياتنا؟ ربما يكون من الأسهل تحديد اليومي من خلال كشف ما هو ليس كذلك. في الواقع، الحياة اليومية خالية من الفرادة، بدون جودة، بلا مفاجأة، كما يلاحظ مارتن هايدجر في كتابه "الوجود والزمن" سنة 1927. وعليه، يوجد اليومي في مقابلة المؤسساتي ورهانات الجمهور ومشاكل الوقت الراهن، إذ أنه مرادف للفكر المتداول والمعرفة العادية. وبالرغم من ذلك، فقد فتحت أبحاث ألفريد شولتز Alfred Schultz حول مفهوم الحياة اليومية الطريق أمام سلسلة كاملة من التحليلات الاجتماعية من نوع شامل عند كل من ميشيل دي سيرتو، ميشيل مافيسولي، إدغار موران، إيرفينغ جوفمان... إلخ، والتي ستجدد التصور تدريجيًا عن الحياة اليومية.

ومن هذا المنطلق، نسائل في هذا العدد من مجلة إنسانيات اليومي وتجارب الناس العاديين بالنظر إلى الأدبيات التي أسست للمفهوم في حقول العلوم الإنسانية والاجتماعية، ثم نبيّن كيف يمكن أن تكون بعض الظواهر اللسانية والاجتماعية مدخلا يسمح بتسليط الضوء على مفهوم اليومي من قبيل علاقة الإنسان بالفضاء السكني، الممارسات اللساني  في الأسرة والمدرسة. وأخيرا بحث الشباب عن عمل وذلك بغية رصد كيف تتحول الحياة اليومية إلى مدخل لفهم العالم.

يرى بيار بورديو أن الحاضر هو الذي ينتج الماضي، إلى الدرجة التي يصبح فيها الحاضر ماضيا معاشا في ظل اليومي. من هذه الزاوية، يعمق عبد الرحيم العطري فهمنا لهذه المسألة، فهو يعتبر أن سوسيولوجيا اليومي تقوم على فهم وتأويل الرمزيات والمعاني المتضمنة في الممارسات. ويرى كذلك أن موضوع البحث يندرج ضمن حقل "التناصات المجتمعية" والذي هو أبعد ما يكون من ممارسة اعتيادية اعتباطية، بل إنه نتاج تمثلات وترجمة واقعية للانتماء. يرتبط اليومي -بما هو أسلوب حياة ونمط استهلاك وتدبير- إلى حد كبير بالموقع الاجتماعي داخل النسق الذي يجري فيه تدبير المعيش العادي، الشيء الذي يجعل منه هوية تعكس الوضع الاجتماعي والأصول الثقافية للأفراد. إن مثل هذه الدراسة لا تحتمل في نظر صاحب المقال قراءة سكونية، وإنما تتطلب الانطلاق من هذه الحالات الجزئية نحو البنيات الاجتماعية والتاريخية التي أسهمت في إنتاجها. وتتكرس سلطة الرمز عن طريق الاستعمال الدائم، لأن التحية واللباس وطريقة المشي وباقي السلوكات الأخرى، إنما هي لأجل البناء والتحصين، لذلك يدعو جورج بالاندييه الباحثين إلى الاهتمام بالتفاصيل والجزئيات من غير أن تغيب عن أذهانهم التمثلات والأنساق والبنيات.

ضمن اليومي، تكون اللّغة المُتكلَّم بها أساس التفاعلات الاجتماعية لأنها تسهل التواصل المستمر مع الآخرين، فما هي اللغة التي يستعملها الجزائريون في تعاملاتهم اليومية؟ بالنسبة للمؤسسات التعليمية مثلا، يتم تعلم لغات كثيرة مثل اللغة العربية، الإنجليزية، الفرنسية، الألمانية، الإسبانية، الأمازيغية...إلخ من خلال نشاطات القراءة والكتابة والتحاور. وتتدخل الأسرة باعتبارها وسطا سوسيو-ثقافيا من أجل تعزيز المهارات اللغوية. ونجد أنه بالنسبة للغة الفرنسية عند تلاميذ طور المرحلة الثانوية، يكون دعم الأسرة لها على مستوى الحوار أو التحفيز على القراءة مرهونا بالوضعية السوسيو-مهنية لتلك الأسرة والتي أشار صاحبا المقال نسيمة بدوبية وحبيب المستاري إلى أنه بالنسبة للعينة المدروسة، فإنها لا تتمكن من تلك اللغة، إضافة إلى تمثلاتها حولها. وعليه، فإن اليومي الأسري المرتبط بالاستعمالات اللغوية يميل أكثر إلى استعمال لغات محلية بدل اللغات التي تُعلم في المدارس. وتفسير ذلك مرتبط ببناء الأسرة من الناحية المهنية والثقافية، وكذا بسيرورة تاريخية تصل الماضي بالحاضر ولكنها مرهونة في الغالب بتمثلات خارجة عن اللغة.

في النص الذي ترجمه إلى العربية مصطفى علي بن شريف ، يواصل فيليب بلانشي تعميق البحث حول تمثلات الفاعلين للغة من خلال دراسة بعض السياسات اللغوية في علاقتها بموضوع التعدد. يشهد الواقع أنّ هناك تنوع لغوي يضعنا أمام اللغة الشعبية ولغات الريف ولغات الشباب...إلخ ولكن هناك من يضع تراتبية بين هذه اللغات واللغة المكتوبة. وهذا يعكس بالخصوص هيمنة المدينة على الريف وهيمنة اللغات الكلاسيكية على لغات الشباب المبدعة وهيمنة اللغة المكتوبة على اللغة الشفهية، ما يجعل تناقل وتداول تلك اللغات المهمشة داخل الوسط العائلي صعبا، لأنها ليست مثمنة اجتماعيا. إن استعمال اللغة مرهون بالتمثلات المشكّلة حولها، باعتبارها معرفة تلقائية مُضمِنة لمعتقدات حول اللغات ومصادرها اللسانية. ويلاحظ اليوم لدى الشباب قدرة على صناعة لغة "البريكولاج"، أي لغة تستخدم لغات كثيرة (code-mixing) كما هو حال المغتربين المغاربيين في فرنسا والذين يمزجون بين العربية الدارجة والفرنسية. ولكن سواء في الجزائر أو في فرنسا، فإن هناك هيمنة لنموذج لغوي أحادي معياري، يقترح مجتمعا مثاليا له لغة واحدة وهذا مؤشر على "الغلوتوفوبيا"Glottophobie  أي الخوف أو الرهاب من اللغات الأخرى.

وفي سياق مغاير، يتجه طارق سعود في مقاله لدراسة ممارسة اجتماعية متعلقة بالمعاني التي يأخذها اليوم البحث عن عمل بالنسبة للشباب الحاملين لشهادات جامعية في بجاية، ويكشف أن الجامعيين يعتقدون أن الشهادات العليا هي مصدر الوظائف المرموقة التي تحقق لهم وجودهم. ولكن الواقع محفوف بالبحث الشاق عن تلك الوظائف في القطاع العمومي والذي لا يقدم ما يكفي منها أما في القطاع الخاص، فالوظائف لا توفر للجامعيين المتخرجين دخلا مستقرا ومقبولا، كما لا تسمح لهم بتحقيق ذواتهم ولا بالحصول على الاعتراف الاجتماعي. شكّل هذا الوضع لدى هذه الفئة، على غرار عامّة الشّباب عدم ارتياح، نظرا لأنهم لم يحققوا "طقوس العبور" من وضعية إلى أخرى تتويجا لمرحلة حياة البالغين من خلال الاستقلالية المالية، الزواج، الانفصال والاستقلال عن العائلة، ما يعكس المفارقة التي يصطدم بها حاملو الشهادات الجامعية بين اعتقاداتهم حول قيمة الشهادة في سوق الشغل وواقع الإدماج المهني.

يتابع علي طيب براهيم تحليل اليومي من خلال العودة إلى تجربة إنشاء القرى الاشتراكية الزراعية في سبعينات القرن الماضي ضمن مخططات الدولة الجزائرية للإجابة على مسألة التنمية. يركّز المؤلف على استعمالات الفضاء من طرف ساكنيه والتعديلات التدريجية التي أدخلت على تلك المساكن والقرى خلال الأربعين سنة الماضية، بما يتناسب مع حاجاتهم ومتطلباتهم. كلما تخلّت الدولة عن مخططاتها التنموية في مجال الزراعة، أمكن للفاعلين إلحاق مزيد من التعديلات على مساكنهم. وقد شكّلت هذه الممارسات اليوم وضعا هجينا داخل تلك القرى، حيث يتداخل الماضي مع الحاضر. يلجأ الناس العاديون إلى تكتيكات تحدث تغييرات جزئية تؤدي تدريجيا إلى تغيير المخطط العام، فاليومي المتعلق بالمعيش داخل المسكن ليس قارا تماما ولا رتيبا، إنه يساير تطلعات الفاعلين الذين يراقبون عن كثب الشأن العمومي وسياساته المختلفة.

تختلف طرائق التحقيقات الميدانية حول اليومي وحياة الناس العاديين، وهو ما اقترحه هذا العدد من خلال بعض المداخل والميادين البحثية، ما مكن من اقتراح مسالك جديدة تسائل ما يظهر أنه بسيط أو عادي، قد يوحي ومنذ الوهلة بعدم الأهمية. ويمكن على غرار المواضيع المطروحة هنا مواصلة النقاش حول سوسيو-أنثروبولوجيا الحياة اليومية بطرق باب مسائل أخرى تخص التفاصيل والجزئيات. ولا شك أن المعرفة التي ستراكم حول هذه المسائل ستكون مفيدة لفهم أهم التطورات الحاصلة في العالم.

محمد حيرش-بغداد

 

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran
+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11
+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Recherche