مفهوم علم الكلام عند الفارابي

إنسانيات عدد 11 | 2000 | المقدس والسياسي | ص109-117| النص الكامل 


Khemssi SAAD


مقـدمــة

يعد علم الكلام جزءا هاما من الفلسفة الإسلامية لعدة أسباب منها أنه يمثل الجانب الأوفر في التراث الإسلامي من حيث الكم. كما أن موضوعاته لا تخرج عن المباحث التقليدية للفلسفة : الوجود المعرفة و القيم،ومنها أنه – أي علم الكلام –كثيرا ما تتداخل قضاياه و مواقف وآراء علمائه مع القضايا والمواقف والآراء الفلسفية (المشائية الإسلامية) وحتى الصوفية و الفقهية.

و لعل حديثنا عن الفارابي و علم الكلام وجه من أوجه التداخل و التكامل بين الفلسفة (المشائية) و علم الكلام في إطار فلسفة إسلامية ذات محاور متعددة، مع ضرورة الإشارة إلى أن علاقة الفارابي بعلم الكلام يمكننا دراستها من جانبين يصعب التفاضل بينهما :

الجانب الأول : يتمثل في الآراء الكلامية للفارابي و هي مبثوثة في مختلف مؤلفاته، فعلى سبيل المثال يمكن أن نذكر من الموضوعات الكلامية التي طرقها موضوع الصفات الإلهية، الجوهر الفرد،السببية قدم العالم وحدوثه…و أمّا الجانب الثاني وهو موضوع هذه الدراسة فيتمثل في مفهوم علم الكلام كما جاء في كتابه " إحصاء العلوم" وهو المفهوم الذي عدّه الدارسون من أفضل المفاهيم التي أعطيت لهذا العلم على مر الأزمنة.

لقد ورد تعريف الفارابي لعلم الكلام – كما ذُكر من قبل – في كتابه :" إحصاء العلوم"[1] و هو من الكتب التي تميز وتفرّد بها الفارابي بين الفلاسفة، على وجه العموم، و الفلاسفة الـمسلمين، عـلى وجه الخصوص، ويكفي أن نذكر هنا أنه بسبب هذا الكتاب لُقِب الفارابي بـ "المعلم الثاني " لأنّه وضع فيه معالم وحدود العلوم السائدة في عصره، الوافدة و الأصيلة على حد سواء.

و في هذا الكتاب يحصي الفارابي ثمانية علوم أساسية تتفرع عنها علوم وفنون شتّى، و يرتب هذه العلوم الأساسية ترتيبا يضع فيه الاعتبارات المنهجية و التعليمية معيارا لذلك، فـيرتب أولا علم اللسان وأجزائه ثم علم المنطق و أجزائه، لأن هذين العلمين آلتان و مـدخلان لمختلف العلوم و الفنون، ثم يتحدث بعد ذلك عن علوم التعاليم وما يتفرع عنها من علوم، ثم العلم الطبيعي و أجزائه و العلم الإلهي و أجزائه، وأخيرا : العلم المدني و من أجزائه : السياسة و الأخلاق ثم علم الفقه فعلم الكلام كآخر العلوم ضمن العلم المدني، لارتباطه بالناحية المذهبية (العقيدة ) و السياسية على وجه الخصوص لأن الخلافة، الإمارة أو الرئاسة هي التي يعود إليها الذود عن الدين وأصوله في نهاية المطاف. فكيف عرّف الفارابي علم الكلام، وما السر في هذا التعريف حتّى يُعدُّ من أفضل ما عُرِّف به هذا العلم ؟

تعريف الفارابي لعلم الكلام :

يعرِّف" أبو نصر الفارابي" علم الكلام بقوله : " صناعة الكلام ملكة يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء و الأفعال المحدودة التي صرّح بها واضع الملة و تزييف ما خالفها بالأقاويل" [2].

إنّ المتأمل في هذا التعريف تستوقفه مصطلحات هي بمثابة الكلمات المفاتيح لمغاليق نص الفـارابي وهي:الصناعة، الملكة،،الآراء و الأفعال،النصرة التزييف. وبإدراك معاني هذه المفاهيم يتضح أن نص الفارابي يتفرع إلى ثلاثة عناصر : يضبط مفهوم علم الكلام أولا، و يحدد العلاقة بين علم الكلام و الفقه ثانيا، وأخيرا يبين أساليب الدفاع عن الدين (عقيدة و شريعة).

يستهل الفارابي تعريفه لعلم الكلام بكلمة صناعة ممّا يعني أنّ هذا العلم ليس متأتيـا لكل من هب ودب بل هو حكر على فئة من الناس لها استعدادات و قدرات خاصة تمكنهم من هذا الـعلم علما وعملا ذلك لأنّ الصناعة كما يقول ابن خلدون هي :"ملكة في أمر عملي فكري، و بكونه عمليا هو جسماني محسوس : البناء، النجارة، الوراقة، الغناء، التعليم… و تنقسم الصنائع أيضا إلى ما يختص بأمر المعاش…و إلى ما يختص بالأفكار التي هي خاصية الإنسان من العلوم و الصنائع والسياسة …"[3] و إلى المعنى نفسه يذهب الجرجاني في ضبط مصطلح الصناعة فيقول :" الصناعة ملكة إنسانية يصدر عنها الأفعال الاختيارية من غير روية، وقيل العلم المتعلق بكيفية العمل. " [4]

بعد مصطلح الصناعة تأتي في النص كلمة "ملكة" لتؤكد خصوصية علم الكلام، فصاحب صناعة ما قد يتعلمها و يمارسها و لكن إذا انعدم ميله نحوها ولم يتعلق بها و لم ترسخ في ذهنه و لم يكن لديه الاستعداد الكافي للقيام بها لن يتقنها و لا يمكنه أن يبدع فيها، ذلك الميل و الاستعداد هو المعبر عنه بالملكة، والتي يحدّدها صاحب التعريفات بقوله:" الملكة صفة راسخة في النفس (عادة وخلقا)"[5].

إذا حاز إنسان مسلم على هذه الملكة و تمكن من صناعة الكلام يستطيع بهما أن يدافع عن الدين بشطريه العقدي و الفقهي، ومن هنا يأتي الحديث عن علاقة علم الكلام بالفقه من وجهة نظر الفارابي ولعل ذلك ممّا أعطى أهمية خاصة لهذا التعريف.

علاقة علم الكلام بالفقه :

لقد وسّع الفارابي من دائرة علم الكلام فأوكل للمشتغلين به الدفاع عن الدين الإسلامي بكامله:تصورا وممارسة، علما وعملا أو عقيدة وشريعة. وهو الأمر الذي غاب عن جل التعريفات.ولكن هذا الجمع للعقيدة والشريعة لا يعني خلطا بين علمين متميزين و إنّما هو عقد للصلة بينهما و هذا ما نقرأه بوضوح في ما يلي من قول للفارابي : "و هذه الصناعة تنقسم جزء ين أيضا : جزء في الآراء   وجزء في الأفعال [وهي غير الفقه] لأن الفقيه يأخذ الآراء و الأفعال التي صرّح بها واضع الملة مسلّمة ويجعلها أصولا فيستنبط منها الأشياء اللازمة عنها. والمتكلم ينصر الأشياء التي يستعملها الفقيه أصولا من غير أن يستنبط منها أشياء أخرى.فإذا اتفق على أن يكون لإنسان ما قدرة على الأمرين جميعا فهو فقيه متكلم. فتكون نصرته لها بما هو متكلم، و استنباطه منها بما هو فقيه"[6].

إذن، الفارابي لم يخلط بين العلمين، وإنّما ربط الصلة بينهما، مع حدِّهما، فعالم الكلام ينتصر لعقيدة المتدين و لمماراسته العملية، في حين الفقيه ينطلق من العقائد ومن الممارسات التي يضعها الشارع كأصول ليستنبط منها الأحكام الفقهية، وقد يكون عالم الكلام فقيها ليس لأنه عالم كلام، وإنمّا لأنه استنبط أحكاما من الأصول، وكذلك الفقيه قد يكون عالم كلام، ليس لكونه فقيها وإنّما لأنه يدافع عن الدين عقيدة وشريعة.

مثل هذه العلاقة بين علم الكلام و الفقه أشار إليها " أبو حيّان التوحيدي" و لكن لم يحدهما تحديد الفارابي فلقد قارن – التوحيدي – بين العلمين من حيث تأثر الفقيه بعلم الـكلام و إعماله للعقل في استصدار الأحكام الفقهية، أو بوجه آخر من حيث إعمالهما العقل، يقول التوحيدي في هذا الصدد:" وبابه[أي علم الكلام] مجاور لباب الفقه، والكلام فيهما مشترك، وإن كان بينهما انفصال وتباين، فإنّ الشركة بينهما واقعة …ألا ترى أن الباحث عن العالم في قدمه وحدوثه وامتداده وانقراضه يشاور العقل و يخدمه، ويستضيء به و يستفهمه ؟ كذلك الناظر في العبد الجاني هل هو مشابه للحال فيرد إليه أو مشابه للحر فيحمل عليه ؟ فهو يخدم العقل و يستضيء به "[7].

سعة وشمولية تعريف الفارابي لعلم الكلام :

ذلك الفصل و الوصل بين علم الكلام والفقه، وجعل عالم الكلام يدافع عن الآراء و الأفعال هو من الأسباب التي تضع تعريف الفارابي لعلم الكلام في مقدمة كل التعريفات التي أُدلي بها في تحديد مفهومه نظرا لشموليته للعلم والعمل، وعدم تمذهبه، فالدفاع عن الدين في مـفهوم الفارابي لعلم الكلام هو نصرة للدين ضد التحديات العقدية بصفة عامة بدون تحديد لمنطلق مذهبي بعينه، خلافا لجل باقي التعريفات ونظرة سريعة إلى أهمها عبر مختلف الأزمنة يثبت سعة وشمولية تعريف الفارابي وبالتالي أفضليته.

أبو حامد الغزالي (ت 505هـ) يعرفه بأنه علم يهدف إلى :" حفظ عقيدة أهل السنة و حراستها من تشويش أهل البدعة. "[8] واضح هنا أن هذا التعريف أخص و أضيق بكثير من تعريف الفارابي، لأنّه اكتفى بالحديث عن الدفاع عن العقيدة فقط دون الشريعة، ولأنه جعله حـكرا على مذهب أهل السنة دون غيره من المذاهب، فأي دفاع عن العقيدة خارج مذهب السنة لا يعد علم الكلام في نظر الغزالي.

أمّا عضد الدين الإيجي (756 هـ ) فيعد علم الكلام رئيس العلوم على الإطلاق، ويعتقد أنه علم مـستقل بمبادئه و مباحثه، يؤثر في باقي العلوم و لا يتأثر بها، ومما جاء في قوله عن علم الكلام كما يورده أحد الدارسين أنه: "العلم الأعلى فليست مبادئه تبين في علم آخر، بل مبادئه إمّا مبيّنة بنفسها أو مبيّنة فيه، فهي مسائل له ومبادئ لمسائل أخر منه لا تتوقف عليها لئلا يلزم الدور، فمنه تستمد العلوم، وهو لا يستمد من غيره فهو رئيس العلوم على الإطلاق." [9]

إن الآراء الواردة في هذا التعريف أحسبها لا ترقى لتقارن بتعريف الفارابي لعلم الكلام، لأنها ببساطة تُفندها بعض الموضوعات الجوهرية لهذا العلم والتي سمي بأسمائها، كالجوهر و العرض أو الجزء الذي لا يتجزأ، و مسألة قدم العالم وحدوثه إلخ… وكلها موضوعات فلسفية استمدها الفكر الإسلامي من الفلسفة اليونانية ومن غيرها من الفلسفات القديمة. ثم إن العلوم تتداخل و تتشابك من حيث الموضوعات و المناهج وحتّى الشخصيات إلى درجة يـصعب أحيانا تحديد معالم الفصل بينها، أمّا العلاقة فموجودة بدون أدنى شك و متبادلة. فعلم الكلام يدافع عن الأسس و النتائج الفقهية و يبرر وجودها أو الدعوة إليها، و الفقيه يستعمل المناهج الكلامية في حل المعضلات واتخاذ المواقف من النوازل كما أنه قد يترقب و يتربـص الدوائر بعالم الكلام فيحد من موضوعاته ومن مناهجه أو يضع عالم الكلام في إطار سلوكي لا يجب أن يحيد عنه.

و من التعريفات المشهورة لعلم الكلام ما قدّمه عبد الرحمن بن خلدون حيث رأى بأنّه :" علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية و الرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذهب السلف و أهل السنة. " [10] ما يلاحظ في هذا التعريف بالمقارنة بتعريف الفارابي أنه ضيق من حيث جعله علما يدافع عن العقائد فقط دون الممارسات، ومن حيث جعله حكرا على أهل السنة والجماعة دون غيرهم من المذاهب الإسلامية وهي كثيرة، كذلك هو محدود من حيث خصّه بمنهج واحد في الرد على المبتدعة و المنحرفين وهو المنهج العقلي، في حين يتحدث الفارابي عن أساليب شتّى يتبعها علماء الكلام في نصرة دينهم.

أساليب الدفاع عن الدين :

من خلال حديث الفارابي عن الأساليب و المناهج المختلفة المستعملة في الدفاع عن الدين من قبل علماء الكلام ندرك نوعا من تصنيف للمتكلمين بحسب نصرتهم لدينهم، فيتحدث عنهم كفئات و فرق

- الفئة الأولى : يمكننا من خلال حديث الفارابي عن كيفية نصرتهم للدين أن نسميهم بالنصيين ذلك لأنهم يحبذون نصرة الدين بالنص الديني لقدسيته و لمصدره الإلهي المطلق، فالنص الديني أو الفعل المأمور به، أعلى وأشرف من الذي قد يدعي الدفاع عنه لأنها – أي النصوص و الأفعال المأمور بها شرعا – وحي إلهي، فيها ما يدركه العقل وفيها ما هو فوق طور العقول، فالإنسان عاجز على أن يدرك بمفرده ما أراده الشرع، ثم إن الإنسان بعقله خطّاء و الشرع هو الذي يبيِّن لنا – دائما حسب النصيين كما يورده الفارابي – صحة ما نفكر في خـطئه أو خطأ ما نفكر في صحته، فالعقول الإلهية أعلى و أصّح وأسلم من العقول الإنسية، فالأولى كاملة والأخرى ناقصة وعاجزة، ومثل عجزها أمام العقول الإلهية كمثل عجز و تعصب الصبي من عقل الراشد.

صحيح أن الفارابي يتحدث باسم النصيين عن يقينية وقدسية النص، ولكن استعماله لمصطلح العقول الإلهية ينم عن بعض ممّا يُخفيه من فكرة فلسفية لها أثرها على معتقده، يقول الفارابي عن هذا الوجه من الدفاع عن الملة :" إن قوما من المتكلمين يرون أن ينصروا الملل بأن يقولوا إنّ آراء الملل و كل ما فيها من الأوضاع ليس سبيلها أن تمتحن بالآراء بالروية والعقول الإنـسية، لأنها أرفع رتبة منها :إذ كانت مأخوذة عن وحي إلهي، ولأنّ فيها أسرارا إلهية تضعف عن إدراكها العقول الإنسية و لا تبلغها …إنّ الإنسان و إن بلغ نهاية الكمال في الإنسانية فإنّ منزلته عند ذوي العقول الإلهية منزلة الصبي والحدث…" [11].

- الفئة الثانية : ينطلق أصحاب هذه الفئة من الإحاطة بالنص و عدم ترك أي شاردة و لا واردة دون الإطلاع عليها، ثم التمعن في المدرك حسّا أو المعهود (عرف، عادة …إلخ ) أو المدرك عقلا، هذا الثالوث عبّر عنه الفارابي ب: المحسوس، المشهور، المعقول :

1-إذا ما وُجد في الواحد من الثلاثة ما يؤيد النص نصروا به الدين.

2- إذا وجدوا تعارضا أو تناقضا بين النص والثالوث المذكور آنفا:

أ- يذهبون إلى تأويل النص أولا، ولو تأويلا بعيدا لرفع اللبس أو التناقض.

ب-إذا لم يمكنهم تأويل النص عمدوا إلى حمل المناقض للنص على معنى يرفع ذلك التناقض، أو إلى تزييف الثالوث، ويكون ذلك ب :

ج- إذا وُجِد تناقض بين المحسوس و المشهور أو المعقول يُنظر إلى الأكثر تأييدا لما في النص فيؤخذ به و يدافع به عن النص و يطرح الآخر و يُبطل.

د- إن لم يتمكن من تزييف واحد أو اثنين أو كل الثالوث حينها يُسلّم بالنص و يقر بحجيته.

هنا تبرز خاصية علماء الكلام غير المنطلقين من فراغ خلافا للفلاسفة على شاكلة الفارابي و ابن سينا. يقول الفارابي عن هذه الفئة :" وقوم…يرون أن ينصروا [الملة…]أولا جميع ما صرح به واضع الملة بالألفاظ التي بها عبر عنها، ثم يتتبعون المحسوسات و المشهورات و المعقولات : فما وجدوا منها أو من اللوازم عنها، و إن بعد، شاهدا لشيء مما في الملة نصروا بـه ذلك الشيء، وما وجدوا منها مناقضا لشيء مما في الملة وأمكنهم أن يتأولوا اللفظ الذي به عبر عنه واضع الملة على وجه موافق لذلك المناقض ولو تأويلا بعيدا… فإن لم يمكن أن يزيف شيء من المحسوسات ولا من المشهورات و لا من المعقولات… رأوا حينئذ أن ينصر ذلك الشيء بأن يقال إنه حق لأنه أخبر به من لا يجوز أن يكون قد كذب و لا غلط. "[12].

- الفئة الثالثة : يمثلها حسب الفارابي قوم رأوا بأن أحسن وسيلة للدفاع هي الهجوم، فعوض أن يبينوا صحة عقائدهم تعمّدوا التجريح و تتبع لا معقولية أو شناعة أو باطل آراء الخصوم وكشفها و التباهي بعدم وجودها في عقائدهم. عمل هذه الفئة يدخل ضمن ما ورد في التعريف بأن علم الكلام هو ملكة يقتدر بها على نصرة الملة "و تزييف ما خالفها بالأقاويل" يقول الفارابي في هذا : " وقوم رأوا أن ينصروا…بأن يتتبعوا سائر الملل فيلتقطوا الأشياء الشنعة التي فيها :فإذا أراد الواحد من أهل تلك الملل تقبيح شيء مما في ملة هؤلاء، تلقاه هؤلاء بما في ملة أولئك من الأشياء الشنعة فدفعوه بذلك عن ملتهم."[13].

- الفئة الرابعة : هي حسب المعلم الثاني فريق رأى إن من الخصم من هو عنيد لا تقنعه النصوص و لا الحجج، وإنما يجب العمل على إسكاته كي لا يشوش عليهم و ليكفيهم عناء الجدال، فيلجئون إلى أساليب نفسية لتحقيق ذلك كإحراجه بالخجل أو تخويفه، ومثل هذا الأسلوب يقول عنه الفارابي بأنه عادة ما يكون فيما بين الفرق الضعيفة أو التي يتفشى الجهل في أوساطها، ومن بين ما قاله الفارابي عن هذه الفئة :"و آخرون منهم لما رأوا أن الأقاويل التي يأتون بها في نصرة أمثال هذه الأشياء ليست فيها كفاية في أ، نصبح بها تلك الأشياء صحة تامة، حتى يكون سكوت خصمهم عنهم لصحتها عنده لا لعجزه عن مقاومتهم فيها بالقول، اضطروا عند ذلك إلى أن يستعملوا معه الأشياء التي تثلجه إلى أن يسكت عن مقاومتهم، إمّا خجلا و حصرا أو خوفا من مكروه يناله."[14]

- الفئة الخامسة : هذا الفريق يدافع عن الدين بأي أسلوب بالحجج العقلية، واللاعقلية بالصِّدق في القول وحتّى بالكذب، ويعطى هنا للكذب مشروعية من زاوية ما،يقول الفارابي عن هذا الأسلوب وعن مشروعيته في اعتقاد معتمديه:"ولم يبالوا أن يستعملوا الكذب و المغالطة و البهت و المكابرة، لأنهم رأوا أنّ من يخالف ملتهم أحد رجلين :إمّا عدو، و الكذب و المغالطة جائز أن يستعملا في دفعه وفي غلبته، كما يكون ذلك في الجهاد و الحرب، و إمّا ليس بعدو، ولكن جهل حظ نفسه من هذه الملة لضعف عقله و تمييزه، و جائز أن يحمل الإنسان على حظ نفسه بالكذب و المغالطة …"[15].

هذه إذن هي الأساليب المختلفة في الدفاع عن الدين أحصاها الفارابي في خمس فئات مختلفة قد تشكل امتدادات لبعضها البعض إذا ما عجز أسلوب ما عن تحقيق مبتغاه، هذا الإحصاء والتتبع الدقيق لأساليب الدفاع عن الملة هو من أهم الأسرار التي جعلت تعريف الفارابي يتصدر باقي التعريفات التي أعطيت لهذا العلم، يضاف إليها السعة والشمولية التي تميز بها، ذلك لأن مفهوم علم الكلام في نظر الفارابي يهدف إلى نصرة الدين بكامله عقيدة وشريعة، في حين جل التعريفات تتحدث على نصرة العقيدة فقط، كما أن تعريف الفارابي لم يكن متمذهبا – في ظاهره على الأقل - في حين وكما رأينا تعريفات كثيرة تتحدث على نصرة العقائد من زاوية مذهبية محددة، كما هو الشأن بالنسبة لتعريف الغزالي وابن عربي والتفتازاني وابن خلدون و وغيرهم ممن ذكرنا في هذا البحث ومن لم نذكر.

خاتـمة

من خلال تعريف الفارابي وباقي التعريفات لعلم الكلام نستخلص أن هذا العلم هو أيديولوجيا المسلمين بفرقهم، لأنه ومهما بدا من التعريف به أنه يدافع عن العقيدة أو عن الدين ككل، و مهما بدت موضوعاته فلسفية مجردة، إلاّ أن كل عـالم كلام يدافع عن العقيدة بمذهبه، لأنه لكل عالم كلام مذهب ينتسب إليه،ولكل مذهب علم كلام ينظر و يحمي التصورات، فالسنة والشيعة و الإباضية لكل مذهبهم الكلامي. وكل منهم يزعم أنه من "الفرقة الناجية" وأن عقائده صحيحة متوافقة مع الفطرة السليمة.

و عمل الفارابي كان محاولة حصر الأساليب والمناهج المتبعة في أغلب الفرق، أو في الفرق الرئيسة التي منها تفرعت فرق وشيع بدون أن تعيين الفرق بأسمائها و لا الإشارة إليها بوضوح، ولكن المتمعن في طرحه لهذه الأساليب و الإمكانات المعتمدة في الدفاع عن الدين نـصرة له وتزييفا لما خالفه، يستطيع أن يدرك ملامح الفرق الرئيسة، ويمكنه القول بأن الفارابي يقصد بالفئة الأولى النصيين …

نخلص في الأخير إلى القول بأن سبب سعة وشمولية وبالتالي أفضلية التعريف بعلم الكلام للفارابي هو حياده الظاهري، ونقول ظاهري لأن الفارابي شيعي المذهب، وتشيعه يعني أنه مسلم بتصور يخضع للنسق العقدي الشيعي الإسماعيلي، ولكن تقيته من جهة و هامته كفيلسوف منتصر للعقل من جهة أخرى، ومحاولته إحصاء العلوم السائدة و تصنيفها بشكل محايد إلى حد ما من جهة ثالثة، كل هذا جعله يقدم تعريفا واسعا و شاملا لعلم الكلام استمر الأخذ بعه إلى يومنا هذا، و لا غنى لطالب علم يريد حدا صحيحا لهذا العلم.


الهوامش

[1]- الفارابي، أبو نصر.- إحصاء العلوم.- تحقيق و تقديم عثمان أمين، القاهرة، ط 3، 1968.

[2]- المصدر نفسه.- ص.131.

[3]- ابن خلدون، عبد الرحمن.- مقدمة ابن خلدون.- دار الجيل ، بيروت، لبنان.- ص.ص.443 - 444.

[4] - الجرجاني ، الشريف علي بن محمد.- كتاب التعريفات، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1983.- ص.134

[5]- المرجع نفسه.- ص.229.

[6]- الفارابي .- إحصاء العلوم.- ص.ص.131 - 132.

[7]- التوحيدي، أبو حيّان.- ثمرات العلوم.- ص.ص.192 -193.

[8]- الغزالي، أبو حامد.- المنقذ من الضلال.- دراسة و تحقيق عبد الحليم محمود، دار المعارف، مصر، ط3، 1988.- ص.336.

[9] - النجار، عامر.- الخوارج عقيدة و فكرا.- دار المعارف ،مصر، 1988.- ص.9.

[10] - ابن خلدون.- مقدمة ابن خلدون.- ص.507.

[11]- الفارابي.- إحصاء العلوم.- ص.ص.132 - 133

[12]- المصدر نفسه.- ص.ص.135 - 136.

[13]- المصدر نفسه.- ص.ص.136 - 137.

[14]- المصدر نفسه.- ص.137.

[15]- المصدر نفسه.- ص.ص.137-138.

 

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran
+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11
+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Recherche