اهرنبرغ جون[1]، المجتمع المدني، التاريخ النقدي للفكرة، ترجمة: علي حاكم صالح و حسن ناظم. مراجعة: د. فالح عبد الجبار. مركز دراسات الحدة العربية، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، بيروت 2008. 509 ص. [2]

بينت قراءة موضوع هذا الكتاب أن المؤلف يشتغل على إشكالية مسار التطور الفكري و النقدي لوجود المجتمع المدني، و لقد عرض المؤلف تطور المجتمع المدني من خلال ثلاثة أقسام، ففي البداية يتطرق إلى أصول المجتمع المدني، منتقلا بعدها إلى علاقته بالحداثة منتهيا إلى الحياة المعاصرة.  

و يبين القسم الأول من الكتاب الكيفية التي دافع بها الفكر الكلاسيكي على الفكرة التي مفادها أن السلطة السياسية جعلت قيام الحضارة أمرا ممكنا، فالسياسة هي النشاط المكتفي أكثر بذاته. أفلاطون أول من تحدث عن النظرية السياسية في علاقتها بالحياة العامة، مشيرا إلى خطر المصلحة الخاصة، و أهمية العدالة، اعتمادا على أساس مذهب سقراط في أن الفضيلة وحدة لا تمايز فيها. و في المقابل كان هناك فهم آخر لأرسطو أكثر تطورًا و تميزا عن أفلاطون، حيث أن المجتمع المدني يعني لديه إشراك المجتمع في الحياة السياسية الشاملة للمدينة،إذ هي الرابطة أو الاجتماع الأكثر شمولا وسيادة على الروابط الإنسانية كونها موجودة لأجل الحياة الصالحة و هي تتضمن أشكال التنظيم، فالإنسان عنده هو جزء من الكل السياسي و يكون أسمى إذا ارتبط بالعدالة و القانون، غير أن المصالح الفردية ذات قيمة متساوية، و أدرك أن الاستقرار يستلزم حماية الجميع، و التنظيمات السياسية تصهر معا من أجل مبادئ الملكية الارستقراطية          و الديمقراطية. و هذا المجتمع يعكس توزيع السلطة الاقتصادية و يوفر الفرصة أمام الطبقات غير المتساوية في العيش بسلام، والدولة تتشكل من هذا المبدأ (العدالة) رغم أن اليونانيين أقصوا الأجانب، و العباد و المرأة من حقوقهم السياسية. وسعى شيشرون في صياغة هذا المفهوم بلغة سياسية من خلال منح العدالة استقلالية عن آراء الأفراد الخاصة ووضعها في صميم "عمل الشعب"، فأساس المجتمع المدني هو العدالة التي يشكلها العقل الذي يفهم بوصفه الصالح العام.و بلور هذا المفهوم مستثمرا أعراف المجتمع الروماني بالملكية الخاصة المحمية بواسطة القانون. و لكن انهيار هاته الإمبراطورية أوقف مسيرة تعميق النقاش النظري الكلاسيكي، و ذلك بحلول المسيـحية. فالنقد الأوغسطيني رهن وجود الأمة بالعبادة اللائقة، ما جعله يعتبر أن كل من الكنيسة و الدولة أداتان لطاعة الله، و في ظل هاته النظرة الدينية فقد كل من المجتمع المدني و السلطة السياسية قدرتهما على إدارة الشأن الدنيوي. و استدعى هذا الوضع الانتقال لاحقا إلى الحداثة، فقد حفّزت الأنظمة الملكية المركزية ظهور نظريات حديثة حول السلطة، الشرعية و السيادة، و انشغل ميكيافلي بالفساد السياسي، معتبرا السياسة حلا وحيدا لوضع حد للفساد. و أعاد هوبز الاعتبار إلى الجماعة المنظمة سياسيا في مفهومها القديم، فقيم العدالة، الثقافة، الفن و العلم، تتوقف على قدرة الدولة في تشكيل مجتمع مدني.

القسم الثاني يبيّن نشوء الإنسان الاقتصادي، فالمنظّرون الكلاسيكيون شدّدوا بوضوح على دور الدولة أكثر مما ذهب إليه مفكرو القرون الوسطى، و قد وعى آدم سميث أن المجتمع يمكن تنظيمه في إطار المنفعة الفردية كما بينت المفاهيم الحديثة عن الفرد أن العمليات المادية للحياة الاجتماعية لديها قوة مكونّة في ذلك. و حسب جون لوك أن الفرد يتمتّع بحقوق وفرتها له الطبيعة، حيث أن القانون الطبيعي، الحرية، العمل، التبادل و الملكية الخاصة هي شروط الحياة الإنسانية.

بينما يرى هوبز في المصلحة الفردية أنها أدخلت العداء و الحقد و العنف    و التخريب المتبادل، و يؤكد لوك من جهته أنه من دون ملكية خاصة لا تكون الحياة العمومية مفيدة، فأساس الحياة الإنسانية في الطبيعة و المجتمع المدني هي الملكية الخاصة و الدولة هي الجهاز الذي يحميها. و عليه فالقرن الثامن عشر ميلادي تميّز بالاقتصاد السياسي، توسع السوق و تغلغله في العلاقات الاجتماعية مما جعل المفكرين يتصدون لمسألة الضرائب و العمل و السعر و القيمة.كما أعطى هذا القرن أهمية كبرى للإنسان الاقتصادي، فاتساع المنافسة و ازدياد حريتها سيحفزان هذه المنافسة مما يجعل المجتمع أكثر صلابة و قوة.

إن الجزئية و الكلية أو الخاص و العام هما مفهومان فلسفيان يعبران في هذا السياق عن المصالح الفردية و المصالح العامة في الكيان المجتمعي السياسي،      و دولة القانون وحدها تستطيع التوفيق بين استقلالية الفرد الأخلاقية و متطلبات النظام العام. و يتمثل الحق في تقييد حرية الآخرين بداعي إمكانية تعايش بحرية ضمن قانون عام، و هذا الحق في الجماعة السياسية هو تشريع قانوني مدعما بسلطة قاهرة يعيش في ظلها الشعب بصفته رعية في دولة قانونية تسمى الدولة المدنية تتسم بالمساواة و تحدد حرية كل فرد بالآخر طبقا لقانون الحرية العام.

إذا الدولة المدنية هي دولة قانونية قائمة على ثلاثة مبادئ منها الحرية كل عضو في المجتمع بوصفه كائنا إنسانيا، المساواة لكل فرد من الرعايا، و استقلالية الفرد باعتباره مواطنا، و هذا ما استمده كانط فيما أسماه (الفرضية المنطقية). و جاءت الثورة الفرنسية من أجل وحدة الأمة و المساواة القانونية و الحرية الاقتصادية، و نظّر إليها المفكرون على أنها فجر عصر جديد أمام تطور الدولة الحديثة، فقد شجعت حقوق الإنسان و قننتها. إن هيجل هو أول من طوّر مفهوم الحداثة مما أدى به للتنظير في العائلة، المجتمع المدني، الدولة، و ربط الكل بالإنسان الاقتصادي و مصالحه الخاصة باعتباره ميدانا للفعل الخلقي، غير أن كارل ماركس يرى أنه لا يمكن إقصاء العمليات الاقتصادية الضرورية للدولة في إطار الإنتاج و الطبعية و المصلحة و المنافسة.

كان مونتيسكيو أول من وضع التنظيمات الوسيطة في صلب المجتمع المدني في عصر التنوير، بمدافعته للتحرر، كان يتكلم عن الملكية و الامتيازات القائمة المتوارثة للنبلاء، فهذه الطبقة جوهر النظام الملكي، بديهيته الأساسية لا ملكية من دون نبلاء و لا نبلاء دون ملكية و هذا ما يهدد الحرية، و الحل الوحيد هو ما أسماه مجتمع المجتمعات أي إقامة فدراليات الهيئات الوسيطة بخدمتها للتحرر. أما جاك روسو فقد أعطى أهمية للجماعة و الصالح العام بحكم العقد الاجتماعي، و الأفراد هم أحرار بالطبيعة و أخلاقيون بالقوة في تعبيره (الإرادة العامة). كلما تشكلت الدولة على نحو أفضل طغت الشؤون العامة على الخاصة و العكس صحيح، و جاء ادموند بورك مهاجما لروسو و الثورة الفرنسية، نتيجة خشيته من أن المساواتية (إلغاء المراتب الاجتماعية و امتيازاتها و المساواة أي التمتع بحقوق واحدة أمام القانون) لا تساعد إلا على تدمير المجتمع المدني .

القسم الثالث، هي جملة من الأحداث، وجدت في أوروبا الشرقية و نظّر لها الخطاب السياسي المعاصر. تشكّل المسار التاريخي لشيوعية القرن 20 عبر الثورات التي حدثت في المجتمعات المتخلفة، تطورت الاشتراكية بوصفها إستراتيجية لإدارة النمو الاقتصادي و التنظيم و أن الدولة تمثل للمصلحة العامة. كان المجتمع المدني في النظام الشيوعي ميدانا ناشطا للروابط المستقلة التي تستلزم حماية قانونية و سياسية من الدولة، فقد بلورت الماركسية نظرية عن الدولة لأنها أرادت دمقرطة المجتمع، فالديمقراطية السياسية خطوة أولى في التجديد الاشتراكي، لا يمكن تمييزها عن الديمقراطية الاجتماعية الكلاسيكية. و إذا كانت السوق تقع في صميم المجتمع المدني، فإن مناهضة السياسة أنتجت نظرية ليبرالية عن الدولة.

و تحمي هذه الأخيرة المجتمع و تقوم بالتعبير عن مصالحه، و هذا الأمر، في الحقيقة، من صميم عملها و هو الطريق الوحيد لحماية المجتمع و صيانة الاستقلالية الفردية.

كما أعيد اكتشاف ميدان المجتمع المدني في ظروف تاريخية جديدة كليا،    و أخذ معنى مختلفا عن معنى المجتمع البرجوازي في التقليد الليبرالي الذي صاغه هيجل باعتباره نظاما للحاجات أي نظاما للسوق يتضمن العمل الاجتماعي و تبادل السلع. أما اليوم، فإن مفهوم المجتمع المدني يعني خلافا لمعناه في التقليد الماركسي، إذ أنه لم يعد يتضمن الاقتصاد الذي يتكون من خلال القانون الخاص، برأس المال، السلع، السوق و العمل.

و قد شخّص هابر ماس شكلا يتضمن قدرة ديمقراطية كامنة في المجتمع المدني، فالعديد من مشكلات الحياة العامة المعاصرة بدءا من الحقوق المدنية، التلوث، التمييز الجنسي، حقوق الإنسان، الأسلحة النووية و ما إلى ذلك أثيرت من طرف المجتمع المدني أكثر مما أثيرت من طرف أجهزة الدولة.

إن العديد من دارسي الديمقراطيات الجديدة الذين برزوا خلال العقد و نصف العقد الماضي شددوا على أهمية المجتمع المدني القوي و النشيط من أجل ترسيخ دعائم الديمقراطية التي تحمل المساواة و الحرية و العدالة باعتبار المجتمع المدني هو الموقع المعاصر للأمم .

و في الأخير، إشتمل الكتاب على الثبت التعريفي من الصفحة 471 إلى غاية 474، و قد تمثلت في الاقتصاد الضمني، الجماعانية، الجماعة، حداثة (تحديث)، حكم الفرد و حكم القلة و حكم الكثرة، الخاص و العام و العمومية و العلنية، المرتبة و الطبقة، المرتبة و النقابة الحرفية والتعاونية المؤسسات و الهيئات الوسيطة، الميادين المنفصلة .

بالإضافة إلى تثبت المصطلحات من اللغة الانجليزية إلى العربية من الصفحة 475 إلى غاية 480، و الفهرس الذي هو عبارة عن مصطلحات لأعلام المفكرين من التاريخ الكلاسيكي إلى الحداثة من تحديد المفهوم و تطور فكرة المجتمع المدني. فمفهوم المجتمع المدني لدى أرسطو هو نقيض لعصر التنوير و ذو مدلول آخر للفكر الحديث. و قد لاحظنا أيضا تكرار عدة كلمات بشكل كبير في صفحات الكتاب كالثورة الفرنسية 24، و الديمقراطية 68، العدالة 37، الرأسمالية 26، الصالح العام 77 و هذا ما يبيّن أن المجتمع المدني يحمل بعدا حضاريا يعتمد على الحقوق التي جاءت بها الثورة الفرنسية و بروز فكرة المواطنة التي تتسم بالعدالة و المساواة بين الأفراد و المواطنين و أخذت أيضا حبكة ممزوجة بين الرأسمالية و الصالح العام.

وعموما، فإن هذا الكتاب هو متابعة نظرية تحليلية لتسلسل تاريخ تطور المجتمع المدني و تأثيراته في الفكر السياسي الغربي انطلاقا من أرسطو إلى فلاسفة عصر التنوير و ماركس و توكفيل و غيرهم. و تطوّر مفهوم المجتمع المدني له علاقة متغيّرة تاريخيا بين الدولة و الاقتصاد و المجتمع. فالمحددات السياسية و الاقتصادية حاسمة في أي مسعى لفهم ماهية المجتمع المدني        و مسيرته عبر التاريخ. فليس من قبل المصادفة أن تتقاسم النزعة الليبرالية و الاشتراكية، و هما الارثان السياسيان العظيمان للحداثة، التصور حول المجتمع المدني، و الاختلافات المهمة بينهما تنشأ مما يريدان فعله بصدده.

 

مريم لمام

 


الهوامش

[1] المؤلف جون اهرنبرغ و هو أستاذ العلوم السياسية في جامعة لونغ آيلند في أمريكا، ناشط في الحقوق المدنية و مناهضة الحروب، له كتابات كثيرة في الماركسية و الفكر الديمقراطي و تاريخ النظرية السياسية.

[2] Ehrenberg John., Civil society, the Critical History of an Idea. New York, London, 1999.

 

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran
+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11
+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Recherche