تمظهر الآخر في روايات غادة السمان*

 إنسانيات عدد 28 | 2005 | المجال - الفعاليات الإجتماعية - الغيرية | ص 73-78 | النص الكامل


Soumia CHENNOUF


 

لقد قطعت الرواية العربية شوطا كبيرا في وعيها للآخر، باعتبارها الجنس الأدبي الأقدر على التعبير عن العلاقات المعقدة للإنسان الحديث، سواء أكان ذلك على صعيد الذات أم على صعيد فهم الآخر والعالم، واستيعاب التحولات المتسارعة.

فتحولت الرواية إلى مخبر للمخيال، تتعدد فيه الموضوعات مثل: (المنفى، الغرائبية، الخوف من الآخر...)، إذ تتحكم في هذه المسائل الميثات والأكليشيهات الجاهزة، والصور التقديرية عن الأنا والآخر.

وعبر هذا الاندفاع في البحث عن الآخر والهناك، يبدو العالم الروائي في روايات غادة السمان -الكاتبة السورية المنشأ، البيروتية الذاكرة والهوى-، غنيا بالشخصيات المعبرة عن مختلف وجهات النظر حول هذا الموضوع، يتجلى فيها التقرب من وعي الآخر في الفكر العربي الراهن من حيث هو جزء منشطر من الذات نفيه يعادل نفيها.

وتشكل رواياتها الخمس:"بيروت 75، كوابيس بيروت، ليلة المليار، الرواية المستحيلة- فسيفساء دمشقية-، سهرة تنكرية للموتى"، مدونة غنية هي ثمرة المحنة اللبنانية التي تكشف مواجهة المؤامرة الإمبريالية الصهيونية التي تنفذها أنظمة عربية رجعية، ومن مواقف الإنسان اللبناني على اختلاف مواقفه الاجتماعية ووعيه السياسي، ما يؤهلها لأن تكون أرضية ينطلق منها بحثنا عن تمظهرالآخرفي الرواية العربية المعاصرة، الذي تعد الحرب الأهلية اللبنانية (1975/1990) إحدى أهم تجلياته.

فكيف انتقل هذا الصراع إلى البناء المخيالي وتشكل لغويا في روايات غادة السمان؟

كيف خلقت جدلية الأنا والآخر أنوات متصارعة مع ذاتها، فانشطرت إلى ذوات وتقطعت الصلات الإنسانية؟

كيف يقرأ المنهج الموضوعاتي هذه العلاقة الشائكة ويستوعب التحولات المتسارعة في ضوء المقاربات الأخرى المدعمة؟

تحيلنا روايات غادة السمان إلى عدد من القضايا، ونحن نحاول رصد تمظهر الآخر وتشكله اللغوي وعلاقته بالذات، من ذلك نذكر الآتي:

الوضع الاجتماعي المتدهور الذي تسببت فيه الحرب الأهلية اللبنانية هو جوهر الصراع بين الأنا وآخرها، وما الصراع الطائفي إلا أحد انعكاساته.

سيطرة الرجل على المرأة في مجتمع عشائري منغلق أدت إلى تقوقعها ومشاركتها السلبية في الحرب الأهلية.

السعي إلى تطهير السلطة من مظاهر العنف والرشوة والظلم، وإعادة الحق إلى أصحابه، إحدى المقولات المثالية التي لن تتحقق إلا في المدينة الفاضلة.

فهل السلطة السياسية هي التي تقف وراء تمظهر الآخر في هذه الروايات؟

هل استطاعت هذه الأخيرة الكشف عن مراحل وأسباب انشطار الذات العربية خاصة في غضون الحرب الأهلية اللبنانية؟

هل يمكن أن تخلق روايات غادة السمان فضاء من الحوار بين مختلف الطوائف الدينية والطبقات الاجتماعية، في الوقت الذي عجزت فيه الدولة المركزية عن تأسيس دولة ديمقراطية متعاونة وموحدة؟

وهل قامت غادة السمان بتحديث أدواتها الروائية، في الوقت الذي يدعي فيه بعض المنظرين أنها تائهة بين أصول ومبادئ الرواية وبين الكتابة الروائية المفتوحة؟

إن اهتمامي منصب على النص والعلاقة التي تربطه بالقارئ من منظور المنهج الموضوعاتي، وهي الخلفية النظرية التي يستند عليها البحث في اشتغال نص القراءة لنص متميز، ولموضوع في غاية الأهمية:رواية الحرب الأهلية اللبنانية.

حاولت ضبط عنوان البحث وتحديد عناصره، فوسمته ب:"تمظهر الآخر في روايات غادة السمان"، وجعلته في ثلاثة فصول ومقدمة ومدخل وخاتمة، وألحقت ذلك بفهارس للمصادر والمراجع والموضوعات.

أما المقدمة فتناولت الإشكالية والأهداف والفرضيات، والمنهج المتبع وخطة البحث، وعالج المدخل إشكالية العلاقة بين الأنا والآخر في النص الروائي العربي المعاصر، من خلال الإشارة إلى عدد من الروايات التي صارت بمثابة علامات بارزة في تاريخ الرواية العربية، على اختلاف زمن إصداراتها والذي نتج عنه تطور الرؤى وتنوعها، واختلاف الدلالات عبر مسارات أربع:

الالتقاء بالآخر في الوطن.

الالتقاء مع الغرب الاشتراكي.

نزعة الانكفاء والتدميرية.

النسوية ووعي الذات والعالم.

إلى جانب إظهار قدرة المنهج الموضوعاتي على تتبع الوحدات الدلالية في الرواية.

وخصص الفصل الأول لعرض أهم تجليات الآخر في رواية الحرب الأهلية اللبنانية، عبر استنطاق صورة الأنا والآخر في مرحلتي السلم والحرب، والرفض المتبادل بين الطوائف اللبنانية مع حاجتها إلى التعايش المشترك، وعرض شهادات روائية عن الحرب الأهلية تنبأت بها تارة وفتحت دائرة الكوابيس تارة أخرى، وأسفرت بذلك عن تشظي الذات بين فضاء الغربة الذي تعتقد أنه الخلاص والحرية، وبين أصالة الانتماء الذي تكتشف قيمته وقدرته على حفظ التوازن ومواجهة الذات ومساءلتها بدل انكفائها واغترابها.

وخصص الفصل الثاني لسرد الآخر في روايات غادة السمان من خلال اكتشاف بنائها الروائي الموضوعاتي، ولغتها السردية التي تعد ملتقى ومفترقا بين الأنا والآخر، وعرضت تمظهراته : (الرجل، الطائفي، الطبقي، المثقف المهاجر، المكان)، انطلاقا من الأنا المركزية.

ويمكن رصد أهم تمظهراته عبر العناصر الآتية:

الرجل/آخر بعدما وضعته الكاتبة على طاولة التشريح لاستنطاق هذه العلاقة، وما ينجم عنها من انكسارات أفرزها انغلاقه على طقوسه وتقاليده، في الوقت الذي كان عليه أن يقف مع المرأة بروليتاريا البروليتاريا لمواجهة الإظطهاد المركب الذي يستهدفهما معا، من قبل قوى قمعية تأبى فعل التغيير وإرادة الكفاح.

استخدام الكاتبة قذائف اللغة لكشف الجرح النازف الذي تسبب فيه الآخر/الطائفي، الذي اكتست العلاقة به طابع الشك والذعر والخيبة، وتقنع العدو بقناع الصديق، بعد أن أخفى مكره وغدره لمجرد أنه يختلف مع غيره دينا ومذهبا، عوض أن يبعث بعض التسامح وشهوة الحوار والقبول بالآخر.

إبراز الرواية بشكل كبير وحاد أن جوهر الصراع هو صراع بين الأغنياء والفقراء، وإن تداخلت واختلطت معاييره بسبب التضليل الإيديولوجي الذي يعبر عن مصالح الأغنياء.

تخلص المثقف من انهزاميته وتردده بين الحلم والواقع، وتمسكه بوطنه، بعد تأكده من أن وهم الخلاص لن يتحقق عبر الهجرة إلى أرض الآخر/الغربي.

اقتران الآخر/مكانا (بيروت) بمشاهد متناقضة من الدمار والألفة والحنين والنفور، لازمت مصائر تراجيدية انتهت إليها أغلب الشخصيات بفعل شططها في الحب وهجرة المكان وفشلها في كسب رهاناته.

وفي الفصل الثالث تم التركيز على سرد الأنوثة في روايات غادة السمان عبر التناصية وتجديد التقنيات الروائية، سرد الأنثى-الروائية العربية- لأنوثتها، بعد أن احتكر الرجل سردها لفترة طويلة- وتجديدها للتقنيات الروائية سعيا إلى خلق نوع من الحوار، إلى جانب استعانتها بالتناصية سواء من خلال التفاعل النصي العام أو التفاعل النصي الذاتي، وما ينتج عن ذلك من تعميق لتجربتها الناضجة وتأكيد على تجديدها الفني والفكري.

وفي هذا الصدد يمكن الإشارة إلى مايلي:

اغتيال الريادة الأنثوية هو اغتيال للثقافة والريادة على حد سواء، بوصفها المجال الأسمى الذي يمارس فيه الإنسان إنسانيته، سواء أنظرنا إلى الثقافة بوصفها بنية مستقلة بقوانينها عن المجتمع والحياة أم بوصفها إفرازا لنشاط قوى اجتماعية.

بناء غادة السمان جسرا لغويا تواصليا بين عالم الأحياء والأموات اللذين يكثر استحضارهما عبر الأرواح وتناسخها في البيوت العتيقة وفي الكوابيس والمقابر وعبر دهاليز الذاكرة.

إن لغة غادة السمان لغة سردية واقعية محملة بخصوصية إبداعية، خطتها بتميز واتساق في بناء الحالات الإنسانية ممتزجة بواقع الحرب الأهلية، مستفيدة من أساليب وتقنيات الرواية المعاصرة، تستوعب شخصياتها كيانات متمايزة، وتثمر مصائرها المتشابهة معنى العدم والوجود، تستخدم مفردات الحلم والكابوس لتمسك بالحافة الحرجة بين الوعي واللاوعي، وتستخلص مفردات وتركب فقرات، بمنطق الظلال التي تعكسها هذه الحافة.

لقد ساهمت اللجنة المناقشة الموقرة في توجيه البحث، وإبراز مواطن زلاته -التي لا يخلو منها بحث أكاديمي-، سواء تعلق الأمر بالدراسات السردية أو المنهج الموضوعاتي[1] المتبع، أو حتى اختيار الأعمال الروائية، إذ لا يمكن القبض على الآخر إلا من خلال البرنامج السردي وسياقاته، بالوقوف عند حدود الأفعال أو عن طريق الصورة[2]، ولا يمكن الحديث عنه في كل السياقات لأن لكل نص خصوصيته ودلالته.

كما يتعين -على الباحث- تتبع الوحدات الدلالية في الروايات التي تساهم في القبض على التيمة المركزية، عبر تداعيات اللغة، تتحول فيها كل رواية إلى علامة، بكل بنياتها العقلية والتخييلية، في ملاحقة لحركات الأحلام ومتاحف الخيال وظواهر الأشياء السحرية والإيقاعات الجذابة في عالم غادة السمان التخييلي.

غير أن الاضطراب الحاصل على مستوى ضبط الأدوات الإجرائية، سواء أكان بسبب التحول الذي عرفه المنـهـج مـع بـعـض الأعـلام كـجان بيار ريشار (Jean-Pierre Richard)، أم وقوعه في إشكالية المصطلح وزئبقيته، جعلني أتعثر في تتبع الوحدات الدلالية، وأخضع "لأسلوبية إحصائية".

ويمكن تجاوز ذلك بتطبيق الإمكانات السردية على عمل من أعمال غادة السمان، مثل :"الأعماق المحتلة"من سلسلة أعمالها غير الكاملة، الذي كشفت فيه عن العلاقة بين الحاكم (السلطة) والمحكوم، والرجوع إلى (القدر) كتيمة، والنظر إلى مختلف السياقات النصية للقدر والمكتوب.

لقد أحالني موضوع (تمظهر الآخر في روايات غادة السمان) إلى عدد من القضايا الأدبية الشائكة، مما دفعني إلى طرح إشكالات حاولت إلقاء الضوء عليها لا لإيجاد الحل النهائي لها، فالنتائج تظل أولية والموضوع يتطلب بحثا أعمق .ويظل هذا العمل المتواضع محل معاينة إلى أن تثبت قدرته على تنظيم التحليل الموضوعاتي بشكل منهجي.


الهوامش

[1] تعددت تسميات هذا المنهج في حقل النقد الغربي نفسه،واضطربت الترجمة العربية لاسم هذا المنهج:"النقد الموضوعاتي، النقد التيماتي، النقد الجذري، النقد المداري ..)أنظر ترجمة كتاب نقد النقد لتودوروف-منشورات الإنماء القومي ط1-بيروت ص129 وأصل الكتاب بالفرنسية: Todorov, Critique de la critique (un roman d'apprentissage), Paris, Seuil, p.161

[2] الصورة تعبير عن تمثل يحمله الفرد عن ثقافة الآخر، نحدد أنفسنا من خلاله، ويخضع للذاتية. يقول دانيال هنري باجو:"يستدعي مفهوم الصورة الأكثر إبهاما تحديدا أو افتراضا عمليا، يمكن صياغته كالتالي:كل صورة ترتبط بتمثل،كيفما كان حجمها،وكذا بأنا في علاقته بالآخر، وبالهنا في علاقته بالهناك، وتصبح الصورة من ثمة نتيجة لبعد المنال بين واقعين ثقافيين .كما تمثل الصورة واقعا ثقافيا أجنبيا يكشف عبره الفرد أو الجماعة المكون له أو مروجته ومتقاسمه في الفضاء الإيديولوجي الذي يتموضع داخله".

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran
+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11
+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Recherche