أزمات الثنائي الزوجي من خلال مؤشّرات الطلاق في المجتمع التونسي ما بين 2000 و2021


إنسانيات عدد 102، أكتوبر–ديسمبر 2023، ص .11-40

المنصف المحواشي: جامعة صفاقس، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، قسم علم الاجتماع. تونس.


انطلقت حركة التحديث الاجتماعي في تونس منذ الاستقلال، وقد مسّت آثارهجميع مستويات المجتمع المادية والهيكليّة والثقافيّة والرمزيّة. ومع ذلك، فقد صاحبت عمليات التحديث عدة أشكال من التغيير والتعديل وأخرى من الكسر والاجتثاث، ممّا أدى إلى ظهور تبعات على العائلة التونسيّة .إن التغيّرات الاجتماعيّة لم تتمّ دون احتدام الصراع بين القديم والجديد، وأسفرت في النهاية إلى نتائج غير مَنتظَرَة أو غير مُقَدّرَةِ العواقبِ من قبل الحكومات المتتالية. ففي شأن الأسرة مثلا، بادرت النخبة التونسيّة التي استقرّت في السلطة منذ الاستقلال إلى إصلاح تشريعاتها، وخاصّة تشريعات الأحوال الشخصيّة، وصدرت مجلّة الأحوال الشخصيّة1 (Ammari, 2007, p. 24-32 ) في أوّل جانفي 1957 بمضامين نوعيّة، وكانت غاية ذلك آنذاك تعميم الأسرة الحديثة وإرساء علاقات جديدة قوامها احترام الحق الشخصي والتكافؤ بين الزوجين في الحقوق والواجبات والانتقال بالعلاقة بينهما إلى وضع "التعاون والشراكة" (المحواشي، 2008، ص. 217) بيْد أن عمليات التحديث تلك، كانت -لعُمْقِها وتَسارُعِها وفُجْئيّـــتـها- عسيرة وكأداءَ على العائلة التونسيّة (المحواشي، 2000، ص. 8)، فقد تصاحبت ولادة الأسرة النوويّة الناشئة من رحمها بتمزّفات وصعوبات في التكيّف مع متطلّبات التغيّر الاجتماعي، هذه التغيرات التي أثّرت في الروابط العائليّة خاصّة الرباط الزوجي، ونوعيّة الفرد الجديد، والعلاقات بين الأجيال ومنظومات القيم. وجميع هذه التغيرات، وما صاحبها من اختلال وسوء اندماج، عكستها المؤشرات الإحصائيّة للطلاق حجما وتواترا وانتشارا.

إشكالية الدراسة

من هنا تتضح ملامح الإشكال الذي نشتغل عليه، في مقاربة أزمة الرباط الزوجي والطلاق في ظلّ تحوّلات المجتمع التونسيّ وأزماته2، فالفهم الشامل "لمشروع "التحديث الاجتماعي، بمضامينه الاقتصادية والاجتماعية والتشريعية وكيفيات تنفيذه، سيسهم في فهم ظاهرة الطلاق وتطوراتها بشكل أوسع وأعمق.

ولهذا ركّزنا اهتمامنا في هذا العمل أساسا على معاينة تطوّرات الظاهرة حجما وانتشارا في المجال (الحضري، الريفي، وشبه الحضري)، وكيفيات تشكّل الثنائي الزوجي خلال عشريتيْ 2000 و2021 وفي الحقيقة نحن نستأنف عملا أنجزناه سابقا (المحواشي، 2007) اكتفينا فيه بدراسة الظاهرة خلال العشريّات الأربع الأولى بعد الاستقلال وصولا إلى سنة 2005 أمّا الجديد في هذا العمل، فيكمن في أنّنا نتابع اعتمادا على مادّة إحصائيّة مُحيّنة- الاشتغال على المتغيّرات النوعيّة الجديدة، آخذين بعين الاعتبار محمولات التحديث الاقتصادي والثقافي والتشريعي وأثرها في تشكيل الذهنيات، وفي نوع الروابط التي تشكّلت بين الثنائي الزوجي، وأثر انفتاح الفضاء الرقمي على منظومة القيم. وقد أخذنا بعين الاعتبار في ذلك الوزن الذي أخذته بعض المتغيّرات وأثرِها في الرابط الزوجي، وخاصّة عامل الحضريّة (l’urbanité) وتراجع دور العائلة الممتدّة، واتساع مشاركة النساء في الحياة العامّة، تنامي الوعي الحقوقي. وقد راعينا في التحليل أمريْن اثنيْن: أوّلهما تطوّر حجم ظاهرة الطلاق وكيفية انتشارها في المجال (أي الولايات الأربع والعشرين في الجمهوريّة التونسيّة) باعتبار أنّ التنمية كانت متفاوتة النتائج بين الجهات، وخاصّة بين جهات الساحل والشمال من جهة، وجهات الداخل والجنوب التونسي من جهة ثانية، وهو ما انعكس على الحركيّة الاجتماعيّة والجغرافيّة للساكنة. كما تابعنا التباينات الحاصلة في حجم الظاهرة وانتشارها عندما تختلف متغيرات كنوع الطلاق المطلوب، وجنس طالبه، ومجال السكن، والتقاطع بين جنس الطالب ونوع الطلاق المطلوب.

فرضيات الدراسة

في تحليل المعطيات بنيْنا العمل على ثلاث فرضيّات متكاملة (اثنتان صَريحَتَان والثالثة كامنة). أولاها، أنّ التغيّرات الاجتماعيّة الحاصلة في المجتمع التونسي منذ الاستقلال قد أربكت المنظومة التقليديّة وغيّرت روابط الفرد بالجماعة، وخضعت منظومة القيم إلى تعديلات متتالية وانتقلت بموجب ذلك من حال التجانس (homogénéité) والجماعويّة الصّلبة، إلى التنوّع (hétérogénéité) والرخاوة. وهو ممّا أضعف المشترك القيمي وأوجد في تجارب الثنائي الزوجي صعوبات في التكيّف والتأقلم.

وأمّا ثاني الفرضيات، فإنّ هذه التغيّرات، بما صاحبها من حركية (mobilité) مجتمعية، وما أتاحته للنساء من قدرات أكبر على الوصول إلى المواقع والأدوار المتقدّمة في مجالات العمل والتعليم والإدارة والمجال العام، وتنامي الوعي الفكري والحقوقي لدى الأجيال الجديدة، جميعها أعادت ترتيب العلاقة بين المرأة والرجل وأخضعت امتيازات الرجال إلى تعديلات متواصلة، وغيّرت واقع التفاوض بين الثنائي الزوجي، ممّا أدى إلى خلق عناصر توتّر وهشاشة في التكيّف، وقد انعكست هذه العناصر إلى ارتفاع حالة النزاعيّة (conflictualité) الزوجيّة، ما أبرزته الدراسات السوسيولوجية في تحليل التقاطعات الحاصلة بين المتغيّرات المذكورة.

بيد أنّنا، ونحن نشتغل على الفرضيتيْن، نختبر فرضيّة ضمنيّة ثالثة، تتصل بــمدى "صِدْقيّة" ما تروّج له وسائل الإعلام من أحكام مبالغ فيها حول وضع الأسرة والثنائي، تشير هذه الفرضية إلى أنّ "السلوك الطلاقي" قد اُستُسْهِل وفقد جدّيته لدى الأجيال الجديدة، وأنّ مؤشرات الطلاق تنمّ عن "كارثة" تهدّد كيان الأسرة والمجتمع. ومهما تكن هذه الأحكام الأوّلية، فالثابت أن الرباط الزوجي بين الثنائي قد تهرّأ وأصابته الهشاشة تحت وطأة التغيّر وصعوبات التكيّف.

تطوّر ظاهرة الطلاق في ضوء تحوّلات المجتمع

تضعنا قراءة مؤشّرات الطلاق وتطوّرها خلال العقود الستة المنقضية (من1960 إلى 2021) أمام ضربين من التغيّر، الضرب الأول (انظر البيان الإحصائي رقم1 ) يتمثل في تغيّرات بنيويّة(structurelles) العميقة التي أثرت على الظروف المادية للحياة وأنماط العيش والعقليات والعلاقات والقيم، ولأنّها تمسّ الجذور فإنّ تأثيرها استمرّ عبر الزمن والمجال. ويُشار إليها في البيان بخطّ "متوسّط الاتجاه" (courbe de tendance). أما الضرب الثاني فيتمثّل في تغيّرات ظرفيّة (conjoncturelles) ناتجة عن مؤثّرات آنية ووقتيّة، يدلّ عليها من خلال مؤشّر الطلاق بالنزول عن "المتوسّط" أو بالصعود عنه، على سبيل المثال ما عبّرت عنه تغيرات سنوات 1969 انخفاضا أو سنة 1989 ارتفاعا ثمّ انخفاضا ، أو سنة 2019 ارتفاعا، وهو ما يدل على أن مؤشّرات الطلاق قد شهدت خلال العشريات الستّ تغيّرا متناميا، لكنّه نسبيّ وغير ثابت في الغالب حيث عرفت معدلاته أيضا طفرات من الارتفاع والانخفاض .في هذا السياق، يجب التذكير بإيجاز بالتحوّلات الظاهرة خلال العشريات الأربع الأولى، لنفهم جديد التغيّر في عشريتيْن 2000/2021 سواء بالارتفاع أو بالانخفاض، مع التركيز بشكل أساسي على تحوّلات وضع الثنائي الزوجي وتباين ميولهما نحو الطلاق. لنتبينْ الأمر من خلال الجدول التأليفي اللاحق:

البيان رقم 1: تطوّر معدل الطلاقية في تونس من 1960 إلى 2021

 

 

مصدر: المادة الإحصائية الخام: وزارة العدل (التفقّديّة العامّة)، تونس 2020.

يشير الجدول إلى ثلاث ظواهر:

  1. عشريّة الستينات، حيث وصل مؤشّر الطلاقيّة وخاصّة في أواخرها (سنة (1969 إلى أدنى نسبة بين الاستقلال وسنة2021 ، أي ما معدله 98 طلاقا على 1000 زيجة (ما يقارب طلاقا واحدا على 10 زيجات).
  2. عشريتا السبعينات والثمانينات: تبنّت تونس في بداية السبعينات منوالا اقتصاديّا ليبراليّا3 تجسّد هذا العمل في مجموعة من القوانين الحرّة أهمها قانون أفريل 1972 وجملة من القرارات الاقتصادية التحرّرية كما صاحبها أيضا حدوث حركية اقتصادية وحراك جغرافي واجتماعي كبير واتساع للطبقة الوسطى. وقد غلب على مؤشّر الطلاقيّة اتجاه عام شبه مستقر نحو الارتفاع حتى نهاية التسعينات التسعينات وبداية القرن الحادي والعشرين، ووصل في آخر الثمانينات (1989) هذا الارتفاع إلى ذروته حتى سنة2021 ، فقد وصل مؤشّر الطلاق إلى 238 مطلقا على 1000 زيجة سنة 1989 أي أن ما يقارب ربع المتزوجين طلقوا. وعموما نستحضر من عشريتيْ السبعينات والثمانينات ثلاث ظواهر أساسيّة:

- أولا، ظاهرة الطلاق أصبحت منذ الثمانينات ذات طابع أفقي وتمسّ مختلف الفئات الاجتماعية والطبقية.

-ثانيا، منذ أواخر الثمانينات وفي البيئات الحضريّة خصوصا، حدث ارتفاع شديد لمعدلات الطلاق، حيث أصبحت الظاهرة أكثر انتشارا وامتهانا، تراجعت صورتها الاجتماعيّة الواصمة التي كانت تكبحها، وهو ما يشير إلى تحوّل قيمي نوعي عميق.

-ثالثا، مثّلت الثمانينات أوج فترة للتحوّلات البنيويّة في المجتمع التونسي ومن بين هذه التحولات تقلّص العائلة الممتدة (الحاضنة والساندة للأبناء الذين تزوّجوا) لتحلّ محلّها أسر نوويّة، لقد كانت هذه التحولات رد فعل على الصعوبات التي واجهها الثنائي في التكيّف مع الوضع الجديد، وأصبح الثنائي مثقليْن بأعباء "استقلالهما" وملء الفراغات التي تركها تراجع دور العائلة الممتدّة.

  1. عشريّة التسعينات، كان للتعديلات التشريعيّة4 التي تمّت في مجال الأحوال الشخصيّة أثر في كبح الميول إلى الطلاق، وهو ما دعّم من وضع الشراكة بين الزوجين وطوّر وضع التفاوض بينهما وحدّ من حالة "النّزيف الطلاقي".

وبنظرة بانوراميّة عامّة إلـــى "المشهد" الأسري بعد أربع عشريّات من الاستقلال، تتّضح ملامح الأسرة النوويّة المستقّلة عن العائلة الممتدّة بكل خصائصها. كما أصبحنا بإزاء جيل جديد نشأ في ظروف أيسر من ظروف الجيل السابق، وهو جيل متمدرس ومستأنس بأفكار المساواة بين الجنسين، ومستفيد من تجارب الاختلاط بين الذكور والإناث في المدرسة والشارع ومجالات العمل، الأمر الذي يجعل هذا الجيل -وخاصّة الشابات- أكثر توثّبا للمطالبة بالحقوق والمساواة.

الرباط الزوجي والهويّات الجديدة

إذن، مع التحوّلات الاجتماعيّة الحاصلة تقلّصت الجماعات الوسيطة التي كانت تحضن الأفراد، وضعف دور القرابة الأهليّة وتراجعت العائلة الممتدّة بقيمها الجماعيّة ونظامها السلطوي الهرمي لتفسح المجال لأسرة يغلب عليها الطابع النوويّ ويُـنشئها الثنائي الزوجي بـ "إرادتهما". ثمّ إن الحراك الجغرافي الكثيف الذي سيصاحب الحركيّة الاقتصادية والحضريّة يدفع الأفراد إلى التنقّل في المجال بعيدا عن بيئة النشأة الأولى سواء للدراسة أو العمل أو السكن وتأسيس أسرة، كما سيُساهم في تنويع بيئات التنشئة وتجاربها. وفي ظلّ هذا الحراك تتنوّع أنماط العيش وبيئات التنشئة وتتغاير معها الهويّات الفرعيّة(Ben Salem. 2009, p. 335) ، وهو ما سيجعل المشترك القيمي والثقافي بين الأفراد وخاصّة بين الثنائي شديد الهشاشة. والتغيّر الذي يستدعي الانتباه هنا، هو أن هويّات الأفراد في البيئة التقليدية بقدر ما كانت تقوم على التشابه وغلبة "الجماعي" في استراتيجيات الأفراد، أصبحت -بفعل التغيّرات- متعدّدة وتتشكّل في مفترق انتماءات متعدّدة وضمن دوائر تنشيئيّة غير متجانسة. كما ينضاف إلى هذا الوضع، ما سيصاحب "العبور" إلى النظام الأسريّ الجديد من تعديلات وتوافقات، حيث سيتم تحويل المؤسّسة العائليّة من وضوح في المراكز والأدوار، إلى مؤسّسة يُدعى فيها القرينان إلى تفاوض مفتوح لوضع نظام جديد للأدوار وإدارة الأسرة، وهو ما سيستدعي إلى ما يمكن تسميته بمرحلة "التربّص الزواجي" وأشكالا من التكيّف قد تنتهي أو لا تنتهي "بسلام" إلى توافقات.

اختيار القرين (ة) أو "الطيور على أشكالها تقع"

إن احتمال أن يرتبط الشاب/الشابّة بقرين(ة) من المحيط الأهلي والمحلّي الأصليّ سيتقلّص وسيتجه الأفراد أكثر إلى الاقتران بالشبيه (ة) في المهنة والجيل والمألوف(ة). وهو ما سيجعل الزواج يتمّ بالنسبة إلى هذه الفئات ضمن نفس الشريحة الطبقيّة والماديّة أوّلا، وعلى أساس من الاختيار الشخصي ثانيا. فالأهمّية هنا محكومة بتقاربين: الموقع الاجتماعي والمادي أوّلا، إذِ الطيور على أشكالها تقع عادة، والتوافق الشخصي والعاطفي ثانيا. ومع ذلك ستمنح الأهمية أيضا، لعامل محدّد مضمّن في الفرديّة المتوثّبة، هو الانتظارات الشخصيّة المتبادلة بين القرينيْن: حبّ ورعاية واعتراف متبادل، وهو ما سيكون لغيابه أو ضعفه بعد الزواج سببا من أسباب التوتّر والطلاق.

سنركز في ما سيأتي على تعليل التباين بين الرجال والنساء من الأجيال الجديدة في طلب الطلاق، ودلالة التقاطع بين نوع الطلاق وجنس الطالب، وأثر عامل الحضريّة في هذه التباينات، ودلالة التقاء هذا العامل الأخير بنوع الطلاق الغالب وبجنس طالبه. وسيكون علينا قبل معالجة هذه القضايا التعرّف إلى أصناف الطلاق الثلاثة "للضرر" و"بالاتفاق" و"إنشاء" وتوضيح التبعات التي تُحمل على كل من الثنائي في حال انفصالهما، حيث تدخل مسارات التقاضى والتبعات المحمولة في اعتبارات الزوجين و"حساباتهما" خلال التفاوض المباشر أو عن طريق القضاء.

أصناف الطلاق وتبعاتها

ينصّ الفصل الحادي والثلاثون من المجلّة على ما يلي: "يُحكم بالطلاق بتراضي الزوجين، وبناء على طلب أحد الزوجين بسبب ما حصل له من ضرر، وبناءً على رغبة الزوج إنشاء الطلاق أو مطالبة الزوجة به. ويقضى لمن تضرّر من الزوجين بتعويض الضرر المادّي والمعنوي الناجم عن الطلاق. وتتمثّل آثار الطلاق على الصعيد المادي بغرم "الضرر"5 (للمتضرّر /ة) وبنفقة الزوج على الزوجة والأبناء وضمان السكن لهم.

أما بالنسبة إلى الطلاق "بالاتّفاقّ"، فإن الطلبَ يرفعه أحرص الزوجين على الانفصال. وقد يتوافق الزوجان خارج المحكمة على تنازلات متبادلة، وبعد إقامة الصلح بينهما (ثلاث مرّات متتالية إذا كان لهما أبناء) يُسجّل مضمون الاتفاق وبنوده، ثمّ تقضي المحكمة بالطلاق "بالتراضي" بين الزوجين.

أمّا بالنسبة إلى الطلاق "إنشاء"، فيقوم على طلب أحد الزوجين الانفصال دون ضرورة أن يُفصح عن السبب، ولا أن يُطالب بتبرير قراره. وللطرف المطلوب الحقّ في طلب الغرامات الناتجة عن الضرر المادي والمعنويّ الذي سيطاله بفعل الطلاق، وعلى الطالب تحمل تبعات ذلك (الغرامة والنفقة على الزو جة والأبناء، وتوفير السكن، إذا كان المُطلِّق زوجا، ودفع الغرامة وخسارة بعض الحقوق إذا كانت الزوجة هي الطالبة)، وفي كل الأحوال تُجرى المحكمة الصلح بين الزوجين ثلاث مرّات متباعدة، وإذا لم تُثن الزوجين تحكم لطالب الطلاق والحريص منها بالطلاق "إنشاء".

وأمّا الطلاق للضرر، فيطلبه أحد الزوجيْن لما حصل له من مضرّة. ويحقّ له طلب الغرامات لجبر الضرر الماديّ والمعنوي الحاصل له. وفي هذه الحال يجب إثبات الأدلّة لوقوع الضرر. ثمّ تُجري المحكمة الصلح بين الزوجين. وإذا استمرّ الإصرار على الانفصال وثبت حصول الأضرار حكمت المحكمة بالطلاق "للضرر" ليتحمّل المُضرّ التبعات الناتجة. وبالنسبة إلى هذا الصنف من الطلاق، يصعب عادة إثبات الضرر خاصّة إذا كان معنويّا، وذلك أوّلا، لأنّ الأفعال المضرّة عادة ما تحصل دون حصول شهود، وثانيا لانّ الشهود إن وجدوا عادة ما يرفضون الإدلاء بشهاداتهم والتدخل في حياة الزوجيْن.

وفي كلّ الأحوال فإنّ المشرّع قد وازن بين ضرورتيْن: الحفاظ على الحق الشخصي في الانفصال لكلي الزوجيْن، وفي الآن نفسه حافظ على وحدة الثنائي واستمرار الأسرة وحقوق الأبناء، ولذلك عزّز المشرع كوابح الطلاق بتخصيص فرص للصلح وإمكانية التراجع. ومهما يكن فإنّ الانتهاء إلى الطلاق ليس إجراء يسيرا، إلا أنه يبقى قائما ما حرص عليه طالبه من الزوجين..

تطوّر أنواع الطلاق من 1960 إلى 2021 ودلالاته

تختلف أسباب طلب الطلاق والإجراءات القانونيّة المترتبة عن كل صنف منها، كما تختلف مبرّرات "اختيار" الطالب لها. في ما سيأتي نقف عند تطوّر كل صنف منها على طول العشريات الستّ بعد الاستقلال من خلال ما يبيّنه الجدول رقم واحد.

الجدول:1 تطوّر أنواع الطلاق خلال الفترة 2021/1960

مصدر: المادّة الاحصائية الخام: وزارة العدل (الإدارة العامّة) تونس 2021.

يشير الجدول إلى جملة من الظواهر الدالّة. أولها أن أنواع الطلاق الثلاثة ("بالاتفاق" و"للضرر" و"إنشاء") شهدت تطوّرات متفاوتة خاصّة بالنسبة إلى النوعين الأوّل والثالث، مع استقرار نسبي للطلاق "للضرر". ففي الستينات وإلى حدود منتصف السبعينات كان الطلاق "بالاتفاق" الأكثر انتشارا مقارنة بالنوعين الآخريْن حيث تراوحت نسبته بين %56.2 من المجموع الكلّي سنة 1960 و%45.2 سنة 1975، ثمّ %33 سنة 2005 و%36 سنة 2008 و41 % سنة 2021 وفي المقابل عرفت نسب الطلاق "إنشاء" ارتفاعا متواصلا وخصوصا منذ النصف الثاني للسبعينات، حيث لم تتجاوز النسبة في الستينات (على عكس الطلاق "بالاتفاق") الخُمس، ثم تراوحت بين بين%20.2 سنة 1960 و6.30 % سنة 1966 ثم 5.46 % سنة 1975 لتصبح غالبة منذ عشريّة التسعينات وفي العشريتين الأولى والثانية اللاحقتيْن. امّا بالنسبة إلى نسب الطلاق "للضرر" فقد حافظت على تدنّيها النسبي وبقيت تراوح بين %5.4 سنة 1972 و%19.3 كأعلى نسبة لها سنة 1996، لكن دون ان تصل أو تتجاوز خُمُس المجموع العامّ حتى سنة 2020 وهذه المؤشّرات يُؤكّدها أيضا البيان رقم 2 المُرفق.

البيان 2: تطوّر أصناف الطلاق الثلاثة بحسب جنس الطالب

مصدر: المادة الخام: وزارة العدل (التفقديّة العامّة) تونس .2021

تتأكّد نفس هذه الظواهر عند التقاء صنف الطلاق المطلوب بجنس طالبه، إذ تتبيّن غلبة ميل الزوجين إلى طلب الطلاق "إنشاء" ثمّ "بالتوافق" (مع تفاوت لصالح الرجال) وخاصّة منذ أواخر السبعينات. فما دلالة هذه التطوّرات؟ قبل تأويل المعطيات، نبيّن أوّلا المترتبات الناتجة عن كلّ صنف من أصناف الطلاق.

بالنسبة إلى الطلاق "بالاتفاق"، يمكن للزوجين بعد صدور الحكم بـــأن يحافظا على حبل التواصل بينهما لمعالجة المتعلقات المتصلة يوضع الأبناء والاقامة وغير هما، أو مراعاة لــ "عِشرة" الزواج وأسرارها. كما يمكن أن تكون أسباب الطلاق للضرر الذي لم يقدر مدّعيه على إثباته بالحجّة هي سبب الالتجاء إلى الطلاق"بالاتفاق".

بالنسبة إلى الطلاق "إنشاء" فهو عادة ما ينبع من خيار فرديّ يطلبه أحد الزوجين دون تبرير طلبه، ويستوجب طلبه اقتدارا على تحمّل التبعات المادية الثقيلة. ويكون طلب النساء لطلاق "إنشاء" مؤذيا للأزواج لما فيه من إذاية معنويّة وخدش لـــ "الرجولة". وقد تكون أسباب طلب هذا النوع من الطلاق في الأصل من صنف أسباب الطلاق للضّرر، لكن صعوبة إثبات الأضرار المعنويّة يجرّ إلى طلب الطلاق "إنشاء".

بالنسبة إلى الطلاق "للضرر": يتم الحكم به بعد ثبوت وقوع أضرار (مادية ومعنويّة) على الطالب، وبعد إصرار المتضرّر من الزوجين على الانفصال. ويصعب إثبات وقوع الضرر (وخاصّة المعنوي) إلا ببيّنة قويّة، وإلّا يحوّل طلب الطلاق إلى أحد النوعيْن الآخريْن ويتحمّل القرين المطلوب تبعات الطلاق للضرر كاملة (دفع الغرامة للطالب، والنفقة على الزوجة والأبناء).

"التوافق" المفروض

في قراءة البيانات المتعلقة بتطوّر نسب الطلاق "بالاتفاق" والطلاق "إنشاء"، نتبيّن أن استراتيجيات الثنائي ووضعيات التفاوض بينهما قد تغيّرت، فالطلاق خلال العشريتيْن الأولييْن كان أقرب إلى الوفاقيّة منه إلى النزاعيّة، بحيث كان القرينان إذا انتهيا إلى قرار الانفصال يرتبان توافقا ثنائيّا ثمّ يبادر الأحرص منها إلى تقديم طلب الطلاق "بالاتفاق" إلى المحكمة. وفي بيئة أهليّة وعائليّة محافظة عادة ما يتمّ الأمر في "ودّية" وبضجة أقلّ.

وثمّة عامل أخر يفسّر أسباب الميل إلى الطلاق "بالتوافق"، هو ظهور خلافات تتصل بحياتهم الحميمة العاطفيّة أو الجنسيّة أو بالإنجاب ما يؤدي بهما إلى قرار الانفصال، فإنّ المُطالب من الزوجين عادة ما يُذعِن لحقّ الطرف الثاني.

وفي الحقيقة سيعرف مؤشّر الطلاق "بالاتفاق" تراجعا متواصلا منذ أواخر السبعينات، في حين يشهد ارتفاعا في نسبة الطلاق "إنشاء". إلا أنّ الطلاق "التوافقيّ" سيبقى حاضرا بحجم مهمّ خلال العشريتيْن الأوليين، تتراوح نسبته بين %42 سنة 1978 و%42.8 سنة 1990 و%33 سنة 2005 و%39.8 سنة 2014 ليعود إلى
%41.3 سنة 2021 وهو ما يعني أنّ طابع "التوافقيّة" في السلوك الزواجي، تراجع أمام تنامي الطلاق "إنشاء" (ذي النزعة الفردانيّة) وهو ما يدلّ على أن الطلاق أصبح أكثر نزاعيّة.

في الحقيقة، وإنْ حافظت نسبة الطلاق "بالاتفاق" على حجمها المهمّ ضمن المجموع الكلّي للطلاق في ولايات الشمال، فإنّ حجمها سيعرف في نفس المدّة تراجعا نسبيّا وخاصّة في ولايات الجنوب "المحافظة" ويعود ذلك إمّا إلى تنامي النزعات الفرديّة حيث أصبح الأزواج يحسبون النتائج بما سيكسبون لأنفسهم، بحيث يكون الانفصال بالاتفاق وتقاسم النتائج أخفّ الأضرار، أو أن تكون الأسباب الحقيقيّة من صنف طلاق "الضرر " المعنوي. ومهما يكن فإنّ طرق التفاوض بين الأزواج والزوجات (حيث كان الرجال يستفيدون منها أكثر من النساء) المؤدية إلى الطلاق التوافقي في البيئات المحافظة قد تغيّرت بعد تنامى الحسّ الحقوقي لدى الأزواج.

الجدول2: تطوّر نسب الطلاق "بالاتفاق" في الولايات. (أمثلة) من 2000 إلى 2021

ولايات من الجنوب التونسي: %

ولايات من الشمال التونسي: %

الولايات

السنوات

تطاوين

مدنين

صفاقس

سوسة

بنزرت

تونس

56

33

50

40

35

33

2000

30

40

54

42

38

34

2005

32

50

46

39

37

44

2010

40

44

47

39

42

48

2015

37

41

52

44

37

39

2021

مصدر: المادة الإحصائية الخام: وزارة العدل (التفقدية العامّة). تونس 2021.

الطلاق "إنشاء" والفردانيّة المتنامية

يبين الواقع الذي وضعته النسب أنّ الطلاق "إنشاء" عرف تزايدا مطردا منذ النصف الثاني من السبعينات وعلى عكس ما بينته نسب الطلاق "بالاتفاق"، حيث وصلت إلى%46.5 من مجموع المطلقين سنة 1975 ثمّ إلى%47.2 سنة  1990و %48.6 سنة 2015 لتطأ حدّ 51.2% سنة 2014 متجاوزة نصف مجموع طلبات الطلاق، وارتفاع هذه النسبة يدلّ على انّ الطلاق أصبح نزاعيّا أكثر فأكثر. وهو ما يمثّل تحوّلا نوعياّ في كيفيّة إنهاء العلاقة. ففي الستينات والسبعينات كان يُرجّحُ ان يجنح الزوجان إلى التوافق حول كيفيّة إنهاء العلاقة وتحمّل التبعات، لكن، منذ أواخر السبعينات وبداية الثمانينات بدأ الاتجاه يغلب لدى الأزواج بقطع العلاقة بــ "دافع شخصيّ" عبر الطلاق "إنشاء".

ينمّ اختيار الانفصال بهذا الحسم عن جملة من الأسباب المباشرة، أوّلها وجود سببٍ منفّر تجاه القرين(ة) عاطفي، أوْ سلوكي أو مادّي (الإنفاق والإعالة بالخصوص) حيث لم يعد الاستمرار في الارتباط يحقق السعادة أو الرضا، أو بسببٍ وجود جاذب خارجيّ بديل يدفعه إلى الطلاق والتضحية الأسرية القائمة، او للسببيْن معا، لكن، لماذا تتجاوز نِسبةُ طلبِ الطلاق "إنشاءً" نسبةَ طلبه بالتوافق هذه المرّة؟ في هذه الحالة عادة ما يكون طالب(ة) الطلاق قد حسم أمره ولا يحتاج إلى أي تصالح وخاصّة إذا كان مبرّر طلبه شخصيّا ويرفض التصريح به) كوجود عيب في القرين (ة)، أو لخيبة غراميّة، أو كثرة إذايات القرين(ة) بشكل لا يُحتمل، على سبيل المثال(. وبالتالي يكون الطلاق "إنشاء" الأقلّ تعقيدا رغم ارتفاع كلفته.

يعود ارتفاع نسب الطلاق "إنشاء" في العشريات الأخيرة وخاصّة في العشريتيْن الأخيرتيْن إلى سببيْن: أوّلهما أن نسبة من هذا النوع الأخير، تعود في الأصل إلى سبب "الضرر"، ولكن نظرا لصعوبة إثباته قانونيا وطول إجراءات التقاضي فيه، يدفع طالبه/طالبته إلى تحويل الطلب إمّا إلى الطلاق" بالتراضي" أو إلى الطلاق "إنشاء". أمّا السبب الثاني فيعود إلى زيادة الفرديّة التي أصبحت أكثر قدرة على التضحية بالعلاقة الثنائية لصالح الاهتمامات الفردية والشخصية. وفي الواقع يعود ارتفاع معدلات الطلاق "إنشاء" إلى عوامل تراكمت عبر السنين ثمّ عرفت طفرات نوعيّة وتسارعا أكثر في البيئات الحضريّة. فمنذ سنة 1975 بدأت نسب نوعيْ الطلاق: "بالتراضي" و"إنشاء" تتغيّران ليأخذ النوع الثاني القسط الاكبر من حجم المطلقين الكلّي، على عكس الطلاق التوافقيّ الذي تراجعت نسبه واستقرّت في حدود الـ 40%. ولفهم هذا "لانقلاب" العكسي، يجدر الوقوف عند التغيرات النوعيّة التي ساهمت في التقليص من أشكال التضامن "الجماعوي" لصالح النزوعات الفرديّة التي عكسها حجم طلب الطلاق "إنشاء" ومهما يكن من أمر ، فان طلب هذا النوع من الطلاق ناتج عن دوافع "ذاتية" تهمّ الثنائيّ نفسيْهما، أهمّها: "موت" المشروع الزوجي بين الثنائي (ونفاذ ذخيرة الحب) وتراكم الخلافات الحادّة بحيث يُصبح الانفصال حلاّ لأزمة مع إمكان وجود بديل لمشروع عاطفي جديد.

ويمكن القول، انّ حدود التضامن التقليدي تراجعت لتفسح المجال لظهور نوع من الفردانيّة "المتوثّبة"، ممّا سمح للثنائيات الزوجيّة بتشكيل علاقات بعيدا عن مرافقة/رقابة الأهل والعائلة الممتدّة. وفي ظلّ هذه التحولات تراجع حجم العائلة الممتدّة (خاصّة في البيئات الحضرية). وبالتالي تراجعت وظيفة المرافقة التي كانت تؤمّنها لصالح أفرادها وصالح الأسرة الناشئة، وأصبح الأزواج الجدُدُ يخوضون تجاربهم كشريكيْن بمنأى عن مرافقة الأهل وضمانات العائلة.

ثمّ إنّ هذه التغيرات ستترسّخ أكثر فأكثر وتتعزّز معها ميول الفردانية بحسّها الحقوقي العالي وخياراتها الشخصيّة، وسيدعمها الانفتاح على الفضاء الرقمي الزاحف بقيمه الجديدة وخصوصا ما يمسّ منها مجال الجنسانيّة وأنماط الاستهلاك. وسيساهم تراكب هذا التغيّرات ذات المضمون الثقافي في تعزيز فردانيّة هشّة ومتقلّبة. وهنا يجب تثبيت ملاحظات أساسيّة ثلاث:

أولا، إنّ الارتفاع البيّن لنسب الطلاق "إنشاء" (من %30.6 سنة 1966 إلى
%51.2 سنة 2021) لن يتمّ على حساب الطلاق "بالاتفاق" الذي -وإن تراجع نسبيّا- سيبقي على طول العشريتيْن في مستوى الـ %38/40 أو يُقارب حجم الطلاق إنشاء ضمن المجموع الكلي للطلاق.

ثانيا، إنّ طلب الطلاق "إنشاء" وإن بقي مطلبا فردانيّا رجاليّا بامتياز على طول العشريات، فإنّ الفارق في طلبه بين الرجال والنساء تقلّص نسبيّا منذ أواخر الثمانينات لصالح النساء (%68.1 للرجال و%31.9 للنساء سنة 1981، و%60.7 للرجال و%39.30 للنساء سنة 2021، ولو أن هذا التغيّر سيتمّ عبر سنوات، إلا أنه سيعرف ارتفاعا في بعض الولايات ذات الحضريّة العالية في بداية العشرينات وستتجاوز نسبة طلب النساء له نسبة الرجال سنتي 2020 و2021 بالخصوص في ولاية تونس (%47 للرجال و51 %للنساء) وولاية نابل/قرنبالية (%49 للرجال و 51% للنساء) وولاية صفاقس (%48.9 للرجال و%51,1 للنساء مثلا.

ثالثا، ترتفع نسب الطلاق "إنشاء" أكثر في البيئات الحضريّة وخصوصا في ولايات تونس الكبرى والساحل الشرقي، أي في البيئات التي تقوى فيها نزعات الفرديّة وتضعف روابط الأسرة الناشئة، وتمسّ الظاهرة أكثر فأكثر فئات الشرائح الوسطى (أنظر الجدول 3 والبيانين 3و4).

"الضرر" وإثباته

في الأصل يمثّل وقوع الضرر (بنوعيه المادّي والمعنويّ) السبب الأصلي للانفصال الزوجي، ولكن أنّ المؤشّرات الإحصائية المتصلة به لا تترجم حجمه الحقيقي ضمن المجموع الكلّي للطلاق، فقد راوحت نسبة الطلاق بسبب الضرر على طول العشريات الستّ بين %19.4 كأعلى نسبة و%5.4 كأدناها. وعموما بقي متوسّط النسبة في حدود الـ 15 % من مجموع المطلقين سواء في حال ارتفاع معدل الطلاق بصفة عامّة أو في حال انخفاضه.

ولكن، هل يعني ذلك أن العنف والإساءة المعنوية بين الزوجين تراجعت لتنحصر في عدم الانسجام والتأقلم؟ في الحقيقة، فإنّ حجم الطلاق للضرر في الأسر التونسيّة يظل مرتفعا، إلا أنّ إثبات وقوعه قضائيّا أمر غير يسير في أغلب الأحيان، وخاصّة إذا كان الضرر معنويّا. والسؤال المطروح هو، ما هي أسباب وقوع الطلاق للضرر؟ يمكن حصر ها في المبرّرات التالية:

  • أسباب مشتركة يقعان فيها معا، أهمّها الإخلال بالواجبات سواء تلك التي يكونان قد ضبطاها في عقد القران6 أو التي تتصل بمضمون الفصل 23 من "المجلّة"7 حول ما يسمّى بـــ "ما يجب على كل من الزوجين على الآخر".
  • عدم احترام واجب الإخلاص وربط علاقة خارج إطار الزواج (ويعدّ هذا من أهمّ الأضرار المعنويّة التي تلحق بطالبه) أو لعدم الوفاء بالواجبات الزوجية وخصوصا منها المعاشرة.
  • العنف المادّي الذي يمارسه أحد الزوجين على الطرف الآخر، وخاصّة عنف الرجال على النساء8.
  • إخلال الزوج بواجب الإعالة والإنفاق وإهمال العيال.
  • نشوز الزوجة والإخلال بواجبات العلاقة بالزوج بحسب ما يفرضه العرف والعادة، والامتناع عن المعاشرة، أو مغادرة محل الزوجيّة والغياب، مع التكرار والإصرار.

وما يتبيّن من هذه الأسباب أنّ الزوجين كليهما يمكن أن يتسبّب في الضرر للطرف الآخر، بل لعلّ حجم الأضرار التي عادة ما يقع فيها الرجال هي أكثر من الأضرار التي يمكن أن تقع فيها النساء. غير أن ما توفّره الإحصائيّات الرسميّة المتصلة بحجم الأحكام الصادرة في شأن الطلاق للضرر (الجدول رقم (3 وتطوّرها يعكس وجود مفارقة. فأكثر طالبيه هم من الرجال، بما يعني مبدئيّا أن النساء هنّ أكثر تسبّبا للضرر بالأزواج والأسرة من الرجال. فهل يعني ذلك ان الرجال كانوا على طول العشريات الستّ ضحايا إضرار النساء؟ أم كانوا الأقدر على إثبات أخطاء الزوجات؟ لنقرأْ الجدول التالي:

الجدول3: تطوّر حجم طلب الطلاق "للضرر "بحسب جنس طالبه من 1980 إلى 2021

السنوات القضائية
(بمدة 4 سنوات)

الطلاق للضرر

المجموع

نسبة طلب الرجال

نسبة طلب النساء

بطلب من الزوج

بطلب من الزوجة

1980

167

192

359

47%

53%

1984

415

306

621

67%

33%

1988

706

267

973

72%

28%

1992

1398

724

2122

66%

34%

1996

930

862

1792

52%

48%

2000

1210

932

2142

56%

44%

2004

566

566

1132

50%

50%

2008

587

629

1216

48%

52%

2012

738

781

1519

49%

51%

2016

674

656

1330

%51

49%

2020

793

797

1590

49%

51%

2021

431

517

948

45%

55%

مصدر: المادة الإحصائية الخام: وزارة العدل (التفقدية العامة)، تونس 2021.

من المفترض بداية أن يكون الممسك بالسلطة في الأسرة هو المتعسّف في استخدامها بما يُضِرّ بالقرين(ة) وبالأسرة، أي ما سيجعل الزوجات نتيجة لذلك متضرّرات، ولكن على العكس من ذلك، تشير الاحصائيات إلى أنّ الرجال هم أكثر طلبا للطلاق لسبب الضرر؟

في هذا السياق نرجّح أن يكون الرّجال أكثر تربّصا لأخطاء النساء، وذلك لمبرّريْن اثنين. أوّلا، إن طلب الطلاق كان على طول العشريات الستّ -وبالنسبة لكلّ الأصناف- سلوكا ذكوريا بامتياز، حتى وإنْ قلصت النساء الفارق خلال بعض السنين في بعض الولايات مثلا، فالرجال هم أميل إلى طلب الانفصال مقارنة بالنساء9 ولهم موضوعيّا القدرة على فعل ذلك. وثانيهما إنّ للرجال قدرات أكبر على إثبات ضرر الزوجات إذا حصل -وهو ما نرجحه-، ولهم إمكانات عديدة في الاستفادة من امتيازات السلطة والرقابة المتاحة لهم. لكن، وكما يبيّن الجدول السابق (رقم 3)، فقد أصبح بمقدور النساء أن يتخطّيْن الرجال في طلب الطلاق أحيانا: ففي سنوات ما بين 2006 و2012 ثم خلال سنتيْ 2020 و2021 فاقت الزوجاتً الأزواجَ في طلب الطلاق بسبب الضّرر. ونقدّر ان يتواصل تقلّص الفارق بين النوعين الآخريْن لــ "صالح" النساء أو سيتجه نحو التساوي في لاحق السنوات. ويمكن تفسير تقلّص الفارق بتغيّرات ساهمت في تعديل واقع التفاوض بين الثنائي لصالح النساء، ومن ذلك أساسا تقلّص الامتيازات الرمزيّة المتاحة للرّجال والاستفادة المتساوية من ثمرات التعليم والعمل والتشريعات الجديدة وهذا ما مهّد لعلاقة قائمة على التكافؤ، كما يعود الأمر أيضا إلى القدرة التي اكتسبتـها النساء على النفاذ إلى المجالات العامّة التي كانت حكرا على الرجل، وتنامي الحسّ الحقوقي لدى الأجيال الجديدة.

أثر "الحضريّة"

تؤثّر "الحضريّة" كمجال وبيئة ونمط عيش في السلوك الطلاقي بشكل، حيث تشمل هذه التأثيرات الحجم والكثافة السكانية، ونوع الطلاق المطلوب، وجنس الطالب وتظهر المؤشّرات الدالّة على ذلك بوضوح وخاصّة خلال العقدين الأخيريْن. (اُنظر الجدول رقم 4، والخارطة رقم 1 المصاحبة).

الجدول 4: تطوّر أحكام الطلاق ونسب طالبيه من الزوجين في الأقاليم التونسيّة من 1996 إلى 2020 (بمدة 6 سنوات) في 10 ولايات تونسية

مصدر: المادّة الاحصائية الخام: وزارة العدل (الإدارة العامّة) تونس 2021.

وفي الحقيقة، بدأت نسب طلب النساء للطلاق بشكل عامّ والطلاق "إنشاء" بشكل خاص تتزايد حتى بداية العشرينات لتتساوي مع نسبة طلب الرجال أو تفوقها في ولايات عديدة. (انظر الخارطة 2). وتلعب "الحضريّة" بنمط عيشها والديناميّة القيمية الملازمة لها دورا مساعدا للسلوك الطلاقي، حيث تنمّي النزاعاتالشخصيّةوتعزّز الانفتاح على الجديد.

وعليه، نلاحظ وجود علاقة سببيةّ مؤثّرة بين بيئة "الحضريّة"، وتنامي طلب النساء للطلاق "إنشاء" في العشريتيْن الأخيرتين. تبين البيانات الإحصائيّة ما يؤكّد وزن هذا العامل وأثره في ارتفاع حجم الظاهرة أوّلا، وتباين السلوك الطلاقي بين الرجال والنساء في الولايات على طول فترات طويلة ثانيا. (أنظر البيانيْن رقم 3 ورقم 4 تاليا).

البيان 3: تطوّر أنواع الطلاق بطلب من الزوج من 1979 إلى 2020

 

مصدر: المادّة الاحصائية الخام: وزارة العدل (الإدارة العامّة) تونس 2021.

البيان 4: تطوّر أنواع الطلاق بطلب من الزوجة من 1979 إلى 2020

مصدر: المادّة الاحصائية الخام: وزارة العدل (الإدارة العامّة) تونس 2021.

وفي مقابل تقلّص الفارق بين الرجال والنساء في بيئات الشمال والوسط، يتّسع الفارق في أقاليم الجنوب (الشرقي والغربي معا) فقد راوحت النسبة ما بين %66 و91 %بطلب الرجال سنة 1996، وما بين %84 و% 55 سنة 2008، وما بين %88 و%60 سنة 2014، وما بين%71 و%55 سنة 2020. فـبيئة "الحضريّة" تغذّى النزوع إلى الاستقلالية والتحرّر والفردانيّة المتشبّعة بالحسّ الحقوقي، وهو ما استفادت منه النساء كثيرا.

وفي إطار الاختلاف في التطوّر الحاصل في طلب الطلاق مجاليّا (الشمال / الجنوب، ومن البيئات الأكثر حضريّة إلى البيئات الأقل) فاقت النساء الرجال في الطلب في ولايات عدّة حيث نمت نسبة طلبهن في إقليم تونس مثلا: من%43 من المجموع الكلّي للطلاق سنة 1996 إلى %50.1 سنة 2008 وإلى %53 سنة 2020، وفي إقليم الوسط الشرقي (صفاقس مثلا) من 29 %من المجموع سنة 1996 إلى %36 سنة 2002 إلى %40 سنة 2012 وصولا إلى %51.1 سنة 2020.

غير أنّ هذا التغيّر تتفاوت وتيرته بين ولايات الشمال وولايات الجنوب وبين الأقاليم الأكثر حضريّة الأقل، ويعود سبب هذا التفاوت إلى عوامل مركّبة، منها ما يتصل بوزن البنى التضامنيّة التقليديّة (العائليّة) وخاصّة في الجنوب، ومنها ما يتصل بالحراك الاقتصاديّ والديناميّة التي صاحبته خاصّة في ولايات الشمال والوسط الشرقي وولاية صفاقس، ومنها ما يتّصل بالديناميّة الحضريّة المتولّدة عن هذا الحراك الاقتصادي. ولهذا سيلازمُ ارتفاع نسب الطلاق خاصة نسب طلب طلاق "إنشاء" ارتفاعَ كثافة "الحضريّة".

أما من حيث جنس طالب الطلاق، فإنّ الفارق بين الرجال والنساء تقلّص كثيرا خلال العشريتيْن الأخيرتيْن وخاصّة في البيئات الحضريّة، ثل ولاية "أريانة" حيث كانت نسبة طلب الرجال (%55 وللنساء %45 سنة 2000،أمّا ولاية تونس كانت للرجال
%52 وللنساء 48 % سنوات 2010 و2014 و2017 و2021، وفي "أريانة" و"بن عروس" وسوسة، مثلا قد فاقت النساء الرجال في الطلب في بعض السنوات، حيث بلغت نسبة النساء %51 و49 % للرجال في تونس وأريانة وبن عروس سنة 2012: وبقي الفارق يقارب أو يساوي هذا المعدل سنوات عديدة. والمهمّ أن تنامي حجم الطلاق وتفاوت أنواعه واختلاف حجم طلبه بين الزوجين، ولئن ارتبط بتبدّل أنماط العيش وتحولات القيم وارتخاء الروابط العائليّة وتنامي ضرب من الفرديّة الهشّة، فإن للحضريّة -ضمن تلك العوامل- أثرا وازنا في تفسير تلك الاختلاف والتباين بين البيئات. (الخارطة رقم2 شاهدا).

الخارطة 1: تقارب حجم طلب الطلاق بين الرجال والنساء في الأقاليم الحضريّة (مع "تفوّقٍ" للنساء في إقليم تونس) سنة 2021

مصدر: المادة الإحصائية الخام: وزارة العدل (التفقدية العامّة).

فيمكن اعتبار "الحضريّة" بيئة مناسبة لتنامي نسب "الطلاقية" أوّلا، وارتفاع ميول النساء لطلب الطلاق "إنشاء" ثانيا. وتقوى نسب ارتفاع هذا النوع خصوصا في الأقاليم والولايات الأكثر حضريّة أيضا، وما يؤكّد ذلك أن الزوجات يطلُبْن هذا النوع ويقارعن به الرجال أكثر ممّا يفعلن في البيئات الأقلّ حضريّة أو الريفيّة، بل لقد فاقت النساءُ الرجالَ في طلب هذا النوع في ولايات عديدة مثل: أريانة ونابل حيث بلغت نسبة %51 لصالح النساء سنة 2017، و"بن عروس" %51 لصالح النساء أيضا سنة 2021، على سبيل المثال، ولو أنّ هذا "التفوّق" بقِيَ غير ثابت. (انظر الخارطة رقم 2 الشاهدة عن تطوّر نسب طلب الزوجين للطلاق "إنشاء").

الخارطة 2: تقارب في طلب الطلاق "إنشاء" بين الرجال والنساء في الأقاليم الحضريّة 2021

مصدر: المادة الإحصائية الخام: وزارة العدل (التفقدية العامّة).

استنتاجات أساسيّة عامّة

في ما يلي نستعرض أهمّ الاستنتاجات المستندة من فرضيات الانطلاق الثلاث:

عكست ظاهرة الطلاق في تونس تغيرات المجتمع حيث شهدت خلال العشريات الستّ -ارتفاعا وانخفاضا- في ظل الأزمات التي مرّ بها المجتمع. والأكيد أن ظاهرة الطلاق تطورت بشكل نسبي تصاعدي ولكن مع تباين واضح فيما يتعلق بأنواع الطلاق الثلاثة: وجنس الطالب من الزوجين، والتقاطع بين نوع الطلاق وجنس طالبه، وأثر المجال (ريفي، شبه حضري، حضري) في ذلك التفاوت، ونُجمل هذه الدلالات في النقاط التالية:

أوّلا، بالنسبة إلى تطور ظاهرة الطلاق، فقد عرف المعدّل العام طفرات من الارتفاع الحاد مثلما حدث وقع صعودا في بداية الستينات وفي أخر الثمانينات ثمّ في بحر العشريّة الثانية من القرن الجديد. ومع ذلك، لم تدم الطفرات ، ممّا يشير إلى أن أثر العوامل البنيويّة كان أكثر وقعا واستمرارا من العوامل الوقتيّة. لكن، يمكن القول مع بعض الاحتراز10 إنّ حالات ارتفاع مؤشرات الطلاق أتت بعد حالات من "الانفراج" السياسي والاجتماعي التي وقعت في المجتمع التونسي، كما حدث في بداية الستينات (مع فجر الاستقلال) أو في آخر الثمانينات (مع تغيّر دفّة الحكم عام 1987) أو بُعيد 2011 (مع الثورة التونسيّة).

ثانيا، بالنسبة إلى تطوّر أصناف الطلاق، فقد اتخذت منذ منتصف التسعينات تحوّلا نوعيّا، حيث اتخذت الظاهرة بعدما كانت تتميز بالتوافق والتنازع والصراع، وهو ما يعكس التغيّر الحاصل في العلاقة بين الثنائي الزوجي وفي إدارة خلافاتهما عند الطلاق.

ثالثا، والأمر هنا يرتبط بمتغيّر النوع (genre) والاختلاف بين الزوجين في طلب الطلاق، فإذا اعتبرنا السلوك الطلاقي قرارا "محسوبا" ينتج عن تفاوض بين الزوجين وينتهى إلى قرار الانفصال، فإنّ المعطيات الكميّة تشير إلى حصول ما يمكن تسميته -وبتحفّظ كبير- "فتوحات" قامت بها النساء في مقارعة الرجال ومطالبتهن بإنهاء الرباط الزوجي، وتحملهن أعباء إتمام مشوار الحياة في أسرة ذات سند واحد، أو استئناف حياة زوجية ثانية. وعلى الرغم من أن النساء لم يَـتساويْن مع الرجال كليّا في طلب الطلاق، إلا أنّ الفارق بينهن وبين الرجال قد تقلّص خاصّة طلب الطلاق "إنشاء" (رمز الفرديّة) وخاصّة في البيئات الحضريّة، بما يمثّله ذلك من تحدّ للرجال. وهذا ما يؤكّد التلازم بين متغيّر "الحضريّة"، وارتفاع معدّلات الطلاق بشكل عام وارتفاع نسب الطلاق "نشاء"، وميل النساء أكثر إلى طلب هذا النوع من الطلاق.

رابعا، ويتصل الأمر هنا بالتطوّر الأفقي للظاهرة وانتشار ها في المجال الجغرافي. إذ يظهر أن للحضريّة تأثيرا في السلوك الطلاقي. فكلّما كانت البيئة ذات كثافة حضريّة عالية مثل ولايات الساحل: الشمالي والشرقي والوسط، كلّما ارتفعت نسبة الطلاقيّة بشكل عام ونسبة طلب النساء للطلاق بشكل خاص "والحضريّة"، بوصفها بيئة عضويّة دينامية ومجالا للحراك الاجتماعي والقيمي تحتضن أكثر من غيرها من البيئات نزوع الأفراد إلى الاستقلال والتفرد والميل إلى التجديد. وتقلل من ضغط الضمير الجمعي و"تميع" من القيم نسبيّا، وهو ما صنع الفارق بين الولايات في نسب الطلاقيّة.

خامسا، نحن أمام تشكّل ثنائي زوجي جديد، حيث مع التحوّل من العائلة الممتدّة إلى الأسرة النواة أصبحت العلاقة بين الثنائي متنامية أكثر مما كانت عليه في العائلة الممتدة، وأصبح الاهتمام يُولَى للعلاقة بين قرينيْن، هذا يعني أنّ العلاقات بين الثنائي سواء كانت مستقرة أو متأزمة أصبحت أكثر أهمية في بناء روح الأسرة الجديدة. فمع التحوّلات العميقة أصبح هذا الرباط منفتحا ولكن أكثر هشاشة، يبنيه الثنائي ويُعدلانه باستمرار. قد اتخذت الحاجات النوعيّة الخاصّة كالاعتراف المتبادل والتعاون مكانة أكبر، وقد أصبح استقرار الثنائي مرتبطا بجودة هذه العلاقة وتحقيق الآمال المنتظرة بين الزوجين.

الخاتمة، أين الأزمة إذن؟

في الحقيقة تعتبر أزمة الثنائي الزوجي جزءً من أزمة المجتمع نفسه وما أفرزته تحوّلاته من تمزقات وأشكال من سوء التكيّف. ويمكن في هذا الإطار توضيح العديد من العوامل المتراكبة التي تفسّر هذا الوضع: منها ما هو موضوعيّ ومنها ما هو خاصّ بالنسبة إلى الثنائي.

بالنسبة إلى العوامل الموضوعيّة: فمع تراجع النظام الأبويّ ببنائه وسلطته وقيمه -وإنْ بِتدرّج-، تقلّصت الأهميّة والأولويّة المُسندة إلى الجماعي والعائلي والقرابيّ، لتُسند هذه المرّة إلى الأسرة الزواجيّة "الصغيرة" وإلى الثنائي الزوجي في إطار موجة أولى من التحديث، ثمّ إلى الفرد -لا الأسرة هذه المرّة- في إطار موجة "ثانية" .ومع ذلك، عندما يصل الشباب إلى مرحلة الزواج، لن يكونوا قد تكيّفوا بنفس الدرجة والعمق أو تشرّبوا من القيم والمضامين بنفس المعاني والدلالات وهو ما يخلق "باستمرار تباينات في تشكّل الهويّات الفرديّة" و"ضاعف من تنافر الأمزجة" (البهلول، 2011: 340) ويضيّق مساحات الالتقاء والتوافق. ما يساعد في هذه الأوضاع تعزيز "رخاوة القيم والمعايير"(Khwaja, 2003) و"سيلانها" (بومون، 2013).

وفي مثل هذه البيئة المتحوّلة تتشكّل فرديّة هشّة غير مؤطرة ولكنْ، تتغذّى من حسّ حقوقي نفعيّ في تنام مستمرّ. وعلى الرغم من أنّ هذا الوعي يمثل مكسبا استهدفه التحديث الاجتماعي، فإنّ الفرديّة التي جسّدتها ممارسات القرناء في البيئة الأسريّة لا تعكس دائما توازنا بين الميول الذاتيّة والفرديّة من جهة، ومقتضيات المشترك الثنائي والأسريّ من جهة ثانية. ومثل هذا الوضع، صاحب ولادة الأسرة النواتيّة الجديدة من رحم العائلة الأبويّة الممتدة، فأصبحت الأسرة الجديدة مثقلة بأعباء إعادة ملء الفراغ العاطفي والوجداني الذي خلّفه التحوّل من العائلة إلى الأسرة النوويّة ومن "الجماعويّة" (أو الثنائيّة) إلى "الفردانيّة". كما بدأت ثقافة الحقّ (الفردي) تعلو أكثر فأكثر على ثقافة الواجب، ومطالب الحرّية على حساب الالتزام (أساسا تجاه الثنائي والأسرة).

وإلى جانب هذه العوامل الموضوعيّة، ثمّة عوامل "ذاتيّة" تتّصل هذه المرّة بالثنائي الزوجي نفسه وبكيفية إدارة الزوجين للخلافات التي تقع بينهما. ففي الإطار المجتمعي الجديد أصبحت الأولويّة في العلاقة بين الزوجين تميل أكثر فأكثر إلى إشباع الحاجات النوعيّة التي بنيت عليها وحدتُهما، أي الاعتراف المتبادل والثقة والإشباع العاطفي/الجنسي، وأضحت النزاعات بين الثنائي تتصل بجودة هذه الإشباعات وبكيفيّة إدارة الخلافات التي يمكن أن تندلع بين الثنائي في شأنها أو في شأن التدبير الأسريّ عموما.

ومن بين العوامل المتعددة التي تهدد العلاقة الزوجية أن "يكتشف" القرينان في تجارب حياتهم اليومية وبعد مدة من الزواج ما قد يفصل بينهما كالتباعد الفكريّ والعاطفي وعدم توافق المشروع الزواجي وخيارات الحياة الجماعية، والطباع.

وثانيا، خيبة الأمل الغرامية (Francescato, et al., 2003 : 51)، فالروتين العاطفي ونفاذ "ذخيرة الحب" كما يقول عبد الوهاب بوحديبة (Bouhdhiba, 1990) وخمول الحياة الجنسيّة، عوامل تضعف اسمنت العلاقة بين الثنائي، وخاصّة إذا غلبت لدى القرين(ة) أو لديهما معا نزعة فردانيّة على حساب وحدة الثنائي واستمرار الأسرة. وثالثا، عندما تتراكم آثار "المعارك الصغيرة"(agacements) أوْ ما سمّاه جون كلود كوفمان بـــــ "شحن الجوّ فجأة بالكهرباء ونشوب النزاع" (Kaufmann, 2008 : 7) مع القرين، تتحوّل الخلافات المتواترة إلى حالة دائمة، وقد يصل هذا الصدام إلى المساس بـــ "المجالات الخاصّة" للقرين أو القرينين معا في إطار الفعل وردّ الفعل. وفي هذه الوضعيّة يتوقّف التعويض العاطفي الذي كان يؤمنه الحبّ عن ملء الفراغات، و"يموت" الجوهر الحميمي بين الثنائي، وتنمو في المقابل رغبات خفيّة في "الثأر" لإيقاف نزيف الإذايات المتراكمة وخاصّة -لدى الأكثر اقتدارا- وهو ما يعزّز الميول إلى إنهاء الرابط الزوجي.

عموما يمكن القول، إن استحضار دلالات "التغيّر الكبير" الذي عرفه مجتمعنا التونسي منذ الاستقلال من مجتمع باترياركي ومحافظ بنظامه وقيمه، إلى مجتمع "حديث" وما صاحبه من تحوّلات بنيويّة وثقافيّة وقيميّة عميقة، وما اتخذه المشروع "التحديثي" من مضامين، وبالكيفيّات التي تجسّد بها أذهان الناس وممارساتهم وخياراتهم، -أو لم يتجسّد- سيسمح بفهم أعمق لتحوّلات الرباط بين الثنائي الزوجي وأزماته في المجتمع التونسيّ، كما سيخلّصنا هذا الفهم من النظر إلى الأسرة وأزماتها نظرة مثالية "صافية"، وينأى بنا عن محاكمة معياريّة أخلاقيّة لظاهرة الطلاق في مجتمع يعاني أساسا من أزمة البحث عن المعايير الضائعة، واختيارِ المنوال التنموي الأنسب للعيش الكريم.

بيبليوغرافيا

البهلول، هادية العود، (2011). الطلاق والتغير الاجتماعي في تونس، ولاية صفاقس نموذجا. أطروحة دكتوراه، كلية لآداب والعلوم الاجتماعية، تونس.

المحواشي، المنصف، (2000). العائلة والفرد وممارسة المقدس من خلال حركة التحديث الاجتماعي فى تونس حالة مدينة المكنين: مقاربة سوسيو- أنتربولوجية. أطروحة دكتوراه.
كلية العلوم الاجتماعيّة بتونس.

المحواشي، المنصف، (2007). تطوّر ظاهرة الطلاق في المجتمع التونسي: قراءة في المؤشرات الإحصائية ودلالاتها. إنسانيات (49)،11-37.

المحواشي، المنصف، (2008). تطوّرات التشريع في مجال الأحوال الشخصيّة التونسيّة: الخلفيات والمقاصد والمضامين. المقدّمة،(1)، 199-222، تونس : الجمعية التونسيّة لعلم الاجتماع.

الشريف محمد الحبيب، (2004). مجلّة الأحوال الشخصيّة. تونس : دار الميزان للنشر، سوسة.

ساسي بن حليمة، (2006). مجلّة الأحوال الشخصيّة (1956-2006) أصالة وحداثة. تونس: مركز البحوث والدراسات والتوثيق والإعلام حول المرأة. كريديف.

مدوّنات قانونيّة

مجلّة الأحوال، الشخصيّة التونسية. (2022). تونس: منشورات مجمع الأطرش للكتاب المختصّ.

اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضدّ المرأة: "السيداو" (1979) الصادرة عن الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة.

Bibliographie 

Ammari, A. Ch. (2007). La condition juridique des femmes dans le code de la famille en Tunisie. Après-Demain 2007/1 (N ° 1, NF) [24 à 32]

Ariès, Ph. (1960). L’Enfant et la Vie familiale sous l’Ancien Régime. Paris : Éd., Plon.

Ben Hammouda, H. (2012). Ajustement et difficultés de l’insertion internationale. Paris : L’Harmattan.

Ben Salem, L. (2009). Familles et changements sociaux en Tunisie. Tunisie : Éditions CPU.

Bouhdhiba, Ab. (1990). Refaire la famille. Cahiers CERESS, Série Psychologie R.T.S.S (7), 19-28.

Bauman, Z. (2013). La vie liquide. France : Éd., Pluriel.

De Singly, F., &, al. (2016). Libre ensemble. L'individualisme dans la vie commune. Paris : Éditions Armand Colin.

Draoui, D. M. (1994).Traditionalisme et modernité conjugale dans la famille tunisienne. In acte de Colloque de l'Institut Supérieur del'Éducation et de la Formation Continue, Tunis : les 3-4 Février.

Fransiscato D., & Pasini, w. (2003). Le courage de changer. (Trad. de l’italienne Jackeline H). France : Éditions Odile Jacob.

Hermassi, A, & al., (1983). Le divorce dans la région de Tunis. Tunis : Publication U.N.F.T.

Kellerhals, J., &, al., (1985). Statut social, projet familial et divorce. Paris : Population 6.

Kaufmann, J. C. (2008). Agacements. Les petites guerres du couple. Paris : Éd., Armand Colin.

Khwaja, A. (2003). Argent et négociation des conflits sociaux. In Collectif : Individu, famille et société en Méditerrané, 304-291.

Mouldi, L. (2012). Du mouton à l’olivier. Essai sur les mutations de la vie rurale maghrébine, Tunisie : CERES

Mahfoudh, D. (2008). Rapport de genre et mariage dans la société tunisienne. Migrations Société, (119), 129-140.

Martin, C. (2007). Des effets du divorce et du non-divorce sur les enfants. In Revue des politiques sociales et familiales, Conflits de couples et maintien du lien parental, (89),19-9.

Mucchielli, L. (2001). Violences et insécurité : fantasmes et réalités dans le débat français. Paris : La Découverte.

Rapport final. (2000). L'impact du divorce sur le couple et les enfants. Rapport final. Ministère des affaires de la femme et de la famille. Tunis.

الهوامش

(1)(1) جامعة صفاقس، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، قسم علم الاجتماع. تونس.

1 تضمنت المجلّة تشريعات جديدة تضع الزوجين متساويين في الحقوق ومن ذلك منع تعدد الزوجات منعا مطلقا، وتحديد السن الدنيا للزواج، والتساوي بين الزوجين في حق طلب الطلاق، وجعل الطلاق من مشمولات المحكمة وهي من يَقضي فيه. أنظر:

الحبيب الشريف محمد، (2004).

بن حليمة ساسي، (2006).

2 لا تتضمّن لفظة "أزمة" معنى سلبيّا دوما، والمقصود هنا إشكال تواجهه الجماعة، يحصل عن تحوّلات طارئة أو عن مجموعة من الأحداث التي تستدعى انتباها وتدخّلا لمعالجة ما نتج عن الطوارئ من تعديل.

3 منذ بداية السبعينات (1972) تبنّت تونس منوالا اقتصاديّا ليبراليّا مثله قانون مارس / أفريل 1972 وقد تترجم في قرارات اقتصادية تحرّرية تشجّع على الاستفادة من الرأسمال الأجنبي والاستثمار الحرّ والمبادرة الفردية واللامركزية الصناعية. انظر:

Ben Hammouda, H. (2012)

Mouldi, L. (2012).

4 القانون عدد 74 المؤرخ في12 جويلية 1993، الذي أضاف حصة صلحية ثالثة بين الزوجين المتقاضيين (بين الواحدة والأخرى شهر) قبل الحكم النهائي بالطلاق، ومن شأن هذا أن يدفع كلاّ من الزوجين إلى مراجعة النفس والامتناغ عن مواصلة طلب الطلاق، ومنها أيضا القانون عدد 65 لسنة 1993 المتعلق بإحداث صندوق النفقة وجراية الطلاق وتتبع الزوج قضائيا في صورة التقاعد عن واجبات تسديدها على مطلقته وأبنائه عند الفراق. والقانون عدد 74 لسنة 1993 المتعلق بـ "ما يجب على كل من الزوجين تجاه صاحبه"، ويقضي مضمونه، بمسؤولية المرأة بمساعدة الزوج في الإنفاق العائلي وهو ما يدعم مبدأ الشراكة المالية بين الزوجين. وقانون الاشتراك في الملكية بين الزوجين( قانون 91 لسنة 1998 الذي يقضي بتخيير القرينين على جعل العقار (مسكن أو أرض) ملكا مشتركا بينهما ويمنع أحد الزوجين وخاصّة الزوج من إمكانية التلاعب غلى القرينة في صورة آل الأمر بينهما
إلى الطلاق. ومثل هذا الإجراء يكبح الميول إلى الطلاق ويحفّز على مراعاة التبعات التي قد تنجر عنه.

5 يتمّ تحديد الضرر بناء على الحالة المادية للطرفين بحسب عدد الأبناء وتقدير ما عسى ان يكون للزوجة من حظوظ جديدة للتزوج مرّة أخرى.

6 كأن يتفقا على مكان السكن بعد الزواج، أو على إمكان أن يعيش مع الأسرة الناشئة أفراد آخرون (أم الزوج أو الزوجة، أبوه أو أبوها، أبناء الزوج أو الزوجة من زواج سابق) مثلا.

7 يتعلّق الأمر بالقانون 74 الصادر في جويلية 1993 والمتصل بالفصل 23 من مجلّة الأحوال الشخصية (باب فيما يجب لكلّ من الزوجين على صاحبه)

8 ينصّ الفصل "218 جديد" من المجلّة الجزائيّة ما يلي: "من يتعمّد إحداث جروح أو ضرب أو غير ذلك من أنواع العنف ... يُعاقب بالسجن عاما ...".

9 النساء هن أميل إلى الاستمرار والحفاظ على الأسرة والأبناء، ويقوى هذا الميل لديهن كلما طالت سنوات الزواج وأنجبن أطفالا وتقدمن في السنّ.

10 فرضيّة نرجّحها، ويستوجب التحقّق من صلاحيتها.

 

 

 

 

 

 

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran
+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11
+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Recherche