(السيميائيات السردية وتجلياتها في النقد العربي المغاربي المعاصر.(نظرية غريماس نموذجا

 إنسانيات عدد 23-24 | 2004 | وهران : مدينة من الجزائر | ص 75-80 | النص الكامل


Kada AKKAK


 

لقد عرف الفكر النقدي والفكر اللساني، العربي، انطلاقا من النظريات الغربية التي وفدت على العالم العربي إما عن طريق الترجمة، وإما عن طريق الجامعيين العرب الذين وفدوا على الجامعات الأوربية منذ مطالع القرن العشرين أفكارا علمية حداثية، ونظريات علمية جديدة. و من النظريات الجديدة التي لم يفتأ الجامعيون يسيلون بها أقلامهم في أبحاثهم المختلفة، نظرية السيميائية، أو نظرية السيميولوجيا. ويأتي هذا البحث مبادرة طيبة للمساءلة والقلق والاستشراف عن مستقبل هذا العلم الجديد القديم ودوره في تطوير الإجراءات النقدية المنصرفة خصوصا إلى قراءة الخطاب الأدبي، وتحليله.

الوفــاء كقيمة أخلاقية ومعرفية: كثيرا ما نركز في مناقشات الرسائل الجامعية على المنجز البحثي باعتباره عملا فرديا، وقد يكون ذلك صحيحا في بعض الحالات، ولكننا في كل حين نغفل الحديث عمن كان وراء هذا العمل، محفزا ومرشدا وحتى مشجعا.. و من باب الوفاء لإجلاء هذه العلاقة بين الطالب والمشرف وأثرِها في إخراج هذه الرسالة يحضرني المثل الصيني القائل:"لا تعطيني السمك وعلمني اصطياده.."ولنا في التراث العربي الأصيل نماذج كثيرة تجلي ثمرة الوفاء للأستاذ، فلولا كتاب سيبويه ما كنا لنسمع بالخليل بن أحمد الفراهيدي، و ما كان للدرس اللغوي أن يأخذ المنحى الذي أخذه.. وما أريد التركيز عليه هاهنا هو هذا التواصل بين الأجيال الذي أثمر ذخائر في التراث العربي نعتز بها اليوم، وجدير بنا أن ننوه بها اليوم في هذه المناسبة.

نلمس من خلال قراءة هذه الرسالة روح المشرف أ.د. رشيد بن مالك، وتوجيهه، بل وصرامته في تقديم الأشياء فمن باب الوفاء إذن لهذه العلاقة إن نبدأ بتهنئة الأستاذ الدكتور رشيد بن مالك والباحث عقاق على هذا الإنجاز المتميز.

الملاحظات العامة حول البحث:

1- لما كان الأصل في الشيء أولي وأسبق من وجود الشيء ذاته، آثر الباحث البدء بالحديث عن الأصول العلمية للنظرية السردية قبل الولوج في أغوار مقولاتها، لأن صعوبة فهم هذه النظرية متعلقة أساسا بالخلفيات العلمية التي تقوم عليها.

لذلك حاول صاحب هذه الرسالة البحث عن معالم نظرية غريماس السيميائية بناء على تقصي معالمها سواء أكانت لسانية أم بنوية أم أنثروبولوجية، إلا أن الإشكالية التي تؤسس لهذا العمل–حسب منطوق مفردات العنوان- لا تنحصر في فكرة عرض النظرية وتوضيح مقولاتها الأساسية، وإنما تتمثل في تجلياتها في النقد المغاربي المعاصر. وهو ما يبرر إثارة قضية بنينة هذه الرسالة.

2- مستوى بنينة البحث: بدو للقارئ لأول وهلة أن بنينة البحث محكمة، لكن المقلق فيها هو محور الإسقاط المتصل بالمعطيات والمقولات والموجهات التي يحملها المشروع الغريماسي وتجلياته على مستوى كتلة النقد المغاربي المعاصر.

هذا المحور هو الذي يحتاج من وجهة نظري إلى تدقيق و توضيح أكثر، لا على مستوى القيمة العلمية التي حظيت باهتمام الباحث، ولكن على مستوى الحجم، ولا سيما ممثليه الذين حققوا فعلا إنجازا علميا ومعرفيا مثّل بصدق انعكاسات وتجليات معرفة الآخر-في المجال السيميائي بالذات- في العمل النقدي المغاربي المعاصر.

ولعل هذا ما يفسر الشعور بعدم التوازي في بنينة هذه الرسالة،ففي الوقت الذي خُـصص لكتلة النظرية ومعطياتها التطبيقية خمسة فصول كاملة يخصص فصل واحد للتجليات من أصل ستة فصول في الرسالة.

-يبدو أن هدف البحث كان محصورا في عرض المقولات السيميئيات السردية لنظرية غريماس وحسب، ولم يتجاوز هذه المرحلة كأن يتصدى لدراسة نقدية تسعى إلى العرض والتبصر فيما قدمه الأنموذج الغريماسي بوصفه ممثلا للسيميائيات المحايثة. وما أعنيه هنا بالصفة النقدية لهذه الدراسة، لا ينحصر إطلاقا في موقف الضد أو التأييد تجاه مشروع غريماس، لأن البحوث اللاحقة لجيل غريماس كان لها الفضل في الاهتمام بالدلالة في مستوياتها المحايثة والتداولية والتأويلية معا.

ومع ذلك فإن للبحوث السيميائية المحايثة ممثلة في مشروع غريماس قيمتها العلمية التي تميزها عما سبقها من دراسات. بالإضافة إلى ما اكتسبه هذا المشروع من قيم جديدة تتصل أساسا بما فجره من تساؤلات تخص بعض النقاط المتجاوزة لفترته.

3- تشتمل الرسالة على كم هائل من المقولات والمعطيات العلمية حول المشروع السيميائي تطلبت بذل مجهودات كبيرة من الباحث، كما تطلبت متابعة دؤوبة من المشرف يهنآن عليها.

4- التأطير النظري للبحث : من إيجابيات هذا البحث المرجعية النظرية التي تؤطره حيث لاحظنا توفر المفاهيم والمصطلحات التي كانت كفيلة بإضفاء الشرعية العلمية على هذه الدراسة.

5- الوثائق العلمية : مصداقية البحث ترتد بالضرورة إلى الوثائق العلمية:طبيعتها-أهميتها،الاشتغال على الموسوعات العلمية والمعاجم اللغوية في تحديد المفاهيم، توفير المرجعية المتخصصة، توفير الأبحاث المعاصرة المنجزة في المراكز البحثية، الاعتماد على الدراسات الحية الحاضرة والموجودة في المجلات-استدعاء أعلام وفق شروط علمية وخلفيات معرفية: معطيات كلها تشهد على إيجابيات هذا البحث

6- حسنا فعل الباحث حينما ركز على أنموذج غريماس لأن الدرس الدلالي يبدو أنه قارب النضوج أو الاكتمال في شقه السطحي، والعميق أيضا لتظهر السيميائية معه في حلة جديدة متميزة،تحمل في طياتها صرامة المنهج الرياضي، وصورنة المنهج البنوي،ونسقية البحوث اللسانية.

7- التدرج المنهجي في عرض النظرية: آثر الطالب الانطلاق من الاتجاه المتدرج في النزول من المستويات السطحية التي تحددها النظرية إلى أعمق بنية يمكن أن تؤول فيها سابقاتها، إلا أن النظرية الغريماسية تقوم في الواقع على قلب هذه الوضعية إذ تنطلق من العمليات الأولية التي تصنع الدلالة لتسمح لها فيما بعد أن تتمظهر على المستوى السطحي في البنية الخطابية. غير أن التدرج المنهجي الذي تبناه الطالب قائم على منطق سليم،لمّا كان التعقيد سمة البنية العميقة في نظرية غريماس آثر أن يبدأ بالسهل ليكتمل الفهم لدى القارئ ويهيئه لفهم الصعب المعقد.. إلا أن هناك بحوثا أخرى اعتمدت اتجاها آخر، آثرت الابتداء بأحلك العوالم السيميائية للوصول إلى أوضحها، و هو تدرج منهجي يؤسس مسعاه على حيثيات تعليمية أخرى،ولكل وجهة نظر خاصة.

8- الإسقاط على التراث: تحضرني في هذه المناسبة الطيبة مقولة أعتقد أنها للأستاذ عبد الرحمن الحاج صالح" لا يقرأ كتاب سيبويه إلا من خلال سيبويه"، أي لا يمكن فهم حركية تأصيل الدرس اللغوي العربي في القرون الهجرية الأولى إلا من خلال العودة إلى المتون التي عاشت السياق الذي نشأت فيه هذه الحركة، كما لا يمكن إدراك بعض المفاهيم إلا من خلال من فهموا وتمثلوا أصول هذا الدرس…وعملية الإسقاط التي أريد أن أجريها في هذه المقام هي أن السيميائيات السردية عند غريماس لا يمكن أن تثمر نتائج إيجابية إلا من خلال ما قاله غريماس نفسه، أو من خلال عيون قراء فهموا السياق والتوجه العام الذي سلكته هذه النظرية من حيث السياق البيئي الثقافي اللغوي وغيره.

ومن هذا المنطلق أحصي في هذه الرسالة ما يدخل في إطار هذا الإسقاط، فيحسب من محامدها وإيجابياتها،كما أحصي في الآن ذاته ما يحسب عليها، حيث عمد الباحث إلى قراءة بعض قضايا هذه النظرية من خلال عيون الآخر الذي استفاد من التجربة اللسانية الحديثة، بل أذهب إلى القول إنه تمثلها وأتقن أحيانا توظيف مصطلحاتها.. لكن يبقى المبدأ السليم هو أن تُقرأ النظرية بعيون رجالاتها، ومن خلال مؤلفاتهم. ومن خلال هذه الملاحظة أشير إلى الإشكالية التي وقع فيها الباحث، فقد قدم النظرية السيميائية اعتمادا على مرجعيات عربية بل مغاربية في الجزء المخصص للجانب النظري الذي التزم فيه(إذا تمسكنا بما قاله في المقدمة) بتقديم القضايا المتصلة بالسيميائيات السردية من منطلقات تراعي مرجعياتها، وسياقاتها العلمية والتاريخية وغيرها.

والنتيجة التي استخلصها شخصيا هي:أن تجليات السيميائيات السردية في النقد المغاربي المعاصر بدأت من الفصل الأول لأن الباحث كان يقرأ بعيون مرجعيات مغاربية، لا يُشك في كفاءتها، ولكن كنت أفضل أن تجري العملية بكيفية أخرى كأن يُقدم المشروع الغريماسي حول السرديات من خلال أعمال غريماس نفسه، حيث تستمد منطلقاته اللسانية والمنطقية والشكلانية من مرجعياتها الأصلية أيضا، لا من خلال وسائط حتى وإن كان هذا الوسيط متميز بالكفاءة والقدرة على الإنجاز بالمنطق الرياضي –اللساني لدى شومسكي. ومن باب الإنصاف أقول : إن ذلك حصل في بعض أجزاء هذه الرسالة ولكنه لم يطل الفصول الخمسة المخصصة لهذه الغاية.

ما أردت توضيحه هنا هو أن الفائدة كانت تكون ذات قيمة علمية عالية جدا لو أن فصول الباب الأول والفصل الأول والثاني من الباب الثاني انطلقت من المتون الغربية ذاتها، حيث ستعبر هذه المتون عن نفسها بصفتها عملية استدلالية، في حين أن المتون العربية التي نقلت النظرية ولو أن قيمتها العلمية غير مشكوك فيها إلا أنها تستثمر في الفصل المخصص لها، وإن كان هذا الفصل من هذه الوجهة لا يسعها حتما.

9- أما بالنسبة للمآخذ التي انتقاها الباحث في هذه الرسالة وحاول أن يناقشها ويدحض بعضها.. بقدر ما فيها من الوجاهة والصواب، بقدر ما كنت أتمنى أن يربطها بسياق المنطلقات التي تأسّس وفقها المشروع الغريماسي، وهنا أعود إلى إسقاط آخر من التراث:مبدأ المعيارية الذي تلغيه الدراسات النقدية المعاصرة، في حين أن السياق الحضاري والثقافي وحتى الفني في التراث اللغوي والبلاغي الذي دام قرابة أربعة قرون أو يزيد يبرر اللجوء إلى هذه المعيارية كمبدأ ابستيمولوجي فرضته الضرورة العلمية التي كانت تقوم عليها المنطلقات المعرفية حين ذاك.

فالمآخذ التي أحصاها الباحث وأغفل الكثير منها لو ربطها بالمنطلقات التي اشتغل وفقها المشروع لفهمت أكثر،أحسن من تبريرها بالمنطق الآني.

10- أعتقد أننا مع هذا البحث قد تجاوزنا عملية التشكيك في دقة المصطلح وصحة المفهوم، ووصلنا إلى مرحلة ثانية،تقدم المشروع، تحاوره من خلال بعض المعطيات المستمدة من قراءات سابقة لتبحث عن تمثله في ثقافة ثانية، وبمعطيات لغوية تختلف جوهريا عن منطق الثقافة واللغة اللتين كانتا أصلا لمنطلق هذا المشروع. وما ألاحظه هو أن هذا العرض كان محصورا في نخبة من الباحثين لا نقول إنهم استهلكوا دراسة ونقدا وتمحيصا لما قدموه، ولكنهم معروفون.. في حين يبقى عدد آخر من الأعمال مغفلا مغمورا.. وأخص بالذكر هنا المادة المتخصصة التي تدخل ضمن المواصفات التي اشترطها الباحث في مدونته.

11- القيمة التعليمية لهذا البحث: بقي أن أشير إلى ما يمكن أن يقدمه هذا العمل على المستوى التعليمي إذ سيمكن الطلبة الباحثين من العثور على مادة ثرية في الموضوع. ستثري لا محالة المكتبة الجامعية بالإضافة إلى ما هو موجود أصلا.

عرض لعبد القادر شرشار


الهوامش

* أطروحة دكتوراه الدولة، تحت إشراف:أد. رشيد بن مالك،نوقشت بجامعة سيدي بلعباس 2004.

 

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran
+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11
+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Recherche