إنسانيات عدد 96،أفريل–جوان 2022، ص. 15-39
محمد خالد الغزالي Département de l’Université de Padoue. Département de Philosophie, Sociologie, Pédagogie et Psychologie Appliquée, FISPPA. 35 100. Padoue: Italie
أدت تدفقات الهجرة على مدى الثلاثة عقود الماضية إلى تغيير كبير في تكوين ساكنة إيطاليا. والعنصر الواضح في هذه البانوراما الاجتماعية والثقافية الجديدة هو ما يمثّله أولئك الذين قدموا من البلدان التي يسود فيها الدين الإسلامي (Pace, Rhazzali 2018)، ويشكّلون وجودًا متجذرًا إلى حد كبير في البلاد. ويبرز المكوّن المغاربي في فسيفساء متنوعة بشكل خاص من ناحية الأصول والانتماء الإثني والثقافي واللغوي، حيث يتداخل الحضور الآسيوي والأفريقي والأوروبي البلقاني دون إهمال إسهام اعتناق الإيطاليين للإسلام (Allievi, 2017) ليس من الناحية الكمية فقط ولكن من الناحية الاجتماعية والثقافية أيضا. ونتيجة ميكانيزمات اجتماعية سريعة وأحيانا مؤلمة عرفتها البلاد، يكوّن هذا الجزء الجديد من الواقع الإيطالي واقعا اجتماعيا محليا بعد تعاقب ثلاثة أجيال، على الرغم من استمرار اعتباره أجنبيا في المخيال السائد. وبناء على ذلك، تجعلنا الموارد الرمزية التي يتوفّر عليها التقليد الديني مدعوّين لمواجهة خصائص تجربة معيشية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بسياق الهجرة (Idem)، مما يؤدّي إلى سيناريو بحثي متنوّع تختلط فيه التقاليد والممارسات الأصلية مع أشكال جديدة من التواصل وأنماط جديدة للسلطة الدينية يكون اعتماد الاختلاف فيها بين الأجيال المختلفة أكثر أهمية.
وانطلاقا ممّا جاء في أدبيات البحث[1] ونتائج الدراسات الميدانية التي أجريناها[2] طوال العشر سنوات الأخيرة، تتناول هذه الورقة البحثية حالة الواقع الاجتماعي الإسلامي بإيطاليا، حيث أكّدت الأبحاث التي اهتمت بهذا الموضوع على صعيد المجتمعات الأوروبية أنّ "الأئمة" يستمدون أهميتهم وشرعيتهم في تنظيم وتزعّم المجموعات الدينية الإسلامية من خلال سيرورة مركبة لها علاقة بتفاعلاتهم وأدوارهم التقليدية وحتى المخترعة للإجابة على متطلبات جديدة مرتبطة بواقع "إسلام الأقليات" الذي يخضع لعمليات إعادة الصياغة (Reframing, Goffman, 1974) باستمرار بحكم قِصر التاريخ الاجتماعي للمسلمين بإيطاليا وتأخّر السياسات العمومية في توطيد الحقوق الدينية للمسلمين وهشاشة مصادر الثروات الرمزية والمادية.
يحمل هذا التفاعل في طياته سلطة دينية تجد صداها الاجتماعي، خصوصا في مجتمعات تعرف تنوّعا دينيا وخضوعا لعمليات العلمنة (Casanova, 1994)، وبالتالي نوعا من الاستقلالية للمجال الديني عن مجالات مجتمعية أخرى تدخل في نطاق سلط الدولة، وهو ما يجعل تطوّر السلطة الدينية الإسلامية بأوروبا أو ما يمكن تسميته بـ"إعادة اختراع الإمامة"(Rhazzali, 2015) ذا تأثير بالغ على الأشكال التنظيمية للمجموعات الدينية في المجال العام وعلى طرق قيادة الجمعيات الإسلامية والمساجد ودور العبادة.فمنذ بداية استقرار المهاجرين المسلمين بإيطاليا تشكّل فضاء للتنظيم الديني له خصوصيتّه مقارنة بالدول الأوروبية التي عرفت "الهجرة القديمة "،وذلك من خلال مجموعة من التفاعلات نتج عنها ظهور فاعلين دينيين لتلبية الحاجيات الاجتماعية، كتمثيل الأقلّية الدينية الإسلامية وإرشادها، إلى جانب أدوار أخرى يتخلّلها تنافس وصراع على شرعية مصدرها الدولة ومؤسّساتها وسلطة دينية رمزية يُعتبر "الأئمة" أحد أهم أطرافها.
نتناول معنى "الإمام" من الناحية المفهومية والإجرائية في إطار استعمالاته السوسيولوجية في المجال الاجتماعي الإيطالي، والأوروبي بصفة عامة، فإضافة إلى معناه التقليدي، في علاقته مع المسجد كمسيّر للصلاة والتجمّع الديني بالخصوص، نجد معنى آخر يتعلّق بالفعل الديني-الاجتماعي-السياسي في سياق تفاعل المجموعات الدينية مع الوسط السياسي والمؤسساتي في الفضاء العام. يتعلّق الأمر بأفراد يصنّفون أنفسهم ويصنّفهم غيرهم في المجتمع بوصفهم "أئمة"، فهم ليسوا معيّنين من أيّة جهة رسمية أو مؤسّسة دينية أو غير دينية[3]،وفي أغلب الحالات لا يتوفّرون على تخصّص معرفي من الناحية الفقهية، ويؤدّون في الآن نفسه أدوار دينية، مثل الإمامة والخطابة، وأدوار أخرى جديدة كمراقبة المواد الغذائية أو "الغذاء الحلال" (Rhazzali, 2015c)غسل الأموات، وأدوار غير دينية تتعلق بتسيير المجموعة وقيادتها والنطق باسمها في المجال العام، ناهيك عن مهام أخرى جديدة، اجتماعية وسياسية مختلفة، مثل دور الوسيط الثقافي في المدارس والمستشفيات والسجون، ورغم أنّ هذه الأدوار الأخيرة غير دينية ولكن يبقى الفاعل الديني محتفظا بصفة "الإمام". وعليه فإنّنا نستعمل تصنيف الإمام لكن بمفهوم سوسيولوجي أوسع يجاور استخدامنا لمصطلح "الفاعل الديني"، و يضم هذا الأخير إجرائيا فعل الإمام وممارسات أعوانه، ذكورا وإناثا أيضا، ممّن يتقاسم معهم الكثير من المهام والأدوار، آخذ ينفي الاعتبار، تطوّر الرمزية الدينية المتعلقة بهاته الممارسات والسلوكات في سياق مختلف عن السياق الأصلي الذي تشكّل فيه مفهوم الإمام وما ارتبط به من أطر تاريخية وثقافية وتقاليدية وسياسية وجغرافية لها خصوصياتها.
وتقودنا في هاته المساهمة مجموعة من الأسئلة المركزية وهي: ماهي حيثيات تشكّل الحقل الديني في إيطاليا؟ وما دور الهجرة في هذا التشكّل؟ وماهي ملامح الأئمة والفاعلين الدينيين في الحقل الديني الإسلامي بإيطاليا؟ وماهي نتائج وتحديات تفاعلهم فيما بينهم من جهة، وتفاعلهم مع مؤسسات الدولة الإيطالية من جهة أخرى؟
اعتمدنا في الإطار النظري على عدد من المفاهيم التحليلية والإجرائية منها مفهوم الحقل لبيار بورديو (Bourdieu, 1992) باعتباره فضاء شبه مستقلّ ومجالا من مجالات النشاط الاجتماعي، تتخلّله مجموعة من الروابط الاجتماعية إضافة إلى التنافس والصراع على الهيمنة والسلطة بين فاعلين لهم إمكانيات ضرورية أو "رأس مال" مشترك يُمَكِّنهم من النشاط داخل هذا الحقل على نحو متفاوت، وهو ما يمكن توظيفه لفهم الوجود الإسلامي في إيطاليا كحقل ديني بداخله يتصارع فاعلون فيما بينهم على السلطة الرمزية والمادية بوصفهم "الممثّلين" الدينيين للتنظيمات الإسلامية، وهم في غالب الأحيان هم غير متخصّصين في الشؤون الدينية ولكنهم يملؤون الفراغ الناتج عن غياب المتخّصصين في وسط مجتمعي لا يعدّ فيه الإسلام الديانة التاريخية لغالبية المجتمع. كما تشكّل الدولة فيه، رغم التزاماتها بالحياد والعلمانية كمبادئ دستورية، فاعلا محوريا حيث يمثّل واحدا من المصادر الأساسية لشرعية المنظّمات والجمعيات الإسلامية وللفاعلين الدينيين من رؤساء تلك المنظّمات وأئمة ووسطاء ومرشدين دينيين. وتمّت الاستعانة أيضا بمفهوم التعددية الدينية (Religious Pluralization) عند بيتر بيرجر (Berger, 1967) حيث يعتبرها نوعا من إعادة تشكيل الديني في سياق علمنة المجتمعات، والتي يصبح المشهد الديني مع ترسيخها وتطوّرها "سوقًا" للسلع الدينية يتنافس فيه العديد من "رجال الأعمال الدينيين"، لكن في شكل "سوق للمعنى" تضعف فيه قوة الحدود بين الدين والديني وشبه الديني.
- 1. عمليات مأسسة وتنظيم الإسلام في الفضاء العام
من أجل فهم الوضعية التي تشكّل فيها الحقل الإسلامي وتطورت سلطة الإمامة وأدوار ووظائف الفاعلين الدينيين، قد يكون من المناسب تسليط الضوء على العوامل التنظيمية للدين في علاقتها مع مساحات التفاعل التي يخوّلها الإطار القانوني. تعتبر إيطاليا بلدا يعتمد دستوره على مبدأ الحيادية والمساواة اتجاه المتديّنين ومؤسّساتهم وتنظيماتهم، ولكن الإطار القانوني نفسه يميّز بين الكاثوليكية وديانات الأقليات، بموجب أن تاريخ أغلبية السكان كاثوليك، حيث أن إتمام تنزيل مبادئ الحريات الدينية لدستور 1948 لا يتعلّق بالحريات الفردية ولكن بالحريات المجموعاتية. ولقد وضعت الدولة في ممارساتها منذ دستور ما بعد الحرب العالمية الثانية ثلاثة مستويات للاعتراف والتعاقد مع الديانات التي لها وجود في المجتمع الإيطالي:
- "الاتفاق" (Concordato): وهو عقد خاص بين إيطاليا ودولة الفاتيكان يخصّ دور وتنظيم سلوك وتدخّل الكنيسة الكاثوليكية في المجتمع الإيطالي (تعاقد سنة 1984وهو مراجعة فقط لعقد ما قبل الدستور الجمهوري بسنة 1929) وبموجبه تلج موارد مادية خاصة لدولة الفاتيكان باعتبارها المجموعة الدينية الوحيدة التي لها وجود في فضاء مؤسّسات الدولة (المدرسة والمستشفى والسجون)، ويتقاضى فاعلوها أجرة من طرف الدولة.
- "التفاهم" (Intesa): وهو، مبدئيا، عقد بين الدولة الإيطالية وأيّة مجموعة غير كاثوليكية تعتبر نفسها ممثّلة لدين ما وتودّ الحصول على اعتراف رسمي. بدأ هذا المستوى من الاعتراف ابتداء من سنة 1984 فقط. ويتعلق الأمر بمسار جدّ معقّد يتطّلب شروطا دقيقة وموافقة نظام السلطات (الحكومة والبرلمان) ولا يرتبط بفترة زمنية محدّدة. وقبل بداية مسار عقد" التفاهم"، يتوجّب على المجموعة الحصول على اعتراف بها كمؤسسة دينية-أخلاقية. ورغم أنّ هذا التعاقد أقلّ قيمة من الأول إلاّ أنّه يسمح بولوج موارد مادية ورمزية جدّ مهمة، كالمشاركة مع الدولة في قطاعات اجتماعية مقابل دعم مادي مثل التدريس والتدخّل الاجتماعي لمساندة الفئات الهشّة وكذا الاستفادة من اقتطاعات ضرائبية ضرورية للمساهم لصالح المؤسسات الدينية.
- "بدون تفاهم": وهي الحالة التي تتواجد فيها جميع المجموعات الدينية التي لم تحصل على الاعتراف أو لا تريد الحصول عليه. ويمكن للمجموعات الدينية أن تنظم شعائرها قانونيا بفضل مبدأ الحريات الفردية. فالمجموعة، بحكم الدستور، هي أفراد لهم الحرية في التجمّع، إذ يضمن لهم قانون الجمعيات المدنية الحق في تأسيس جمعية لتسيير الأنشطة الدينية.
وإذا كان التنوع والتعقيد هما أهم خصائص الإسلام الذي تطوّر في وسط مجتمع إيطالي تغمره مبادئ الحرية والاستقلالية والعلمانية، فستشكِّل هذه الخصائص إكراهات مختلفة في مسار الاعتراف بالمجموعات الإسلامية. فتعدّد الفاعلين والمنافسة بينهم، تمظهر في شكل صراع شرس، للهيمنة على تمثيلية الإسلام أمام الدولة جعل هاته الأخيرة تتّخذ موقفا يتسم بعدم اليقين وتأجيل مسار الاعتراف إلى تاريخ غير محدّد، وحجّتها في ذلك شرط أحادية التمثيل، في حين أن هذا الشرط غير منصوص عليه دستوريا، والدليل أنّه لا يطلب من الكنائس المسيحية (حاليا 10 هيئات) والمجموعات البوذية (حاليا هيأتين) الأمر نفسه، فلماذا هذا التمييز؟
تخلص الأبحاث المتعلّقة بحالة المسلمين (Pace, Rhazzali, 2018) أن الأسباب مرتبطة بفشل السياسات العمومية في التفريق بين ما هو حقوقي، مضمون من طرف الدستور، وما هو سياسي تدخل فيه اختيارات النخب والاستراتيجيات من النوع الجيوسياسي. وبقي الأمر متعلّقا بسيرورة أحداث الإرهاب الدولي الذي يؤثر على الرأي العام والانتخابات السياسية، فلم تعترف الدولة لحد الآن بأية مجموعة، وظلّت سياسات التفاوض مع الجمعيات الإسلامية منذ بداية الألفية عن طريق آلية "المجلس الاستشاري لإسلام إيطاليا" بوزارة الداخلية، وهو الفاعل غير الديني الأساسي الذي يحدّد علاقات القوة بين الفاعلين الإسلاميين والذين أصبحوا ينمّون رأسمالهم الرمزي ويستمدّون شرعيتهم بالأساس من تعيينهم كأعضاء المجلس، ولن ينفع الجمعيات الإسلامية انخراطها في المجالس للاستشارية وتوقيعها لالتزامين[4] سبق وأن اقترحتهما الدولة كفعل تمهيدي للوصول إلى الاعتراف رسميا بالإسلام، إذ بقي "اللعب" حول هذا الأمر مفتوحا. ويجدر التوقّف على الملامح السوسيوثقافية لفاعلي هاته الجمعيات والفيدراليات، يتعلّق الأمر بأفراد يمزجون من جهة بين إدارة وتسيير المساجد وقاعات الصلاة للمراكز الإسلامية ومزاولة الوظائف الدينية كالإمامة والإرشاد الديني، ويتخصّصون من جهة ثانية في الإدارة والقيادة وتمثيل مصالح المجموعة.
وعلى الرغم من وجود دراسات تناولت موضوع الممارسة الدينية للمسلمين في إيطاليا[5]، إلاّ أنّنا لا نتوفر على إحصائيات دقيقة للمسلمين المشاركين في الجمعيات ومراكز الصلاة ومختلف الأنشطة الثقافية والدينية، وأمّا إحصائيات عدد المساجد فالمعطيات الرسمية لوزارة الداخلية وحسب تصريحات بعض فاعلي الجمعيات الإسلامية أيضا تشير على وجود أكثر من 1200 مكان أداء الشعائر الدينية (place of cult) من بينها 10 مساجد فقط تتوفر على صومعة وأنجزت بتصميم مرخّص منذ البداية كمعبد للمسلمين. ولا تستطيع أيّة جمعية وطنية تغطية تنسيق أغلبية[6] هاته الأماكن[7]، حيث أن النموذج التنظيمي للقيادة الإسلامية في إيطاليا (وأيضا في بلدان أخرى) لا يتخذ شكلاً عموديا بل أفقيًا وقدرة المبادرة عند الفاعلين في هذا الحقل جد عالية. وتجدر الإشارة أن فتح مكان للعبادة لا يعتمد فقط على الحاجة الحقيقية لذلك من طرف ممارسي الشعائر الدينية ولكن الدافع الأساسي، في كثير من الأحيان، هو الصراع بين القادة الذي يولّد انقسامات بما يؤدي إلى فتح أماكن أخرى مع القادة والعاملين الدينيين الآخرين. وبناء على رأي الفاعلين السياسيين والمؤسساتيين فإنّ عدم توفّر تنظيم عمودي وتمثيلي شبيه بما تنتظره المؤسّسات هو ما يعرقل الوصول الى الاعتراف الرسمي بالإسلام في إيطاليا.
ومن العوامل التي ساهمت في الترويج للهيئات والمنظمات الدينية الإسلامية، توفّر فرص للناشطين حتى يمارسوا مهام الإرشاد والتوجيه الديني للمسلمين بإيطاليا، وفي بعض الأحيان يقدّمون أنفسهم لهذه المهام، والعامل الحاسم في تصدّرهم هو كاريزما ريادة الأعمال الدينية (Patrick, 2005) والمنافسة في سوق الأشياء الدينية (Berger, 1967)، وهو ما يتضح بشكل خاص في قيام بعض المجموعات بشكل منفرد بتأسيس مؤسّساتهم الخاصة. ولا يعد هذا الأمر في السياق الإيطالي أقلّ أهمية من موقع الإمام باعتباره المكلّف من طرف هذه التنظيمات بالأعمال الاجتماعية الإسلامية (Dassetto, 2011).
- 2. الإمامة والتدخل الديني: الملامح والمسارات
يرتبط واقع الأئمة والفاعلين الدينيين في إيطاليا بكل حيثيات الوجود الإسلامي في هذا البلد وبكل خلفياته. واعتمادا على مفهوم بورديو للحقل يفترض أن هاته الفئة تمثّل العنصر الأساسي في تشكّل الحقل الإسلامي بفضل توفّرهم على رأسمال رمزي ديني، وهو تكريس أنفسهم لإدارة السلع والرموز الدينية المتراكمة بمرور الوقت. وانطلاقا من تحليلاتنا لإطار التفاعل بين الجمعيات الإسلامية ومؤسسات الدولة من جهة وأشكال التنظيمات وانتماءات الفاعلين لها من جهة أخرى، يمكننا أن نتصور مدى التعقيد في تسيير التنافس والصراع الداخلي في الحقل الإسلامي، والناتج عن تميّز داخلي يضاف إلى التميز التاريخي للتيارات والحركات.
يظهر هذا التميّز الداخلي بين الفاعلين في كونهم يتحرّكون بمنطق "السوق" الذي يخوّله مجتمع التعددية والعلمنة (Berger, 1967)، وفي سياق لا يُعتبر فيه التخصّص في العقائد الدينية محدّدا أساسيا، مما يجعل مختلف الفاعلين مضطرّين إلى بذل جهود حثيثة لبناء مصداقية تجعل من وجودهم مقبولا عند كل المسلمين وعند غيرهم ممن يتفاعلون معهم. كلّ ذلك في سياق يتميّز بتعددية اجتماعية وثقافية معروفة بوضعها المعقّد وتغيّراتها المتسارعة كما أسلفنا الذكر. وتعكس وضعية الإمام وغيره من الفاعلين الدينيين المسار الذي يسلكه المنتمون للإسلام بإيطاليا، فقد حاولوا وما زالوا يحاولون تزويد أنفسهم بالموارد الثقافية اللازمة للتفاعل بطريقة أكثر فاعلية مع النسيج الاجتماعي والثقافي والسياسي الذين يدّعون الآن أنهم جزء منه، على الرغم من كل الصعوبات المتعلقة بالاعتراف القانوني بالدين الإسلامي، والذي من شأنه أن يكون خطوة مهمة على المستوى المؤسساتي.
وسيجد الإمام نفسه ضمن أدوار متعدّدة، دور قائد الجمعية ويتفاعل أحيانا مع الوسط السياسي كممثّل للمسلمين أمام السلطة، و يتولى بنفسه -وبدون أساس قانوني وبشكل محفوف بالمخاطر- بعض الوظائف التقليدية المرتبطة بسياق غير منظم كالمفتي والعدل والقاضي، وكذلك بعض الوظائف الجديدة المستمدة من الحاجة إلى إنشاء علاقات مع الدولة المحلية، على غرار الأدوار التي تضطلع بها أشكال ووظائف السلطة الدينية المسيحية في سياق العلاقة بين الكنيسة والدولة تاريخيا (Roy, 2008 ; Rhazzali, 2014) وبمعنى آخر درجة تأثير التفاعل والتكيف مع الوسط السوسيوالثقافي والسياسي الجديد تصل بالفاعلين الدينيين عن طريق عمليةتحييد الخصوصيات إلى فبركة، وبدون سابق وعي، آليات جديدة للإمامة والتدخّل الديني شبيهة بما يمارسه الراهب، ومكان لممارسة الشعائر شبيه في وظائفه بالكنيسة. وفي هذا السياق بالذات يتحدّث آليفي عن "تمسّح" الإسلام في الوسط الأوروبي (Allievi, 2010).
حاول الباحثون في مجال الإسلام بأوروبا تصنيف الفاعلين في الحقل الإسلامي. فقد حدد داسيتو (Dassetto, 2003)[8] ملامح متعددة تشمل طلاب تخصّص الاقتصاد والإعلام واللاجئين السياسيين الذين لديهم خلفية في العلوم الشرعية، وشجّعهم الوسط الأوروبي لإعادة الاحتراف في النشاط الإسلامي، يضاف إليهم عناصر من الأجيال الأولى للهجرة وآخرين من الأجيال المولودة في أوروبا (في صراع مع الأجيال الأولى) وآخرين معيّنون بشكل أو بآخر من قبل نُظُم بعض الدول الأوروبية التي وقّعت اتفاقيات مع ممثلي الإسلام في ذلك البلد، والذين يستمدّون شرعيتهم من كفاءاتهم التنظيمية وليس من مستواهم المعرفي الديني أو طاقتهم الكاريزماتيية. ويمارس المسؤولية الدينية أيضا بعض معتنقي الإسلام الذين يقدّمون أنفسهم في المجال العام كمفكرين. وأماّ فريغوسي (Frégosi, 2004) فيميّز في عمله بين الإمام الذي يتصرّف في تدخّله كمسؤول ديني (Ministre de culte) وكوسيط (Mediateur) اجتماعي وثقافي في الآن نفسه، والداعية "العلماني" الذي يؤكّد على ضرورة المشاركة في سياق المواطنة كمسلمين، والفقيه العالم، وهو خبير في العلوم الشرعية ويهتمّ بالقضايا اليومية لمجتمع في وضعية أقلّية.
وانطلاقا من إطار الأبحاث في السياق الأوروبي حول موضوع الإمامة والمسؤولية الدينية في الجمعيات المسلمة ومقارنة بالوضع الإيطالي ترى سان بلانكا (Saint-Blancat, 2008) بأن ملامح الأئمة والفاعلين الدينيين متعدّدة الأبعاد تجعل من "الإمام" في الوضع المجتمعي الجديد مرجعية مركزية في حين لا يتمتع بهذه الصورة في البلدان المسلمة ويظلّ دوره هامشيا. وتؤكد الباحثة على ضرورة القيام بأبحاث ميدانية دقيقة لسدّ الفراغ المعرفي في هذا البعد، وهو ما دفعنا للسعي وراء هذا الهدف من خلال أعمالنا المختلفة.
فما تتعرض له هذه الفئة من الفاعليين الدينيين كثيرة، وتشمل جوانب تخرج عن الحقل الديني ولكن ما دمنا في سياق إسلام لا يعتمد على مؤسّسات متخصّصة تعيّن الفاعل الديني وفق مسار تكويني، وفي سياق تنافس مفتوح دون معايير سابقة ، يبقى المهم في البحث هو التفاعل مع الأسئلة ومحاولة إعطاء أجوبة ما، وهكذا يتوسع ميدان البحث ليشمل الحقل الديني وشبه الديني أو غير الديني، ويستطيع عمال هذا الحق توظيف قدرات أخرى تنبع في كثير من الأحيان من تجربتهم الشخصية مكتسبين بذلك شرعية أخرى يضيفونها إلى شرعيتهم المعرفية في المسائل الدينية، خاصة إذا ما كانت تعرف ضعفا أو نقصانا.ومن الواضح أن الجميع غير قادرين على الاستجابة في جميع الجبهات التنظيمية والروحية والتفاوضية والتواصلية مع المجتمع المحلي، ومع ذلك، بالنظر إلى الوجود الحديث نسبيًا للإسلام في إيطاليا مقارنة بالواقع الأوروبي، يُظهِر الأئمة أنّهم قادرون على مواجهة التحدّيات الاجتماعية والتفاعل مع السياقات المحلية، ويواجهون أحيانًا مخاوف أو إغراءات بالانسحاب أو مقاومة بعض المسلمين الذين يكون تحفظّهم مبرّرًا بحكم انتشار التحيّز ضدهم (Saint-Blancat 2008).
واعتمادا على دراستنا الميدانية، يمكن تصنيف الأئمة إلى أربعة أنواع تعدّ، في نظرنا، تصنيفات نموذجية مثالية (ideal-typical) لا تعكس الواقع تمامًا، حيث يجد بعض هؤلاء الفاعلين الدينيين أنفسهم في أكثر من صنف (مثل: إمام مسجد ومهتمّ بموضوع التفاعل بين الثقافات):
أئمة المساجد أو أماكن ممارسة الشعائر الدينية
مع ظهور أماكن العبادة الإسلامية بالمدن الإيطالية طرحت على مسؤولي هذه المشاريع مسألة تسيير وتنظيم الشعائر واقتراح البرامج والخط الديني المذهبي ومراقبة المنظومة العقائدية والتكوين الديني والوعظ والإرشاد واستمرارية التقاليد الدينية داخل المجموعة. فإيجاد شخص يكتسب هاته الكفاءات كلها يعتبر مركزيا في نجاح "المقاولة" التي تؤسّس بتطوّع من طرف مجموعة من الأفراد يرون في ذلك منفعة من الناحية الدينية-الأخلاقية ومن الناحية الاجتماعية أيضا، حيث أنّ النشاط الديني بالنسبة لعديد من المسلمين هو النشاط الوحيد الذي يمكّنهم من الإسهام في المجتمع بسبب تقلّص مساحات المشاركة في الجمعيات المدنية والنقابية[9]، وصعوبات لها علاقة بفشل سياسات "التكامل الاجتماعي والاعتراف". ونظرا لقلة الموارد للأسباب التي أشرنا إليها سلفا وعدم وجود مؤسسات إسلامية محلّية أو مؤسسات جامعية أو مدرسة عليا تتكفّل بالتكوين واعتماد الأئمة والمسؤولين الدينيين، كما هو الحال في ألمانيا مثلا، تجد في إيطاليا أن الإمام هو عادة شخص من أعضاء "الخلية" المكلّفة بإنجاز مشروع "المسجد"، وفي غالب الأحيان هو رئيس الجمعية الناشئة ويكلّف في الفترة الأولى إلى أن يتطوّر التنظيم ويزيد عدد الوافدين على المكان وتكثر الثروات الناتجة عن تبرّعات المصلين أو الهيئات الخيرية أو الجهات الأجنبية، و يوجب الوضع تخصّصا وحرفية فيتمّ التمييز بين مهام الأئمة بين الإمام المسؤول على الصلوات الخمس والإمام الخطيب الذي يتدخل أسبوعيا فقط وفي بعض المناسبات. ولو أنّ إتقان اللغة الإيطالية عند الأئمة والخطباء يعدّ عنصرا مهما في اطار المنافسة في "سوق" عمل الأئمة، رغم أنّه لا يعدّ إلى حد الآن شرطا ضروريا لأداء الوظائف المنتظرة. والأهم هو إيجاد شخص له ملامح تتوافق مع الأنشطة الدينية التي تمارس في محل العبادة خارج الصلاة، فقد يعمل الإمام مدرسا للعقيدة الإسلامية أو للغة العربية، إلاّ أنه بمجرد أن تتطور الأمور، كما حدث في بعض المناطق الحضرية، فإنه يتم تكليف أشخاص آخرين بذلك، ليقتصر دور الإمام على أداء الصلوات وإلقاء الخطب فقط. هكذا يصبح الإمام متحدّثا باسم المسجد، إن صح التعبير، وهو الممثل الفعلي للتكتّل البشري المرتاد للمسجد، وهذا نشاط يقوم به الإمام في الغالب بصفة تطوّعية، بحيث إن 85%من الأئمة الذين تمّ إجراء مقابلات معهم، صرحوا بأنهم لا يتلقّون أيّة تعويضات عن دورهم كأئمة، رغم أنهم في بعض الحالات يتلقّون تعويضات شهرية وأحيانا مناسباتية، لكن بشكل غير رسمي، وحتى في حالات تلقي التعويضات، تؤدي الغالبية من الأئمة أدوارها كعمال غير مستقرين وبدون إطار قانوني محدّد يستفيدون منه أو يمنحهم صفة ومكانة مهنية. هكذا تكون المتطلبات الأساسية للعب دور الإمام هو الاستعداد للقيام بذلك تطوّعا بالإضافة إلى المعرفة الدينية، ويفضّل أن يكون ذا خلفية أكاديمية، إلى جانب توفّره على مهارات تواصلية، خاصة ما تعلّق منها بإجراء محادثات عامة، دون إغفال المعرفة المتينة باللغة العربية باعتبار أهم الشعائر الدينية تتم بها، ولا مناص له من إتقان الّلغة الإيطالية، إذ غالبا ما يكون هناك مترجم يقدّم الحد الأدنى من خلاصات خطبة الجمعة إلى غير المتحدّثين باللغة العربية. وبالنظر إلى التركيبة الديموغرافية الحالية للمسلمين في إيطاليا فإن معظم الخطب باللغة العربية، على الرغم من ظهور بعض المساجد مؤخّرا يكون روّادها من عرق معين فتجد الخطب باللغة الأردية أو البنغالية أو الألبانية، بينما يبقى الجانب الأكثر تعقيدا هو توافق التوجّهات العقدية والسياسية للإمام مع التوجّهات السائدة في المسجد الذي يعمل فيه. ولا يغطي في بعض الأحيان الإمام جميع الأدوار الدينية، فقد يكون متخصّصا في خطب الجمعة وحسب، معتمدا على وجود إمام آخر يقوم بالأدوار الأخرى طوال أيام الأسبوع، وفي أحيان أخرى يتم جلب إمام آخر ليكون بديلا في المسجد وهو الصنف الثاني من الأئمة.
الأئمة المستقلّون (Freelance)
يتعلق الأمر بفاعلين دينيين يعرّفون أنفسهم على أنهم أئمة، لكن ليسوا مرتبطين بأي مسجد أو مكان لممارسة الشعائر الدينية بشكل دائم، ولذلك نصنّفهم كأئمة مستقلّين حيث أنّهم غير منتمين لفئة واحدة بل يمارسون التعدّدية الهوياتية، كوسيلة للوصول إلى أوسع أرضية للزبائن والتغلّب أكثر على المنافسة في سوق الإمامة. الأكيد أن هذا الصنف ينطلق من رأسمال رمزي ديني لتكريس سلطة للإمامة لكن منطق السوق والتسويق فيه يظلّ عاملا محدّدا لهذه "المهنة". وينحصر مجال تدخل هذه الفئة فيخطب الجمعة أو قيادة صلوات التراويح في شهر رمضان أو بعض المناسبات الأخرى. يعمل الإمام المستقل لحسابه الخاص وبطريقة مستقلة، وأحيانا يكون قد انطلق في عمله بهذا الشكل من مسجد مهم أكسبه شهرة واسعة. ويشترط أن تكون لديه كفاءة عالية تجعل من يستدعيه يدفع لهمم الا أكثر، أو يغطّي على الأقلّ نفقات تنقّله، بالإضافة إلى خلفيته المتعلقة بعمق معرفته الدينية، ومهاراته الاجتماعية والتواصلية والمعلوماتية، ويرفع من رأسمال هاته الفئة التوفّر على حساب بمواقع التواصل الاجتماعي وقناة اليوتوب وغيرها، ممّا يخلق تنافسا بين الأئمة المستقلين إلى درجة تجعلهم يعتمدون على وسائل تسويقية تضطرهم إلى اكتساب المعرفة باستخدام الحواسيب وإخراج المنشورات التي تكون غالبا ذات مضمون مرتبط بتوجهّاتهم العقدية، وتتّسم بمرونة معيّنة ومناسبة للسياقات التي تدخل ضمن خدماتهم. وتعدّ المعرفة باللغة الإيطالية بالغة الأهمية في دخول هذه الفئة إلى سوق الشغل في مجالات أخرى، وخاصة إمكانيات العمل كمرجع أساسي لوكالات المعلومات واقتراح الأئمة أنفسهم كخبراء للمؤسسات المحلية والوطنية، مما يوفّر لهم فرصة أخرى للوصول إلى منصات وسائل الإعلام، باعتبارها في غاية الأهمية للإمام المستقل. هكذا تصبح المهارات التواصلية واللغوية من العوامل التي يرون فيها الضامن لبقائهم في الصفوف الأمامية خصوصا في المؤتمرات المرتبطة بحوار الأديان التي تعطي للإمام مكانة تجعله يمثّل المجتمعات الإسلامية.
الأئمّة "الموسميون"
يتعلّق الأمر بفئة أئمة مهنيين صنّفناهم كموسميين لأنّ تدخّلهم مرتبط بالمناسبات الدينية الرسمية وخصوصا بشهر رمضان. وبدأت الجمعيات الإسلامية في السنوات الأخيرة تلتجئ لهذا النوع من الإمامة بتوازي مع تطوّر وتعزيز العلاقات مع دول الأصل، كالمغرب ومصر والباكستان، للأسباب التي سبقت الإشارة إليه، حيث يتم إرسال أئمة ومرشدات من قِبَل هاته الدول. وفي حالات أخرى، يتمّ استقدامه بدعم خاص من الجمعيات والمؤسسات التي ستستفيد من خدماته، ويتميّز بمستوى عال من التكوين الديني المتوافق مع النموذج السائد في البلد الأصلي ولا يحسب نفسه في منافسة مع باقي الأئمة ولا يعنيه الانضمام إلى الحقل الديني المحلّي. وأما من وجهة نظر الأئمة العاملين بإيطاليا فهم يشكّلون عنصر منافسة أي أن وجودهم يقلّل مواردهم. ونعتبر هذا النوع من الإمامة جدير بدراسة مستقلة بسبب آثاره العديدة على تطور الإسلام الإيطالي.
المرشدون الدينيون و الوسطاء الثقافيون في مؤسسات الدولة
يمكن القول أنّ تأقلم الإسلام مع الوضع الاجتماعي الجديد، والذي أثّرت عليه تجربة الدولة مع الكنيسة الكاثوليكية تاريخيا ناهيك عن إعادة هيكلة الحقل الديني بسلطته وقياداته وإعادة صياغة أدوار عامليه بشكل مستمر، جعل حضور ومشاركة "الديني" منتشرا ليس فقط في الفضاءات التقليدية السابقة، ولكن أيضا في مجموعة من الأماكن الجديدة المرتبطة بعمليات تخرج عن ما هو تقاليد دينية، وتكمن في إطار المساواة في الحقوق بالخصوص. فإذا لم يكن من الواجب التوفّر على مكان معين لممارسة الشعائر الإسلامية خضع سابقا إلى عملية "التقديس" من طرف مؤسسة دينية وحضُور "رجل" الدين للمرافقة الروحية، كما هو حال في ديانات أخرى كالمسيحية، فقد أصبح، منذ بداية سنوات الألفين، طلب مكان خاص بالصلاة وتدخّل إمام أو مسؤول ديني في المستشفيات والسجون الإيطالية من الممارسات العادية في كثير من الفضاءات وتعتبر في أعين المسلمين واجبا من واجبات الدولة حسب منطق المساواة في الحقوق، بل وتصنّف من أولى مطالب[10] الفاعلين الدينيين الإسلاميين في سياق طلب الاعتراف الرسمي للإسلام، بالإضافة الى طلب الاعتراف بالفعالية المدنية للزواج في المسجد أي أن تكون بعد عقد الإمام، فلا يعتبر المفهوم التقليدي لعقد الزواج هنا بوصفه عقدا دينيا واجتماعيا إلا إذا عُقِد أمام شاهدي عدل موثقين له ويفترض حضورهما في الفسخ أيضا[11].
لم تتطور هذه الميكانزيمات الاجتماعية على الصعيد الإيطالي وحسب بل على الصعيد الأوروبي أيضا. فهناك عدد من التطلّعات وانتظارات التدخّل الديني أجبرت الأئمة وقيادات المسلمين مع الوقت على توسيع دائرة الفاعلين، ومثال ذلك انتظارات المؤسسات التي تحتاج إلى التعاون من أجل تجسيد الحق الفردي في المرافقة الدينية والعناية الروحية للمرضى (Rhazzali, 2014)، ناهيك عن هشاشة الموارد المادية وضعف البحث الفقهي في مرافقة العاملين الدينيين انطلاقا من آليات مصدرها عمق السجل الديني نفسه وليس فقط السجل السوسيولوجي، إضافة إلى طلب التدخل لكثير من المؤسسات كالمدارس فيما يتعلق بالبرامج والحوارات حول الإسلام والأديان . وقد أعطت بعض الدول الأوروبية، كبريطانيا وهولندا وبلجيكا، للمتدخّلين الدينيين المسلمين في المستشفيات والسجون وحتى الثكنات العسكرية، تسمية قانونية وإدارية كانت محصورة على المتدخل الديني المسيحي فقط، فأصبحت تتحدث عن أومونيي المسلم (Aumônier) أو تشابليين المسلم (Chaplain)، ويطلق عليه في حالات أخرى اسم المستشار الديني أو المرافق الروحي. وأمّا في الحالة الإيطالية فظلت التسمية بعيدة عن النعت المسيحي، فلم تصل بعد إلى تسمية كابيلانو المسلم، وبقي التركيز على تسمية الإمام ولو أنها غير محددة وتأخذ معاني أخرى، ويرجع سبب ذلك إلى تعدد السجلات التواصلية، السجل الديني (الإمام)، السجل القانوني (المسؤول الديني)، السجل الوصفي (المرشد الديني)، دون علوّ تسمية على أخرى. ويمكن أن يصنّف هذا الفعل الديني بموجب قانون الاعتراف بالإسلام، فقد اختارت بعض النصوص الرسمية مثل تلك الاتفاقيات بين وزارة العدل وثلاثة جمعيات إسلامية في موضوع التدخل الديني بالسجون الإيطالية تسميتين: تسمية المسؤولين الدينيين والوسطاء الثقافيين. وقد أتيحت لنا فرصة حضورنا في المداولات بين الجمعيات الإسلامية والأطر الوزارية بوصفنا باحثا متدخلا، في إطار الشراكة بين جامعتنا والوزارة في مشروع التدخل في السجون، الذي سبقت الإشارة إليه، لمشاهدة عملية اختيار هذه التسميات، وسجلنا غياب الخطاب التقليدي للمرجعية الدينية الإسلامية، وحضرت فقط تلك الروح البراغماتية لإيجاد تصنيف ما يمكن أن يتضمّن الفعل الديني النسائي. وهذا مثال رائع لكيفية تأسيس وتشكّل الحقل الديني والسلطة الدينية الإسلامية، حيث تحدّد الممارسات السابقة حدود المنظومة، فقبل بروز الجمعيات الدينية للدفاع عن الحقوق الدينية منذ أكثر من عشرين سنة ظهرت بالسجون ممارسات واستعمالات اجتماعية للإسلام بدون تأطير أو تفاعل مع السلط الدينية، فقد كان السجناء أنفسهم الأئمة والتابعين في الآن نفسه (أكثر من 80% من الأئمة والقادة الدينيين في السجون الإيطالية هم صفوف السجناء) بل كانوا وسطاء ثقافيين ووسيطات أيضا لهم أدوار مؤسساتية مدنية ويتعاملون كمتطوعين في التدخل الديني/الإنساني معوضين بذلك الفاعلين الدينين المنحدرين من الجمعيات والمساجد الذين لم يكونوا قادرين على تلبية مجموع التدخل الديني بجميع المؤسسات لضعف ثرواتهم.
- 3. الفاعلون الدينيون في علاقتهم مع مؤسسات الدولة
يظل للأئمة والفاعلين والمسؤولين الدينيين عن المساجد أو أماكن ممارسة الشعائر الدينية دور مهم في محاولاتهم للوفاء بالتزاماتهم نحو مجموعتهم من جهة، والتزاماتهم نحو المجتمع الإيطالي بصفة عامة من جهة أخرى، ويتمّ ذلك في سياق التفاعل مع مؤسسات الدولة التي تشمل المدارس والسجون والمستشفيات، خصوصا في الحالات التي يُطالَبون فيها بإجراء زيارات لتلك المؤسسات أو العمل بها بصفة دائمة نسبيا. فكما أشرنا في الفقرة السابقة، يستفيد الفاعل الديني الإسلامي وغير الإسلامي (يتعلق الأمر هنا يتعلق بالديانات "الجديدة") من آليات التدخل الديني في المجال العام الذي كان مخصّصا سابقا للقساوسة ورجال الدين المسيحيين، مجيبا بذلك على مخيال اجتماعي عام يتضمّن صورة مسبقة عن تنظيم الديانة المسيحية بوصفها صورة مطلقة لأي دين. وبذلك التجاوب بدا أنّ كل دين يتوفّر على مؤسسة مركزية تقوم على التمثيلية وعمودية التنظيم وسلطتها تقوم بنفس أدوار السلطة المسيحية، والأهمية الاجتماعية والسياسية لمكان عبادته شبيهة بما هو عليه وضع الكنيسة (Roy 2008). فلهذا إما أن يكون شكل السلطة شبيه بسلطة الكنيسة أو يتم اختراع سلطة يتم الردّ، بصفاتها، على التصنيف المنتظر، إذ لا يوجد مجال كبير للتفاوض حول خصوصيات أخرى. ويمكن أن نوضّح ذلك بمثال عن المجموعتين البوذيتين اللتين توصلتا للاعتراف الرسمي لكن بعد الخضوع لعملية إعادة صياغة (أوليفي Idem) شبيهة بتلك التي نجدها في المجال الإلكتروني (Formatage).
والحالة نفسها بالنسبة للحقل الإسلامي الجديد أو في طور التشّكل، فليس هناك مجال للنقاش أيضا، ففي ذلك سهولة للولوج ولعب الدور الديني على رغم من عدم التوفّر على مؤسسة دينية وأخصائيين يحرصون على الرأسمال الديني. تتأسّس العلاقة مع السلطة في المجال العام على بعد عملي هو الفعل الاجتماعي ومدى توفّر المجموعة المنظِّمة للفعل الديني على مواد مادية وبشرية أكثر من اعتمادها على المعرفة الدينية والفقهية. وفي حالة قدرتها على أداء الطلب، ترسل المساجد إماما أو مندوبا لها يقوم بدور "الإمام" أو المسؤول الديني، وهنا يمكن للمسجد أن يفسح المجال أمام الأئمة المتنقّلين والأشخاص الذين يتوفّرون على مهارات في الوساطة الثقافية والدينية، وبالتالي فتح المجال لتنمية خبرات جديدة في تقديم المساعدة الدينية والروحية ضمن سياق مؤسسات الدولة. وقد تراكمت تجربة كبيرة في السياق الأوروبي حول هذا النمط من الوساطة الثقافية والمرافقة الروحية إلاّ أنها لا زالت جديدة نسبيا في العالم الإسلامي، حيث لم تبدأ بلورتها إلاّ في الآونة الأخيرة من خلال الاعتماد على نموذج المرشدين والمرشدات (Rhazzali, 2015b). ويعدّ التدخل الديني الإسلامي عملا تطوعياّ وأماّ الوساطة الثقافية (Rhazzali, 2015a) فهي مهنة يمكن من خلالها تلقي عائد مالي سواء كان راتبا شهريا أو مبلغا ماليا بعد كلّ تدخل. ولهذا نجد العديد من الوسطاء الثقافيين المسلمين نشطاء في التدخّل الديني بشكل تطوعي وفي كثير من الأحيان بالتعاون مع أئمة المساجد.
وقد أشرنا سابقا إلى أن بعض مهام الإمام لم تعد حكرا على الذكور، فغالبا ما تضطلع النساء بمهام دينية من خلال أدوارهن في الوساطة الثقافية، كما بيّنا أهمية الكاريزما الدينية لتنفيذ هذه المهام، لذلك نجد خلفية النساء في المعرفة الدينية متداخلة مع الدراسات الجامعية في العلوم الإنسانية والقانونية أو العلوم الاجتماعية. فغالبا ما نجد النساء في مجال الوساطة بين الثقافات بما في ذلك النساء المسلمات كما تبيّن من خلال بحثنا (Ibid) حيث أتيحت لي فرصة رصد النساء اللواتي يضطلعن، ولو بشكل غير رسمي، بمسؤولية دينية واجتماعية في سجون مهمة للغاية، وتشمل المهام تلك اللواتي لم يتمّ تقديمهن من طرف المساجد أو بمساعدة الخدمات التطوعية، فتجدهنّ يؤدّين دور الإمام بتقديمهن للإرشاد الديني والروحي للسجينات، كما يقمن بتدريب موظفي السجن على تحديد القضايا التي تهم المجتمع الإسلامي، بالإضافة إلى تبرّعهنّ بكتب عن الإسلام لمكتبة السجن (Rhazzali, 2014). ومن المهم أن نشير في هذا السياق إلى أنّ اضطلاع النساء بهذه المهام مختلف تماما عن تجارب في بلدان أوروبية أخرى، خاصة تلك التي تعرف نوعا من الصراع و"الإقصاء ذي الطابع الذكوري"، ووجه الاختلاف أنّ بعض التجارب الأوروبية تأتي في سياق النقاش الذي فتحته النساء من داخل النصوص الدينية من أجل امتلاك "الشرعية الدينية" وحقّهن في ممارسة مهام الإمامة، في حين أنّ السياق الإيطالي وانطلاقا من خلال أبحاثنا الميدانية مختلف تماما، فتقلّد النساء لتلك المهام إنّما جاء على خلفية طبيعة المهام التي تسهّل على النساء ولوجها عكس الرجال، أي أنّ السياق هنا مهني بحت.
- 4. مواجهة التطرف العنيف: ملف تكوين "الموظفين" الدينيين ودور الجامعات
سبقت الإشارة إلى أنّ الجمعيات الإسلامية هي الإطار الذي تمارس فيه الأئمة والفاعلون الدينيون أغلب مهامهم، باعتبارها الراعية لمختلف الفضاءات التي تحتضن شعائر العبادة. وفي هذه المرحلة من غياب التعاقد (Intesa) بين الدولة الإيطالية وممثّلي "الإسلام" تجد الجمعيات نفسها في وضع معقّد، وتواجه تحدّيات عديدة، منها مشكلة الاعتراف الذي لا تحظى به إلا جزئيا، إضافة إلى دورها المنتظر والمرهون في ضرورة التصدي لخطاب التطرّف العنيف واحتضان القيادات الدينية الكفيلة بترشيد وتوجيه الخطاب الديني بما يتوافق مع ثقافة التسامح والاعتدال، وعلى نحو يتلاءم مع وضع التعدّدية الدينية الذي تعرفه إيطاليا، والذي يتطلّب خطابا دينيا منفتحا.
وعلى الرغم من ارتباك المجال السياسي أمام ضرورة خلق مناخ جديد للتعاون مع هاته الفئات الدينية، والتي برهنت المعايشة معها إلى حد الآن عن سلامة "جسدها" الإيديولوجي بناء على قرارات الأجهزة الأمنية وآراء الباحثين الأكاديميين، فإن مجال المؤسسات يتحرك بسرعة مختلفة ويفعِّل أبعاد أخرى تجعل مما تقوم به إيطاليا في جانب مقاربة سياسات التصدي للتطرف العنيف تجربة فريدة من نوعها. فقد استفادت مؤسسات الدولة من عدم حدوث وقائع إرهابية بأراضيها وساعدها ذلك على إيجاد المناخ المناسب في السنوات الأخيرة لتجسيد مقاربة متوافقة مع الوضع المحلي وتفعيل الثقة بينها وبين القيادات الإسلامية والأئمة. ورغم التناقض التي قد تسقط فيه هذه المؤسسات حيث تطالب الفاعلين الدينيين بالتعاون معها دون الاعتراف الرسمي الفعلي بالإسلام، إلاّ أنّ استجابة الجمعيات المسلمة ومسؤولي المساجد وأماكن العبادة كانت سريعة للتعاون في دعم استراتيجيات الوقاية من التطرف العنيف. يرجع الأمر لطبيعة علاقة القوة بينهم وبين الدولة الميكانزيمات التي أشرنا إليها والمرتبطة باكتساب الشرعية والرأسمال الرمزي من رضا مؤسسات الدولة، وهو ما جعل المؤسسات تسير نحو تطبيق مقاربة "إنسانية" "متعددة الفاعلين". وتأتي بلورة هذا الاتجاه في إطار تعاون تلك المؤسّسات مع الفاعلين الجامعيين، فقد تميّز تدخلهم في هذا المجال بتثمينهم لحسن العلاقة بينهم وبين الأوساط المسلمة وكانت تقاريرهم ومنشوراتهم تهتمّ بمسألة التطرف العنيف ولكن أيضا بصعود التيارات الشعبوية وانتشار ظاهرة الإسلاموفوبيا.
كانت المؤسسات الجامعية الإيطالية منذ بداية التسعينيات حاضرة في مجال البحث الميداني في العلوم الاجتماعية، وإذا كان الخطاب العلمي يعاني من غياب منظومة تواصلية تثمّن نتائج البحوث وتؤثّر بذلك على جودته حول موضوعات الهجرة والتعدّدية الدينية في المجال العام فقد ظلّت فئة الجامعيين ، وبشكل دائم ومتوازن انطلاقا من معرفتها بعجز المؤسسات في تسيير التعقّد الناتج عن تحوّلات مجتمعية مفروضة، مدافعة على الفئات الهشّة. ورغم كلّ ذلك، استعانت الدولة منذ سنوات بخبرة الجامعيين في ملف "الإسلام" والتطرف العنيف، وهوما جعلهم يُعيدون تموضعهم ويتّخذون موقف الوسيط بين الدولة والمجتمع المدني والجمعيات الإسلامية، ليُصبح تقليد الوساطة، مع مرور السنوات، جزءا من تقاليد الجامعات الإيطالية و"قِبلة" للفئات المتضررة من إكراهات ناتجة عن صراعات اجتماعية على المستوى المحلي (يتعلّق الأمر عادة بالمدن والبلديات التي يحكما حزب الرابطة (La lega). وقد ساعد على بلورة هذا الدور أهمية الموضوع من الناحية البحثية، فـ"الإسلام" جزء من بروز لظواهر أكثر عمقا تخصّ التغيّرات المعاصرة في المجتمع ناهيك عن حاجة المجموعات الإسلامية إلى تنظيم دورات تكوينية "للموظّفين" الدينيين مادامت الموارد قليلة وتكوين السلط الدينية أمر لا يهمّ الدولة فحسب بل يهمّ المؤسسات الدينية أيضا . والإسلام غير معترف به رسميا بعدُ، لذلك تبقى مسألة تكوين الأئمة والفاعلين الدينيين عالقةً.
وفي هذا السياق يُطرح سؤال آخر مفاده؛ كيف يمكن للجامعات التعاون مع المسؤولين الدينيين المسلمين في غياب إطار الاعتراف الرسمي[12]؟ وأيّة موارد يتمّ اعتمادها؟ وكيف يمكن التجاوب مع العوز التكويني مادام الأمر يتعلق بكفاءات معرفية عن الإسلام لا تتوفر عليها جامعات ذات تقاليد غير لاهوتية؟ (الكليات اللاهوتية في إيطاليا مستقلة وهي ملك الكنائس). يعدّ ملف تكوين الأئمة من الملفّات التي اشتغل عليها البرلمان منذ أحداث 11 شتنبر (سبتمبر) دون جدوى وظلّ الموضوع عالقا كما هو حال ملف الإسلام. ولم يمنع كل ذلك العجز الجامعات من التعاون في تكوين "موظفي الإسلام"، حيث عرف هذا الفضاء أكثر من تجربة للتكوين من خلال اقتراح مسارات الماستر والتكوين المستمر ملتجئاً لتمويلات مختلطة، وقد يدفع الفاعل الديني شخصيا حق التسجيل في بعض الأحيان، كما هو حال الماستر حول الإسلام "الأوروبي" بجامعة بادوفا في ثلاث دفعات متتالية شاركت من خلالها الوزارة المغربية المكلفة بالجالية المغربية المقيمة بالخارج بثلاثين منحة لصالح الفاعلين المنحدرين من المغرب، وفي حالات أخرى، شارك الجامعيون في مباراة عمومية أو خاصة لتمويل بحث أو فعل علمي وقدّم مشروع لفائدة الأئمة والمسؤولين المسلمين. لكن كل هاته التكوينات انحصرت على ما هو مدني، أي الموضوعات ذات العلاقة بالمجتمع والقانون والتواصل والسياسات العمومية ولم تتطرق لموضوعات شرعية فقهية.
وقد شكّلت السياسات العمومية للتصدي للتطرف العنيف بالخصوص بعد أحداث الإرهاب بفرنسا وبلجيكا ثروة مادية ورمزية لفائدة تلك المشاريع على مستوى اللجنة الأوروبية والبرلمانات الوطنية لتكوين الأئمة معتبرين إياّهم شركاء في عملية تجسيد نماذج جديدة للتدخّل السياسي والاجتماعي تضم التحالف مع "الإسلام المعتدل" ضد "الإسلام" العنيف". وفي هذا السياق تدخل أكبر مباراة من حيث الحجم المالي بأوروبا (خمسة ملايين أورو) لمشاريع تهم واقع المسلمين بإيطاليا وبالخصوص مسألة التكوين، ولا يتعلّق الأمر بالأئمة فقط بل بجميع أطر المجتمع التي لها علاقة بالمسلمين: قسم الصحة، والمدرسة، وقطاع الخدمات العمومية، وقسم الأمن والسجون. ونشير هنا إلى شرط من شروط المشاركة يكمن في وضع شبكة جامعات إيطالية وأخرى من البلدان الإسلامية بغرض تفعيل الطاقات والتخصّصات التي تنقص النظام الجامعي الإيطالي. وكان لهذا الشرط أثر نوعي على الصعيد الأوروبي، وإذا كان تمويل وتسيير تلك البرامج من قبل من طرف وزارة الداخلية، فقد اختار البرلمان الإيطالي توكيل تسيير المشروع لوزارة الجامعات والتعليم العالي، حيث تترتّب على ذلك رمزية أخرى لا تُبنى على الأمن ولكن على المعرفة. وفي هذا الإطار استفادت مجموعة من الجامعات الإيطالية بمشاركة مع نظيراتها في العالم الإسلامي والجمعيات الإسلامية الإيطالية من تمويل مهمّ (مليون وثلاثمائة ألف أورو) لمدة ثلاثة سنوات (2019/2021) بعدما اختير مشروعها حول الوقاية والتكامل في الفضاء العبر متوسطي بريميد PriMED[13] كأحسن مشروع.
يعتبر هذا المشروع في طريقة عمله سابقة في إيطاليا، من حيث تركيزه على الأنشطة ذات الطابع التكويني والتدريبي في المجال الديني وفي الفضاء الجامعي، وتتكون شبكة بريميد من 22 جامعة، منها 12 جامعة إيطالية، و10 جامعات تنتمي إلى دول منظمة التعاون الإسلامي، وسبق لهذا المشروع أن عرف برامج متنوعة في هذا المجال، منها افتتاح تخصّصين جامعين: ماجستير دراسات عن الإسلام في أوروبا والدورة التدريبية للأئمة والمرشدات المخصّصة للأفراد العاملين والنشيطين داخل الجمعيات الإسلامية، وتركز هذه البرامج على تمكين الفاعلين الدينيين من أدوات العلوم الاجتماعية والإنسانية واعتماد مقاربات أكاديمية تمكّنهم من التعامل مع القضايا الدينية بعدة مناهج ويشرف عليها أكاديميون وخبراء من مختلف التخصصات (Rhazzali, 2020).
ويعدّ تدريب وتكوين الأئمة ومختلف الفاعلين والقيادات الدينية مطلبا ملحا من أجل تطوّر إيجابي لواقع الإسلام في أوروبا، فوجود فاعلين لهم تدريب أكاديمي يمكن الاستعانة به لبناء خطاب ديني يستند إلى الواقع الاجتماعي للمسلمين، من شأنه أن يساهم في بناء خطاب بديل وأكثر فعّالية من الخطاب الديني المتطرّف. فإضافة إلى المشروعية الدينية التي يتوفر عليها هؤلاء الأئمة وغيرهم من الفاعلين في الحقل الديني الإسلامي، باعتبارها مجالا للتنافس حول المشروعية التي يحاول المتطرفون احتكارها، فإنّ اكتسابهم تدريبا وتكوينا سيمنحهم الأفضلية والقدرة التأثيرية مقارنة بالخطاب المتطرف، ناهيك عن قدرتهم على مواجهة مختلف التحديات والقيام بالمسؤوليات الملقاة على عاتقهم، وتضيف لهم نقطة قوة لفرض أنفسهم اتجاه المؤسّسات السياسية الإيطالية انطلاقا من أهمية أدوارهم.
الخــاتمة
يبدو أنّ هناك اتجاهين أساسيين في الدينامية الداخلية المعقّدة للحقل الديني الإسلامي في إيطاليا، والتي تميّز ظهور الفاعلين الدينيين والمنظّمات الحاضنة وفضاءات الأنشطة خصوصا المساجد في الأماكن العامة الإيطالية، فهناك محاولة واضحة لإعطاء وجود حي للإسلام في إيطاليا، إذ تبذل بعض التجمّعات الإسلامية جهودًا متضافرة لدمج الجزء السائد من تجربتها الاجتماعية والثقافية وجعلها تجربة إيطالية، بهدف إعادة تحديد هويتها الدينية بناءً على الموقع المحدّد الذي تعيش فيه وتتفاعل معه الآن. ولا يمكن إغفال دور الإيطاليين الذين اعتنقوا الإسلام في كل هذا، لا سيما من خلال نشاطهم الثقافي (Allievi, 2017). وهناك موجة جديدة في السنوات الأخيرة، تعطي أهمية بالغة للجانب العرقي والقومي تتزامن مع ظهور ونمو منظمات إسلامية لها أصل قومي مشترك، وغالباً ما تكون مدعومة اقتصاديًا وسياسيًا من البلدان الأصلية لتلك الجالية . وبالنسبة لهذه المجموعات، يجب أن يكون من الواضح أن مساعيهم لضمان استمرارية العلاقات مع بلدهم الأصلي لا يتعارض بالضرورة مع تعزيز الاندماج والمشاركة الكاملة في مناحي الحياة الاجتماعية للبلد المضيف، بل على العكس تماما، يمكن لذلك أن يكون في الواقع أكثر الجوانب التي تكسب خبرة في القبول الإيجابي لفكرة الهويات المتعدّدة.
وانطلاقا من الواقع المركب الذي يمتزج فيه ما هو ديني بما هو عرقي وثقافي نجد أن للفاعلين الدينيين دور كبير يقومون به كمرشدين ووسطاء دينيين لهم خلفية دينية تمتزج في أحيان كثيرة مع الأبعاد العرقية والقومية والثقافية للمسلمين في الحقل الديني الإسلامي إيطاليا. وبما أن الدين أو التديّن، إن شئنا الدقة، يكتسي طابع البلد الأصلي، فإن الإمام وغيره من الفاعلين الدينيين ليسوا مجرد أوصياء دينيين بل أوصياء ثقافيين وقوميين في الوقت نفسه، خصوصا عندما يكون للعرق والثقافة أثر على التوجّه العقدي والمذهب الفقهي الذي ينتشر بين مجموعة معيّنة من المسلمين، تجعل من الإمام مرشدا لهم ومتحدثا باسمهم.
وبالإضافة إلى التحديات والمسؤوليات الملقاة على عاتق الأئمة ومختلف الفاعلين الدينيين، فإن توفّرهم على عُدَّة منهجية ومعارف في مختلف العلوم الاجتماعية والإنسانية أمر في غاية الأهمية لتحقيق الأهداف المتوخاة داخل الحقل الديني، ولا يتحقّق إلاّ بمشاريع تكوينية وتدريبية من شأنها تجسيد هذا الهدف، وذلك لتجاوز التحدّيات المتجلّية في وضع الإمام والمنظّمات التي ينشط فيها، وفي مسؤوليته كمرشد ومؤثر ديني يتوجب عليه ترشيد الخطاب الديني للوقوف أمام الخطابات الأصولية والمتطرفة.
Bibliographie
Allievi, S. (2017). Conversioni: verso un nuovo modo di credere? Napoli: Guida Editori.
Allievi, S. (2010). La guerra delle moschee. Venezia: Marsilio.
Allievi, S., Guolo, R., Rhazzali, M.-K. (dir.), (2017).I musulmani nelle società europee. Milano: Guerini e Associati.
Berger, P.-L. (1967). The Sacred Canopy. N.-Y. Doubleday & Company.
Bourdieu, P. (1971). Genèse et structure du champ religieux. Revue Française de Sociologie, (3), 295-334.
Casanova, J. (1994). Public Religions in the Modern World. Chicago:UCP.
Hashas, M., Vinding, N.-V. & de Ruiter J.-J. (Eds.), (2018). The Imamate in Western Europe. Developments. Amsterdam: AUP.
Dassetto, F. (2011). L’Iris et le Croissant. Louvain-la-Neuve: PUL.
Dassetto, F. (2003). Autorité: Représentation et leaders dans l’islam européen. Conférence, Les autoritats religioses islàmiques a Europa, Barcellona: 28 Janvier.
Frégosi, F. (2004). L’imam, le conférencier et le jurisconsulte. Archives de Sciences Sociales des Religions, (125), 131-146.
Di Mauro, N. (2020). L’islam e i marocchini in Italia. Un campo da contendere. Roma: Istituto per l’Oriente.
Goffman, E. (1974). Frame Analysis. New York: Harper and Row.
Pace, E., Rhazzali M.-K. (2018). Muslim Communities in a Catholic Country: the case of Italy. In A.W. Ata, J.-A., Ali, Islam in the West. Oxford: OUP, 237-255.
Patrick, H. (2005). L’islam de marché. Paris : Seuil.
Rhazzali, M.-K. (2020). The importance of religious training and support for imams and religious guides in preventing violent radicalization. In Bringing Radicalized Individuals to Disengageg, Gnosis-Italian Journal Intelligence, (1), 100-1009.
Rhazzali, M.-K. (2018). In and around the mosque: profile and territory of the Italian Imam. In M. Hashas et al., op. cit., 379-399.
Rhazzali, M.-K. (2015a). Comunicazione interculturale e sfera pubblica: Diversità e mediazione nelle istituzioni. Roma: Carocci.
Rhazzali, M.-K. (2015b). Religious Care in the Reinvented European Imamate. In I. Becci& O. Roy, Religious Diversity in European Prisons New York: Springer, p. 117-138.
Rhazzali, M.-K. (2015c). Halal « made in Italy » in F. Bergeaud-Blackler (dir.), Les sens du Halal, Paris: Éditions CNRS alpha, p. 207-225.
Rhazzali, M.-K. (2014). The End of Life from an Intercultural Perspective. In Italian Journal of Sociology of Education, 6(2), 224-255.
Roy, O. (2008). La sainte ignorance. Paris: Seuil.
Saint-Blancat, C. (2008). Imam e responsabili musulmani in relazione con la società locale. In A. Pacini, Chiesa e Islam in Italia. Milano: Edizioni Paoline, 57-82.
عبدالهادي أعراب، (2013). "فقهاء الشرط" وتحولات الحقل الديني القروي بالمغرب"، مجلّة إضافات، (20-21)، 94111-.
عبد الحكيم أبو اللوز،(2012). الدولة والمساجد وقيموها بالمغرب، عمران، (2)،1-14.
الهوامش :
[1] إذا كان موضوع الإمامة والفعل الديني الإسلامي في المجتمعات ذات الأغلبية الإسلامية لم يثر انتباه باحثي العلوم الاجتماعية (الأبحاث الميدانية تقريبا نادرة ومحدودة عبد الحكيم أبو اللوز 2012، عبد الهادي أعراب 2013) فالأمر يختلف في أوروبا حيث برزت منذ التسعينيات دراسات وأبحاث حول هذه المواضيع (Hashas et al. 2018). وتعد على رؤوس الأصابيع الدراسات التي تناولت هذا الموضوع بالنسبة لسياق إيطاليا، فنجد دراسة لشانتال سان بلانكا (Saint-Blancat 2008) الذي حاولت تسليط الضوء على تعدّد الاستراتيجيات التي يمارسها الأئمة بمعية ممثّلي المجتمع المدني خصوصا مسيرّي الجمعيات الثقافية التي تركّز في أنشطتها على توفير مجال لممارسة شعائر العبادة الإسلامية، وهناك دراسات لنا تناولت موضوع الإمامة داخل أماكن العبادة (Rhazzali 2018) خارج سياقها ، تمّ التركيز فيها على المساعدة الدينية في المستشفيات وفي السجون .(Rhazzali, 2014, 2015b)
[2] نشير هنا إلى ثلاثة مشاريع بحث: المشروع الأول دراسة حول "تكوين الأئمة والمرشدين" في إطار مشروع دولي Rimed-miur (2019-2021) حيث أجريت لقاءات من نوع إثنوغرافي مع 160 إمام ومسؤول ومسؤولة دينية. والمشروع الثاني، دراسة بعنوان "القيادة الاجتماعية والدينية للإمام في إيطاليا: منظور أوروبي". وأما المشروع الثالث، فقد أجري بين عامي 2011 و2013 في سياق Prin-miur وهو برنامج المصلحة الوطنية التابع لوزارة التعليم والجامعة بعنوان "التعدّدية الدينية في إيطاليا: رسم الخرائط وتفسير الكيانات الاجتماعية والدينية المختلفة في المجتمع الإيطالي".
[3] عندما نستعمل عبارة "مؤسسة دينية" لا نعني بذلك جمعية أو منظمة المجتمع المدني تزاول مهام دينية، كما سنرى فيما بعد، إذ لم تعترف الدولة بأية مجموعة دينية كممثلة لحقوق المسلمين بما يمكنهم من تشكيل مؤسسة دينية رسمية.
[4] "مخطط القيم" سنة 2007 و"الميثاق الوطني لإسلام إيطاليا" سنة 2017.
[5] للاطلاع على اهم الابحاث في هذا الموضوع أنظر Di Mauro 2021.
[6] صرح "اتحاد الجمعيات والمنظمات الإسلامية في إيطاليا" للمؤسسات سنة 2020 لتغطية رسمية لتنسيقية لـ 140 جمعية محلية (في بعض الأحيان تسير الجمعيات أثر من مكان للعبادة) وصرحت الكونفيديرالية الإسلامية الإيطالية بــ ـ302.
[7] تأخذ في غالب الأحيان اسم مراكز إسلامية.
[8] نقلا عن سان بلانكا (2008).
[9] يمكن أن نربط ذلك بتحليل آخر يتعلّق بأزمة ثقافة اليسار في تقاليدنا والتي تميل إلى إدماج المنحدرين من أصول أجنبية.
[10] لا تسعنا المساحة هنا لتحليل نصوص طلبات الجمعيات المسلمة وكما هو معروف يعتبر الزواج هو أحد الأسرار السبعة المقدسة في الكنيسة الكاثوليكية والأرثوذكسية.
[11] وتعدّ الأسرة حسب الكتاب المقدس الوحدة المركزيّة للمجتمع المسيحي.
[12] Intesa.
[13] https://primed-miur.it