إنسانيات عدد 12 | 2000 | إشكاليات التراث ؟ | ص09-19 | النص الكامل
Historical foundings and birth of the Algerian theatre. A study of theatrical forms in AlgerianAbstract: The objective of this study is to bring out the historical origins of popular expression which the Algerian society knew before the birth of modern theatre, but we must bear in mind that it is not limited to a study of causes and factors contributing to the existence of the theatre in Algeria. Because these forms of expression despite their differences, form a source of creation and inspiration for play wrights who have experimted this patrimony with different visions. The aim ot these experiments was to found a theatre within the Algerian society. We can name for example : The ‘halga’, popular tales, and the "meddal". The question that we have the right to ask is ; are those forms of popular expression relevant to and efficient in creating a theatre of Arabic expression, with its ideological and aesthetic particularities reflecting the reality of an arabic civilisation in Algeria, with all its cultural wealth, and answering the Algerian ambitions of expressing its interests and preoccupations. |
Laïd MIRAT : Charge de cours, Faculté des Lettres, Langues et Arts (Arts dramatiques).
تـمهيد
يتفق جل الباحثين على أن المسرح بالمفهوم الحديث، أي باعتباره نوعا أدبيا، و فنا له أصوله و قواعده المتعارف عليها، ظهر في الأدب العربي حديثا، و ذلك بعد اتصال العالم العربي بالحضارة الغربية. و بغض النظر عن الحديث عن نشأة المسرحية و البحث في أسباب تأخرها عند العرب، فإن تراثهم لم يخل من ألوان قصصية و تمثيلية تكاد تكون صورا مسرحية، نابعة من تصورات فكرية ارتبطت بمراحل تاريخية و بظروف اجتماعية و سياسية معينة. و يبدو ذلك من خلال الإنتاج المسرحي عند الرواد الأوائل الذين تأثروا إلى حد بعيد بالتراث الشعبي[1].
و إذا كان اتصال الجزائر بالحضارة الأوروبية من خلال الاستعمار الفرنسي قد جاء مبكرا، فإن المسرح في هذه البلاد لم يظهر للوجود إلا بعد الحرب العالمية الأولى مباشرة، أي بعد مضي قرن من الزمن على الاحتلال. على أن هذه الظاهرة كان لها ما يفسرها و يبرر وجودها من أسباب مادية و معنوية، ساهمت بصورة أو بأخرى في تأخير نشأة المسرح في هذا القطر العربي.
لقد كانت عملية الاستعمار ظاهرة صراع فكري و حضاري، فضلا عن كونها ظاهرة صراع اقتصادي و سياسي، استهدفت منذ البداية القضاء على الثقافة العربية في الجزائر، و طمس معالم الشخصية الوطنية. و قد ترتب على ذلك كله جمود فكري عاق تطور الثقافة العربـية بشكل عام و الحركة الأدبية بشكل خاص، و كان الواقع الحضاري ينطوي على ألوان من الثقافة التقليدية. فظل الشعر هو الفن الأدبي السائد إلى جانب علوم الدين و علوم اللغة و شروح المصنفات.
كذلك ازدهر الأدب الشعبي على اختلاف أشكاله التعبيرية، حيث أصبح يمثل مصدر التسلية الأساسي لكثير من الطبقات التي قل حظها من الثروة، خاصة البورجوازية الصغيرة و المتوسطة.
على أن ما يميز هذه الثقافة بشكل عام، و بغض النظر عن قلتها من حيث المؤلفات المبتكرة " أنها كانت ثقافة وطنية، أصيلة تستمد قوتها من التراث القومي و تستخدم اللغة القومية للتعبير عن ذاتها " [2].
و لعل ما تنبغي الإشارة إليه هنا، أن الواقع الثقافي المتردي، مرجعه الحصار الثقافي المضروب على الشعب من قبل الاستعمار، الذي استهدف قطع الصلات الحضارية بينه و بين أشقائه المغاربة و المشارقة. و ذلك بعزله عن كل الروافد التي كانت تغذيه و تنميه، و عن التفاعلات الثقافية التي شهدها العالم العربي منذ منتصف القرن التاسع عشر.
و لما كان الفن و بضمنه الأدب يتأثر بكل ما يحدث من تحولات اجتماعية و سياسية في المجتـمع فإنـه ظل خاضعا للأشكال و المضامين التقليدية كالشعر، و المأثورات الشعبية مـتمثلة في الألوان القصصية و التمثيلية، و لازمت هذه الظاهرة الثقافة العربية في الجزائر حتى ظهور الحركات الوطنية و بداية النهضة.
و إذا كان الجزائريون لم يعرفوا المسرح بالمفهوم الحديث إلا في مطلع القرن العشرين، فإن تراثهم لم يخل من الفنون القصصية و التمثيلية الشعبية التي أفرزتها ظروف تاريخية معينة كالـرواية الشعبية، و الحلقة، و المداح، و الأراجوز، و هذا الموروث الشعبي على بساطته كان يشكل جزءا هاما من مكونات الشعب الثقافية و الفكرية، و تجسد ذلك في الإنتاج المسرحي الشعبي الذي انطلق في سنة 1926 على يد كل من علالو و رشيد القسنطيني و باش طارزي. فكان هؤلاء يستمدون موضوعاتهم من التراث الشعبي، كالسير الشعبية و حكايات ألف ليلة و ليلة… فضلا على أنهم كانوا يخاطبون الجمهور بلغته العامية لأنه لم يكن على مستوى عال من الثقافة المسرحية و على دراية بهذا الفن بحكم ظروف الاستعمار، و رغم ذلك كان يتفاعل مع العروض المسرحية و يتجاوب معها لأنها كانت تمثل الواقع الاجتماعي و تصور الحياة اليومية المضنية للفرد الكادح.
عرفت الجزائر في القرن التاسع عشر، و قبل النهضة المسرحية، فنونا شعبية مختلفة، لقيت رواجا كبيرا و كان لها جمهور لا يستهان به ؛ لكن لم يصلنا منها شيئا بالإضافة إلى أننا لا نجد لنصوصها أثرا في الكتب التي أرخت للمسرح الجزائري باستثناء بعض الإشارات و الأوصاف البسيطة التي تؤكد على وجودها و انتشارها.
I - الألوان القصصية الشعبية :
كان المجتمع الجزائري في ظل الحكم التركي مجتمعا طبقيا، يحكمه نظام إقطاعي، تديره طبقة إقطاعية تركية مترفة، إلى جانب فئة من الأعيان الجزائريين. و كان هؤلاء الذين يمثلون السلطة الحاكمة في البلاد يعيشون في ترف و بذخ و يزدادون غنى يوما بعد يوم، فيما كانت غالبية المجتمع و هم من الفلاحين يعانون من الجوع و الفقر المدقع.
و في غياب الوعي السياسي و الاجتماعي و تفشي الجهل من جهة، و تسلط الطبقة الحاكمة - لما أوتيت من سند الحاكم و وسائل القهر و القمع - من جهة أخرى، استطاعت هذه الطبقة أن تمارس نشاطها السياسي و الفكري و ما إلى ذلك من النشاط الإنساني، كما أنها أمنت وجودها و سيادتها و دخلها.
ثم ازدادت الأوضاع الاجتماعية و السياسية في الجزائر تدهورا أثناء الاحتلال الفرنسي نـتيجة السياسة الاستيطانية التي كان يمارسها إزاء الأهالي، أرادت من خلاله تحويل الجزائر إلى مقاطعة فرنسية تقع وراء البحر الأبيض المتوسط. و لذلك تم اللجؤ إلى غزو الجزائر إيديولوجيا و ثقافيا. و تجسدت نوايا فرنسا الاستعمارية في الاستراتيجية التي اتبعتها في تثبيت وجودها في المنطقة. و يبدو ذلك في التغـير الجذري الذي حدث على الصعيد الاجتماعي حيث فجرت البنية الاجتماعية الأصلية، فظهرت إثر ذلك طبقات اجتماعية جديدة أخذت في التنامي، و احتدم الصراع الطبقي نتيجة تطور عملية الاستعمار و الممارسات الاستعمارية المضاعفة الآتية من المعمرين.
و ترتب على تلك الأوضاع الاجتماعية و السياسية المتردية التي آل إليها المجتمع، علاوة على الفشل في الحياة السياسية، خيبة أمل كبرى أدت إلى اليأس و التذمر الشامل لدى أوساط الشعب. و لم تجد فئات الشعب المقهورة سبيلا إلى التغيير فلجأت إلى الانطواء على نفسها و الاستكانة للهروب من هذا الواقع المر الذي فرضه الاستعمار.
واتخذ هذا الهروب من الواقع مظهرين سادا طيلة الفترة الاستعمارية و حتى تاريخ اندلاع الثورة المسلحة. و يتمثل المظهر الأول في الحركة الزهدية التي ساعد على ازدهارها الاتجاه الصوفـي، و انتشار الصوفية التي اتخذت من الزوايا منابر لها تدعو لأفكارها، فاستقطبت فئات عريضة من الشعب و جعلتها تعتزل الحياة السياسية و ترغب عنها، و انعكست آثار ذلك على أفعالهم و سلوكهم في المجتمع[3].
أما المظهر الثاني فيتجلى في إقبال الناس على التراث الشعبي من قصص و حكايات شعبية، و الاهـتمام بها لما كانت توفره لهم من عالم وهمي، فضلا على ما كانت " تنطوي عليه من أعلام مهدئة مخدرة تمنح العزاء للبأس و الرجاء لليأس و السلوى للمحروم و العدل للمظلوم"[4].
و تأتي أهمية التراث الشعبي من حيث أنه كان البديل الخيالي للواقع كما كان " تعبيرا رومانسيا عن آمال الشعب الذي كان يرتاح إلى هذا التعبير لأنه يصور له العالم الجميل الذي يصبو إليه " [5] لاسيما بعد التغيير الذي طرأ على الصعيد الاجتماعي و السياسي إثر عملية الاستـعمار، حيث أصبح الفرد يعيش صراعا مع واقع يرفضه من جهة و هو عاجز عن إحداث أي تغيير فعلي فيه، كما أنه يعيش في الوقت ذاته صراعا مع بقية الفئات الاجتماعية من جهة أخرى مما أدى إلى تعاظم مأساته و تضاعف معاناته.
من ثم لجأ الإنسان الجزائري إلى الأدب الشعبي - بغض النظر عن أشكاله التعبيرية المختلفة- لأنها تحقق له " حياة العدالة و الحب التي يحلم بها… و تقدم بوسائلها الخاصة جوابا شافيا عن السؤال الذي يدور بخلد الشعب عن مصيره و كأنما تود أن تقول له هكذا ينبغي أن تعيش خفيفا متفائلا متحركا مغامرا مؤمنا بـالقوى السحرية في عالم الغموض الذي تعيشه"[6].
و تظل أحلام الشعب و أمنياته معلقة و مصيره مبهما طالما لم يظهر البطل المخلص للأمة. و لهذا نلقى فكرة البطل المخلص واردة في الأدب الشعبي، و تعتبر خاصية أساسية من خصائصه بشكل عام. على أنها تتجلى بوضوح في السير و الملاحم الشعبية. و قد استطاع الخيال الشعبي بما أوتي من إمكانات إبداعية و خيالية أن يقدم صورة البطل الذي يأتي على يده خلاص الأمة العربية و تغيير قيمها الأخلاقية و نظمها الاجتماعية و السياسية، و ذلك بهدف خلق مجتمع جديد و نصرة شعب عاش طويلا في ظل الفوضى و العبودية [7].
و البطل في المأثورات الشعبية يمثل المثل الأعلى للبطولة لاسيما لأنه يعبر عن الصراع بين الشعب و بين أعدائه، و لابد أن ينتصر عليهم في آخر الأمر، و كي يصل إلى هدفه النهائي نجد الخيال الشعبي يسبغ عليه المبالغة في القوة، فيبدو ذا قوة خارقة بدنية و عقلية تجعل منه بطلا فذا، و هو إلى ذلك يستعين بعناصر أسطورية، كالسحر و الجن و أمور أخرى غيبية. و بهذه الصورة يبدو قادرا على كل شيء " لا يعرف الهزيمة أبدا و لا يحدث نصر إلا على يديه، و حياته سلسلة من الأعمال العظيمة و المغامرات العجيبة التي تروع المستمعين… و هـكذا يصير فارس القوم و أحد الشجعان في زمانه، لا يتحقق نصر إلا به و لا تصدر فضيلة إلا عنه"[8].
و قد استطاع البطل في الأدب الشعبي و خاصة في السير و الملاحم الشعبية أن يقدم الكثير مـن الحلول الطوباوية لمسائل عديدة ظلت تؤرق الطبقات الشعبية الفقيرة لفترة تاريخية طويلة، على أن هذا البطل الذي عاش و لازال يعيش في وجدان الشعب استطاع أن يسد حاجة الـمبدع العربي لتغطية المراحل التاريخية المختلفة للوطن العربي ككل في مواجهاته لأعداء حدوده التقليديين. فعن طريق الأحداث الملحمية التي تثبت في السير الشعبية حول البطل الشعبي أمكن إعطاء البعد الاجتماعي و الإنساني و الفني لأشهر الأحداث التاريخية في المنطقة العربية قبل و بعد الإسلام. و الواقع أن السير الشعبية يمكن أن تمثل الكتابة الشعبية للتاريخ العربي. أو يمـكن أن تمثل الرؤية الاجتماعية لواقع المكونات الرئيسية في المجتمع العربي، أثناء لـحظات التمزق الذي عاناه هذا المجتمع في لحظات تكونه… و لحظات التدمير… و كذلك التفسخ الذي أدى إلى ظهور طبقات غنية متحكمة جامعة بموروث الشعب و آماله و أحلامه"[9].
و إذا كانت أشكال التراث الشعبي على اختلافها تغلب عليها الصبغة الاجتماعية في تناولها لأحداث القصة، فإنها لا تخلو من البعد السياسي، و يبدو ذلك - و على وجه الخصوص- من السير و الملاحم الشعبية، إذ الأحداث فيها تعكس لنا واقعا تاريخيا بكل صراعاته و تـطلعاته في ظل ظروف تاريخية بعينها عاشها المجتمع العربي، و قد يكون هذا الصراع داخـليا و خارجيا. و يتمثل الوجه الأول منه في الصراع الطبقي القائم على أساس إيـديولوجي بالإضافة إلى تجسيد علاقة الحاكم بالمحكوم. أما الوجه الثاني للصراع فهو ما كانت تصوره السير من اضطرابات و حروب كان يخوضها المجتمع العربي ضد مجتمعات أخرى نتيجة مشكلات سياسية.
و لاشك أن القصص الشعبي قد لعب دورا خطيرا في حياة المجتمع العربي خلال مراحل تكونه الطويلة. و لعل ما قدمه لتاريخ الحضارة العربية جدير بالاهتمام و الدراسة، إذ كان بمثابة ذاكرة الشعب حيث حافظ للأجيال عبر مراحل تاريخه طويلة بمعلومات ثمينة عن تاريخ أسلافهم و صور لهم مجتمعاتهم بمتناقضاتها و عاداتها و أفكارها ظلت تتناقل شفهيا جيلا بعد جيل.
و في ضوء ما سلف يمكننا ذكر مسألة كثيرا ما تثار بصدد الحديث عن الغرض من رواية القصص الشعبي. على أن التمييز بين أنواع الأدب الشعبي لا يتأتى بشكل دقيق إلا بالاعتماد على الوظيفة التي يؤديها كل نوع دون غيره. و لذا من الضروري أن نميز بين هذه الأنواع على أساس من الوظائف و الحوافز، فهي تغلب بعض الأشكال و المضامين عل غيرها. غير أنه يبدو أن الأدب الشعبي بصورة عامة قد أدى وظيفتين أساسيتين هما التعليم و الإرشاد ثم الترفيه و الاستمتاع بتلك الحكايات الخرافية التي كانت تجد فيها فئات الشعب المغلوبة على أمرها سلواها الوحيد. و لذلك حاول - الأدب الشعبي - في مجمله لاسيما ألف ليلة و ليلة "أن يخلق عالما وهميا جماليا تعويضيا يستطيع أن يطرح حلولا مثالية طوباوية، و لكنها غير واقعية أو عملية للمشكلتين الإجتماعية و السياسية"[10].
المداح و القوال
و لقد حظي الأدب الشعبي في الجزائر باهتمام كبير من قبل فئة الشعب فكان الأدب الفكاهي لا سيما الحكاية الشعبية التظاهرة الفنية الأولى التي عرفها المجتمع حيث ازدهرت على يد شعراء و رواة شعبيين متجولين يشبهون إلى حد ما شعراء التروبادور"[11] و كان هؤلاء الفـنانون الشعبيون في الغالب من المغاربة يجوبون المدن و القرى الجزائرية كي يقدموا عروضهم التي كانت تروي حكايات خرافية و أساطير عجيبة يستعين فيها الراوي بالحركة"[12] للتعبير عن المواقف الحادة و لشد انتباه المتفرج.
و كانت هذه العروض تلقى صدى عميقا لدى الجمهور، و كثيرا ما كانت تنال إعجاب و رضا شيوخ القرى فيكرمونهم و يستضيفونهم أياما للاستمتاع بفنهم.
ثم ظهرت في مرحلة من مراحل تطور المجتمع أشكال جديدة يذكر بعض الباحثين منها " الحلقة " و " المداح ". و الحلقة هي شكل من أشكال الفرجة المسرحية التي كانت معروضة في بلاد المشرق العربي كمصر و سوريا، أما المداح فهو الحكواتي، و كان هؤلاء المداحون محبوبين جدا في الجزائر كما كان لهم جمهورهم العريض الذي يرتاد مجالسهم [13].
لقد كان المداحون أو الرواة يقدمون عروضهم في الأسواق الشعبية و الساحات العامة حيث تلتف حولهم حشود من المتفرجين، يستمعون بشغف لأحداث القصة، و يراقبون باهتمام حركات الراوي فيبدو الواحد منهم و كأنه طرف في القصة، " فمن هنا جاءت فعالية المتفرجين القصوى حيث لا يحسب الواحد منهم أنه مجرد مراقب بل هو مشترك ضروري في كل ما يحدث أمامه " [14].
و لعل سبب نجاح تلك العروض، يرجع إلى ما تتوفر عليه الرواية الشعبية من عناصر درامية من ناحية، و ما كان يبديه الراوي الشعبي من براعة و موهبة فنية أثناء عملية الحكي. و بالرغم من خلو المأثورات الشعبية من الجمالية المسرحية و تقنيات الفن المسرحي الحديث، فإن الراوي استطاع من خلال و سائله الخاصة و ما أوتي من إمكانات خياله الإبداعية، و قدراته في الأداء الدرامي أن يتقمص شخوص القصة ليخلق مشاهد مسرحية منسجمة، مـستعينا في ذلك بالحركة و الكلمة. و هو فضلا عن ذلك كان معلقا على أحداث القصة عن طريق السرد [15].
و قد أفلح الراوي من خلال أدواته الفنية المتاحة له و المتمثلة في الكلمة المنطوقة و الحركة أن يؤثر في جمهوره و يشد انتباهه إليه، و قد توصل من خلال ذلك إلى خلق رباط خفي بينه و بين الجمهور يكاد يكون هذا الرباط الخفي بمثابة الإيهام المعروف في المسرح الحديث، كذلك كان يلجأ في كثير من الأحيان إلى الغناء و الرقص و عزف الموسيقى بهدف بعث الحياة في القصة و إبعاد الملل عن المتفرجين [16].
و من هنا يتسنى لنا ملاحظة الفروق القائمة بين الراوي و الممثل المسرحي، " فإذا كان الـممثل يجسد النص المسرحي فعلا و حركة فإن الراوي كان يجهد نفسه في تجسيد نص الحكاية و تقريبه إلى إفهام العامة و تصوراتهم " [17] معتمدا في ذلك على الكلمة و الأداء الحركي و تقنيات أخرى. غير أن تكوين الراوي لم يتكامل بصورة إيجابية ليتطور إلى ممثل بالمفهوم الحديث.
و إذا كان بعض الدارسين يرجعون نشأة هذه الألوان القصصية في كثير من البلاد العربية إلى الطقوس الدينية مثل " التعزية "، ثم تفرعت عن هذه الفنون الطقسية ألوان أخرى من العروض عنيت بالناحية الدنيوية، فإننا في الجزائر نجد الأمر يختلف، إذ أن ما كان معروفا هناك، كان يخضع للفرجة المسرحية و ينـزع نحو الانسلاخ عن العروض الطقسية، هذا بخلاف باقي بلدان المغرب العربي التي ظهرت فيها عروض التعزية كمراكش و تونس[18].
و الجدير بالذكر أن ما كانت تقدمه هذه الأشكال الشعبية، " كالمداح " و " الحلقة "، على بساطته، كان ينطوي على مضامين حية تصور الواقع الاجتماعي و الحضاري المتردي للمـرحلة التاريخية السائدة، و لذا فطن الاستعمار للدور الذي يمكن أن يلعبه الراوي في التأثير على جمهوره و بالتالي بعث الوعي الاجتماعي و السياسي لدى أوساط الشعب الفقير و المقهور. و على هذا الأساس لجأت السلطة الاستعمارية إلى محاربة المداحين و الرواة الشعبيين و فض مجالسهم [19].
و لا ريب في أن موقف الاستعمار العدائي من هذه الفنون الشعبية و ممارسيها، كان عاملا أساسيا، قد أثر تأثيرا سلبيا على تطور هذا الفن من حيث الشكل من ناحية، كما أنه حال دون تطور الراوي الذي لم يجد المناخ المناسب ليطور أدوات فنه كي يتحول إلى ممثل خالص.
II . الألوان الشعبية التمثيلية :
لقد شهدت الجزائر في القرن التاسع عشر أشكالا تمثيلية محلية، إلى جانب القصص الشعبي الذي كان يتم عن طريق الحلقة و الشعراء المداحين في الأسواق. و كان لهذه الأشكال التمثيلية تقنياتها و قواعدها الخاصة التي أخذت تتكامل عبر التطور التاريخي، و يـذكر يعقوب لانداو، أن هذه التمثيليات كان لها مظهران : الأراجوز و الفارس الشعبي، و يصفها بأنها كانت تشبه مظاهر المسرح المصري قبل عهد الخديوي إسـماعيـل [20].
أ - الأراجوز :
يعد الأراجوز من الألوان التمثيلية – إلى جانب خيال الظل – التي عرفها العالم العربي بشكل عام. و إذا كان هذا النوع من المسرح الشعبي قد عرفته بعض أقاليم المشرق العربي كمصر و الشام في وقت مبكر يرجع إلى القرن العاشر الميلادي، حيث تطور و ازدهر، و أصبحت له نصوصا مدونة، باستثناء بعض الأخبار الـتي تؤكد انتشاره، و تـذكر لـنا ذلك شهادات بعض الرحالة الأوروبيين الذين رأوا عروضا للأراجوز في المغرب العربي بشكل عام و الجزائر بشكل خاص.
و إذا كانت هذه الأخبار التي وصلتنا، تختلف في تحديد الفترة التي دخل فيها هذا الفن إلى الجزائر بدقة، و الظروف التي أحاطت بنشوئه، فإن وجوده قد ثبت في تلك البيئة حيث كان مصدر تسلية و ترفيه لدى فئات الشعب و الحكام الأتراك. على أن بعض الدارسين، يذهب إلى أن الأراجوز قد دخل الجزائر في القرن السابع عشر على يد الأتراك الذين جلبوه معهم للتسلية وقت الفراغ خاصة في شهر رمضان. و أول ما ظهر كان في المدن و المناطق حيث يتجمع الأتراك، ثم انتشر بعد ذلك عبر كل البلاد [21].
ب – الفَارْسْ الشعبـي :
و إلى جانب الأراجوز الذي ظل حيا رغم مضايقات الاستعمار، ازدهرت بعض التمثيليات القصيرة، لاسيما في نهاية القرن الماضي. و قد عنيت تلك التمثيليات بمضامين مختلفة دينية و دنيوية، كانت تمثل في الغالب في المناسبات كالمولد النبوي و مواسم الحج و الأعراس. و يذكر محي الدين باش طارزي أن بعض الحجاج كانت تمثل رحلاتهم بهذه المناسبة أمام الجمهور في الساحات العامة. و من هؤلاء الحجاج سيدي محي الدين الطيار، و سيد ابراهيم الغبريني و سيدي احمد بن يوسف [22].
و كان هذا الشكل التمثيلي الجديد عبارة عن فصل أو مشهد كوميدي قصير يقدم في مناسبة معينة، و يعرض قصة هي في الغالب مستوحاة من واقع الطبقات الشعبية [23]. و لذا ظهر في البداية في المناطق الريفية ثم انتقل بعد ذلك إلى المقاهي و الساحات العامة بالمدن.
و إذا كانت معالم هذا اللون التمثيلي في الجزائر، تبدو باهتة، إذ يصعب على الباحث دراسته و تحديد أبعاده نظرا لانعدام الدراسات فإنه قد ثبت وجوده و ازدهاره في بعض البلدان العربية، لاسيما مصر و العراق حيث كان "يسمى بـ " الإخبار " و هو عبارة عن ديالوجات تتضمن الطرائف و العراك ". و قد أطلق عليه أيضا إسم " الفصل المضحك " [24] هذا، بينما تؤكد الباحثة تمارا أنه نوع من الفارس الشعبي على أساس أن الفصل المضحك ذو مفهوم أوسع يخضع لعناصر الكوميديا و عناصر الفارس الأوربية، فضلا على أنه كوميديا مرتـجلة. و هـذا ما لم يتوفر في الفارس الشعبي العربي، و بالتالي فإن هذه التمثيليات الهـزلية – في نظر الباحثة – تشبه إلى حد بعيد " الفابل " الفرنسية و كوميديا " ديل آرتي " الإيطالية [25].
لقد كان للفارس الشعبي ممثلوه المختصون و جمهوره، و قواعده، و كانت أحداث القصة التي يقدمها بسيطة تقوم في الغالب على تصوير سلوك الناس في المجتمع و ما يتخلله من متناقضات مثيرة للضحك و التهكم، يؤديها أشخاص عددهم غير محدود، عن طريق الحوار و الحركة. أما الغاية منه فهي التسلية و الترفيه. و هو إلى ذلك لم يكن يخلو من أشكال النقد الاجـتماعي و تعرية المجتمع العربي بشكل عام، بما كان يسود فيه من فساد، و وضعت الخطيئة بشكل مكشوف مقابل البراءة و الجنة مقابل جهنم، و الحيل الذكية مقابل المراءاة و جرى فضح الآفات الاجتماعية كالمراهنة و الظلم و الرشوة و تواطؤ القضاء " [26]. و اخـتلفت المواضيع باختلاف البيئات الاجتماعية العربية، فلذا اكتسى الفارس الشعبي العربي طابعا محليا.
و بالرغم من التشابه بين الأراجوز و الفارس الشعبي من حيث الطابع الكوميدي الذي يسودهما و الغاية التي يهدفان إليها، فإن ثمة فروق جوهرية بينهما، فالفارس يعتمد كليا على الأداء البشري و لا يلجأ إلى الدمى كما هو الحال في الأراجوز، و الشخصية في الفارس تندمج مـع الشخصية التي تتقمصها أو تلعب بدورها، و هي إما شخصية واقعية مستوحاة من المـجتمع، أو خيالية. ثم يترتب عن ذلك مسألة أخرى هي الحوار، فعندما كان الحوار في الـرواية الشعبية و الأراجوز حوارا مباشرا مع الجمهور المتفرج، تحول في الفارس إلى حوار غير مباشر يتم بين الممثلين الذين يعرضون أحداث القصة دون التخاطب مع المتفرجين.
و لعل ما يمكن استخلاصه من هذا كله، هو مراحل تطور شخصية الراوي الشعبي، حيث أنها اتخذت عدة أشكال و أبعاد جديدة عبر تطورها التاريخي، و تجسدت تلك التطورات في الأراجوز و الفارس الشعبي. و قد مهدت هذه الأشكال التمثيلية الشعبية كلها لظهور الممثل و ولادة المسرح الحقيقي.
على أن ما كان يميز تلك الأشكال - بالرغم من خلوها من الجمالية المسرحية و تقنيات الفن المسرحي الحديث - أنها كانت تنطوي على مضامين حية تصور الواقع الاجتماعي و الحـضاري للمرحلة التاريخية التي ولدت فيها، و هي مرحلة تاريخية حاسمة اتصفت بخصوصية العمل في سبيلين متلازمين هما مكافحة الاستعمار و وجوده و ثقافته، و استنباط الماضي بعطاءاته الفكرية ليوجهه و يؤهله للمعركة الفاصلة. و من ثم شهدت هذه الأشكال نوعا من التطور النسبي خلال حياتها في ظل الأوضاع الاستعمارية.
الهوامش
[1] أنظر : يعد دغمان، الدين.- الأصول التاريخية لنشاة الدراما.- الجامعة العربية بيروت، لبنان 1973، ص.73.
[2]- طالب الابراهيمي، أحمد.- من تصفية الاستعمار إلى الثورة الثقافية، ترجمة حنفي بن عيسى.- الجزائر، الشركة الوطنية للنشر و التوزيع.- ص.14.
[3]- انظر : مرتاض، عبد المالك.- فنون النثر.- ديوان المطبوعات الجامعية الجزائر، د.ط، 1983.- ص.37.
[4]- دغمان، سعد الدين .- الأصول التاريخية لنشأة الدراما.- ص.75.
[5]- ابراهيم، نبيلة.- قصصنا الشعبي من الرومانسية إلى الواقعية.- بيروت، دار العودة، 1974.- ص.7.
[6]- ابراهيم، نبيلة.- أشكال التعبير في الأدب الشعبي.- القاهرة، دار المعارف، الطبعة الثالثة.-ص.103.
[7]- ابراهيم، نبيلة.- المرجع السابق.- ص.171.
[8]- دغمان، سعد الدين.- الأصول التاريخية لنشأة الدراما.- ص.ص. 80 – 83، و انظر أيضا يونس، عبد الحميد.- إيزيس و البطل في الأساطير و الملاحم الشعبية.- مجلة الهلال، عدد فبراير 1986.- ص.25.
[9]- خورشيد، فاروق.- السير الشعبية.- القاهرة، دار المعارف.- ص.41.
[10]- دغمان، سعد الدين.- الأصول التاريخية لنشأة الدراما.- ص.87.
[11]- أنظر : BADRI, Mohamed.- Sources et origines du théâtre Algérien.- Révolution Africaine, N° 322, 1970.- p.21.
أنظر أيضا :ROTH, Arlette.- Le théâtre Algérien de langue Dialectale.- Paris, François Maspero, 1967.- p.14.
[12]- المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[13]- أنظر : الكساندوفنا، تمارا.- ألف عام و عام من المسرح العربي، ترجمة توفيق المؤذن.- بيروت، دار الفرابي، الطبعة الأولى، 1981.- ص.60.
و انظر أيضا : لانداو، يعقوب.- دراسات في المسرح و السينما عند العرب، ترجمة أحمد المغازي، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1972.- ص.40.
[14]- المرجع السابق.- ص.35.
[15]- أنظر : بورايو بن الطاهر، عبد الحميد .- القصص الشعبي في منطقة بسكرة.- رسالة ماجستير – جامعة القاهرة، 1978.- ص.45.
[16]- أنظر : المرجع نفسه.- ص.64.
[17]- دغمان، سعد الدين.- الأصول التاريخية لنشأة الدراما.- ص.88.
[18]- أنظر : تمارا، أ.- ألف عام و عام من المسرح العربي.- ص.ص. 45-46.
[19]- أنظر : صبيان، نور الدين.- إتجاهات المسرح العربي.- ص.18.
[20]- أنظر : لانداو، يعقوب.- دراسات في المسرح و السينما.- ص.182، و انظر أيضا، دودو، أبو العيد.- مجلة القبس، عدد 50، 1969.- ص.93.
[21]- أنظر : ROTH, Arlette.- Le théâtre Algerien.- p.14.
و انظر أيضا : ARNANDIES, Fernand.- Histoire de L'opéra d'Alger.- Alger, Ed N. Heintz, 1941.- p. 19.
[22]- أنظر : BACHTARZI, Mahieddine.- Mémoires.- Alger, S.N.E.D., 1969, Tome I.- p.p. 33, 34, 35.
حيث يذكر بعض أسماء محترفين، بالإضافة إلى نموذجين من هذا الفارس الذي كان مشهورا قبيل الحرب العالمية الأولى.
[23]- أنظر : ROTH, Arlette.- Le théâtre Algerien.- p.2.
و انظر أيضا : الهواري، م ع.؛ القسنطيني، رشيد.- رائد المسرح العامي في الجزائر.- جريدة الشعب، (جزائرية)، عدد 23 مارس 1971.- ص.22.
[24]- تمارا أ.- ألف عام و عام من المسرح العربي.- ص.75.
[25]- أنظر : المرجع نفسه.- ص.ص. 75-76.
[26]- المرجع نفسه.- ص.77.