الحـداثة/ المـواطنـة والحقـل الفقهـي* (عناصر من أجل مقاربة إشكالية)

إنسانيات عدد 11 | 2000 | المقدس والسياسي | ص53-65 | النص الكامل 


Modernity, citizenship, and the field of “fiqh” (elements for a problematic approach)

Abstract: The research worker has tried throughout this article to give a contribution in establishing a problematic approach on the knowledge of “fiqh”. Learning and science of religious Islamic law covering all aspects of life, from modernity and citizenship in the arab, moslem civilisational area.
Based on the following paradox, modernity and citizenship established them selves in a western civilisational spare springing from original resolutions, but these categories could only form themselves in the civilisational arab, moslem space.
Considering this paradox, the article questions the obstacles which prevent this forming?
It is also interested in the aspect of these obstacles, represented by intellectual and mental structures which produced modern arab, moslem thinking, and in particular the intellectual and mental structures related to the domain of “fiqh”.

From an implicit structural hermeneutical methodology, this article covers three points with a view to founding its conclusions, firstly it tries to define space of belonging and institution, then it analyses the question of producing knowledge (in general) and the knowledge of “figh” (in particular) in the civilisational field of institution, while trying lastly, to dismantle the intellectual and mental field structures producing “fiqh”. By relying on the results achieved by other research work, and finally concluding in all self frankness putting structural elements in evidence which make all attempts at a qualitative transformation of arab – moslem thought structures answering the demands of modern times impossible.


Ahmed KERROUMI : Profession associé, Université d'Oran, Département de bibliothéconomie, Faculté des Lettres et civilisation islamique, 31 000, Oran, Algérie
Centre de Recherche en Anthropologie Sociale et Culturelle, 31 000, Oran, Algérie


 

"الحقيقة الفلسفية لا تنفصل عن القيمة، و القيمة لا تَتَرسَخ في النفس إلاَ بالحرية،
فإذا آمنا بالحقيقة و القيمة و الحرية فقد مَلَكْنا الطريق إلى تحقيق الإنسان"

محمد بديع الكسم

تكريما له في لحظاب المغادرة دون رجعة)

 

 

المقدمة

تشكلت الحداثة والمواطنة (كمفاهيم، وكأبعاد حضارية) في الفضاء الغربي في رحم حركة ذات طابع مزدوج:

1- حركة أفكار تنظيرية ذات مسار (من النهضة إلى عصر الأنوار) تنشد الإستقلالية (في أبعادها المختلفة).

2- حركة اجتماعية وسياسية حملت على عاتقها تحويل هذه الأفكار الجديدة إلى أفق التحقق في الواقع الاجتماعي والحضاري الغربي.

في حين أن الحداثة والمواطنة في فضائنا الحضاري العربي الإسلامي تجد نفسها حتى الآن وكأنها المركب الغريب عنه والدخيلة عليه.

فما العوائق؟

بدون شك يمكن رصد هذه العوائق في الصيرورة التاريخية لمختلف البنى –الكلية والجزئية- للمجتمعات العربية الإسلامية الحديثة إلا أننا سوف نهتم، في هذا المقال، بأحد أوجه هذه العوائق، المتمثل في البنى الذهنية الفكرية المنتجة للفكر العربي الإسلامي الحديث، وبالتحديد تلك البنى الذهنية والفكرية المتعلقة بالحقل المعرفي الفقهي[1].

1. المواطنة، الحداثة: التحديد والانتماء :

1.1 التحديد:

كلمة مواطنة، هي ترجمة لكلمة Citoyenneté باللغة الفرنسية، وتدل في Le Petit Larousse : " أن الفرد له صفة المواطن" وفي نفس القاموس يحدد المواطن بأربعة معاني، نذكر منها:

1- في القديم: هو الشخص الذي يتمتع بحق الانتماء للحاضرة

2- عضو دولة: وهو بهذه الصفة له حقوق وواجبات مَدَنِية وسياسية.

3- في إطار الثورة الفرنسية، صفة تعوض السيد والسيدة[2].

لقد أسست الحَاضِرة اليونانية القديمة دلالة المواطن وفق مشروطية ما اسميه المساهمة والفعل، فالمساهمة متعلقة بدفع الضريبة من أجل تسيير الشؤون العمومية للحاضرة، أما الفعل فيتعلق بحق المساهم في النظر والنقد لتسيير الشؤون العمومية للحاضرة وواجب الالتزام بقوانين الحاضرة، وبالنتيجة من لا يحق له المساهمة المالية يمتنع أن يكون مواطنا، فالمواطنة اليونانية من حيث هي جامعة للمجتمع الفاعل (بالدلالة التي حددناها) فهي في ذات اللحظة مانعة للمجتمع المنفعل (وفق الثقافة السياسية المهيمنة في الحاضرة آنذاك).

تَـنْزَلِقُ الدلالة الحديثة للمواطنة في إتجاه التعميم، فهي تتجاوز حدود منطق الإنسان المنفعل. إن كل إنسان، من حيث هو حيوان عاقل، لن يكون إلا فاعِلاً، المسألة تتعلق بمأسسة الشروط التي ينبغي أن تتوفر ليكون كذلك، فالتنوير (بالمفهوم الكانطي للاصطلاح) هو مـؤسس للإنسان الفاعل لأنه يقطع الصلة مع كل انفعال، كل سلبية، كل خضوع مقابل وهم لا يأتي، فكل فعل لدى الفاعل هو "وجود بالقوة"، توفير الشروط على مستوى الفرد وكذا على مستوى الكلية المجتمعية يؤدي إلى تحوله إلى "وجود بالفعل".

فالمواطنة بهذا المعنى هي امتلاك صفة المواطن المساهم، المتمتع من حيث هو كذلك بمجموع الحقوق المدنية ضمن مجتمع سياسي، فهي هيكليا ذات طابع قانوني تؤسس للفرد الحر المستقل العضو في الدولة (الدولة بالدلالة الحديثة)، لكن وبحكم طابعها الديناميكي (التعليل في سياق لاحق)، لم تبق في حدود المنطق القانوني، بل تجاوزته لتتخذ أبعادا حيوية سياسية، ثقافية، اجتماعية، إيديولوجية ورمزية...

إنها وارتباطا بهذه الحيوية تدل على إنتماء، مكانة وتمتع في فضاء الحريات، بإختصار أنها تعبر عن ولادة الفرد الحر، المستقل وبدون تمييز. إنها منتوج تاريخي غير مكتمل الإنجاز (وفق تصورات هبرماس) فهو في سيرورة التحقق يجد نفسه في ديمومة التحول.

أما كلمة الحداثة La modernité، فتثير جدلا سجاليا قاتلا لها، وخلطا مثيرا بينها وبين مفهومي الحديث والتحديث، في حين أنها تختلف جوهريا[3] فهي "ليست مفهوما سوسيولوجيا، وليست مفهوما سياسيا، وليست مفهوما تاريخيا خالصا... ليست مفهوما، إجرائيا للتحليل، ليس هناك قوانين الحداثة، مميزات الحداثة... بل هناك منطق الحداثة، إيديولوجية الحداثة، إنها نمـط حضاري متميز، منطق يتعارض مع منطق الأنماط الثقافية التقليدية السابقة عليه"[4] فمنطق الحداثة يحمل الأبعاد الموضوعية والكونية، وإيديولوجية الحداثة تحمل الأبعاد الذاتية، أبعاد المعنى والتي تنزع إلى الهيمنة[5].

2.1. الانتماء :

يمكن رصد الحداثة و المواطنة، من حيث هما حصيلة متجددة لصيرورة تاريخية طويلة، وفق المحددات التاريخية التالية:

أولها: مرحلة ما قبل الفكر السياسي، إنها تمثل مرحلة المجتمعات اللاهوتية الباهرة كما يصنفها غوريفيتش[6]، إن مقولة ما قبل الفكر السياسي تعني لدينا أن محددات الفكر السياسي وأطره السوسيولوجية وبنياته الداخلية وعملياته الذهنية المنتجة له مرتبطة عضويا بالمنظومة الفكرية اللاهوتية – الماروائية فهي التي تؤطر كل ما هو سياسي (تنظيرا وممارسة)، تغذيه وتباركه باحتفالية أو تمنعه وتحرمه بجزر وإكراه.

ثانيها: مرحلة الفكر السياسي، التي تبدأ بتأسيس الحقل الذي يُمكِّن في الآفاق اللاحقة، بعلمنة الفكر السياسي من خلال تحقيق استقلاليته عن حقل اللاهوت في الفترة اليونانية والرومانية (بالتحديد قبل تبني روما للدين المسيحي)، إنها المرحلة التي ازدهرت فيها الفلسفة السياسية... وظهور البذور الأولى المبكرة لفلسفة الحق (جمهورية أفلاطون وقوانينه، أخلاق نيكوماخ والسياسة الآرسطيين....) الـمُعَلْمَنَة.

ثالثها: مرحلة علمنة السياسي المؤسساتي (أقصد الدولة)، لقد تحققت في العصر الحديث، بتلوينات وتمايزات مختلفة، في الفضاء الغربي. ارتكز الغرب الحديث –وفق هذا التحليل- على مكاسب المراحل السابقة كتراكم تاريخي ملائم لصياغة تدريجية لتنظيم سياسي اجتماعي نوعي ومتميز عن أنماط التنظيمات المجتمعية السابقة عليه، بل لنقل لقد تمكن الغرب بعبقرية نادرة تاريخيا أن يدخل إلى عالم الحداثة السياسية. إن فهم هذا التراكم، آلياته وكذا الوقوف على منطقة الداخلي المتحكم فيه يمكننا من المسك بأحد أدوات إنارة المسلك، أو المسالك الممكنة التي تؤدي بنا إلى تملك الحداثة الرحم "الشرعي" للمواطنة.

ستصاغ الحداثة، من خلال تثمين المكاسب المتراكمة السابقة، فَتُبَنْيِنُ (بضم التاء وتسكين النون) الفضاء المجتمعي الغربي وتشكل بالنتيجة ثقافة سياسية جديدة يتحدد منطقها الداخلي (أقصد الحداثة) ارتكازا على أُسَّيْن اثنين أحدهما يغذي الآخر ويتغذى منه، الأس الفلسفي العام أولا: مؤطر من خلال الدور المتميز للعقل في علاقته بالكون، نظرة جديدة للزمان، وجود طبيعة لـها قـوانينها الخاصة وحرية الإنسان، وأس فلسفة الحق ثانيا: من حيث أن مصدر الحق لن يتأتى إلا من إرادة البشر وتجاوز الرؤى المعتقدة أن مصدره هو النظام الإلهي، أو هو انعكاس للنظام الطبيعي[7] .

في خضم الصراعات الاجتماعية السياسية في العصر الحديث، تم تدريجيا شرعنة الحقوق الإنـسانية الحديثة، وفي قلبها النابض مجموع الحريات الإنسانية بدون استثناء. إن هذه الحريات هي الـمُشَكِّلة لعصب المواطنة النامي، وهي في ذات الوقت الرحم الحي للحداثة، نسغ يغذيها ونسيج يشملها.

فمنطق الحداثة يسبح داخل فضاء متنوع، متعدد الأبعاد، ذو بنى مختلفة. متباينة، تتداخل فيما بينها ضمن تمفصل ملائم، متناغم ومتجدد. إنه (أقصد الفضاء) يحرك المجتمع في ديناميكية لا مثيل لها في اتجاه العالمية والأبعاد الإنسانية، إن منطق الحداثة، يفرض نفسه على الأبعاد الكونية بصفة موضوعية، أدركنا ذلك أم لم ندْرك، رغبنا في ذلك أو لم نرغب، أزعجنا ذلك أو لم يزعج، إنه يتجاوز موضوعيا الحدود وبالتالي الفضاء الذي أنتجها، وهو بهذا يؤسس لرحم المواطنة المتفتقة دوما والمتفتحة على العالمية بإستمرار.

ففي اللحظة التي تتشكل المواطنة في النسيج الاجتماعي و المؤسساتي تجد نفسها مندرجة في مسار تحولها إلى "مؤسسة" فعالة ومنتجة تنسج خيوط المؤسسات الاجتماعية لتؤول هي كذلك إلى فضاء الحداثة، ولِتَتَبِنْيِن وفق منطقها الداخلي، فالحداثة هي بمثابة فعل قلب الأرض (أقصد الأرض الاجتماعية) من أجل انبثاق المواطنة.

فلا يمكن لفعل الزرع إلا أن يكون مشروطا مسبقا بفعل قلب الأرض. وفي الفضاء الحـضاري العربي الإسلامي فعل قلب الأرض لم يتم بعد -رغم المحاولات الجادة التي قامت هنا وهناك منذ عهد النهضة – بل كَمْ هو عسير تحقيق ذلك تاريخيا، ذلك لأن الحداثة هي منبت مجتمعاتها فهي منطق ومعنى إنها كما يقول محمد أركون " تقدم نفسها في آن واحد كنظرية تأسيس فلسفي للعالم وكعلمية لتغيير المجتمعات، في الأنموذج الأول يَتِمٍ إيلاء الأولوية إلى الذات العارفة، إلى "الأنا"، والذات الكامنة تلك، التي كقيمة أسمى تضطلع بالمعنى وتبني العالم وتؤسس الرابطة الاجتماعية. وهو بطبيعته (أي الأنموذج الأول) لا يمكنه أن يؤسس ذاته، فكان عليه أن ينهل من "كاتالوغ" من القيم: الحرية، الفرد، العقل، الكونية. وبالمقابل في الأنموذج الثاني يَجْري الإهتمام بالتحديث، تلك الحركة التي تضمن الإنتقال المعقد والمتعدد الأشكال من الحالة (أ) المجتمع التقليدي إلى الحالة (ب) المجتمع الحديث مع التساؤل عن أسبابها ورصد ميادينها ووصف أطوارها وتفحص أشكالها... في الأنموذج الأول: تأخذ الحداثة بالتقسيم المعياري، أما الأنموذج الثاني: التحديث يأخذ دلالة الحيادية[8]".

إن الدلالة التقييمية، المعيارية مرتبطة موضوعيا بالآليات والديناميكيات السوسيولوجبة و الأنتروبولوجية الحاملة للمعنى والتي تشكلت (هذه الدلالة) في أحضانها، فهي مُرَشَّمَة (الشدة على الشين وبفتحها) و تُرَشِّمُ بترشيماتها الخاصة؛ لكن –وهذا يتطلب التبصر- من العسير أن نرى بنـية الحداثة تنحصر في المعنى (الرمزي) المحلي الخصوصي (الفضاء الحضاري الضيق الذي أنـجبها)، بالرغم من أنها تتغذى منه نُسُغًا كثيفة. فهي تَنْزَع بطبيعتها إلى أن تكون عالمية، كونية، و هذه هي حيويتها المثيرة لأن عنقها يَشْرَئِبُّ دوما إلى العلى (التوسع و الانـتشار)، فتحمل في حركتها الأفقية حركية مماثلة عمودية، فالكونية هاهنا تتزاوج مع نزعة الهيمنة ويصبح أمر التمييز بينهما مستعصيا.

النتيجة معاداة الكونية تحت وطأة الهيمنة، أو الإنسياق وراء الهيمنة و الإعتقاد الوهمي بالظفر بالكونية دون التَّسَلُّح بالأدوات النقدية لتأسيس الذات الفاعلة في العصر.

في جميع الحالات، تندحر الأنا، وتَنْدَحِرُ معانيها الرمزية، ففي أحسن الأحوال تنتج الهيمنة، العداء ومن ثم المقاومة (مقاومة الآنا للأخر) وفي أسوأ الأحوال يؤول الأنا إلى الاحتضار في اتجاه التلاشي، فلا يعاد تشكيل الذات وفق متطلبات زمانها وتحدياته ورهاناته بل إما إنبهار وإما إمتعاض، إنبهار يولد الإغتراب، وكل إغتراب هو نفي للمواطنة، إنه نفي للفعل وتأسيس للانفعال، إمتعاض يولد الصدمة والصدمة المضادة، فلا تحقق إلا الإنطواء على الذات وفق منطق المقاومة، والمقاومة وإن كانت تبدو فاعلة، فهي فاعلة إلا ضمن بنية الإنطواء، فيتم إسْتِـنْـزَاف للقوى والملكات حتى يتم الاستنفاذ.

إن فهم المواطنة في مجمل أبعادها وفي بنية أَمْشِجَتِها، والعمل على تَشَكُّلِها في النسيج الاجتماعي وبالنتيجة إدراجها بتناغم في حداثة عقلية[9] في الفضاء الحضاري العربي الإسلامي، يُمَكِّن من هضم بعدها الكوني الموضوعي واستيعابه من حيث هو شرط ضروري لتملك موقع فاعل في حضارة الإنسان اليوم، و يُمَكِّن كذلك من تملك المسافة النقدية (الكافية) والروح الجريئة الثاقبة للكشف عن نزعات الهيمنة، آلياتها الصريحة والمضمرة، الثابتة أحيانا، الزئبقية أحيانا أخرى، المتربصة بكل تعبير حر ومستقل لتجليات رأس المال[10] (الذكاء، القدرة، العبقرية، الجرأة في الإبداع والإختراع) المتجهة للتوظيف الخلاق في فضاءاتها الأصلية (فضاءات الأنا المحلية).

2. المواطنة، الحقل الفقهي والعوائق الفكرية:

1.2. مكانة المعرفة الفقهية في حقل إنتاج المعرفة:

بإنقضاء الوحي، و إستكمال الرسالة، ووفاة الرسول (ص)، بدأ يدب في المجتمع الجديد، المتوسع في الأمصار إحتياجات جديدة ومتنوعة منها (في هذا المقام) الحاجة لإنتاج المعرفة المتعلقة بالله، بالكون، وكذلك بالإنسان، معرفة ملائمة ومتناغمة مع النسق الأطولوجي و الأكسيولوجي للنص المقدس (القرآن والسنة). إن حاجة الفرد (المسلم) والمجتمع الـمُنْتَمِي إليه إلى ضبط (في أدق التفاصيل) تشريعيا العلاقة المزدوجة: العمودية أولا، المتعلقة بالمسلم وربه والتي تتشكل من العقائد (كشرط للدخول في دائرة الإيمان) وكذا العبادات، والأفقية ثانيا والمتعلقة بالمسلم الفرد وغيره (بين المسلم والمسلم، بين المسلم وغير المسلم، بين الفرد و الجماعة، بين الجماعة والجماعة)، إنها تتشكل من المعاملات، وحاجة المجتمع للرد على العقائد المغايرة للإسلام والمجادلة له.

إن العقل في سيروراته و من أجل هضم وتمثل هذه الإحتياجات المعرفية سَيَتَلَونَّ بلونها، و يتشكل ويتبنين موضوعيا وفق منطق هذه الاحتياجات، وبالنتيجة لن تكون هذه المعرفة المنتجة إلا مستجيبة لهذه المتطلبات الضرورية، معالجة للمشاكل المطروحة على الفرد والمجتمع وفق المعاني الرمزية للنسق الأنطولوجي والأكسيولوجي للمقدس.

فظهر علم الفقه الذي يهتم بصياغة الأحكام الفقهية، وبعده علم أصول الفقه الذي يهتم بالمعايير التي تجعل تلك الأحكام مشرعنة، كما تشكل علم الكلام الذي سوف يحمل على عاتقه البحث في الأدلة العقلية للرد على العقائد المغايرة.

من حيث المبدأ، لاجدال في الحقل الفقهي و أصوله، إلا فيما يتعلق بالفروع بالنسبة للأول وآليات ضبط الأحكام من أجل أن تكون شرعية بالنسبة للثاني. إن الإيمان شرط مسبق للدخول داخل دائرة دار الإسلام، والتسليم بمسلماته أمر لا يمكن تجاوزه داخل هذه الدائرة. و بالتالي القبول والإذعان بطيبة خاطر لمنطقه ونتائجه المتعلقة بالأحكام (أي التشريع)، أما في الحقل الكلامي فالجدل هو المؤسس له، بحكم أنه موجه (من الوجهة المبدئية) خارج دائرة الإسلام، إنه موجه للرد على العقائد المغايرة.

في منظورنا، العقل العربي الإسلامي، في إنتاجه للمعرفة، خضع موضوعيا لآلية يمكن وصفها بالمجال المتحور حول نفسه، مجال مغناطيسي ممثل في "مركز-نواة" والأطراف تأتي لتتبنين حوله. إن آليات المركز النواة، بحكم طابعها المغناطيسي فهي تحدد حركة الأطراف من حيث التوجيه، الضبط والتحكم[11].

إن المعرفة الفقهية وأصولها في المركز النواة، والأطراف تمثل مجمل المعارف المنتجة في الفضاء الحضاري العربي الإسلامي، فالمعرفة الفقهية، معرفة دينية مُشَرِّعه للسلوك الفردي و الجماعي فهي مرتبطة عضويا بالنص المقدس، وعلماء الأصول بالرغم من أنهم علماء اجتهاد، فإجتهادهم لن يكون إلا في حدود النص ووفق هذه الحدود فقط وضمن أطر وبنيات العلوم اللغوية واللسانية لعصرهم. ومن هذا المنظور يعتبر الباحث عبد الجواد ياسين أن الفقه السني[12] قد احتل موقعا ليس له "إن النص الخالص لم ينفرد بتأسيس المنظومة السلفية، وإنما تأسست بوجه عام على مصادر تاريخية مفارقة للنص وإن كانت متاخمة له كالإجماع والقياس فلقد أتى مع الإسلام حين من الدهر لم يكن شيئا سوى النص، ثم أتى على الإسلام حين آخر من الدهر أصبح الإسلام فيه هو النص منضافا إليه الفقه والفكر.

و لقد صارت للفقه مكانة مرجعية مساوية لمكانة النص في الناحية العملية، ثم راحت تلعب في تكوين العقل المسلم على مدار الزمان دورا تجاوز بهذه المرجعية مكانة النص بقدر غير يسير، إن حجم الفقه في هذه المنظومة أكبر من حجم النص على وجه التحقيق[13]".

ولما كان المجتمع الإسلامي، تاريخيا، قد انقسم من حيث التراتب الفئوي الاجتماعي إلى العامة والخاصة، وخاصة الخاصة، سنجد العامة تهتم بالمركز- النواة، تدور في فلكه، إنها تخضع للفضاء المغناطيسي للحقل الفقهي، وهو بهذا يزود العامة -وعلى الدوام- بمختلف الأحكام الشرعية في أدق جزئياتها والمرتبطة بحاجات الناس اليومية المادية والروحية (الاعتقاد وشروطه، العبادات والمعاملات)، إنه الحقل المعرفي الوحيد الذي في فضائه يُضْبَطُ، يُشَرْعَنُ (بفتح الشين وتسكين الراء) السلوك الفردي والجماعي للمسلمين والنتيجة، التقنين الفقهي (بفعله، و مفعوله) "يسطو" موضوعيا على البنية الذهنية الوجدانية السلوكية للعامة، إنه يشكلها بالصورة التي تلائمه وتتناغم معه بصورة كلية، ومطابقة له إلى حد التماهي إطلاقا. وهي بهذا (أي العامة) والتي تمثل الجمهرة الواسعة المشكلة للمجتمع الإسلامي، تنفر من كل جدل في العقائد وبالتالي من المتكلمين. فالمعرفة الفقهية إذن هي أقرب إلى العامة وإلى أذهانهم ونفوسهم فهي التي تشكل هيكليا الحس المشترك (Le sens commun) لديهم، إنه نسق ذهني مغلق مشكل لعناصر بنائية في السِّمْتِ[14] (Habitus) بدلالة "بياربورديو"[15]. أما المعرفة الكلامية بعيدة عنهم إطلاقا، فهي مُشَوِّشَة، بل مُشَوِّهة لبنية أذهانهم مُخِلَّة بقواعد إيمانهم، مُزَعْزِعة لاطمئنانهم، مُعَطِّلة لعزائهم، فهي لا تتناغم مع سمت المؤمن، إنها معرفة غريبة عن عالمه البديهي، وتبدو له وكأنها معادية له، غرزوها من أجل تخريب السمت المتناغم والآنا، المنافي للآخر، بالنتيجة تكون المعرفة الكلامية في وضع معاكس لوضع السمكة في الماء، فيتم الشعور بثقل الماء، و لا يُدْرَك العالم وكأنه بديهي[16]، لذا سيدفع العقل العربي الإسلامي –من خلال بنيته الأساسية- عملية ذات طابع مزدوج ومتكامل، صرف أنظار العامة –أولا- عن المعرفة الكلامية "لوقايتهم" من كل مفسدة إيمانية (من خلال شرعية الأحكام التي تحرم السؤال الذي سكت عنه النص) العمل على إدخال وترجيح كفة آليات النص والنقل على حساب العقل –ثانيا- من أجل قص أظافر الجدل الكلامي، تهذيبه ثم تدجينه بالصورة التي يتقاطع ويتمفصل مع الفكر الفقهي السني تحديدا في المرحلة الأولى ويتناغم مع نسقه الفكري في مرحلة ثانية ليصبح جزءا منه يتمايز عنه في الدرجة وليس في الطبيعة، فيلائم السمت ويتناغم معه، إن فرقة الأشاعرة، قد تشكلت موضوعيا لتحقيق هذا الغرض، فقد غَذَّت الجدل والمساجلة من موقع "سني- متعقل".

إن داخل حقل النواة المركز الذي هو حقل مغذي، مؤطر، مراقب وضابط لمجمل عملية إنتاج المعرفة، يصطف إنتاج المعرفة الفقهية ذاتها من خلال رافعتين متكاملتين بالرغم من تعارضهما.

الرافعة الأولى: إجماع الأمة لغرض وحدة الدولة، الرافعة الثانية: الإختلاف الذي لا ينبغي أن يمس بالإجماع وبالتالي بالوحدة.

وبناء على هذا لن يكون الإختلاف الفقهي شرعيا إلا إذا كان مندرجا ضمن وحدة الأمة وبالنتيجة وحدة الدولة، إن آلية يجوز أو لا يجوز (الحلال والحرام) التي هي الآلية الجوهرية في الحقل الفقهي والمحددة لمختلف عملياته الإستيميولوجية (إن كل مستويات الأحكام الشرعية تصطف وفق تراتب ذكي، معقول ومثير من موقع أعلى وهو يجوز إلى موقع أدنى وهو لا يجوز)، هي سلاح في يد سلطة الفقهاء لتحقيق آلية الغلق حين يتجاوز الإختلاف في الحقل الفقهي الخط الأحمر ويمس بوحدة الأمة، هاهنا لتتقاطع سلطة الفقهاء مع سلطة الأمراء موضوعيا. أما في حقل الجدل الكلامي فيتخذ المسعى صيغة التقارب والنفور، فالتقارب من الأشاعرة والنفور من المعتزلة، ففي الحالة الأولى لغرض التلون بلون الإجماع والوحدة أما في الحالة الثانية لغرض الإبعاد و الإقصاء خارج الإجماع والوحدة.

إن تأسيس الرأي شرعا، حين غياب النص لا يمكن أن يندرج إلا ضمن النسق الفكري لعلم الأصول وهو الإجماع الفقهي للسنة بمختلف مذاهبها للحفاظ على وحدة الأمة، "فالرأي و الإستحسان، على حد تعبير سالم حميش، أخذا شكل القياس، وأن هذا الأخير ظهر مثيرا للإختلاف، وبرز أخيرا التنظير للإجماع بقصد محو آثار الإختلاف أو تليينها"[17] فبالرغم من أن الفقهاء ورجال الفكر عامة يقررون الاجتهاد، فلن يكون هذا الإجتهاد مشروعا إلا ضمن هذا الإطار ولا يمكن أن يكون خارجه، "إن كل المفاهيم الفقهية الرئيسية تتسلسل بإتجاه الحفاظ على وحدة المذاهب السنية، ويلزم التأكيد على التبعية الصارمة التي تطبع علاقة مناهج الفقه بأصول الفقه وحتى وأن لاحظنا أحيانا في تلك المناهج بعض التوق إلى الإستقلال بذاتها، فإنه من قبيل التهافت أن نرى في الإجتهاد ممارسة للفكر الحر تُخَوِّل للفقه استقلالا بإزاء الأصول و الحق أن الإجتهاد نفسه في هذا الحقل كما أكد الغزالي فيما بعد، ليس مطلوبا، إذ حيزه الخصوصي هو الظنيات وهو بالطبع هامشي وضيق كتحديد القبلة في حالة ...[18]".

إنها آلية مضمرة تفعل فعلها من داخل بنية العقل الفقهي الأصولي السني (بدلالة أصول الفقه) فتحدد مساراته، إجتهاداته وتضاريس هذه الإجتهادات والمسارات من أجل كبح الصراع الإيديولوجي بين السنة والباطنية لصالح انتصار الأولى على الثانية لتحقيق "الغلبة" و بالنتيجة الهيمنة، الحصيلة هي أن "...هذا الخطاب، ومنذ نشأته، كان يراوده حلم الإكتفاء بنفسه وكفاية ممتلكاته و بدءا من القرن الرابع وطيلة الخامس الهجري كان ذلك الحلم في طور التحقيق وبدأت بالتوازي تلوح في الأفق علامات إنغلاقه ونهايته[19]".

2.2 الحقل الفقهي وعوائق إنبثاق الحداثة والمواطنة:

إن القراءة النقدية التي أنجزتها الباحثة لطيفة الأخضر للرد على الشيخ : محمد الطاهر بن عاشور[20] على علي عبد الرازق في مؤلفه "الإسلام وأصول الحكم" والتي اعتمدت فيها على آلية تفكيك الخطاب الديني كما وظفها محمد أركون، تمكننا من الوقوف على بعض أوجه العوائق الذهنية المانعة لإنبثاق وتشكل الحداثة والمواطنة:

إن العقل الديني الـمُكَوَّن[21]، الذي يهدف إلى تحقيق إتفاق بين أفراده -تحت وطأة هيمنة قسرية- حول مجموعة القيم العقائدية والقواعد الفقهية التشريعية، ويسعى إلى وضع البقية في صف الملل والنحل[22] ، هذا العقل الديني الـمُكَوَّن، وعلى طول تاريخ الفكر الإسلامي، كان إستجابة موضوعية لمتطلبات سياسية إيديولوجية متعلقة بالحفاظ على وحدة الأمة والدولة، من خلال تحقيق وحدة الفكر والسيكولوجيا وتشكيلها الديني والعقائدي والتشريعي، الـمُؤَسِّسَة للشخصية الإسلامية القاعدية الـمُبَنْيِنَة للسمت كمنتوج لمنطق الهيمنة السنية.

إن هذا التشكيل لا يرى ضرورة للتفاضل "بين الروحي الإيماني والتشريعي القانوني بل لا يرى له أي هامش للوجود المستقل... وهو بهذا يكرس فلسفة الأصول[23]" التي كانت تجديدية في البداية من خلال إمعان الرأي والاجتهاد، وغدت متحجرة في النهاية "لا يرى للروحاني و الإيماني مكان خارج القنوات التأطيرية التي أرْسَتْها إن كانت أصولا للدين أو أصولا للفقه[24]".

و بهذا الإعتبار الفكر الديني واحد، فهو نسق لا يقبل التجزئة على الإطلاق وبالتالي، هو نسق يشكل للرؤية التي ينبغي لكل مؤمن في كل زمان ومكان أن يتغذى منها ويغذيها، فينظر من خلالها لنفسه، لله وللوجود، و للخلق و العدم.

إن الحقل الفقهي الـمُوَظِّف لهذه الرؤية –بحزم وحسم- يقدم صكا يضع به المفكر داخل الإجماع فَيُشَرْعِنُ اجتهاده وإبداعه، وينزع صكا يضع به المفكر خارج الإجماع فَيُقْصَى و يُكَفَّر. تستخلص لطيفة الأخضر "أن رد الشيخ الطاهر بن عاشور مُؤَسَّس من منطلق نظام ديني مغلق، "إنه يلتجئ إلى حجة تقليدية تضع الطرف الآخر (علي عبد الرازق) خارج الإجماع السني ويعجز عن فهم هذا الاجتهاد الديني وهذه المقاربة النقدية خارج المنظور الأرتودوسكي السني[25]".

تتقاطع هذه القراءة التحليلية النقدية مع ما أطلق عليه البحث (حمادي رديسي)[26] التناول الثلاثي لما هو سياسي (أو خطاب السياسات الثلاث): الخطاب النبوي، الخطاب الملكي، الخطاب الفلسفي، فالخطاب الأول ينتمي إلى اللاهوت والثاني إلى الملك والثالث إلى المدن (البشر)[27].

ليصل إلى القول " فمن سياسات الإسلام الثلاث: صمد وحده مِلْحَاحًا عنيدا في العصور الحديثة الخطاب الديني البحت (ويقصد نظرية الإمامة) التي تأخذ مشروعيتها من الخطاب النبوي وبذلك أصبحت بمثابة الهوية السياسية للإسلام[28]".

إن نظرية الإمامة التي تستلهم الأفكار و الإجتهادات من السياسة النبوية تستجيب وبالتحديد لمتطلبات السؤال الوحيد والكافي.

من هو الأصلح لخلافة الرسول (ص) ؟ ما هي الشروط التي ينبغي أن تتوفر فيه ؟ وقد حددته الأدبيات الفقهية من خلال مصطلح الإمامة الكبرى وهو باب من أبوابها أنه ملحق بالمعرفة الفقهية وبالتالي خاضع لآلياتها وقوانينها الداخلية وهو آخر اهتمام الفقيه، وتلك هي المفارقة.

إنه بهذا قد جرى "انزلاق مضمر من السياسات في الإسلام، إلى سياسية الإسلام[29]" وتم الغلق النهائي والنتيجة التاريخية "تهاوى الخطاب الفلسفي ذو الأصل اليوناني (وكان بؤرة لإبتكار الحداثة الغريبة) واختفى من منظومة المعارف الإسلامية، وتمت أسلمة الخطاب الملكي "مرآة الأمير"ذو أصل " هندي –أوروبي" في حين الغرب حَوَّلَه إلى وصفةٍ حكم[30]"، كما تم فتح لإعادة إنتاج الخلافة[31] كمعنى تنزع إلى الهيمنة القسرية، نستلهم منها وليس من غيرها، نَتَمثَّلها لوحدها ولا وجود لغيرها الرمزي، ففي حدودها وفي حدودها فقط تتشكل هويتنا السياسية ويتنمط الفرد المؤمن وفقها، "فعوض الإنتقال من اللاهوتي السياسي إلى التعددية الحديثة، واجه المسلمون الحداثة بنموذج واحد هو الأنموذج النبوي ...وانطلاقا من هذه اللحظة وليس قبلها تَمَّ انزلاق الإسلام في خلط بين الروحي والزماني[32]".

و بهذا الغلق على الرؤية التعددية للسياسة وللإنسان، وللإيمان وفرض رؤية قسرية – على أساس منتوج فقهي أصولي مقدس له محدداته الزمنية المعرفية و الإبستيمولوجية- تنزع إلى الهيمنة وتلوح بعصا التكفير والتفجير، حجبت عنا إمكانية تاريخية واجتهادية هو تأسيس للحداثة وهي تنبثق من تضاريس العقل العربي الإسلامي ومساراته المعقدة.

و بتشكل هذا المانع أُوصدت الأبواب أمام المواطنة في تشكيلها التاريخي والطبيعي، إن بقاء النموذج النبوي في السياسة منفردا يصوغ المسلم و ينمذجه، ويشكل نظامه الرمزي و يتمثله، هو نتيجة لخضوع مجمل حقول المعرفة (خاصة حقل السياسة) إلى حقل النواة –المركز إلى آلية الإبعاد المضمرة لكن الفاعلة، لكل ما يمكن أن يؤدي إلى تحول نوعي داخل آليات العقل العربي الإسلامي وفق ديناميكية باطنية داخل طبقات العقل نفسه.

الأمر الذي انتهت إليه لطيفة لخضر حين ذهبت إلى طرح فكرة ضرورة تكوين نخبة من الـفقهاء الجدد: "الواقع الراهن للمجتمعات الإسلامية يشكو من شغور خطير يتمثل في انعدام وجود فئة من علماء الإسلام، يمكن أن تلعب دور الوسيط المتشبع بفلسفة الحداثة و ذلك بين الجماهير المؤمنة والمعرفة الدينية" [33] والذين يتكفلون بنقلنا من الأحادية الفكرية إلى رحابة التعددية، من الغلق إلى الإنفتاح، من الأورتودوكسية السنية إلى الإيمان الأنتولوجي –من التشريع وفق منطق الإمامة الكبرى إلى التشريع وفق المدن البشرية، وفي هذه الرؤية الجديدة تنصهر وتتشكل الحداثة وفي حضنها المواطنة.

الخلاصة:

إن الحقل الفقهي - من خلال عناصر هذا التحليل- يخضع لهيمنة داخلية (الأرتودوكسية السنية) وينزع هو كذلك، وفي ذات الوقت إلى إخضاع مختلف الحقول المعرفية الأخرى لهيمنتها، إن هذه الآلية المزدوجة هي المحور المحرك والمجمع للعوائق الذهنية و الفكرية المانعة لكل تحـول نوعي في العلاقة بني المسلم والطبيعة أولا وبينه وبين الحرية ثانيا و بينه وبين مصدر الحق (التشريع) ثالثا إلى الحداثة التي تمثل الفضاء الذي ضمنه تزدهر المواطنة لترتقي بالفرد إلى الأبعاد الإنسانية ضمن جذور تُوِميءُ إلى التفتح؛ ضمن أصول إيمانية متناغمة و حضارة اليوم تُمَكِّن الفرد من الاستلهام و العطاء، الأخذ و النقد بذكاء و كفاءة.

إنها تطلب زحزحة تحديدات المعنى وخلخلتها لتتحرر من هيمنة العقل الديني المكون وتصير إلى فضاء الوعي الديني الإيماني الرحب فَتؤسَّس الظاهرة الدينية وفق الأبعاد الروحانية الإيمانية الأنطولوجية التي يكون مركزها الإنسان في مجمل أبعاده، فيُؤَسَّس هنا لحداثتنا، وليس إستنساخا لحداثة غيرنا، تلتقي حداثتنا بحداثتهم في إحداثيات الإنسان، في إحداثيات المواطنة، في إحداثيات القيم، وتتباين عنها في المعنى بالمفهوم الأنتروبولوجي والرمزي.


الهوامش

[1]- الحقل بالمفهوم الذي حدده بورديو،ب.- هو بنية من العلاقات الموضوعية بين أوضاع للقوة،يُسْنِد ويوجِّه الخطط التي بها يبحث المحتلون لتلك الأوضاع بشكل فردي أو جماعي ليَحْموا أو يُحْسِّنوا وضعهم وليفرضوا مبدأ التراتب الأنسب لحياتهم الخاصة". أنظر بورديو.ب وقاكونت ج.د، أسئلة علم الاجتماع، في علم الاجتماع الإنعكاسي، ترجمة عبد الجليل الكور، إشراف ومراجعة محمد بودورو، دارتو بقال. - 1977.- ص. 69.

[2]- Voir citoyen, le Petit Larousse , Grand format.

[3]- الحديث والتحديث من مكونات منطق الحداثة؛ لكن الحداثة تتجاوزهما من حيث الجوهر والشكل.

[4]- BAUDRILLARD, J..- Modernité.- Paris, Encyclopidia Universalis, Tome 15, 1996.- p.552.

[5]-كل معنى (بالدلالة الأنتروبولوجية والرمزية) إن توفرت لها التربة الخصبة، تنزع بالضرورة إلى الهيمنة.

[6]- غوروفيتش.ج.- الأطر الاجتماعية للمعرفة.- ترجمة د. خليل أحمد خليل، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1981.- ص.ص. 182-189.

[7]- عياض، بن عاشور.- الضمير والتشريع. العقلية المدنية و الحقوق الحديثة.- الدار البيضاء، مركز الثقافي العربي،1998 .- ص.ص. 14-16.

[8]- أركون، محمد.- حوار أجراه حسان العرفاني، العقل الإستطلاعي المنبثق وأنواع الحداثة في السياقات العربية الإسلامية، العالم العربي في البحث العلمي (Mars).- باريس، معهد العالم العربي، العدد 10/11، 1999.

[9]- تشكيل الحداثة العقلية يتطلب توفير شروط النهضة وتحقيقها من جهة وانبثاق التنوير بالمفهوم الكانطي وسيادته من جهة أخرى.

[10]- رأس المال بالمفهوم الذي وظفه بوروديو.ب.- أنظر المرجع السابق.

[11]- عمليات التحديد، الضبط، التوجيه والتحكم لم تكن دائما نافذة بصورة آلية وخطية، إذ في حالات عدة كان يقع "تمرد" داخل هذا الحقل أو ذاك وفي الغالب يأخذ أشكال مضمرة، لكن سرعان ما آليات التحكم والإذعان تستعيد المبادرة لإستراجاع سلطتها الكاملة وفق مفاعيل متنوعة وملائمة.

[12]- صنف الفقه إلى فقه سني، شيعي، صوفي، وهذا وفق الإتجاهات الفكرية والمذهبية للفكر الإسلامي، وقد هيمن الفقه السني على الإتجاهات الفقهية الأخرى، أنظر د. أبو الفتح بدوي عبد المجيد، التاريخ السياسي والفكري للمذهب السني في المشرق الإسلامي من القرن الخامس الهجري حتى سقوط بغداد، عالم المعرفة، جدة، 1983 (مؤلف يؤرخ لمسار هيمنة الفقه السني على المذاهب الفقهية المخالفة له).

[13]- عبد الجواد، ياسين.- السلطة في الإسلام، العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ.- الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 1998.- ص.60.

[14]- السِّمْتُ (Habitus) هو نظام من الإستعدادات والتصورات التي يصدر الفعل وفقه وبالتناغم معه.

[15]- بوروديو. ب و فاكونت.ج.د.- نفس المرجع السابق.- ص.87.

[16]- إستعرنا المثال من بوروديو وفاكونت.- نفس المرجع السابق.- ص.87.

[17]- حميش سالم، التشكيلات الإيديولوجية في الإسلام، الإجتهادات والتاريخ، ترجمة ماكسيم رودنسون ومحمد عزيز الحبابي.- دار المنتخب العربي، 1993.- ص.40.

[18]- حميش، سالم.- نفس المرجع السابق.- ص.40.

[19]- حميش سالم.- نفس المرجع السابق.- ص.43.

[20]- أصدر الشيخ الطاهر بن عاشور كتيبا في ستة وثلاثون صفحة عنوانه: "نقد علمي لكتاب الإسلام وأصول الحكم" يرد فيه على الشيخ علي عبد الرازق.

[21]- ما يميز العقل الديني المكون "بضم الكاف وفتح الواو" عن الوعي الديني هو أن الأول "منظومة القواعد المقررة والمقبولة في فترة تاريخية ما تعطى لها قيمة مطلقة في تلك الفترة التاريخية (التعريف لمحمد عابد الجابري) والتي يسميها محمد أركون "بالأرتودوكسية السنية" أما الثاني فيؤسس للظاهرة الدينية وفق الأبعاد الروحانية الإيمانية الأنطولوجية (التمييز لمحمد أركون).

[22]- الأخضر لطيفة، قراءة في منهجية الفكر السني ومسلماته: حول رد الشيخ الطاهر بن عاشور على علي عبد الرازق "نقد علمي لكتاب الإسلام وأصول الحكم في IBAL N° 182, 1998, t 61 ص 63.

[23]- الأخضر، لطيفة.- نفس المرجع.- ص.65.

[24]- الأخضر، لطيفة.- نفس المرجع السابق.- ص.65.

[25]- الأخضر، لطيفة.- نفس المرجع.- ص.64.

[26]- يعتبر الباحث رديسي حمادي أن إلتقائه بالفكر الإسلامي الهندي مكنه من إكتشاف التناول الثلاثي للسياسي في الإسلام.

[27]- رديسي، حمادي.- من التقليد التعددي إلى الحداثة الإستبدادية، العالم العربي في البحث العلمي (Mars) باريس، معهد العالم العربي، العدد 10/11، 1999.- ص.156.

[28]- رديسي، حمادي.- نفس المرجع السابق.- ص.158.

[29]- رديسي، حمادي.- نفس المرجع السابق.- ص.158.

[30]- رديسي، حمادي.- نفس المرجع السابق.- ص 158.

[31] تعني الخلافة لدى إبن خلدون (في المقدمة): "حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدُّنْيَوِية، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى إعتبارها لمصالح الآخرة".

[32]- رديسي، حمادي.- نفس المرجع السابق.- ص.158.

[33]- الأخضر، لطيفة.- نفس المرجع.- ص.74.

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran
+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11
+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Recherche