إنّ الاهتمام بالماضيّ الّذي يتحوّل أحيانا إلى ضرب من الهوس والعبادة يتنزّل ضمن الإشكالية الكلاسيكيّة المتعلّقة بهاجس الزمن أوما يسميه "إلياد" رعب التاريخ من جهة، وبالتقطّعات العنيفة التي مسّت مجتمعاتنا اليوم ففكّكت أواصرها التقليدية، أو أتلفتها، بما غذّى نزعة الارتداد الزّمني في محاولة لإنقاذ حاضر مفارق والظفر برأسمال رمزي مشترك قابل للاستثمار في تشكيل الهويات وتثبيت المراجع من جهة أخرى، فليس هناك ماض كحقيقة فيزيائية أو حتّى تاريخيّة محضة، بل ثمّة تمثّلات واستخدامات له على أساس ما يطلق عليه بعض الأنثروبولوجيين "التركيبات الثقافية للزمن[1]" الّتي عادة ما تشبع تطلّعات ورغبات معلنة أو دفينة، ذلك أنّ الماضي لا يمكن المحافظة عليه، وإنّما يعاد إنتاجه كما كان يردّد هالفاكس.
و تكوّن هذه المقولة الفرضية العامّة التي تقود التحليل المقترح للعلاقة بالماضي في إطار بناء الذاكرة واستخداماتها، وذلك استنادا إلى الموضوع الأثري الذي يكتسي أهميّة فريدة، ليس فقط لأنه إحـدى التمظهرات الأساسية لما يسمّى تراثا، وإنّما أيضا وقبل كل شيء لدلالته الزمنية المكثّفة، فإذا ما اعتبرنا الزمن علامة كما يقول باشلار[2]، فإنّ الطبيعة الماديّة للبقايا الأثرية تمنحها أفضلية في تمثيل الماضي بوصفها شاهدا ملموسا يمارس دوره في تثبيت الزمن وتشيئته.
إنّ التوصيف التقليدي عادة ما يكتفي بالحديث عن الوشائج العميقة التي تشدّ عناصر الماضي إلى الذّاكرة الجماعيّة دون أن يأبه بالمسارات الحقيقية للتفاعل بينهما والّتي لا تخلو من تنوّع وتوتّر ونسيان وإعادة اكتشاف، حيث تأخذ الذّاكرة شكل استراتيجية أكثر منها مقاسمة عفويّة لتجربة معيشة ومتناقلة[3]، وهو ما نرمي إلى إثباته عبر تحليل العلاقة بالتراث الأثري القديم بتونس بوصفه موضوع رهان لذاكرات مختلفة ومتغيّرة تتنازع فيما بينها من أجل السيطرة عليه، حسّا ومعنى، ضمن مسارات صراع المصالح والمواقع والهويّات.
فكيف تشكّلت العلاقة بين الذاكرة الجماعية الشعبية والتراث الأثري في المجتمع التونسي التقليدي؟
وما هي خصائص الممارسة الأركيولوجية وما ارتبط بها من ذاكرة بديلة تمّ العمل على تكريسها استنادا إلى الفضاء الأثريّ لحظة تركّز المشروع الاستعماري؟
وفيم تجسّدت ردّة فعل كلّ من الذّاكرتين الشعبية والوطنيّة على السياسة الاستعماريّة الرّامية إلى الهيمنة على الحقل الأثريّ بالبلاد؟
وما هي السّياقات السياسية والاجتماعية التي أفضت إلى الانتقال من استثمار التراث الأثريّ في بناء ذاكرة وطنية، إلى تفقيره الرمزيّ و إخضاعه لاستخدامات نفعية؟
وليس التراث الأثري القديم أكثر من مدخل لدراسة الذاكرة في علاقتها بالماضيّ، وهو ما يفسّر الاستخدام المكثّف لمفهوم الذّاكرة الجماعية الذي صار كلاسيكيا في الأدبيات الاجتماعيّة، وقد ارتبط تشكّله بهالفاكس الذي ظلّ يدافع باستماتة عن فكرة أنّ الذّاكرة مشروطة بالاستناد إلى ما يسمّيه "الأطر المرجعية"، إذ فقط عبر التفاعل مع الآخرين يمكن للفرد استحضار ماضيه الشخصيّ[4].
وبينما أنكر ستراوس وجود الذّاكرة الجماعيّة أصلا، أشار "باستيد"، إلى طابعها النّسبيّ حسب الفئات والظرفيات ملاحظا أنّ الجماعة لا تحافظ سوى على بنية الترابطات بين مختلف الذّاكرات الفردية[5].
ورغم تشكيك الكثيرين في علميّة مفهوم الذاكرة الجماعيّة الشيء الّذي أدّى بهم إلى رفضه نظرا لما ينطوي عليه من غموض والتباسات[6]، فإنّه يمكن النّظر إلى الذاكرة المشتركة كمفهوم عمليّ كما يقول "كاندو[7]". فالذّاكرة لا تتجلّى بصفة مباشرة، وإنّما تحتاج دائما إلى أطر تثبّتها وتؤويها لعلّ من أهمّها الفضاء، وهو ما يشرّع لاستخدام هذا المفهوم في معالجة تمثل الماضي اعتمادا على التراث الأثريّ القديم، ولكن بعد تأكيد طابعه المتحرّك والمتعدّد، حيث تكون الذّاكرة في الجمع بديلا عن الذّاكرة في المفرد، والذاكرة المتحرّكة مقابلا للذاكرة الساّكنة.
I. المواقع الأثرية القديمة بين سلطة الأركيولوجيا والذّاكرة الاستعمارية
ظلّت المواقع الأثريّة القديمة منحصرة في قيمتها النفعية المباشرة، فاستخدمت في أحيان كثيرة كمقاطع حجارة، كما أعيد استعمال بعض مكوّناتها المعمارية، كالأعمدة والتيجان، في تشييد المباني الخّاصة والعامّة. وتقدّم عديد المعالم التاريخية، كجامع الزيتونة، شواهد على ذلك بفضل ما احتوته من عناصر أثريّة اقتطعت من معالم ومواقع قديمة. وفي هذا السّياق وافانا ابن خلدون بشهادته من خلال ما نقله عن معاينته لاقتطاع الحجارة من الحنايا المعلّقة بقرطاج، حيث "تحتاج أهل مدينة تونس إلى انتخاب الحجارة لبنائهم، وتستجيد الصنّاع حجارة تلك الحنايا، فيحاولون على هدمها الأيام العديدة [8]".
كانت السلطات التونسية لا تمانع في السّماح للأثريين بأخذ ما يستخرجونه من قطع أثرية قبل أن تستثنى المعادن الثمينة من هذا الترخيص[9]، حتّى أنّ الباي نفسه كان يقدّم الآثار هدايا إلى جهات أجنبيّة، أو يسمح بالتفريط فيها مجّانا كما حدث بالمعرض العالمي بلندن سنة 1851 وهو ما سيكرّر سنة 1867 بمعرض باريس وسنة 1881 بمناسبة عرض آثار أوتيك بإحدى الفضاءات المجاورة لمتحف اللوفر[10].
وما إن فرضت الحماية، حتى تدفّقت الرّحلات الاستكشافية وحملات التنقيب في شكل ممارسة منظّمة تجري تحت إشراف الإدارة الاستعمارية نفسها. وكان للمؤسّستين العسكريّة والتبشيرية دورا رئيسا في هذا الحراك وإن اختلفتا في الخلفيات والأهداف، فقد أخذ الآباء المبشّرون على عاتقهم مهمّة إعادة إحياء الكنيسة الرومانية بالبلاد انطلاقا من جمع وحفظ النقائش والبقايا الأثرية التي تعود إلى تلك الفترة. ولقد بدأ ذلك فعليّا إثر احتلال الجزائرعام 1830 حين منح حسين باي لشارل العاشر قطعة أرض على هضبة بيرصا قرطاج، لإقامة معلم تخليدا لذكرى "سان لويس" المتوفّى بقرطاج في الحملة الصليبية الثامنة[11].
وكما يبدو واضحا فقد خضع التراث الأثريّ إلى عمليّة انتقائيّة تمّ بمقتضاها حصره في الفترة القديمة لا سيّما الرومانية منها مقابل تغييب كامل للفترة الإسلامية، والحال أنّ شواهدها المعمارية والإثنوغرافية لا تزال حيّة في مكوّنات المدينة كما في ممارسات الناس وذاكرتهم. ولئن كان التقادم هو الّذي يمنح الفترة الرّومانية هذه المكانة، بحيث تكون بقاياها معطّرة بعبق الماضي، فإنّ فترات ما قبل التاريخ لا تقارن بها من هذه الزاوية، ومع ذلك لم تجد اهتماما مماثلا.
لقد كان الأمر بمثابة تلاعب بالماضي من أجل تأسيس ذاكرة جديدة هي الذاكرة الاستعمارية اعتمادا على بقايا أثرية نظر إليها باعتبارها وثائق ملكيّة للماضي طالما أنها تقدّم حججا لحقّ تاريخي على الفضاء[12]، وبالتّالي يصبح الحضور الاستعماري ما هو إلاّ استعادة لشرعيّة تاريخية افتكّت يوما ما مع مقدم المسلمين الفاتحين، أو الغزاة كما يسمّيهم خصومهم، لتدخل البلاد في قرون من الظّلام وفق تعبير "غوتيي"Gautier
II. الذّاكرة الجماعية الشعبية أمام الآثار القديمة
إن التوصيف الشعبي الشائع للبقايا الأثرية من منظور الذّاكرة الجماعية الشّعبية هو أنّها تعود إلى "الجهّال"؛ هو تعبير للتحقيب الزّمني يعيّن فترة تاريخية طويلة جدّا هي تلك التي سبقت الإسلام أو أنّه أدركها، وبالتّالي فهي خارج الزمن الذي أخذت فيه ذاكرتهم تتشكّل قبل أن تستقرّ على ما هي عليه الآن. ولئن كان المصطلح في أصله تصنيفيا، فإنّه في الثقافة الشعبية يحمل بعدا مخياليا يكاد ينال من جوهر معناه في الإسلام الرسميّ. فما دامت هذه الآثار خالية من أيّة دلالة تربطها بالمنظومة الإسلامية، فقد اعتبرت هامشية وعرضية عفا الزمن عليها، لتسقط من الذاكرة الجماعية.
أمّا القطع الأثرية التي تمثّلها، فهي تكاد تنزاح عن سياقها التاريخيّ الحقيقيّ لتأخذ وضعا ملغّزا يقحمها ضمن عوالم الأسطورة والسّحر والخيال، لذلك أعتبر المتحف "دار العجايب" وليس دار الذّاكرة كما يشتهي المؤرّخون والأثـــريون واخصّائيو المتاحف أن يكون، والسّبب في ذلك أنّ ما يعرض من مجموعات قديمة داخل الفضاء المتحفي لا علاقة لها بذاكرة المجموعة، وغرابتها ليست لأنّها كذلك في حدّ ذاتها، إذ أنّه من المؤكّد أن بعض القطع على الأقلّ كانت مشابهة لما ينتجونه أو يستخدمونه، وإنّما لأنّها تقع بعيدا عن الزّمنية التي شهدت ميلاد كيانهم الاجتماعي القائم أصلا على القرابة، ونحن نعلم مدى تأثر تمثّل الزّمن بمرجعية "الإنتماء الجنيالوجي" ذلك أنّ التاريخ يبدأ بالمؤسّس. فلا وجود لتاريخ خارج السّلالة إلاّ إذا كانت المجموعة هي المعنيّة بالأمر، وفي ما وراء ذلك يبدو الواقع غامضا وكأنّه غريب، فالتّاريخ يتطابق حينئذ مع سلسلة النّسب ويبدأ انطلاقا من العرب وظهور الإسلام، أمّا البونيون والرومانيون والوندال، فلا سبيل حتى إلى افتراض وجودهم[13]".
وهنا يتعذّر علينا أن نتجاهل السؤال الكلاسيكي التالي: كيف تعامل العرب مع المعالم والمواقع الأثرية التي وجدوها بالبلاد؟ وهو سؤال تاريخي بقدر ما هو أنثروبولوجي بما أنّه يضعنا للتوّ في مجال الذهنيّات والمتخيّل والتمثّلات وكلّ ما يشكّل "حساسيّتنا الثقافية " بتعبير أركون.
طبعا هناك جواب جاهز ومعروف يربط بين هجرة المواقع الأثرية والخلفية البدوية سواء للعرب الفاتحين أوالبربر الّذين لم يكن " لهم تشوّف إلى المباني فضلا عن المدن " كما يقول ابن خلدون[14]، بحيث "سقطت الكثير من القرى خرابا[15]"، وانهارت الحياة الحضرية التي ارتبطت بالمدن وبالمراكز القديمة.
بيد أنّه، وبعيدا عن مناقشة هذه الإشكالية التاريخية، فإنّ التعامل مع المواقع الأثرية كان يخضع إلى منطق الإنتشار في الفضاء وما يفرضه من معطيات أكثر منه تعبيرا عن موقف إيديولوجي سلبي إزاءها، إذ تنطوي العلاقة بالفضاء على أبعاد خفية تجعل منه شرطا محددا للسلوك[16]. وهذا المنطق ليس مغلقا، وإنّما في تفاعل مع شروط الحياة الخاصة بكلّ جماعة، وهو ما يفسّر هجرة أكثر المواقع الأثرية بشمال البلاد رغم عدم إنشاء قرى ومدن بديلة عنها، مقابل إعادة تأهيل مدن قديمة أخرى.
فبما أنّ الوظيفي يتداخل بالرمزيّ، كان من الضّروري إعادة تمثّل الموضوع الأثريّ والتلاعب به بما يسمح بإعادة حيازته مادّيا ورمزيا بإستعمال الأدوات التالية:
1. التسمية
لاحظ لفي شتراوس اعتمادا على أعمال دي سوسير أنّ مسار التسمية يشمل ثلاث عمليات مترابطة هي التعريف والتصنيف والدلالة[17]، بحيث تتحوّل التسمية نفسها إلى مصدر متعال تصدر عنه جميع الحقائق، فما من تسمية إلاّ وهي ترجمة لرهان مفتوح بين المسمّي والمسمّى بإعتبارها تسعى إلى التملّك أو الحيازة الرمزيّة، لذلك لا تخلو ممارسة التسمية من هيمنة وتوتّرات وتلاعب تبرز في وجود أكثر من اسم لنفس الموضوع وفي ظاهرة تعاقب الأسماء وفي اختفاء بعضها قبل إعادة الظّهور، وهو ما يمكن معاينته اليوم في إحياء المعجم التوبونومي اللاّتيني الخاصّ بالمدن والشخصيات واستخدامه أسماء جديدة لعديد الفضاءات العصريّة مثل النزل والمطاعم والمغازات. ولتسمية الأماكن وظيفة مركزيّة بالنسبة إلى الذاكرة الجماعية بالنظر إلى أنّ المجتمع ينزع إلى تقطيع الفضاء بصفة تسمح بتشكيل إطار ثابت يموضع فيه ذكرياته ويستعيدها[18]، وهو ما يسمّيه البعـض تحييز أوتتريب الذاكرة (de la mémoire (territorialisation أي التجسيد الترابي للذاكرة.
من البديهيّ القول إنّ المقتضيات اللّسانية كانت الدافع الرئيسي لتغيير تسميات المدن والمراكز القديمة، فإحلال اللّغة العربيّة مكان اللّغة اللاتينية استوجب تغيير أسماء الأماكن الأثرية، لكنّ العملية تتعدّى مجرّد التعريب لتخضع لنظام تسمية راح يشتغل وفق جملة من المبادئ والنماذج الّتي تحكم الجماعة في إطار التحوّلات الهيكلية التي أخذت طريقها داخل الثقافة الشعبية في تلك الفترة، فالمهمّ هنا هو فعل تفكيك البنية الإسمية القديمة ثم إعادة بنائها بما يتوافق مع رهانات المجموعة ومتخيّلها، وهو ما يعني تملّك الفضاء الأثري ليخلص من حالة اللامعنى والغموض، فيصبح جزءا من الذاكرة الجماعية.
2. سرديات التأسيس
حيال التحدّيات التي فرضها المشهد الأثريّ بما يحويه من مكوّنات ومعالم غير مألوفة بالنّسبة إلى الثقافة الصحراويّة أو البدوية، لجأ المتخيّل الشعبي إلى نسج قصص حول نشأتها بغية تأصيلها في ذاكرة الجماعة، حيث تتكرّر نسبة المباني الأثرية الضخمة إلى كائنات فوق طبيعية أو استثنائية في هذا الجنس من السرديّات الشفوية و إن تسربلت بغطاء شخصيات مختلفة ذات تسميات خاصّة مثل الرّجال الطوال والغول والصّالحين أوالصلاّح. ويمكن اعتبار هؤلاء امتدادا أو معادلا للأقوام العمالقة الغابرين الّذين تردّد ذكرهم في الأساطير وفي القرآن الكريم.
إن عملقة بناة المعالم الأثرية تعكس الذهنية الشعبية بقدر ما تعبّر عن محاولات الذاكرة استيعاب الفضاء المكاني، ذلك أنّ انفصاله عن المقدّس يضفي عليه طابع الإبهام وتفكّك المعنى والفقر الدلالي فيتحوّل إلى مجال سردي espace narratif وموطن للتخيّل والأحلام واللامعقول والتهيّئات[19].
3. الزّوايا والمزارات
مثلما كانت الطرق والزّوايا وسيلة لأسلمة إفريقية بصورة كاملة كانت أيضا إطارا لاحتواء الموروث ما قبل الإسلامي بمحتوياته الإثنوغرافية الغزيرة، فقد راحت الخارطة الولائية تتمدّد جغرافيا لتشمل مختلف المناطق بما في ذلك الأثريّة منها حيث حولّت بعض مواضعها إلى مزارات واستخدمت موادها كالحجارة والأعمدة لتشييد زوايا سرعان ما أضحت هي نفسها عناصر تاريخية تسم المشهد الأثريّ وعلامات معمارية ورمزية تعيّن حضور جماعات اجتماعية مجسّدة هويّتها وذاكرتها الجماعية.
بل أكثر من هذا، وفي بعض الأحيان، يتمّ استيعاب ما تمثّله هذه المواقع الأثرية من ممارسات طقوسية وثنيّة من جنس الأضاحي والنّذور والخرجات الموسميّة على النّحو الذي نجده بموقع "دقة" بمناسبة الاحتفال بللاّ أمّ خولة عبر ذبح بقرة يقدّمها أهالي المنطقة كأضحية تماما كما كان يفعل أسلافهم الرومان بنفس المكان[20].
إنّ المعنى الحقيقيّ لحضور المقدس الشّعبي في قلب المواقع الأثرية لا يخرج عن منطق إشغال الذاكرة الجماعية بنزعتها نحو التجسيد المادي والرمزيّ بانتحال أمثلة ومواقع وشخصيات وممارسات، واستبدال الفراغ الدلالي للأماكن والأشياء بنوع من الثقل الأنطولوجي تأصيلا لها في الذاكرة.
III. تمثّل الماضي وصدام الذّاكرات
1. المواقع الأثرية ساحات صراع
لقد تحدّث الإخباريون والمؤرّخون والجغرافيون المسلمون عن خلاء العديد من المدن القديمة من سكّانها الأصليين وعدم تعمير العرب لها، فأمست شعرى ومواتا وغياضا بتعبير القدامى[21]. حتى أنّ موسى بن نصير كان أثناء عودته من القيروان نحو المشرق " إذا مرّ بخربة عادية أو مدينة من مدائن الأولين، نزل وركع ركعتين ومشى فيها وفكّر في معالمها وفي آثارها، ثم بكى بكاء كثيرا"[22].
لكن يبدو أنّ هذا الوضع قد تغيّر على الأقلّ في الفترتين الحديثة والمعاصرة بدليل وجود مداشر عديدة، لا سيّما بشمال البلاد قد شيّدت فوق مواقع أثرية، بما فرض حقيقة اجتماعية تضاف إلى الحقيقة التاريخية التي كان المستعمر يسعى إلى إعادة اكتشافها وإحيائها.
وتصوّر تقارير الأثريين والجغرافيين ومختلف الفاعلين المرتبطين بالإدارة الإستعمارية مشاعر الإمتعاض والّنفور من حضور الأهالي داخل هذه المواقع أو حتى حولها، فقد اعتبروا عناصر دخيلة ونشازا تاريخيا ينبغي إزالته لحماية المواقع والمحافظة على أصالتها مقابل ذلك تماما، كانت الجماعات المحلية تعتبر المجال الأثري الذي استوطنته جزءا من هويّتها الترابية في الحاضر.
ويكشف مثال "دقة" سيرورة المجابهة بين ذاكرتين متناقضتين في التعامل مع الموضوع الأثري دارت رحاها على أرض الواقع و في سياق موسوم بالهيمنة السياسية والمعرفيّة لطرف على آخر. فتماما كقرطاج والجمّ، جلبت "دقة" اهتمام الرحالة الغربيين الّذين زاروا البلاد[23]، فمجّدوا مكوّناتها المعمارية التي تشكّل نموذجا متكاملا للمدينة الرومانية يندر العثور عليه، وما إن بدأت الأشغال سنة 1892 تحت إشراف الطبيب كارتون Carton حتى نشبت النّزاعات مع السكّان المحلّيين الذين وجدوا أنفسهم يواجهون الترحيل لإخلاء الموقع للوافدين الجدد.
والواقع إنّ التعالي الذي بادر به الطبيب كارتون منذ احتكاكه الأوّل بالأهالي هو الّذي أحدث هذه الفجوة[24]، الشيء الذي دفعه إلى جلب عمال مغاربة للحفريات هناك منذ بداية سنة 1891 تاريخ انطلاق الحفريات الاستكشافية الأولى[25].
وحتى أولئك الذين تخلّوا عن عقّاراتهم على وجه البيع لفائدة الدولة، فإنّهم سرعان ما عادوا لمواصلة التصرف في فضاء المدينة معتبرين إياها ملكا جماعيا غير قابل للتفريط فيه رغم كلّ الضغوطات والمساومات والغرامات التي سلّطت على عدد منهم. في حين استمرّ الأطفال في اللعب بالتماثيل وكسرها أحيانا وخاصّة إفساد أرضية الفسيفساء التي أمكن الكشف عنها، وأخيرا ترك الأهالي الحيوانات ترعى بكل حريّة [26]، كما ظلّت الحجارة الأثرية تستخدم لصناعة الجير بعدما أقيمت أفران للغرض بالموقع.
لقد أعاد أهل "دقة" النّظر في علاقتهم بالموقع في ضوء حضور الفاعلين الجدد، ففي الوقت الذي كانت فيه الإدارة الرسمية تتحصّن بمشروعية المعرفة العلمية وما تقتضيه من استحقاقات ولو على حساب الأهالي، كان هؤلاء يتسلّحون بمشروعيّة إجتماعية وأخلاقية بإعتبارهم أصحاب هذه المواقع والمدن القديمة وقد ترتّب على هذا التعارض جملة من النتائج في مستوى التصّورات والممارسات، إذ اعتبر الأثريون وجود الأهالي تشويها للتاريخ وتهديدا لهذه الآثار، لذا كانت محاولات ترحيلهم والاستحواذ على بعض الأراضي التي كانوا يستغلونها وإزالة مبانيهم بما في ذلك تلك التي تحمل صبغة مقدّسة لديهم ولا سيما الزوايا كزاوية سيدي أحمد الصيد بقرطاج التي هدمت بالكامل لإنشاء معالم كاثوليكية[27].
وفي أحيان كثيرة مسحت جميع المعالم القائمة بالمواقع التي تمّ التدخّل فيها بما في ذلك الإسلامية منها واعتبرت لا تحمل أيّة قيمة تاريخيّة، بل إنّها جاءت لتطمس التاريخ الحقيقيّ الّذي حتما هو رومانيّ مسيحيّ أو لا يكون.
2. بين الأركيولوجيا الشعبية والأركيولوجيا الاستعمارية
ارتبطت الآثار دائما في الذهنية الشعبية بوجود ذخائر من المعادن النفيسة، وظلّ الحفر على الطريقة الشعبيّة ممارسة شائعة تختلط في الكثير من جوانبها بالسحر، بل لعلّها تمثلّ أحد أهم أبوابه ورّبما من أقدمها. وهي تنبني على فكرة تسخير الجان واعتماد أسرار الحروف وحسابات الأعداد مجدولة لكشف الحجب ودفائن الأرض أو ما يسمّى شعبيا "فتح المالية أو الذخيرة". وقد سبق لابن خلدون أن أشار إلى هذه الظاهرة واصفا أصحابها بقوله: يعتقدون أموال الأمم السالفة مختزنة كلّها تحت الأرض مختوم عليها كلها بطلاسم سحرية لا يفض ختامها ذلك إلاّ من عثر على علمه، واستحضر ما يحلّه من البخور والدماء والقربان، فأهل الأمصار بإفريقية يرون أنّ الإفرنجة الذين كانوا قبل الإسلام بها دفنوا أموالهم كذلك وأودعوها في الصحف بالكتاب إلى أن يجدوا السبيل إلى استخراجها[28]".
وإنّه لمن المثير أن تستمرّ تلكم الممارسات دون أن تنحلّ متّخذة شكل منظومة تقنيّة موحّدة نسجتها الثقافة الشّعبية سعيا إلى السيطرة على ما تختزنه المواقع في جوفها من معادن ثمينة. ويمكن أن نجد البعض من عناصر هذه الثقافة مدوّنا قديما أو حديثا كما فعل دوتي منذ أكثر من قرن[29]، أو ماثلا في ممارسة الحفريات السريّة اليوم والتي لم تجلب بعد اهتمام الباحثين في الحقلين الاجتماعي والأنثروبولوجي، رغم أنّها ظاهرة قديمة متجدّدة ذات حمولة دلالية ثقيلة.
لكن المهمّ هو أنّ هذه الأركيولوجيا الشعبية قد أخذت نفسا جديدا بدخول فاعلين اجتماعيين وافدين إلى الحقل الأثري، إذ أنّ هؤلاء لم يكونوا فقط من الأثريين المحترفين، وإنّما أيضا من المهتمين بالآثار القديمة والمجمّعين والتجّار، بحيث فتحت سوق جديدة ساهمت إلى حد بعيد في إعادة اكتشاف الموضوع الأثري ومن ثمّة إعادة استغلاله لتتولّد بذلك تجارة الآثار لدى الأهالي التي لم يكونوا يعرفونها من قبل، فصار البعض منهم يقبل على بيع القطع الأثريّة للأوروبيين حتى أمام متحف قرطاج نفسه[30]، فإن لم يدركوا قيمتها التاريخية، فقد باتوا متفطّنين على الأقلّ لقيمتها المادية.
غير أنّ التنازع لم يكن بين مفاهيم وتصوّرات مجرّدة تمثل ذهنيتين متقابلتين: ذهنية علميّة تاريخية يمثلها الوافدون الأوروبيون وذهنيّة أسطورية مخيالية يمثلها الأهالي. فهذا التقسيم رغم موضوعيته الظاهرة لا يكاد يفلت من مخاتلات الإيديولوجيا، إذ أنّه يبسّط الإختلاف فيستخدم العلم وسيلة للتصنيف والترتيب بما يكرّس أولوية المعرفة التاريخية على المعارف الأسطورية التي بحوزة الأهالي والحال أن ذلك يخفي الإستراتيجيات والرّهانات الحقيقيّة التي تحرّك الفاعلين الاجتماعيين، المحلّيين أو الوافدين، في الحقل الأثري. لذا فإنّ الانخراط ضمن مشروع واحد من استعادة الذاكرة التاريخية الرومانية، لم يحل دون حدوث صدامات بين الأثريين من رجال الدّين المسيحيين والأثريين الرّسميين التابعين للإدارة الاستعمـارية، وفي هذا المسار يندرج صراع الأب دلترDelattre مع غوكلر Gauckler مدير إدارة الآثار القدية و الفنون.
و إذا كان ذلك ناجما في جانب منه عن نقص الكفاءة لدى الآباء المسيحيين المباشرين للحفريات، فإنّه في جوانب أخرى منه متولّد عن طبيعة الرّهانات التي كانت تقودهم في معالجتهم طالما أنّ هذه الآثار لا تعنيهم إلاّ بقدر ما تجسّده من الحضور المسيحي لهذا كانت ملكية الأراضي التي تقع عليها المواقع الأثرية بقرطاج تحديدا من أهمّ مصادر التنازع بين الأثريين ورجال الدين المسيحيين[31]، ذلك أنّ المكان هو أحد أهمّ مجسّدات الذاكرة، وبالتاّلي فإن السّيطرة عليه استدامة للذاكرة نفسها، فكان إصرار الآباء المسيحيين على التصرّف في هذه المواقع الأثرية من منطلق أنهم الورثة الشرعيون لها وبدافع إعادة إحياء المشروع المسيحي بالبلاد ضمن أطره التاريخية الأصلية التي تشكّل فيها. غير أن انخراط الجميع ضمن المشروع الإستعماري وفّر الأرضية المعيارية اللّازمة لتكامل الأدوار بين هؤلاء و أولئك، فالمهمّ كان بلورة ذاكرة جديدة اعتمادا على المعطيات الأثرية والتاريخية تسمح بربط الماضي بالحاضر، ومن ثمة تؤصّل الحضور الاستعماري، فتقدّمه بوصفه رسالة حضارية تاريخية أو دينية من الواجب استكمالها.
-
IV. التراث الأثري وتشكّل الذّاكرة الوطنية الرسمية
احتكرت الأجهزة الإستعمارية الرسمية وغير الرسميّة الخطاب حول الفترة القديمة من تاريخ البلاد في إطار صياغة الذاكرة الإستعمارية مستغلّة في ذلك تفرّدها بالمعرفة التاريخية مقابل ذاكرة شعبية مشدودة إلى الأسطورة و المخيال، حتّى بدا الأمر يقدّم وكأنّه العلم في مواجهة الخرافة والجهل، فكان أن لجأ بعض الباحثين التونسيين إلى الفترة الإسلامية التي تكاد تكون قد طمست في البحث التاريخي الرسميّ آنذاك.
وقد شدّد المؤرّخ رؤوف حمزة على أهميّة سلاح التاريخ في تكريس مشروع الاحتلال عبر إلغاء الذاكرة الجماعية القائمة وإحلال ذاكرة بديلة محلّها هي حتما الذاكرة الاستعمارية بجذورها الرومانية وما حملته من إيديولوجيا الجمهورية[32] .
ولمقاومة هذه السياسة في إطار معركة الذاكرة والهوية، كان لا مفرّ من استيعاب الماضي ما قبل الإسلامي و إدراجه ضمن مسار خطّي نحو بناء هوية متميّزة هي الهويّة الوطنيّة. وبذلك تصبح الفترة القديمة ليست مناقضة لهذه الهوية وإنّما إحدى تكويناتها الأساسية، "فراح المؤرّخ الأهلي، وهو في الغالب من الزّعماء المؤسّسين للحركة الإصلاحية والوطنية، ينهمك بالنّبش عن الماضي ما قبل الإسلامي الّذي لم يكن يجد قبل ذلك أيّ اهتمام ليحي ذكرى أبطاله ويعيد قراءة التاريخ واضعا الحروب القرطاجنية والرومانية وبطولات الأجداد الأباعد من البربر وفي المرحلة الإسلامية في سياق واحد يصنعه التعارض القديم المتجدّد بين العنصرين الشرقيّ والأوروبيّ والرّوح الإستقلالية بل الوطنيّة الّتي تحرّك شعوب المغرب مند العهود الغابرة[33]".
وبعد أن انحصرت الكتابة التاريخيّة في الحديث عن العائلات والأعيان على غرار ما نجده في "الحلل السندسية" و"إتحاف أهل الزمان"، اتّجهت أنظار النخبة إلى كتابة تاريخ عامّ ومضاد للرّواية الإستعمارية. و"جاءت كتابات البشير صفر وعبد العزيز الثعالبي وحسن حسني عبد الوهاب في مرحلة أولى، والصاّدق مازيغ وصلاح الدّين التلاتلي وعلي البلهوان وغيره مند الأربعينات لتنحت صورة مغايرة، إذ تعاملت مع الماضي ما قبل الإسلامي كجزء من التّاريخ الوطني وصاغته بطريقة تبرز مقاومة السكان الأصليين لهيمنة الإمبراطورية الرومانية في مرحلتها الوثنية والمسيحية[34]". مقابل ذلك، "فقد جاء الإسلام ليتيح للبربر التحرّر من اضطهاد الروم والرّجوع إلى أصولهم المشرقية"[35].
لكن مع إعلان الإستقلال وزوال الخصم السياسيّ التقليدي، أي الإستعمار تغيّرت قواعد لعبة الذاكرة، إذ تزايدت مطالب صياغة الهويّة الوطنية بوصفها شرطا لبناء الدولة الوطنية نفسها، وهو ما استدعى مزيد الأشغال على الذاكرة وتكريسها فضاء للاستثمار الرمزي للماضي، وبذلك راح يتبلور مفهوم "التونسية" باعتبارها إطارا موجّها ومنظّما لتمثل الماضي. غير أنّ مضمون التونسية لم يعد يتحدّد بالقياس إلى الفرنسية La francité، أو بالأصحّ إلى الرومية ٌLa roumité، وإنّما بالقياس إلى العربية الإسلامية، وذلك عبر التمايز عنها[36]. وغير خاف أنّ هذا التحوّل قد نجم عن تشكّل فكرة الدولة الوطنيّة كمعطى جغرافي وثقافي والّتي باتت مطلبا سياسيا لا غنى عنه، لتصبح النّظرة إلى التاريخ محكومة ليس بمسألة الهويّة فحسب، بل وكذلك بالحقيقة الوطنية الّتي تجسّد الرّوح المحرّكة لهذا التاريخ وغايته القصوى. واستتباعا لذلك، تمّ التركيز على إحياء المناسبات الوطنية التي وضعها التاريخ الرّسمي وفي نفس الوقت الاهتمام بالفضاءات التاريخية من معالم ومواقع اثرية قديمة.
و الواقع أنّه لم تكن هناك قطيعة في نظرة النّخبة السياسية والثقافية الصاعدة للتراث الأثري، فقد ظلّ الاهتمام منصبّا على الفترة الرومانية والبيزنطية بينما أهملت الفترات السابقة لها[37]. ولم يأت الأمر المتعلّق بتنظيم المعهد الوطني للآثـار والفنون الصادر بعد سنوات من الاستقلال بجديد في هدا المجال[38]. وغير خاف أنّ ذلك وثيق الصّلة بطبيعة تكوين هده النّخبة والأصول الإجتماعيّة المنحدرة منها، فهي من البرجوازية الصّغرى التي أمكن لها الاندماج في التعليم الحديث بالبلاد ودخول الجامعات الفرنسية بما يعني تبنّيها للمفهوم الغربي للتاريخ.
وإذا كانت الممارسة الأركيولوجية لم تتغيّر، فإن التغيّر الحقيقيّ يكمن في الإطار السّياسي والإيديولوجي الّذي بات يهيكلها، فقد صارت موجّهة أكثر فأكثر نحو بناء ذاكرة وطنية رسميّة بدل الذاكرة الإستعمارية. و بما أنّ هذه الذّاكرة قد تمحورت حول شخصية الزعيم بورقيبة بعد إزاحة خصومه السياسيين، فقد وظّفت كل المعطيات التاريخيّة لرسم صورة البطل الاستثنائيّ وإرضاء نرجسيّة الزعيم الأوحد بورقيبة، ليتشابه في ذلك مع أتاتورك[39]. فهو مخلّص البلاد وباعث "الأمة التونسية" كهويّة ذات مكوّنات محدّدة متعارضة مع فكرة الأمّة العربية. وكما لاحظ هشام جعيط، "فطيلة ثلاثين عاما، حكم بورقيبة مع التاريخ، إذ جاز التعبير، إذ أنّ كلّ خطابه لم يكن سوى تذكير بالحركة الوطنية المتمركزة حول شخصه: إنّه التاريخ المنظور إليه كسيرة تقريظية وتمجيدية"[40].
كان بورقيبة مسكونا بفكرة أنّ نضاله يندرج ضمن خطّ متواصل لنضال هؤلاء العظماء مع تفوّق طفيف له لأنّ كفاحه أثمر. فهو كما يقول عن ذاته يوغرطة الّذي نجح[41]. وظلّت شخصية حنّبعل ملهمة لبورقيبة حتى بلغ انبهاره بها حدّ التماهي معها. وبذلك كتب عمر جديد للعصر القديم، فنفخت الحياة في الــمواقع الأثرية واكتست حلّة تونسية نسجتها مفاهيم الوطن والأمّة والدّولة، فأضحت قرطاج ودقّة والجمّ وبلاريجيا مجالا لإستثمار الماضي من أجل تكريس ذاكرة وطنية لم يكن يخفى طابعها الإيديولوجي الإقصائي بما دفع إلى الإحتجاج عليها، بل ورفضها عبر التشبّث بالذّاكرة الشعبيّة وتأويلاتها للموروث القديم.
ولم تفلح المعرفة التاريخية التي راحت تنشر مع تعميم التعليم في وضع حدّ لهيمنة الذاكرة الشعبية في مجال التراث الأثريّ القديم، بل تبلورت ثنائية بين ذاكرة وطنيّة رسميّة ترعاها الدولة والنّخب الرسمية وذاكرة شعبيّة مهمشة، ولكنّها حيّة معتمدة على منطق خاصّ في الانتقاء والتأويل. ولعلّ من مؤشّرات هذا الانقسام هو أنّ المواقع الأثرية ظلّت محلّ رعاية رسميّة أكثر منها شعبية، بينما حظيت المدن العتيقة ذات الأصول العربيّة الإسلامية بنوع من التعاطف الأهليّ كما يبدو في كثرة الجمعيات التي أنشئت بهدف صيانتها وحمايتها. فباستثناء بعض النّخب السياسية والثقافية التي سمح لها تموقعها الإجتماعي ببلوغ درجة من الوعي التاريخيّ، فإنّ أكثر القطاعات والفئات الإجتماعية ظلّت ذاكرتها بمنأى عن المخزون الأثري القديم.
.Vمن الذّاكرة الوطنية إلى الذاكرة الانتفاعية
مع تتالي إخفاقات مشروع الدولة الوطنية وتنامي الوعي الشعبيّ بالطابع الإقصائيّ والتمويهي الّذي تخفيه إيديولوجيتها بما فتّت الاعتقاد في فكرة الوطنية ودور الدّولة من جهة[42]، واقتناع الّنظام السياسي بعد بورقيبة بتعذّر الاستمرار في استثمار هذه الذاكرة بحكم تكوينه والظّروف الّتي قادته إلى السّلطة، تبدّلت شروط التعامل مع التراث الأثريّ، فخلف السياسة الرسميّة المعلنة وأجهزتها البيروقراطية المختلفة تارة، وحتّى داخلها تارة أخرى، راحت تنشأ منظومة من الممارسات الأثرية الموازية لم تعد فيها الذاكرة الأثرية سوى تركة أو غنيمة تسخّر كل الوسائل للإنتفاع بها، فمنذ بداية التسعينات من القرن المنقضي أخذت تبرز ظاهرة الإستخدام المكثّف للقطع الأثريّة عبر الحفر والإتّجار والتداول التجاريّ والاجتماعيّ لها.
لا مندوحة من أنّ الحصول على الكنوز ظلّ حلما قديما راود الإنسان، وهناك إرث كامل في هذا المجال على غرار ما يعكسه الأدب الشعبي مثل كتاب ألف ليلة وليلة في حكاية جودر مع أخويه سالم وسليم[43]. فكان التنقيب عن الآثار هو تجسيد ملموس لأسطورة الكنوز المخفية التي يعثر عليها بضربة حظ أو بواسطة معرفة خاصّة لم تتح سوى لفئة قليلة من الناس ممّن يسخّرون الجان والسّحر وتقنيات غامضة تسمح بكشف الحجب لبلوغ الذخائر المستقرّة في بواطن الأرض والمباني القديمة.
لكن المال ليس مخيالا فقط،، بل هو أيضا قيمة مادية واجتماعيّة، حيث يمثّل الوسيلة المطلقة[44]، أو "القطب الذي تدور عليه رحى الدنيا" بتعبير الجاحظ[45]، ثمّ وعبر عمليّة تحويل نفسيّ تصبح الوسيلة نفسها غاية[46]، وبذلك فالمال هو بمثابة الوهم الموضوعيّ لحالة التبعية المرسومة في كل إنسان على النحو الذي بينه " زيمل" في " فلسفة المال"[47].
عادة ما كانت الحفريات السريّة تقدّم بوصفها استمرارا لممارسات قديمة تنمّ عن جهل وشعوذات دافعها الأساسي هو الطمع والبحث عن مخارج واهمة للفقر وصروف الحرمان. وتعزّز هذا التفسير التقارير الأمنيّة والمحاكمات القضائية المتّصلة بالتنقيب والاتّجار في الآثار والّتي عادة ما كان يتورّط فيها أشخاص منحدرون من الأوساط الشعبية. ولم يكن ذلك في الحقيقة سوى ضجيج يشوّش على نشاط منظّم داخل شبكات حقيقية للإتجار بالآثار على غرار ما تمّ كشفه سنة 2010.
وفي الوقت نفسه شرعت في البروز ممارسة تجميع القطع الأثرية والإحتفاظ بها كمجموعات نادرة أو لإستخدامها ديكورات منزليّة داخلية أو عناصر معمارية ذات وظيفة زخرفيّة أو حتّى إنشائيّة. ويبدو أنّ فئات اجتماعية بعينها هي التي كرّست مثل هذا الإستخدام. ففي ظرف زمني وجيز أطلّ أثرياء جدد لم تكن لهم أصول طبقية تسمح لهم بالصعود في السلم الاجتماعي، و إنّما استثمروا صلات القرابة و المصاهرة والزبونية clientélisme مع سلطة 7 نوفمبر 1987.
ولأنّهم كانوا يفتقدون إلى الوجاهة الاجتماعية الضرورية لتكريس وضعهم الجديد، فقد سعوا إلى انتحالها بمضاعفة رأسمالهم الماليّ بما يفسّر تعطشّهم اللاّمحدود للسّطو على المؤسّسات الاقتصاديّة العموميّة في إطار برنامج الخوصصة وتحقيق تمايزهم الاجتماعي اعتمادا دائما على قوّة المال لأنّه لم يكن لديهم، بالنظر إلى طبيعة هويتهم السوسيو-ثقافية، أصولا وتكوينا، بديلا حقيقيا عنها، كالمعرفة والماضي النضالي وعراقة النّسب، فكان أن لجؤوا في تأثيث قصورهم إلى هذا المخزون الأثريّ الّذي كان في متناول أيديهم لما يحظون به من حماية مستغلّين في سبيل ذلك أجهزة الدولة المعنيّة.
وبهذا فقد احتكروا استخدام الإرث الأثري، فجعلوا منه علامات تجسّد نمطا ذوقيا يتفرّدون به عن سائر الفئات الاجتماعية. "إذ الأذواق هي الإثبات العملي لاختلاف لا مفرّ منه كما يقول بورديو، وّالذوق القائم على التحديد ما هو في الحقيقة إلا نفيا أي رفضا لأذواق أخرى و بالتالي للآخرين"[48]. فثمّة وظيفة تمييزية fonction distinctive لأي غرض objet على وجه الإجمال، لكن ما هو قديم ينطوي على فائض دلالي بتعبير "دوران"، فعلاوة على محتوياته النفسانية حيث الانبهار بأصالة الماضي ونقاوة الأصل، وباعتماد تحليل "بودريار"، فإن الغرض كثيرا ما ينهض على التفرّد والغرابة الثقافية على النّحو الذي يفصح عنه الفنّ والموضة أين تشتدّ نزعة التمرّد على الأنماط المألوفة رغم حداثتها، ذلك أنّه "في الغرض القديم تختفي سمات الإنتاج الصناعي والوظائف الأوليّة"[49] ليصبح تذوّق القديم محاولة لتحويل التفوّق الاقتصاديّ والاجتماعيّ إلى تفوّق طبيعي يتعيّن القبول به، ومن ثمّة احترام التفاوت الاجتماعي القائم عليه.
ولعلّ ههنا تكمن أهمية ملاحظة "توكفيل" بشأن ارتباط تذوّق القديم والاستغراق في الماضي بالأرستقراطية[50]، وإن اختلف سياق الدراسة. وبصيغة أخرى، إنّ العلاقة بالماضي لا تنشأ بصورة شفافة عفوية و مجرّدة، بل هي على العكس تماما، "فالقديم ليس غير النجاح الاجتماعي الذي نبحث له عن شرعية ووراثة وإقرار نبيل"[51].
وممّا لا يخطئه التحليل أنّ هذا الاستخدام الجديد وفّر تربة مناسبة لانتعاش الحفريات السريّة التي ما لبث أن تحوّلت إلى عمليات سطو منظّمة حتى داخل المتاحف والمخازن والفضاءات التي تحفظ فيها القطع الأثرية لجردها أو معالجتها كمقرّات المعهد الوطني للتراث نفسها، دون أن ننسى عمليات النهب المنظّمة التي كانت تتمّ حينا بإيعاز من بعض المسؤولين في الإدارات والمصالح المعنية بالآثار أو بتواطؤ منهم أحيانا. وقد كشفت القصور الرئاسية بعين دراهم وسيدي الـظريف وقرطاج والحمامات وتلك التي تعود إلى عدد من الشخصيات ذوات النّفوذ السياسيّ والماليّ عن حجم النّهب الذي تعرّضت له الذاكرة الأثرية، فمئات القطع بعضها مهرّب والآخر مسجّل ضمن دفاتر الجرد الخاصّة بمتاحف الدولة، عثر عليها مستعملة بكيفيّات مختلفة لا تخلو من رعونة وسوء ذوق في كثير الأحيان. وفي الوقت نفسه تمّ فيه اقتطاع عشرات الهكتارات من الموقع الأثري بقرطاج، المدرج ضمن التراث العالمي، بنزع الصّبغة الأثريّة عنها قبل التفويت فيها بالبيع بأسعار تفاضلية لأشخاص معيّنين تولّوا تحويلها إلى مقاسم سكنية سرعان ما بيعت بأثمان باهظة لتشيّد فوقها فيلات فخمة باتت واقعا مفروضا، بحيث يصعب إجراء أيّة تسوية لإسترجاع الصفة الأثريّة لأكثر هذه المناطق ناهيك عن الكلفة المادية العالية لذلك. بل أكثر من هذا، حوّلت بعض شبكات الاتجار في الآثار العالمية أنظارها إلى تونس، فاتّخدت لها فيها قاعدة تباشر انطلاقا منها نشاطها عبر شمال إفريقيا كلّها، وقد أثبتت بعض الاختبارات الفنية التي أجراها المعهد الوطني للتراث على قطع أمكن حجزها وهي بصدد التهريب، أنّ العديد منها متأت من الجزائر وليبيا.
سيكون من الضّروري أخلاقيا وعلميّا بالمعنى التاريخي والسوسيولوجي خاصة إجراء دراسات حول مسارات النّهب والتخريب الّتي تعرّضت لها المكوّنات الماديّة للذّاكرة الأثرية لا سيّما وأنّها باتت تستأثر بالكثير من النقاشات الإجتماعية العامّة بعد كشف الإعلام بأنواعه الخزائن الأثرية بعديد القصور والمنازل بعد 14 جانفي 2011، وأخذ الأمر صبغة قضائية بما أنّ عديد القضايا المرفوعة ضدّ وجوه النظام السابق والتحقيقات حول ملفات الفساد تتعلّق بالآثار.
إلاّ أنّ ما يهمّنا في هذا المجال رأسا هو التغير الدراماتيكي الذي حدث في التعامل مع التراث الأثريّ عبر الإنتقال من استثماره في بناء ذاكرة مشتركة في إطار مشروع ثقافي استعماري ثم وطني، إلى التلاعب به بوصفه رأسمال يخضع إلى احتكارات فئات اجتماعيّة جديدة لا صلة لها بمسائل الهويّة والذاّكرة والوطنية بقدر ما لها علاقة بالحصول على أكبر قدر من الإمتيازات الماديّة وتكريسها علامة للتمايز الإجتماعيّ.
خاتمة
كشف تحليل التراث الأثريّ من منظور ارتباطاته بالذاكرات التناقض بين سكونيته كصورة ماديّة كائنة في الحاضر وتمثيله المادّي الآني لشيء غائب من الماضي من جهة، ودينتاميته المتولّدة عن تمثّله في الحاضر من جهة أخرى. فليست البقايا الأثرية محض حجارة للحفظ والصّيانة من حيث هي مادّة رئيسة للبحث التاريخي والأركيولوجي والمعماري والفنّي، وإنّما هي أيضا ذاكرة مشكّلة حولها، بل إنّها لا تُدرك إلاّ من خلالها، حيث تأخذ العناصر الأثرية قيمة العلامة valeur de signe، وذلك بفضل الدلالة الفينومولوجية للصورة- الذكرى وماديّة الأثر كشيء غير محايد، وإنّما مشحون دلاليّا ينكشف عبر استخدامات مضبوطة وفق تحليل بودريار لنظام الموضوعات أو الأشياء. بحيث يتداخل الماضي بالحاضر والمادّي بالرّمزي تداخلا تتجلّى فيه الذّاكرة بوصفها رهانا وسيرورة بناء أكثر منها معطى جاهزا ثابتا. من هنا تعدّد مفهوم الماضي القديم وصور الآثار المجسّدة له طبقا لتعّدد الذاكرات وما يحرّكها من رهانات واستراتيجيات، فكلّ ذاكرة، هي بشكل ما خالقة لزمـانها، وبالتّالي لماضيها.
ولئن استثمرّت هذه الآثار في البداية لبناء ذاكرة استعماريّة تزعم التواصل مع الماضي الروماني المسيحيّ من أجل إثبات "حقّ تاريخي" على الفضاء، مقابل ذاكرة شعبية أدرجتها خارج دائرة زمنها الأصليّ الخاصّ بهويتها الجماعية، فإنّها ما لبثت أن حمِّلت بدلالات جديدة مرتبطة بمفاهيم الوطن والدّولة والأمّة في سياق تشكّل الذّاكرة الوطنية، قبل أن تأخذ مضمونا سياسيا أكثر منه وطنيّا، وتستحيل قيمة للتبادل السّلعي ضمن شروط إعادة تشكيل وتوزيع المــــراتب الاجتماعية والأنساق المعيارية في المجتمع التونسي اليوم. وما انتشار حمّى الحفريات السريّة والاتّجار في الآثار و كلّ ما هو قديم ضمن شبكات أنشئت للغرض سوى إحدى المؤشرات الخطيرة على التفقير الرمزي للمخزون الأثري بفعل بتره من مشاريع التأسيس والتأصيل الثقافي أو حتى الإيديولوجي بالمعنى التقليدي للكلمة، ناهيك عن مسألة الهوية والوطنية، لينكفئ على نفسه موضوعا للمعرفة العلمية لدى المختصّين وذاكرة ماديّة سلعيّة للتفاخر والتمايز أو النّهب تكاد تكون مفرغة من محتوياتها التاريخية والأنثروبولوجية الحقيقيّة.
عماد صولة*
المصادر و المراجع
الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق 70، ملف 824.
ابن خلدون، عبد الرحمان. المقدمة، بيروت، دار الكتب العلمية، دون تاريخ.
الجاحظ، عمرو بن بحر.(1971)، كتاب، البخلاء، تحقيق الحاجري طه، القاهرة، دار المعارف.
الذوادي، محمود. (2006)، الوجه الآخر للمجتمع التونسي، تونس، دار تبر الزمان.
القيرواني، ابن أبي زيد. (1999)، النوادر و الزيارات على ما في المدونة من غيرها من الأمهات، جزء 10، بيروت.
المالكي، أبو بكر عبد الله. (1981-1983)، رياض النفوس، تحقيق البكوش البشير، جزء 2، بيروت.
الهرماسي، عبد القادر. (1992)، المجتمع والدولة في المغرب العربي، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية.
الهرماسي عبد اللطيف. ( 2006)، استراتيجيات المواجهة الرمزية للحداثة الاستعمارية: مثال تونس والجزائر، ضمن الثقافة والآخر، تأليف جماعي، تونس، الدار العربية للكتاب.
باشلار، غاستون. (1992)، جدلية الزمن، ترجمة خليل، أحمد خليل، بيروت، المؤسّسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع.
جعيط، هشام. (2000)، أزمة الثقافة الإسلامية، بيروت، دار الطليعة.
خواجة، أحمد. (2006)، "الثقافات الشعبية بين التاريخ والذاكرة الجماعية وإشكاليات التدوين والتوظيف"، الحياة الثقافية، تونس، العدد 174، جوان.
الزّاهي، نور الدين. (2005)، المقّدس الإسلامي، الدار البيضاء، دار توبقال للنشر.
طبّابي، حفيظ. (2008)، "التراث والهويّة بين الإرث الاستعماري والبناء الوطني"، مجلة روافد، المعهد الأعلى للحركة الوطنية (تونس) العدد 13.
فلنسي، لوسات. (1994)، المغرب العربي قبل احتلال الجزائر (1790-1830)، ترجمة الساحلي حمادي، تونس، دار سراس للنشر،
كتاب ألف ليلة وليلة، (2000)، بيروت، الدار النموذجية للطباعة والنشر، جزء 4.
مسعود، محمد. (2006)، "الذاكرة الشعبية والتاريخ، حفريات دقة 1892-1902"، مجلة الحياة الثقافية، تونس، عدد 174، جوان.
Bachchaoech, E. (2000), « Epigraphie et ethnographie d’une fête populaire de Dougga, en Tunisie, à la dédicace de laque duc de Thugga, en Afrique romaine », in comptes-rendus des séances de l’Académie des Inscriptions et Belles-lettres, n° 114.
Bastide, R. (1970), « Mémoire collective et sociologie du bricolage, in L’année sociologique.
Baudrillard, J. (1995), Pour une critique de l’économie politique du signe, Tunis, Cérès Editions.
Bonniard, F. (1934), La Tunisie du nord, le Tell septentrional, Paris, Paul Geuthner.
Bourdieu, P. (1995), La distinction, critique sociale du jugement, Tunis, Cérès Editions.
Candau, J. (2005), Anthropologie de la mémoire, Paris, Armand Colin.
Doutté, E. (1909), Magie et religion dans l’Afrique du Nord, Alger, Adolphe Jourdan.
Hall, E.-T. (1978), La dimension cachée, Paris, Seuil.
Gell, A. (1992), The anthropology of time, cultural constructions of temporal maps and images, University Michigan, ed. Berg.
Gutron, C. (2004), « Mise en place d’une archéologie en Tunisie : Le musée Lavigerie de Saint Louis de Carthage (1875-1932) », in IBLA, Tunis, n° 194, Février.
Halbwachs, M. (1994), Les cadres sociaux de la mémoire, Paris, Albin Michel.
Halbwachs, M. (1997), La mémoire collective, Paris, Albin Michel.
Hamza, R. (1995), « L’Histoire nationale, d’une histoire –mémoire à une histoire-problème, Tunisie, in Rawafid, n° 1.
Hamza, R. (1998), « L’Histoire nationale et édification étato-nationale dans la Tunisie moderne et contemporaine », in Rawafid, n° 4.
Karamti, Y. (2009), Patrimoine, économie et altérité. Essai sur la muséologie des mémoires entre deux rives, Paris, Museum National d’Histoire Naturelle.
Khouaja, A. (2007), « Diversité culturelle : mythe ou réalité ? (Réexamen de la notion du « patrimoine populaire » dans la société tunisienne), in Diversité et similarité culturelle, Collectif, Tunis, Ceres.
La Dépêche tunisienne du 15 août 1891.
Lévi-Strauss, C. (1990), La pensée sauvage, Paris, Plon.
Payot, J.-P. (2001), La guerre des ruines. Archéologie et géopolitique, Paris, Choiseul.
Poinssot, C. (1983), Les ruines de Dougga, Tunis, Institut National d’Archéologie et d’Arts.
Simmel, G. (2008), Philosophie de l’argent, Paris, PUF/Quadrige.
Tocqueville, A. (1986), De la Démocratie en Amérique, Paris, Robert Laffont.
الهوامش
*مؤرّخ، جامعة تونس الأولى، تونس.
[1] Gell, A. (1992), The anthropology of time, cultural constructions of temporal maps and images, University Michigan, Éd. Berg.
[2]باشلار، غاستون. (1992) ، جدلية الزمن، ترجمة خليل، أحمد خليل، بيروت، المؤسّسة الجامعيّة للدراسات والنشر والتوزيع، ص. 133.
[3] Candau, J. (2005), Anthropologie de la mémoire, Paris, Armand Colin, p. 110.
[4] Halbwachs, M. (1994), Les cadres sociaux de la mémoire, Paris, Albin Michel, p. 38-39.
[5] Bastide, R. (1970), « Mémoire collective et sociologie du bricolage », in L’Année Sociologique, p. 65-107.
[6] خواجة، أحمد.(2006)، "الثقافات الشعبية بين التاريخ والذاكرة الجماعية وإشكاليات التدوين والتوظيف"، الحياة الثقافية، تونس، العدد 174، جوان، ص. 15.
[7] Candau, J., op.cit., p. 69.
[8] ابن خلدون، عبد الرحمان. المقدمة، بيروت، دار الكتب العلمية، (دون تاريخ)، ص.273
[9] الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة التاريخية، صندوق 70، ملف 824.
[10] Karamti, Y. (2009), Patrimoine, Economie et Altérité, Essai sur la muséologie des mémoires entre deux rives, Paris, Museum National d’Histoire Naturelle, p. 182.
[11] Gutron, C. (2004), « Mise en place d’une archéologie en Tunisie: Le musée Lavigerie de Saint Louis de Carthage (1875-1932) », in Revue IBLA, Tunis, n° 194, p. 171.
[12] Payot, J.-P. (2001), La guerre des ruines. Archéologie et géopolitique, Paris, Choiseul, p. 46.
[13] فلنسي، لوسات. (1994)، المغرب العربي قبل احتلال الجزائر (1790-1830)، تعريب الساحلي، حمادي، تونس، دار سراس للنشر، ص .42 .
[14] ابن خلدون، عبد الرحمان. مصدر مذكور، ص. 282.
[15] Bonniard, F. (1934), La Tunisie du nord, le Tell septentrional, Paris, Paul Geuthner, p. 335.
[16] Hall, E.-T. (1978), La dimension cachée, Paris, Seuil.
[17] Lévi-Strauss, C. (1990), La pensée sauvage, Paris, Plon, p. 194-259.
[18] Halbwachs, M. (1997), La mémoire collective, Paris, Albin Michel, p. 283.
[19]الزّاهي، نور الدين، (2005)، المقّدس الإسلامي، الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، ص. 33.
[20] Bachchaoech, E. (2000), « Epigraphie et ethnographie d’une fête populaire de Dougga, en Tunisie, à la dédicace de ’laque duc de Thugga, en Afrique romaine », in comptes-rendus des séances de l’Académie des Inscriptions et Belles-lettres, n° 114, p. 117-118.
[21] القيرواني، ابن أبي زيد. (1999)، النوادر والزيارات على ما في المدونة من غيرها من الأمهات، بيروت، جزء 10، ص. 493.
[22] المالكي، أبو بكر عبد الله. (1981-1983)، رياض النفوس، تحقيق البكوش، البشير، بيروت، جزء 2، ص. 120.
[23] Poinssot, C (1983), Les ruines de Dougga, Tunis, Institut National d’Archéologie et d’Arts, p.17.
[24] مسعود، محمد. (2006)، "الذاكرة الشعبية والتاريخ، حفريات دقة 1892-1902"، تونس، مجلة الحياة الثقافية، عدد 174، جوان، ص. 33.
[25] La Dépêche tunisienne du 15 août 1891.
[26] المصدر نفسه.
[27] Gutron, C., op.cit., p. 173.
[28] ابن خلدون، مصدر مذكور، ص. 303.
[29] Doutté, E. (1909), Magie et religion dans l’Afrique du Nord, Alger, Adolphe Jourdan, p. 265-268.
[30] Gutron C., op.cit., p. 173.
[31] Karamti, Y.,op.cit., p. 95.
[32] Hamza, R. (1995), « L’Histoire nationale, d’une histoire-mémoire à une histoire-problème, Tunisie, in Rawafid, n° 1, première année, p. 38.
[33] الهرماسي، عبد اللطيف. (2006)، استراتيجيات المواجهة الرمزية للحداثة الاستعماريّة: مثال تونس والجزائر، ضمن الثقافة والآخر، تأليف جماعي، تونس، الدار العربية للكتاب، ص. 173.
[34] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[35] Hamza, R. (1998), « L’Histoire nationale et édification étato-nationale dans la Tunisie moderne et contemporaine », Tunisie, in Rawafid, n° 4, p. 16.
[36] Ibid, p. 22.
[37] Khouaja, A. (2007), « Diversité culturelle : mythe ou réalité ? (Réexamin de la notion du « patrimoine populaire » dans la société tunisienne), in (Collectif), Diversité et similarité culturelle, Tunis, CERES, p. 48.
[38] Ibid.
[39] الذوادي، محمود. (2006)، الوجه الآخر للمجتمع التونسي، تونس، دار تبر الزمان، ص.34 .
[40] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[41] طبّابي، حفيظ .(2008)،."التراث والهويّة بين الإرث الاستعماري والبناء الوطني"، مجلّة روافد، المعهد الأعلى للحركة الوطنية، تونس، العدد 13، ص. 145.
[42] الهرماسي، عبد القادر. (1992)، المجتمع والدولة في المغرب العربي، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ص. 143.
[43] كتاب ألف ليلة وليلة، بيروت، الدار النموذجية للطباعة والنشر، ط: 3، 2000، جزء 4، ص. 39-66.
[44] Simmel, G. (2008), Philosophie de l’argent, Paris, PUF/Quadrige, p. 7.
[45]الجاحظ، عمرو بن بحر. (1971)، كتاب، البخلاء، تحقيق الحاجري طه، القاهرة، دار المعارف، ص. 170.
[46] Simmel, G., op.cit., p. 8.
[47] Ibid.
[48] Bourdieu, P. (1995), La distinction, critique sociale du jugement, Tunis, Cérès Editions, p. 82.
[49] Baudrillard, J. (1995), Pour une critique de l’économie politique du signe, Tunis, Cérès Editions, p. 24.
[50] Tocqueville, A. (1986), De la Démocratie en Amérique, Paris, Robert Laffont, p. 467.
[51] Baudrillard, J., op.cit., p. 24.